وردة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثاني

مسقط

ديسمبر ١٩٩٢

١

قال فتحي وهو يشدُّ حزام الأمان حول صدره: ضع الحزام يا بني وإلا ضعنا. المرور هنا صارم وليس كما في بلدكم.

أردت أن أقول بأنه لم يعد بلدنا، لكني لم أشأ أن أكون البادئ بنقاش عقيم. انصعت لطلبه بينما كان ينطلق من ساحة المطار. وتعثرت في محاولة تثبيت الحزام، فأعطيته فرصة للسخرية مني.

كان أكبر مني في السن قليلًا، وأكثر بدانة، وأكثر مرحًا بالتأكيد، لا يتوقف عن الدندنة بجمل موسيقية متنوعة من الموسيقى العربية أو الكلاسيكية الغربية والأوبرات وبعضها من تأليفه، فقد كانت هذه صناعته. وكان يرتدي قميصًا بأكمام قصيرة، فبدوتُ غريبًا إلى جواره بملابسي الكاملة. هممت بخلع سترتي فاستوقفني قائلًا: خليها السيارة مكيفة.

قلت: إني لم أتوقع هذا الطقس ولهذا فكل ملابسي شتوية.

قال: ليست مشكلة. غدًا نشتري لك كل ما تحتاج إليه.

قاد السيارة اليابانية فوق طريق ممهدة مرصوفة جيدًا مثل الحرير تضيئها المصابيح العالية، تخلو من أي أثر للحياة وتعترضها مطبات بارزة واضحة كان يتمهل عندها ثم يلوي السيارة قليلًا ليعبرها بزاوية كما تنص القواعد تمامًا. وبعد عدة ميادين بدأت المنازل الحديثة تظهر على الجانبين وأغلبها لا يتجاوز ارتفاعه طابقًا واحدًا.

قال: تذكَّر هذا الطريق دائمًا، فهو الرئيسي. اسمه شارع قابوس، وهو أطول شارع هنا وينتهي بالميناء. ميناء قابوس.

أضاف بعد برهة: ستمر حالًا بمدينة قابوس الجديدة على اليمين.

قلت: كل حاجة باسمه؟

قال: زيِّنا بالضبط. على أي حال حقه، فهذا البلد لم يكن شيئًا قبل أن يتولى الحكم.

لحظت أنه يقود السيارة بحرص رغم أن السيارات المارة كانت معدودة. وكنت أعرفه في القاهرة سائقًا متهورًا. توقف أمام إشارة حمراء، رغم أن سيارتنا كانت الوحيدة عند جانبي التقاطع، ولم يكن هناك أثر لعابرٍ، ثم أدركت السِّر عندما ظهرت سيارة شرطة إلى جوارنا.

قال وهو يستأنف السير: إذا أردت القيادة هنا لا بُدَّ أن تستخرج رخصة جديدة بامتحانٍ جِدِّي. هم لا يعترفون بالرخصة المصرية.

قلت: معي رخصة دولية.

قال: ولو، لا بُدَّ من رخصة عمانيَّة. إنهم يعرفون طريقة استخراج الرخص عندنا.

وبدأ يدندن أحدث أغاني المطرب الفرنسي الجزائري الشاب خالد وتوقف لحظة ليقول: لم أستغرب أن يستغرق إعطاؤك التأشيرة عدة شهور. فهذا عادي هنا، لكن الغريب أنهم أعطوها لك في النهاية.

لم يكن الأمر غريبًا لهذه الدرجة. فقد جرت مياه كثيرة في الأنهار منذ وقت طويل.

تأملت كُتَلَ الطلاء المحيطة بِنا ولم نلبث أن أشرفنا على منطقة سكنية حديثة، مضاءة ومنظمة، يرتفع في مدخلها فندق شيراتون عتيد.

– وصلنا.

كانت الشوارع هادئة تصطفُّ على جانبيها السيارات المركونة، وتطلُّ عليها الواجهات الزجاجية المضاءة لحوانيت عامرة بالأجهزة الكهربية والملابس والنظارات ولعب الأطفال. تنقلنا بينها طويلًا إلى أن وجدنا مكانًا لسيارتنا.

تحررت من حزام المقعد وعاونني في إخراج حقيبتي من الشنطة الخلفية، ثم استمهلني حتى قام بتشغيل جهاز الإنذار المثبت داخلها.

سألته: الحرامية كتير؟

قال: نادرًا ما يجرؤ أحدٌ على السرقة فالشرطة حازمة. مجرد شبهة السرقة تؤدي إلى ترحيل السارق فورًا.

استغربت: ترحيله إلى أين؟

أجاب: إلى بلده. السارق لا يُمكن أن يكون عمانيَّا لأنهم لا يحتاجون، هو إذن لا بدَّ أن يكون من العمالة الأجنبية، هندي أو باكستاني أو فليبيني. فهم الذين يتولون الأعمال ذات الأجر المنخفض.

كانت حقيبتي من النوع المزود بمقبضين على الجانبين، فأمسك كل منا بمقبضٍ وحملناها بيننا عبر عدة شوارع. ولجنا عمارة حديثة من أربعة طوابق، يحتل الطابق الأرضي منها مكتب للسفريات والشحن. وأقلَّنا المصعد إلى الطابق الثالث.

أخرج مفتاحًا من جيبه وهو يقول: شفيقة نامت من ساعتين.

فتح الباب في هدوء وولجنا صالة صغيرة تتوسطها مائدة طعام. اتجهنا يمينًا إلى قاعة مضاءة تتصدرها خزانة تضم بعض الكتب والأواني الخزفية وجهاز تليفزيون ضخم.

ارتميت في مقعد بينما أدار جهاز التليفزيون بواسطة المفتاح المتنقل. وطالعتنا صورة السلطان المعلقة خلف ظهر مُذيع يقرأ نشرة الأخبار الأخيرة. كان يتحدث عن معرض للزهور في مكان ما من أوروبا، عُرضت فيه واحدة حمراء تحمل اسمه. أراد فتحي أن يُحول القناة فاستمهلته.

تحدث المذيع عن تاريخ الزهرة وكيف أن جمعية الزهور الهولنديَّة هي استنبتتها بعد سنتين من الجهد والتجارب، وأنها تتميز ببهاء لونها وزكاء رائحتها وطول ساقها. وقد أطلقت اسم قابوس عليها تقديرًا لإسهامه الشخصي في تنمية العلاقات الدولية. وتسلم السلطان المعظَّم الزهرة التي ستحمل اسمه إلى الأبد في احتفالات العيد العشرين للسلطنة.

انتقل المذيع إلى أخبار الرياضة، فأغلق فتحي الجهاز وهو يدندن أحد الألحان الأمريكية محركًا جسمه البدين مع الإيقاع في رشاقة حسدته عليها: تعالَ أريك حجرتك.

حملت حقيبتي وتبعته إلى غرفة في نهاية طرقة طويلة، تضم كنبة تكوَّمت الأغطية والوسائد فوقها، ومكتبًا صغيرًا يحمل كومبيوتر وجهاز ستريو ضخمًا. وفي الصدر، أسفل نافذة عريضة، استقر بيانو إلى جوار مقعد بمسندين.

قال: للأسف ليست هناك خزانة للملابس.

قلت: لا يهم. سأترك كل شيء في الحقيبة.

قال: تصبح على خير.

قلت: وأنت من أهله.

وضعت حقيبة يدي فوق المكتب. واستخرجت من حقيبة السفر بيجامة وخُفًّا ومنشفة وأدوات التواليت. اكتشفت أني أضعت شالًا من الصوف أحضرته معي تحرزًا من تيارات الهواء وخوفًا من تقلبات الجو. وتذكرت أني كنت أضعه حول رقبتي في الطائرة. ولم أخلعه عندما توقفنا في مطار الدوحة الكوزموبيليتاني لنستبدل الطائرة. وكنت أحمله في يدي عندما دخلت صالة الترانزيت واستخدمت حمامها الفخم، لكني لا أتذكره بعد ذلك. فهل نسيته في الحمام؟

استعرضت شريط الرحلة من لحظة صعودي إلى الطائرة في مطار القاهرة. كررت ذلك عدة مرات. وفي كل مرة كان الشريط يتمهل عند حمام مطار الدوحة عندما وقفت أغسل يدي إلى جوار شاب ممتلئ القامة ذي ملامح بدوية سمراء ورأس حليقة، في قميص حريري وبنطلون واسع على المودة. كان منهمكًا في حلاقة ذقنه وقد تناثرت أمامه فوق حافة الحوض العريضة في فوضى تامة مجموعة من أنابيب المعاجين والقناني والرشاشات المختلفة الأحجام والألوان فبدا الحوض كمائدة زينة لإحدى الغواني، وكان لا يفتأ ينحني فوق حقيبة يد مفتوحة بجوار قدميه ليستخرج منها دهانًا أو رشاشًا معطرًا أو مرطبًا أو مزيلًا للرائحة.

أدركت فجأة لماذا التصقت صورة الشاب في ذاكرتي. فقد ذكرتني حركاته الهوجاء ﺑ «يعرب» الذي كان في نفس السن عندما تعرفت عليه منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وكان يشغل دائمًا مساحة كبيرة من حوله تتناثر فيها، لا المعاجين وأدوات الزينة، وإنما الكتب والسجائر والفواكه، بينما لا يكف عن التلويح بيديه وهو يردد بانفعال: تصوروا!

استبدلت ملابسي وحملت حافظة أدوات التواليت الصغيرة إلى الحمام فاغتسلت ودعكت أسناني، ثم عدت إلى الغرفة وارتميت في المقعد المجاور للبيانو وأنا أتثاءب. تناولت الصحف الخليجية التي جمعتها خلال الرحلة ولم أقرأ منها غير العناوين. قرأت افتتاحية تشكو من أن الكويت خرجت من كارثة الاحتلال العراقي إلى براثن حرب استنزاف أشق وأدهى، تمتص دماءها قطرة قطرة. فهي تدفع مليارات الدولارات باسم الأمن والتنسيق والتسليح والتدريب، ونقلت الصحيفة عن الإيكونوميست البريطانية مساعي بريطانيا لأن تبيع للسعودية ٤٨ قاذفة مقاتلة من طراز تورنادو قيمتها حوالي ٧ مليارات دولار وهي ثاني أكبر صفقة للأسلحة من نوعها. وبلغت قيمة الصفقة الأولى ١٥ مليار دولار أي ٣٣ ألف وظيفة للبريطانيين في البلدين. أما الصفقة الجديدة فتتيح الحفاظ على وظائف ١٩ ألف بريطاني في المصانع التي تخلصت من آلاف العمال في بداية العام.

تثاءبتُ مرة أخرى، فوضعت الصحيفة جانبًا. وقمت إلى النافذة ففتحت مصراعها الزجاجي، شعرت على الفور بسخونة الهواء في الخارج. تأملت الشوارع الهادئة الخالية من كل حركة أو صوت فيما عدا طنين أجهزة التكييف. وكانت أضواء المصابيح تتلاشى بعد مسافة قريبة وتبدو خلفها كتلة من الظلام الكثيف. وعندما ألِفَت عيناي الظلام تبينت فيها سلسلة من الجبال السامقة الموحشة.

٢

بدت المدينة في ضوء النهار مجموعة من الطرق السريعة والكباري العلوية والمنازل الحديثة التي تشترك في طراز موحد، تتخللها الخضرة وتحيط بها الجبال الجرداء.

قال فتحي وهو يقود السيارة في اتجاه الميناء: هذا المشوار الذي نقطعه في دقائق كان يستغرق نصف يوم في الماضي، كانت الجبال تفصل بين مناطق العاصمة فصلًا تامًّا، ثم شَقَّ قابوس هذا الطريق الذي ربط بينها.

ما إن اقتربنا من البحر حتى ضاقت الطرقات وظهر البشر، اتجهنا يسارًا على الكورنيش فتزايد الزحام الذي طغى عليه العنصر الهندي. أتتنا رائحة السمك قوية نفَّاذة، ومررنا من أمام مبنى صغير على البحر تجمَّع أمامه الناس.

– سآتي بك مرة إلى هنا لترى أنواع الأسماك العجيبة وتسمع الأهازيج التي يرددها الباعة أثناء تنظيفها، ستجد بينهم من عاصَرَ الاستعمار الإنجليزي في أفريقيا، وربما من شهد حملة جوردون باشا في السودان.

أومأ إلى بوابة ضخمة بجوار سوبر ماركت على الناحية المقابلة تبدو من خلالها أزقة ضيقة مظلمة، وقال: هذا حي اللواتية.

علق عندما رأى التعبير الذي ظهر على وجهي: لا تتسرع. هؤلاء من الشيعة الذين جاءوا من حيدر أباد في قديم الزمان. أغلقوا عليهم الحي زمنًا طويلًا، ولم يكونوا يسمحون لأحد غيرهم بدخوله.

أراد أن يريني يخت السلطان الفاخر الرابض في الميناء، لكن بصري تعلق بمشهد أكثر سحرًا. ففيما يشبه الميدان الصغير، وقفت امرأة في جوبة داكنة طويلة تبلغ القدمين تعلوها بلوزة سماوية اللون بنصف كم تزين الأشرطة السوداء كتفيها. كانت تضع على رأسها، الملفوف بطرحة بيضاء، قبعة صغيرة زرقاء، وتحمل في خاصرتها مسدسًا، بينما تنظم المرور بحركات رياضية من ساعديها.

دخلنا باحة مخصصة للانتظار، وانطلقنا سيرًا على الأقدام فوق رصيف أُعدت حوافه بدقة متناهية كما هو الأمر في أرقى العواصم الأوروبية.

كنا في شبه خليج تشرف عليه قمم الجبال، وأسفلها دائرة من المنازل الصغيرة ذات الطابع القديم رغم حداثة طلائها، لم يكن أغلبها يزيد عن طابقين، تتألف واجهاتها البيضاء من عدة نوافذ طويلة متجاورة، زرقاء اللون، يعلو كل منها قوس مزخرف تتجه فتحته إلى أسفل.

اجتزنا فُرجة ضيفة بين منزلين فأصبحنا كأننا في سوق الحميدية بدمشق أو خان الخليلي في القاهرة.

قال: أنت طبعًا لن تشتري قميصًا بمائة جنيه أو مائتين! لهذا لم آخذك إلى حوانيت بنيتون ولاكوست وجوفيال. هنا سنجد لك قميصًا بريال أو ريالين.

ضاعفت الريال ثماني مرات لأتبين الثمن بالجنيه المصري وهززت رأسي موافقًا.

مضينا في حوارٍ نظيفة مسقوفة على جانبيها دكاكين متلاصقة مرتفعة عن الأرض بدرجة أو اثنتين. كانت لبعضها واجهات زجاجية، بينما احتفظ البعض الآخر بطابعه القديم فاقتعد أصحابه حشيات وثيرة فوق مصاطب ملتصقة بالجدران إلى جوار السلع المرصوصة.

تصاعدت أرواح العطور والتوابل ونحن ننتقل من حارة إلى أخرى متجنبين المنعطفات الدائمة التي يمكن أن تعود بنا إلى نقطة البداية. مررنا بدكاكين للعصي والخيزران والخناجر وأواني القهوة ومشغولات الذهب والفضة ومجامر البخور والآنية الخزفية والنحاسية والملابس المستوردة والأجهزة الكهربائية والحلوى العمانيَّة. ولاحظت انتشار حوانيت الحياكة الهندية.

قال فتحي ونحن نتأمل البدلات الرجالية الأوروبية المعروضة في واجهة إحداها: لا تظن أنها للبيع. إنها مجرد كتالوج. تختار منها النموذج الذي يعجبك بعد أن تشتري القماش. ويفصلها لك الهندي في أيام قليلة تفصيلًا متقنًا.

أبدلت بضعة دولارات بسعر البنك من صرَّاف يُمارس عمله في الطريق أمام مائدة صغيرة واشتريت عدة قمصان صيفية بأكمام قصيرة، بينما ولج ابن عمي حانوتًا للمشغولات الفضية.

وقفتُ في الخارج أتأمل أصحاب الحوانيت الذين تكاد وجوههم تختفي وراء لحاهم بينما تبرق عيونهم دهاءً. سهمت متخيلًا حالهم في الماضي السحيق: الواحد منهم يقضي اليوم كله في ركنه المعهود بالدكان جالسًا فوق وسادة مريحة، رافعًا ساقه اليمنى ومستندًا إليها بساعده، متأملًا الزبائن والمارة وجيرانه من أصحاب الدكاكين وباعتها، مسجلًا ملاحظاته في أرشيف رأسه لتسعفه عند الحاجة في منازلات المهنة وصراعاتها، متوقفًا ببصره عند إحدى المارات، مطلقًا العنان لمخيلته كي يتصور جسمها تحت العباءة التي تسربلت بها، جاذبًا أنفاس النرجيلة، محتسيًا أكواب الشاي والقهوة التي يعدها أحد الصبية، مشتريًا بعض الفواكه أو الأسماك أو ما شاء من أغراض يأتيه بها باعتها خصيصى، لا يغادر مكانه إلا للصلاة في المسجد القريب أو لقضاء بعض الأمور، عائدًا إلى منزله في نهاية اليوم والصبي يحمل له مشترياته، ينتظره عشاء ساخن وحريمه (من زوجات وجوارٍ) وأولاده. صورة توحي بالاستقرار والطمأنينة أم هي لا تعدو أن تكون طمأنينة القلة من الشبعانين، بينما يعشش حولهم الوسخ والذباب والكلاب الجوعى والمرض والفقر؟

اشترى فتحي إبريقًا صغيرًا من الفضة في حجم الإصبع، اشتغله صانعه بمهارة ودقة. وعدنا أدراجنا فأخذنا السيارة وانطلقنا في الطريق الذي جئنا منه. وبدلًا من أن ننحني في طريق قابوس المؤدي إلى المنزل واصلنا السير بحذاء الكورنيش ثم تركناه إلى طريق شُقَّ بين الجبال. وسرعان ما صرنا وسط شوارع صغيرة ضيقة تطل عليها مبانٍ حديثة. أشار إلى صف من البيوت القديمة، المؤلفة من طابق واحد، ويبدو كأنها بُنيت من اللبِن أو الحجارة وقال: هكذا كانوا يسكنون زمان.

ليس كلهم. ففيما يمكن اعتباره مركز المدينة القديمة كانت البيوت الباقية تنطق بالثراء والفخامة.

تركنا السيارة ومضينا على أقدامنا ونحن نتأمل البيوت التي بدت أشبه بالقلاع: واجهات لا تكشف عن شيء، فليست بها شرفات وإنما نوافذ ضيقة طويلة، يشرف عليها القوس العربي التقليدي، تعلوه كوات دائرية صغيرة مثل فتحات المدافع. أما الباب الخارجي فثقيل يعلوه برواز مزخرف على شكل قوس متدرج وتغطي سطحه الخشبي نقوش دقيقة بعضها يوحي بالطابع الهندي تتخلله كتلٌ حديدية مدببة الرءوس.

قال وهو يشير إلى عمودين من الحجر يعترضان الشارع: هذا الحي الصغير كان يمثل العاصمة قبل عشرين عامًا فقط ويغلق من هنا عند الغروب فتنقطع صلته بالعالم حتى الصباح التالي، ولا تُفتح البوابة لأي سبب من الأسباب. وكثيرًا ما مات المرضى القادمون من أقصى الشمال لزيارة المستشفى الوحيد بالمنطقة؛ لأنهم وصلوا بعد الغروب.

تذكرت يعرب وقصصه التي كانت تبدأ دائمًا بهذه الكلمة: تصوروا! تصوروا أن ارتداء النظارات الطبية ممنوع عندنا! والتدخين أيضًا! تصوروا أن من يدخل مسقط عليه أن يخلع حذاءه ويتركه عند البوابة. تصوروا أنه في الوقت الذي يتعلم فيه أبناء الشعوب الأخرى في المدارس يعمل أبناؤنا في الخليج خدمًا في المنازل.

عقبت على النظافة الشديدة حولنا: حتى الآن لم أرَ ورقة صغيرة أو كوم وزبالة كما هو الحال لدينا.

قال: لاحظ أولًا أن عدد السكان ليس كبيرًا. عُمان بمساحتها التي تبلغ ٣٠٠ ألف كيلومتر لا يتجاوز عدد سكانها المليونين. أي أقل من نصف حي من أحياء القاهرة. ثانيًا الهنود هم الذين يتولون النظافة.

– ماذا تعني؟

ضحك ساخرًا ونحن نقترب من مبنى حديث من طابقين: إياك أن تكون ظننت أن العماني ينظف بنفسه. الهنود متوفرون على قفا من يشيل وهم الذين يقومون بكل الأعمال الوضيعة.

لمحت هنديًّا في أوفرول أصفر يجر عربة صغيرة لجمع القمامة فتساءلت: ولماذا لا يجلبون عمالًا من العرب؟ العاطلون عندنا بالكوم.

– الهنود ينامون في العراء. وإذا فُصل الهندي لا يشكو وإنما يبحث في هدوء عن عمل آخر، أما العربي فإنه يُحب الشكوى ويُثير المشاكل.

– أي نوع من المشاكل؟

– كأن يطالب مثلًا بحقوقه!

ولجنا فيلا صغيرة وتقدمني وهو يدندن أحد التواشيح الدينية. التقينا شابًّا في الملابس التقليدية يرتدي نظارة طبية ويغطي رأسه بالعمة التي يدعونها ﺑ «المصرة» فحيَّانا في تحفظ. قدمه فتحي لي على أنه من أبناء أول دفعة من خريجي الجامعة التي تأسست منذ ست سنوات.

قلت: الظاهر أن الزي موحد.

قال: الخنجر هو الذي يُميز الناس فالجميع يرتدون الجلباب والعمامة أو الطاقية، ويضيف أصحاب المناصب الهامة الخنجر. وبالمناسبة هناك قرار من قابوس يحظر على الموظفين خلع العمامة أثناء ساعات العمل. والظاهر أنه فعل ذلك لإنقاذ فئة واسعة من التجار والحرفيين الذين يعيشون على صُنع الطاقية أو الكِمَّة.

قلت: قرار ديموقراطي. فلا يمكن بذلك التمييز بين الغني والفقير.

قال: الخبير يتبين على الفور مكانة الشخص من ملابسه. نوع القماش مثلًا. فالعمامة تصنع من الأقطان الرخيصة أو الصوف أو الحرير الثمين، وقد يصل ثمن الواحدة إلى عدة آلاف من الجنيهات، ثم هناك العباءة التي لا يرتديها غير كبار الشخصيات، وهي تُصنع من أرقى أنواع وبر الجمال، فينسج حتى يصير شفافًا ثم تطرز حوافه بخيوط الفضة أو الذهب.

أطل على غرفة ضمت رفوفًا من الأشرطة الموسيقية والتليفزيونية ووجَّه التحية إلى شاب بالملابس التقليديَّة أمام جهاز كمبيوتر، وفي الغرفة المجاورة انهمك شاب آخر في الكتابة وقد وضع فوق أذنيه سماعات كبيرة متصلة بجهاز تسجيل ضخم. نزع السماعات وانضم إلينا مع زميل له يرتدي نظارة طبية ذات عدستين داكنتين. وقفا يتطلعان إليَّ في فضول، فقال فتحي وهو يشير إلى صورة السلطان المعلقة: نحن الآن أربعة. وقعتنا سوداء.

وأوضح لي ونحن نصعد الدرج إلى الطابق الثاني أن هناك قانونًا من أيام الثورة الشيوعية في الجنوب يحرم أي تجمع يزيد عن ثلاثة أشخاص.

– ألم تنتهِ هذه الثورة من زمان؟

– لكن القانون بقي.

لمحت عمانيًّا بلحية سوداء كَثَّة تكاد تغطي وجهه فقلت: يبدو أن عندكم نصيبكم من الأخوة.

قال: لكنهم قلة.

ولجنا غرفة امتلأت بالآلات الموسيقية. فبالإضافة إلى بيانو عادي، كان ثمة عدة طبول مختلفة الأحجام، بعضها من خشب والبعض الآخر من صفيح أو بلاستيك، بالإضافة إلى أبواق من قرون الحيوانات والأصداف البحرية الضخمة وآلات أخرى صغيرة من نحاس وفضة أو صفيح مثل الصنوج.

جلست في مقعد بجوار المكتب. ومضى هو يجمع عددًا من شرائط الفيديو من خزانة تكدست الأشرطة فوق رفوفها.

أحضر لي شاب هندي طبقًا من مادة بيضاء أشبه بالمهلبية وملعقة صغيرة. ولحظت أن شفتيه مصبوغتان باللون الأحمر.

علق فتحي على تعجبي فقال: إنه لبان أحمر يمضغه الهنود طول الوقت فيلون شفاههم وأسنانهم وهم يبصقون لعابهم الملون في أي مكان.

انصرف الهندي ثم عاد بفناجين القهوة. استفسر منه فتحي عن المدير وإذا كان موجودًا، فبدرت منه حركة غريبة لم أدرك مغزاها على الفور. فقد هبط برأسه قليلًا إلى أسفل ثم حركها إلى اليسار ثم أعلى. كانت حركة تعطي معنى الإيجاب، ثم لا تلبث أن تشفعه بالنفي.

ضحكت وقلت: هل لحظت هذه الحركة؟

قال: معناها أن المدير لم يحضر بعد.

– عندنا في مصر شيء مماثل. عندما يجيب أحد على سؤال لك بكلمة تقريبًا.

تناولت جانبًا من الحلوى بالملعقة فتبينت طعم الهيل والسمن. جذبت صحيفة محلية من فوق مكتبه. كان إطار الصحيفة يحمل اسم وزير الإعلام بصفته رئيسًا لها. وتصدرتها صورة ملونة للسلطان وهو يستعرض القوات العمانيَّة التي اشتركت في تحرير الكويت: مدرعات السلطان وكتيبة مظلات السلطان وسلاح الجو السلطاني، وظهر إلى جواره يوسف بن علوي وزير الخارجية، ثم صورة أخرى للسلطان وهو يستقبل وفود القبائل. وأسفلها أفردت الصفحة الأولى مكانًا بارزًا لأنباء العنف الطائفي في الهند، وبجواره نبأ الفلسطينيين الذين صادرت السلطات الإسرائيلية بيوتهم وأراضيهم ثم طردتهم إلى الحدود اللبنانية ولم تسمح لهم السلطات اللبنانية بالدخول، فأقاموا في مخيمات على الحدود.

كانت أغلب الصفحات ملونة وتزدحم بإعلانات عن السيارات وعن عطور أرماني وباكو رابان وفهرنهيت للرجال. ولفت نظري عدة إعلانات بصيغة واحدة: نوفر الشغالات الفليبينيات بسعر ٢٥٠ ريالًا والسيرلانكيات بسعر ١٢٥ ريالًا.

هممت بوضع الصحيفة جانبًا عندما لمحت بصفحتها الأخيرة إعلانًا عن عرض مسرحي في الجامعة باسم «باغي أتزوج». وأبرز الإعلان أن جل ممثلي المسرحية من الرجال، وأنها ستقدم في عرضين يقتصر الأول على الطلبة، ويخصص الثاني للطالبات.

ظهر في فرجة الباب شاب نحيف ذو عينين دامعتين. حيَّاني فدعاه فتحي للدخول. احتل المقعد الذي يواجهني ونظر إليَّ باسمًا.

خاطبني فتحي وهو يكوم الأشرطة على مكتبه: قابوس مهووس بالموسيقى الكلاسيكية. كون فرقة للأوركستر السيمفوني من الشباب العماني ليعزفوا له السيمفونيات التي يعشقها، وبعد أن انتهينا تقريبًا في هذا المركز من جمع آلاف الشرائط الصوتية والتليفزيونية للأغاني والرقصات الشعبية، طلب أن نضع له سيمفونية.

تساءلت وأنا أرتشف القهوة المرة: له؟

ضحك: هل تظن أن أحدًا غيره هنا يعبأ بهذا النوع من الموسيقى؟

– وهل أنجزت السيمفونيَّة؟

تجهم وجهه: ليس بعد. تظن المسألة سهلة؟

هززت كتفي: لا أعرف.

– الموسيقى العربية موسيقى لحنية تعتمد على الصوت الواحد الذي يؤديه المطرب بمصاحبة الآلات. أما الموسيقى السيمفونيَّة فتقوم على تضارب النغمات وتنافرها. كيف نحقق هذا بالألحان والإيقاعات التقليديَّة؟ هذه كانت الصعوبة. خصوصًا في بلد كهذا غني بالتراث الموسيقي من رقصات وأغانٍ، لحسن الحظ أن قابوس فكر في جمع وتسجيل هذا التراث قبل أن يندثر أمام زحف الفيديو والتليفزيون. وهي عملية ليست سهلة بسبب اختلاف لهجات القبائل. إنها الشيء الوحيد الذي أخذه من الدول الشيوعية.

نهض الشاب ذو العينين الدامعتين فجأة واقفًا واستأذن منصرفًا وهو يبتسم ابتسامة ملتوية. تطلعت إلى فتحي وأشرت بيدي متسائلًا.

قال باقتضاب: سأشرح لك فيما بعد.

حمل الأشرطة التي انتقاها إلى سطح المكتب وجلس خلفه.

سألته: هل وجدت الألحان المناسبة؟

قال وهو يعبث بالأشرطة: ما زلت أبحث، أنا أريد ألحانًا جميلة وبسيطة وفي نفس الوقت قادرة على توليد ألحان أخرى يمكن تطويعها للتأليف الموسيقي. سأعطيك مثلًا؛ آلات النقر مثل الطبل والدف أساسية في الموسيقى الشعبية العمانيَّة؛ ولهذا تجد أنواعًا وأحجامًا مختلفة من الطبول. لا بد إذن أن أعطيها فرصة تسيد الآلات الأخرى في الأوركستر. ومن ناحية أخرى الإسراف فيها قد يحجب شاعرية بعض الجمل اللحنية الجميلة.

نهض واقفًا وحمل الأشرطة تحت ساعده.

قال: سنقوم بعملية تسجيل قريبًا في قرية بالداخل. تأتي معنا؟

قلت: طبعًا. فليس لديَّ ما أعمله. غادرنا المبنى فصرنا فورًا أسفل الشمس الحارقة. قال ونحن نركب السيارة: زكريا الذي دخل علينا يريد الزواج من هبة. رآها عندما كانت هنا في الصيف، لم يعجبها بالطبع.

قلت: بسبب عينيه الدامعتين؟

– لا. بسبب أفكاره العتيقة. وهو يظن أني قادر على إرغامها فلا يكف عن ملاحقتي.

ضحكتُ، فلم يخلق بعد من يستطيع إرغام هبة — ابنته — على شيء.

تردد لحظة ثم أضاف: أنا لا أستريح له. فهو يجاهر بعدائه لكل مظاهر التحديث التي حققها قابوس. وهذا يجعلنا نخاف منه، فربما يفعل هذا عن قصد.

– تقصد أنه …

أومأ برأسه ونحن ننطلق في الطريق المؤدي إلى الميناء. انحرفنا في شارع قابوس حتى دوَّار الفلج واتجهنا يسارًا وسط المنازل الحديثة لحي روي.

سألني: ألم تلحظ شيئًا على هذه المنازل؟

أدرتُ البصر بينها دون أن أتبين ما يقصده.

قال: هناك محافظة على الطابع العربي التقليدي من ناحية المبدأ مع مراعاة الخطوط الحديثة. والمزيج لا يُحدث التنافر ولا يُثير الغربة. درسٌ للشعوب العربية في حل مشكلة الأصالة والمعاصرة، هو نفس ما أحاول عمله في الموسيقى. لحسن الحظ أن قابوس يدرك هذه المسألة جيدًا. مرة أقام أحد الناس عمارة عالية من ذلك النوع الذي تراه في أبوظبي أو الكويت أو حتى مصر: الزجاج الفيميه والألوميتال. وعندما شاهدها أمر بهدمها وبألَّا يبني أحد منزلًا إلا في إطار القواعد التي حددتها البلدية. والنتيجة ذلك التناسق الذي يريح العين ولا يصدم الوجدان … نفس ما كان أصحابك يدعون إليه.

٣

استقبلتنا روائح المطبخ. ومدت شفيقة يدها إليَّ بالطريقة المتحفظة التي انتشرت بين نساء الطبقات المتوسطة في مصر؛ إذ تضع الواحدة منهن في يدك أطراف أصابعها مضمومة متخشبة وعلى أهبة سحبها في الحال كأنما تخشى أن تقبض على كفها وتقودها منه إلى الفراش.

قبضت على يدها براحتي وضغطت عليها محتفظًا بها رغم محاولتها الفكاك، وبابتسامة متكلفة فاهت بالكلمات التي توقعتها منها بالضبط: حمدًا لله على السلامة. تذكرتنا أخيرًا.

قلت بنفس لهجتها المفعمة باللوم: أنتم بخلتم طويلًا ببطاقة الطائرة.

كانت بدينة مثل زوجها، وأصغر منه بعدة أعوام. وكان وجهها يخلو من كل أثر للزينة وتحيط به لفاعة بيضاء غطت رأسها، تطل منه عينان كعيون الصقور.

هناك في العلاقات العائلية عداوات غير مفهومة السبب، أو ربما بلا أسباب كافية. وعلاقتي بشفيقة من هذا النوع. فطالما أجهدت نفسي في محاولة تبين السبب بلا جدوى. ظننت فترة أنه إحساس بالتفوق مبعثه بشرتها البيضاء في حين أننا ننتمي إلى الجنس الأسمر، ثم أرجعت الأمر إلى إحساس بالنقص لأنها فشلت في إنجاب الولد بينما لديَّ منه اثنان. وأخيرًا اعتبرت عداوتنا من حقائق الوجود التي يستحيل تفسيرها.

كانت قد أعدت مائدة عامرة بالمأكولات المصرية التقليدية: البامية والمسقَّعة ومحشي ورق العنب وكباب الحلَّة.

قلت لها مشاكسًا: كنت أتوقع أكلة عمانيَّة.

قالت: ليس عندهم غير البرياني بالدجاج أو السمك أو اللحم.

كنت أشعر بالعطش فتطلعت إلى إبريق من المياه المثلجة ثم تجاوزته ببصري.

سألتني: عاوز حاجة؟ أجيب لك عصير؟

نظرت إلى فتحي فابتسم بخبث وظل صامتًا.

قلت أخيرًا: لا أظن عندكم …

سارعت ترد بحسم: لا، مطلقًا.

تبرع ابن عمي بإضافة: بعدين تحل المشكلة.

قالت بنفس الحسم: لا بعدين ولا قبلين.

أردت المهادنة فأطريت طعامها قائلًا إنها صارت تجيد الأكلات الصعبة.

قالت في تواضع مصطنع: أعمل أيه؟ ليس هنا من تسلية غير الطهي والأكل.

سألتها: كيف؟ ألا توجد سينما مثلًا؟

– توجد عدة دور لا تعرض غير الأفلام الهنديَّة.

تذكرت أنني أطريت طهيها فأرادت أن تتخلص من الدين في الحال. قالت: كيف حيال الكتابة؟

قلت مغلقًا باب الحديث في هذا الموضوع: متفكرنيش. أنا هنا في عطلة. أنتِ عاملة إيه في الإذاعة؟

– ماشي الحال.

انهمكت في الأكل وأنا أرد على أسئلتها عن الأحوال في مصر وأعيد عليها ما تعرفه جيدًا من أخبار ابنتها التي تدرس في الولايات المتحدة. وتجنبت الإشارة إلى الموضوع الذي يهمها إلى أن اضطرت أن تسألني مباشرة: أليس هناك جديد بالنسبة للشركات؟

غالبت الابتسام. كانت قد وقعت في براثن شركة لتوظيف الأموال أسَّسها أحد القادة السابقين لجماعة الإخوان المسلمين، وأودعت لديه كل مدخراتها، ثم وقع ما وقع وطارت المدخرات.

قلت: لا جديد سوى أنه زوَّج ابنته في ليلة من ليالي ألف ليلة بالهيلتون.

تنهدت ثم غيَّرت الموضوع: وما قصة استقالة رئيس الوزراء أم هو أُقيل؟

قلت: الإشاعات كثيرة. إحدى الروايات تقول إن الأمر مدبر لإبعاده لأنه تحدث في أحد مجالسه عن اقتسامه عمولات السلاح مع شخصية هامة، وتقول رواية أخرى إن له صلة وثيقة بكبار ضباط الشرطة الذين افتضحت علاقتهم بتجارة المخدرات.

تركز الحديث على رئيس الوزراء والنُّكت الرائجة عنه. ورويت لهما نكتة الميزانية التي تبدأ بكيفية توزيعها في السعودية وسوريا، ثم يأتي دور رئيس الوزراء المصري فيقف في ميدان التحرير ويقذف بها إلى أعلى، فما يقع منها على الأرض يأخذه لنفسه والباقي يذهب إلى الشعب. ثم رويت لهما حادثة واقعية سمعتها من بطلها، وهو مترجم فوري في الأمم المتحدة. فقد التقى به رئيس الوزراء في نيويورك وسأله عما إذا كان مستريحًا، فقال الشاب إنه يشتاق للعودة إلى مصر، فصاح فيه رئيس الوزراء: إوعى! أنتَ تجوع لو رجعت. ده أنا أتمنى ألاقي عقد هنا.

عبس وجه شفيقة فظننت أن مشاعرها الوطنية جُرحت، لكنها وضعت يدها على رأسها متألمة.

قال فتحي: الصداع لا يفارقها أبدًا.

تأملتها في صمت وقارنت بين ملابس الحجاب التي تتلفع بها وبين صورتها منذ سنوات قليلة أو في بداية السبعينيات عندما كانت هي وغيرها يزهون بالجوبة القصيرة التي تكشف عن الركبتين دون أن يثير ذلك امتعاض أحد. ولم تلبث عدوى الصداع أن انتقلت إليَّ أنا الآخر.

ساعدتها في إخلاء المائدة وفي وضع الآنية في غسالة الأطباق. سألتها عما إذا كانت تستعين بشغالة. أبدت استهجانها: أدفع نصف راتبي لواحدة في فليبينية أو هنديَّة؟ أبدًا، ثم إننا اثنان فقط. أنا كما تعرف لا أحب إشراك يد غريبة.

أضافت وهي تضع إبريق المياه على النار: لا تتصور الثراء هنا. الأسرة قد يكون لديها خادمة لكل واحد من ثمانية أطفال. الفليبينيات بالذات يتفانين في الخدمة. واحدة أمريكية أعرفها تُصر خادمتها على أن تخلع لها حذاءها. الجوع كافر.

شربنا الشاي أمام التليفزيون. ورأتني مهتمًّا بمتابعة إحدى الأغاني العربية المصورة التي تتمايل فيها فتيات على إيقاع جيتار فسألتني: ألم تفكر في الزواج بعد؟

قلت: مرة واحدة تكفي.

قالت: لكن حياتك هكذا غير مريحة.

– وهل اشتكيتُ لكِ؟

اكتشفت أن الفتيات المتمايلات روسيات وعلقت شفيقة على الفور: إنهن يملأن الأسواق والأرصفة في دبي ويتاجرن في أي شيء حتى أجسامهن.

تدخل فتحي: الروس يشترون أي شيء، وخصوصًا الأجهزة الكهربائية ليبيعوها بعد عودتهم.

قالت في شماتة: بلدهم في مجاعة … هذه هي نتيجة الشيوعية.

تظاهرت بأني لم أسمع. وخف فتحي إلى نجدتي قائلًا: ألا تريد أن تتمشى قليلًا؟ هيا بنا أفرجك على البلد.

رافقتنا زوجته حتى الباب وظلت واقفة إلى أن دخلنا المصعد واستدرنا ناحيتها فهتفت: لا إله إلا الله.

سارع فتحي بالرد قبل أن ينغلق الباب تمامًا: محمد رسول الله.

نظرت إليه مدهوشًا، فلم يكن هذا الإشهار من عادة أسرتنا.

قال: الغربة لها أفعالها.

تأملته بإمعان: وأنت؟

شرع في الدندنة مترنمًا بأغنية فايزة أحمد: أنا زي ما أنا …

قلت: الظاهر أنك مبسوط هنا.

تجاهل أن يجيب بالإيجاب أو النفي أو حتى ﺑ «تقريبًا». قال ونحن نخطو إلى الطريق: الحياة هنا لا تطاق ابتداءً من مايو حتى منتصف سبتمبر. وقتها تصبح الرطوبة خانقة.

أخذنا السيارة ووضعنا الأحزمة وقادها في الطريق إلى الكورنيش.

– المصرية هنا تعاني الأمَرين. فهي بسبب تعليمها وتحررها موضع إعجاب الرجال وغيرة وحسد النساء، لهذا لا بد أن تبالغ في إظهار تدينها. شفيقة تتعرض لمكائد يومية من جانب زملائها العمانيين. تكفي كلمة واحدة من رئيسها كي تجد نفسها في القاهرة.

– هكذا ببساطة.

– لي صديق مصري يعمل في أحد البنوك. شاء سوء حظه أن يكتشف خطأً لرئيسة فأبلغه لمدير البنك دون أن يعلم بصلة القرابة التي تربط الاثنين، وفي اليوم التالي أبلغوه أن مقعده محجوز على طائرة الغد. هكذا دون إنذار … كانت له بالطبع شقة وعفش ومعاملات ومصالح، وقمنا نحن بإنجازها له بعد ذلك بصعوبة شديدة.

وجه السيارة إلى ساحة انتظار ملاصقة لفندق يطل على الميناء، وتناهى إلى سمعي صوت عواء مألوف. والتفت خلفي لأرى مرسيدس سوداء تقترب منا ويحيط بها موتوسيكلان. تمهل الموكب عندما مرَّ أمامنا فتطلعت إلى ركاب السيارة متوقعًا أن أجد الستائر مسدلة على نوافذها كما هي عادة هذه المواكب في مصر. لكن هذا الراكب كان حريصا على الشفافية. اتجهت عيناي إلى المقعد الخلفي فلمحت شخصًا كأنما خرج من ألف ليلة وليلة. كانت رقبة دشداشته موشاة بالقصب وفوق رأسه لفافة بيضاء معقدة التكوين وحول وسطه حزام عريض يتدلى منه خنجر ذو مقبض فضي في غمد موشى بالزخارف.

انطلقنا على أقدامنا فوق الكورنيش وسط مارة من الآسيويين في القمصان والبنطلونات، يسهل التعرف على الهنود بينهم من رائحتهم النفاذة المميزة. مرت بنا شاحنات محملة بالأسمنت تبعتها سيارة لاندروفر وبيك أب تويوتا ثم باص مكدس بركاب آسيويين. سألته عن المصريين فقال: إن هناك كثيرًا منهم؛ أطباء ومدرسون ومهندسون، وإنه على علاقة طيبة بعدد منهم.

أضاف: كثيرًا ما أستقل السيارة مع أحدهم وننطلق إلى المطار ثم نعود أو نذهب إلى منطقة جديدة اسمها القِرْم لنجلس في كافيتريا أو في محل واحد سوري على الشاطئ.

– والنساء؟

– زي ما أنت شايف.

– هو أنا شفت حاجة؟

– خذها قاعدة. الحلاق الفليبيني هنا قواد ويستخدم فليبينيات ممن يعملن في الحوانيت أو من العاطلات. الواحدة تتقاضى بين عشرين وخمسين ريالًا.

كان الظلام قد حلَّ فقفلنا عائدين. أخذنا السيارة وعدنا إلى روي حيث تركها بالقرب من منزله قائلًا: إن الشرطة حازمة مع السائق الذي تفوح منه رائحة الخمر.

استوقف سيارة أجرة يغلب عليها اللون البرتقالي، فذكرتني بالإسكندرية، كان السائق عمانيًّا ولم يفُهْ بكلمة إلى أن أنزلنا أمام فندق الفلج. وأعطاه فتحي ورقتين ماليتين بقيمة مائتي بيسة.

تقدمني إلى بار فسيح تألف من أركان وزوايا متجاورة على مستويات متعددة وتقوم بالخدمة فيه فتيات فليبينيات عاديات الملامح. أحضرت لنا إحداهن كوبين من البيرة وطبقًا صغيرًا من الزيتون الأخضر، ولمست أن أغلب الجالسين من العمانيين، فيما عدا اثنين من الأوروبيين بادلهما فتحي التحية.

قال وهو يرتشف بيرته: الجالس ناحية اليمين من اﻟ «بي دي أوه»، شركة النفط. والثاني هو المستشار الإنجليزي لوزارة البيئة وهو يجيد الحديث بالعربية وباللهجات المحلية أيضًا.

كان الشاربون يرتشفون كئوسهم في هدوء وعيونهم تسقط بين الحين والآخر على ظهور الفتيات الفليبينيات وسيقانهن ثم تنداح بعيدًا. بينما الفتيات يتحركن في توتر مكتوم. وخالجني شعور بأنه هدوء مضلل، وأن هناك انفعالات صاخبة يموج بها المكان دون أن تظهر على السطح.

سألته: هل تعرف أحدًا من أعضاء الجبهة؟

تغيرت ملامحه وبدت عليه الصرامة: اسمع. كل ما له علاقة بالسياسة له حساسية شديدة هنا. السلطان وأعوانه يحتكرون العمل السياسي والتفكير والتجارة والنفط وكل شيء. والمخابرات قوية وبها خبراء إنجليز وأمريكان.

قلت: أنا سألتك سؤالًا بسيطًا.

مضى يرتشف بيرته ثم أضاف بصوت فقَدَ حدته وبلهجة من يسوس طفلًا عنيدًا: لم تعد هناك جبهة أو يحزنون. الاشتراكية ليست غير حلم لأن المال هو كل شيء في الحياة. المال والبنون زينة الحياة الدنيا.

قلت: موافق معك. ولهذا السبب بالتحديد. يتعين توزيعهما بالعدل كي يتمتع الجميع بزينة الحياة.

أَنقذنا من نقاش مرير ومألوف شاب في دشداشة بيضاء حريرية تخلو من الشرشابة العمانيَّة، يغطي رأسه بالغترة السعودية، اقترب منا وخاطبنا قائلًا: الأخوان من مصر؟

أومأنا بالإيجاب. قدم نفسه على أساس أنه صحفي من الرياض، فدعاه فتحي للجلوس معنا.

سألته: تقيم في عمان؟

قال: لا. جئت منذ أسبوع لتغطية الاكتشافات الأثرية الأخيرة.

شرح لي فتحي أن البعثات الأجنبية اكتشفت مائة هيكل عظمي بشري على بعد كيلومترين من الفندق يعود زمنها إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد.

أضاف السعودي: وجدوا أيضًا في ولاية هيما شجرة صنوبر متحجرة من ستة وعشرين مليون سنة.

طلب كأسًا من الويسكي واستطرد: أنا الآن مهتم بالسياسة الخارجية للسلطنة.

تساءلت: وما علاقة السياسة الخارجية بالاكتشافات الأثرية؟

قال: لي أصدقاء كثيرون هنا واقترح عليَّ رئيس التحرير هذا الموضوع. المطلوب معرفة رأي الناس.

تدخل فتحي: وما هو رأيهم؟

قال: لم أتبينه بعد. إنهم فريقان: واحد لا ينبس بشيء، والثاني يؤيد سياسة السلطان على طول الخط.

ضحكت: مثلما هو الأمر عندكم.

شاركني الضحك: بالضبط.

قلت: هل تنوي البقاء طويلًا؟

قال: أنا في الانتظار. طلبت مقابلة وزير الإعلام ووزير الخارجية، لم يرد عليَّ أحد حتى الآن. العلاقات متوترة قليلًا.

تساءلت: بين السعودية وعمان؟

قال: السلطنة تحاول انتهاج خط سياسي محايد بين كل الأطراف.

قال فتحي: وجهة نظرهم أن لكل بلد عربي الحق في اتخاذ السياسة التي يراها، وبالتالي فهم لا يتدخلون في اختيارات الآخرين، كما يفضلون عدم التورط في المغامرات والتشنجات.

قال السعودي: أو قل إنها سياسة اللعب على الحبال، في حرب الخليج رفضوا اتخاذ سياسة متشنجة ضد العراق، واكتفوا بإرسال قوات رمزية إلى حفر الباطن.

قاطعته: رمزية؟ القاذفات الأمريكية كانت تقوم من قواعدها هنا.

قال فتحي: هذه سياسة تاريخية في عمان. من أيام الخلاف بين سيدنا علي ومعاوية. فهم يدينون بالمذهب الإباضي. وهو مذهب المعتدلين الذين رفضوا الانضمام إلى أي جانب.

قلت: ربما هو الموقع الجغرافي … إيران من ناحية وأنتم واليمن في الناحية الأخرى، ثم مضيق هرمز الذي يتحكم في مرور النفط.

وجه حديثه إليَّ: هل رأيت الخرائط العمانيَّة؟ لن تجد أي إشارة للحدود مع الإمارات.

هزَّ فتحي كتفيه وقال: كل هذه الإمارات كانت جزءًا من عمان.

قال السعودي: المشكلة أن أحدًّا لا يعرف ماذا يريد قابوس بالضبط.

قال فتحي: ربما لا أكثر من أن يُترَك في سلام لإنجاز مشروعات التحديث.

رفعت عيني إلى صورة السلطان المعلقة فوق البار وإلى عينيه السوداوين اللامعتين ولحيته المشذبة البيضاء. في هذه المرة كان يضع على رأسه غطاءً أزرق اللون.

جاءتنا النادلة الفليبينية تسأل إذا كنا نريد شيئًا آخر لأن موعد الإغلاق يقترب. طلبنا كوبين من البيرة وطلب السعودي كأسًا مزدوجة من الويسكي.

٤

قررت في الصباح استكشاف المنطقة المحيطة بالمنزل على قدمي، فغادرت المبنى ومشيت حتى الطريق الرئيسي الذي يمتد حتى مطرح، سرت في الاتجاه العكسي المؤدي إلى الشيراتون، وبلغت الناصية التي تحتلها وزارة الدفاع فدرت إلى اليسار وقطعت شارع سعيد بن سلطان حتى ناصية الشارع المؤدي إلى المنزل.

مررت من أمام مطعم هندي رخيص وآخر لبناني يبيع ساندوتش الفلافل بمائتي بيسة. أشرفت على سوبر ماركت كبير فاتجهت إلى مدخله. كدت أصطدم بفتاتين حدست من لهجة حديثهما أنهما عمانيتان. وكانت إحداهما سوداء البشرة، سافرة الوجه عارية الرأس وترتدي بلوزة وبنطلون من الجينز.

وجدت السوق السوبر عامرة بالسلع المستوردة من كافة الأنحاء. اشتريت علبة من الفول المدمس وأخرى من الجبن الأبيض الذي صُنع في هولندا على الطريقة المصرية وبضع معلبات أخرى، ثم عدت من حيث جئت.

التقيت بالبواب الباكستاني في مدخل المنزل. سألته عن ابن عمي وزوجته فعرفت أن أحدًا منهما لم يعد بعد. ووقفت أثرثر معه بلغة هي خليط من العربية والأردية وإيماءات الأيدي.

كان فتحي قد ذكر لي أن هناك حوانيت خاصة في منطقة القرم تبيع الخمور للأجانب المزودين بتصاريح، وهم في العادة من الأوروبيين أو الهنود والفليبينيين ذوي الأجور المعقولة مثل سائقي البلدوزرات. وأن هؤلاء كثيرًا ما يبيعونها بعد ذلك في السوق السوداء لمن يرغب من العمانيين ويكسبون جيدًا من وراء ذلك. فزجاجة الجن مثلًا يشترونها بثلاثة ريالات ثم يبيعونها بخمسة.

كان عم جوهر ضخم الجثة بلحية كَثة وملامح طيبة. وسرعان ما كنت أشاركه دكته الخشبية وأقود الحديث في الاتجاه الذي أسعى وراءه، علمت منه أن الشقة المغلقة المجاورة لشقة ابن عمي مؤجرة لعماني يعيش في المنطقة الداخلية ويتردد عليها بين الحين والآخر، وبعبارة أخرى كما نقول في مصر: يستخدمها لمزاجه.

لم يكن من الصعب وقد وصل حديثنا إلى المزاج أن أطلب منه حلًّا لمشكلتي. وأبدى الرجل تفهمًا وتعاطفًا فوعد بأن يأتيني بعلب البيرة. كان ثمنها لا يزيد عن سبعمائة بيسة، لكني قبلت عن طيب خاطر أن أدفع في الواحدة ريالًا كاملًا مقابل خدمة إضافية؛ أن يضعها في براده ويزودني بها عندما أطلب ويخفي الأمر عن زوجة ابن عمي.

تركته سعيدًا بدهائي وصعدت إلى المسكن، فتحت الباب وذهبت إلى المطبخ فوضعت مشترياتي في مكان ظاهر لتكتشفها شفيقة بسهولة عند عودتها من المدرسة وتطمئن على أن وجودي لن يؤثر في عدد الريالات التي تجمعها واحدًا فوق الآخر في حرص شديد.

لم أكد أعود إلى الصالة وأهم بتشغيل التليفزيون حتى دقَّ جرس الباب ففتحت لأجد جوهر أمامي. ظننت للوهلة الأولى أنه أحضر لي طلبي، لكنه مدَّ يده إليَّ بمظروف سميك يحمل اسمي قائلًا إن شخصًا أحضره في التو.

تناولت المظروف ومزقت طرفه بعد أن أغلقت الباب خلفه، استخرجت كراسة محفوظة بين دفتي غلاف سميك من الورق المصقول الملون، جذبت الغلاف فاستجاب لي وانفصل عن الكراسة. بسطت جانبيه فطالعني طبق محاط بالشوكة والسكين والملعقة وكأس نبيذ يعلوه رمز الموسيقى وبيانو مائل.

عدت إلى الصالة فوضعت الورقة جانبًا ثم بسطت الكراسة، وجدتها مجلة صغيرة الحجم، متواضعة الإخراج، طبعتها السرية بطابعها، يحمل غلافها السميك اسم «صوت الثورة» وتاريخ يونيو ١٩٩٢. قلَّبت صفحاتها ثم عدت إلى الصفحة الأولى التي حملت عنوانًا غريبًا يُعلن أن المجلة قررت التوقف عن الصدور نهائيًّا بعد «مسيرة نضالية» عمرها عشرون سنة، كي تفسح المجال لصوت آخر غيرها يعبر عن «المرحلة الجديدة» من النضال، كان قسم كبير من المجلة مخصصًا لما أسمته «المؤتمر الرابع للجبهة الشعبية لتحرير عمان» الذي عُقد في أوائل شهر يونيو، أي منذ ما يربو على نصف العام، في أعقاب ما أسمته ﺑ «الصعوبات والخلافات التي شهدتها السنوات الأربع الأخيرة» وافتتحه الأمين العام الرفيق عبد العزيز القاضي. وقالت إنه انتهى بإقرار برنامج سياسي جديد وانتحال اسم جديد هو «الجبهة الشعبية الديموقراطية العمانية».

استعرضت المجلة أعمال المؤتمر وقراراته مستهلة بتحليل عوامل الخلافات التي شهدتها «الجبهة» وهي: الإخفاقات العسكرية، انهيار المعسكر الاشتراكي، سياسة التحديث الواسعة التي قام بها قابوس وسحبت كثيرًا من الكوادر، والسياسة الواقعية التي سار عليها في السنوات الأخيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، مرونة التعامل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومع الدول العربية التي رفضت الغزو الأمريكي في أزمة الخليج كاليمين والأردن. وأخيرًا السياسة التدريجية في مجال المشاركة الشعبية وتمثلت في تحويل المجلس الاستشاري العماني إلى مجلس الشورى لا يختار السلطان أعضاءه مباشرة، وإنما يقوم «وجهاء» كل منطقة باقتراح ثلاثة مرشحين يختار منهم السلطان واحدًا.

استخلص العرض من ذلك أن المهمة المركزية لم تعد هي إسقاط النظام؛ لأن ذلك لم يعد ممكنًا بالنسبة لإمكانيات الجبهة ورؤيتها ولا مرغوبًا من جانب الشعب. وبالتالي فهي تدعو النظام إلى المصالحة على أرضية الاستجابة للمطالب الشعبية بأن يتخلى هو الآخر عن العنف. وشدد العرض على أن قضية السيادة الوطنية تتصدر المطالب الشعبية، ودعا إلى إلغاء الاتفاقية المبرمة مع الولايات المتحدة في سنة ١٩٨٠، والتي وفرت للولايات المتحدة تسهيلات عسكرية واسعة، وجددت لمدة عشر سنوات أخرى في عام ١٩٩٠، كما دعا إلى العمل بالوسائل السلمية على تحقيق وحدة عمان الطبيعية المقسمة حاليًّا إلى دولتين هما سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة.

هذه اللهجة المسالمة لم تمنع المجلة من التنديد في إطار مستقل بما أسمته «استمرار الحكم العشائري والفردي»، و«استمرار انتهاك حقوق الإنسان العماني». قالت إن المعارضة تتعرض للملاحقات والاعتقالات، ويتعرض المعتقلون للتعذيب الجسدي والنفسي، ويُحرمون من الضمانات القانونية لعدم وجود محاكم عصرية. وهاجمت استمرار الحصار المفروض على قرى ومدن الجبل الأخضر ومدينتي رخيوت وضلكوت في ظفار. إذ يُطلب من سكان هذه المناطق تقديم ما يثبت أنهم من أبنائها ليحصلوا على ترخيص بالدخول والخروج.

وضعتُ المجلة جانبًا وأنا أفكر. كنت معتادًا على أمثال هذه النشرات التي تصلني في القاهرة. بعضها علني بالبريد، والبعض الآخر سرِّي باليد. لكن السؤال الذي عرض لي هو: كيف عرف المرسل بعنواني بل بوجودي أصلًا ولم تمضِ عليه سوى ثلاثة أيام؟

عدت إلى الغلاف الملون وقرأت السطور القليلة التي حملها باللغتين العربية والإنجليزية: إشراح الصدر تدعوكم لكي تنسوا همومكم كل يوم سبت، وذلك عندما نقدم لكم التشكيلة الرائعة من المأكولات وأفضل أنواع النبيذ والألحان المألوفة من عهد جلين ميلر في مطعم القرم بفندق إنتركونتينتال.

لم أكن سمعت عن هذا الجلين ميلر من قبلُ. لا بأس. لكن ما العلاقة بينه وبين الجبهة؟ هل هي مجرد ورقة أراد المرسل أن يغلف بها المجلة وحسب أم هي رسالة أخرى؟ ثم كيف عرف أني سأكون موجودًا في هذا الوقت بالذات بمفردي؟ أم لا يهمه إن وقعت في يد أصحاب المسكن الأصليين؟ وقادني السؤال الأخير إلى سؤال آخر: ماذا أفعل بها؟ هل أتخلص منها أم أحتفظ بها؟ لم أكن لأنسى المرة التي التجأت فيها إلى منزل فتحي في القاهرة هربًا من الاعتقال وكيف كانت شفيقة تفتش كل شعرة من حاجياتي ثم دفعت ابنتها لتمزيق زراير قمصاني لتجبرني على الرحيل.

مضيت إلى غرفتي فدسست المجلة بين طيات ملابسي في حقيبة السفر. انتقلت إلى المطبخ وأشعلت الفرن ثم استخرجت بقايا طعام الأمس من البراد.

٥

كانت في انتظارنا سيارة فان أمريكية تحمل أجهزة التسجيل والتصوير واثنين من الفنيين، وخلفها سيارة جيب يابانية بها شابان بالملابس التقليدية أحدهما صاحب النظارة الطبية الداكنة الذي التقيته من قبل.

صعدت إلى جوار فتحي في السيارة الأولى ومررنا بمسجد قابوس الفخم ثم خرجنا إلى شارع قابوس قرب مقر قيادة شرطة عمان السلطانية، أشار فتحي إلى مساحة خضراء كثيفة خلفها، فقلت: حديقة قابوس.

ضحك: فعلًا. لكنها مشروع رائع يرمي إلى تكوين محمية طبيعية للنباتات والحيوانات.

لزمنا شارع قابوس ثم تركنا مدينة قابوس على يسارنا وواصلنا السير مرورًا بمعرض سيارات قرأت لقب أحد الوزراء فوق لافتته. علَّق فتحي على استفساري قائلًا: هنا لا يجدون عيبًا في أن تكون وزيرًا وتاجرًا في نفس الوقت.

وأوشكت أن أعلِّق مستنكرًا ثم تذكرت وزراءنا الذين يتاجرون سرًّا.

أشرفنا على الدوار المؤدي إلى المطار وتوقفنا لنتزود بالوقود من محطة تابعة لشركة النفط الإنجليزية، ثم اتجهنا يسارًا في طريق مرصوف ظهرت مداخن بعض المصانع على يساره.

مررنا بمجموعة من المنازل الحجرية الصغيرة ذات طراز موحد يتألف من طابق واحد مستقل بحديقة صغيرة وسور يفصله عن المنزل المجاور. ومن الجدران برزت أجهزة التكييف كما ظهرت خزانات المياه فوق الأسطح.

قال فتحي إنها مساكن شعبية تبنيها الدولة ويختار المواطن بينها وبين هبة مقدارها ٦٠٠٠ ريال إذا فضَّل أن يقوم بترميم مسكنه القديم.

بلغنا مدينة سمائل بعد حوالي مائة كيلومتر فتوقفنا للراحة. ترجلنا وخرجنا من الطريق الأسفلتي إلى ميدان مترب، أقيمت به سوق صاخبة تمتد معروضاتها من قلوب النخيل وعسل النحل وشمعه والجبن والزبد، إلى أغنام وأبقار بعضها حديث الولادة. لحظت غلبة العنصر النسائي بين الباعة وكان البعض منهن يغطين وجوههن بأقنعة جلدية حادة الزوايا مثل الأقنعة الحديدية التي كان يضعها فرسان العصور الوسطى، تبدو منها عيون واسعة عسلية قوية، وأحيانًا تبدو أيضًا الشفاه. والبعض الآخر كن سافرات تمامًا.

استأنفنا السير بعد قليل ووصلنا مدينة نزوى بعد ساعة، أخذني فتحي إلى سوقها المسقوف الذي خصص له مبنى حديث مسور يشرف عليه السجن والقلعة الدائرية الضخمة. ولجنا من أحد المداخل ومررنا بحوانيت حديثة متلاصقة تضم كل شيء من الملابس والسجاد والصناديق الخشبية إلى الحلوى المسقطية والعطور الواردة من الهند وآسيا.

توقف فتحي كعادته أمام المشغولات المعدنية: أساور وخواتم وحلقان وخلاخيل ذات زخارف دقيقة من أشكال الزهور وأوراق الشجر. لم تكن بعض الأساور كاملة التدوير وزخرف أكثرها بكريات بارزة مثل التي رأيتها فوق الأبواب الخشبية العتيقة. أما العقود الفضية والذهبية فتنتهي بميداليات مرصعة بالآيات القرآنية أو بريال ماريا تريزا الفضي الذي كان العملة السائدة في بداية القرن.

علَّق على الأشكال السائدة التي تتميز بفجاجتها: كل هذه الحلي التي تراها جديدة في الصياغة وفي النقش. فالناس يحضرون ما لديهم من قطع قديمة ليعاد صهرها وصياغتها. تأثير الخليج.

تطلع في ساعته وغادرنا السوق. وفي هذه المرة ركبنا السيارة الجيب وتولى الشاب ذو العوينات الطبية قيادتها في طرقات متعرجة بين بيوت تطل الأشجار من فوق أسوارها الحجرية. وتبعتنا السيارة الأخرى إلى الطريق الرئيسي.

قال فتحي: سالم درس التصوير التليفزيوني عند أصحابك.

التفت إلى صاحب النظارة الداكنة مستفسرًا. ظل وجهه خاليًا من أي تعبير مستغرقًا في القيادة، نقلت البصر إلى فتحي فقال لي: تعلم في بلغاريا. ولهذا السبب لم يعين في التليفزيون وجاء من نصيبنا.

كنا نسير في منطقة صخرية تحف بنا الجبال شاهقة الارتفاع تكسوها الخضرة الكثيفة في بعض المناطق، انحنى الطريق قليلًا إلى اليسار ومررنا بطريق جانبي مرصوف.

أشار فتحي بالتوقف قائلًا: تعالَ نريك تنوف.

عدنا إلى الوراء ثم انحرفنا في الطريق الجانبي ومضينا فيه ما يقرب من ربع الساعة إلى أن أشرفنا على بضعة مبانٍ قديمة.

غادرنا السيارة وقادنا سالم وسط منطقة مهجورة تناثرت فيها الأحجار والأعشاب حتى اقتربنا من جدران قائمة بلا سقوف أو بأجزاء من سقوف.

أشار سالم إلى الثقوب المنتشرة فوقها وقال: الإنجليز قصفوا القرية بالطائرات سنة ٥٦ ودمروها عن آخرها وقضوا على كل أهلها. هذا هو كل ما تبقى منها.

تطلعت حولي في حيرة: أليس المفروض أن تذكر هذه المعلومات في لافتة. ليس هناك ما يشير حتى إلى اسم المكان.

أطرق برأسه إلى الأرض وقال: السلطات لا تحب نبش الماضي.

قلت: نحن إذن قرب الجبل الأخضر.

– هو فوقنا تمامًا.

لم يكن هناك ما نفعله سوى أن نعود أدراجنا، ولحقنا بالسيارة الأخرى عند مشارف مدينة بهلا، ثم واصلنا السير مسافة مماثلة لنزور حصن جبرين.

أشرفنا على جدران صخرية عالية تتوسطها بوابة ضخمة موصدة. ترجلنا في باحة ضيقة واقتربنا من بوابة في أسفلها فتحة صغيرة تشكل بابًا خشبيًّا وقف أمامه حارس بالزي المألوف يمسك ببندقية قديمة. أفسح لنا فولجنا ممرًّا مسقوفًا قادنا إلى باحة داخلية.

كان ثمة صف من المباني الواطئة إلى اليسار ضمت في الماضي اصطبلات الخيل ومخازن المؤن ومساكن العبيد وثكنات الجنود وأجنحة الخدم. ارتقينا سلمًا طويلًا عموديًّا إلى سطح تتخلل سياجه فتحات ضيقة تبرز منها فوهات مدافع قديمة صدئة وإلى جوارها القذائف المعدنية المستديرة.

أشار سالم إلى فتحة عند حافة السطح وقال: هذه الفتحة تطل مباشرة على مقدمة المدخل. وهناك سبع فتحات عند كل مستوى من مستويات الحصن تطل من خلال بئر كهذه على فتحة المدخل وعلى الفتحات التي تسبقها. وبهذا فكل من يقتحم المدخل مُعَرَّض للقتل عدة مرات، فإن نجا عند باب لن ينجو عند الأبواب الأخرى التي تحرسها الفتحات الموجودة عند الأبواب التالية لها.

قادنا إلى فتحة أخرى لها غطاء خشبي، رفعه فظهرت شبكة من القضبان الحديدية الأفقية وأسفلها غرفة عميقة الغور ملساء الجوانب.

قال: من يُحكم عليهم بالإعدام يُرمى بهم هنا بعد تعذيبهم ولا ينفذ فيهم الحكم إلا بعد أن يعترفوا.

أعاد الغطاء الثقيل إلى مكانه في صعوبة ثم دفع المزلاج بقوة. وقال كأنما يفسر الأمر أو يعتذر عنه: تاريخ عمان مليء بالقلاقل والأطماع والغزوات. كل قبيلة تريد الإمامة التي تتم بالانتخاب. وكل أسرة من كل قبيلة تريد أن تسود هي باقي الأسر.

هبطنا إلى الباحة وولجنا القصر. ألفينا أنفسنا في غرف واسعة رحبة جيدة الإضاءة والتهوية رغم سمك الجدران الصخرية، خُصص بعضها للسلطان والبعض الآخر لجلسات الحكم والقضاء، وكانت السقوف محلَّاة بزخارف مستوحاة من الزهور والنباتات، ظهر فيها تأثير الفنَّين الفارسي والأفريقي، وفي السقف الخشبي المزخرف علقت المروحة: قضيب نحاسي تتدلى منه شرائط من القماش. وكان ثمة حجرات صغيرة بين كل طابق أعدت لتكون بمثابة حمامات فزُودت بفتحات يُرفع الماء خلالها من بئر القلعة. وفي زاوية السلم العريض لكل طابق حجرة ضيقة ذات باب قصير سميك من الخشب مخصصة لسجن الرجال، تقابلها في الطابق التالي حجرة مماثلة مخصصة لسجن النساء.

تخيلت الحياة تدب في المكان. الرجال المشغولون بأسلحتهم ونزاعاتهم والنساء اللاتي لا يرين العالم الخارجي إلا فيما ندر، ويمثل القصر كل شيء في حياتهن، يتنقلن بين أرجائه ويتبادلن الزيارات والشجارات الصغيرة. ويتوافد الخدم والعبيد من المساكن المخصصة لهم أو من خارج الحصن. يتولى بعضهم تحريك قضبان المراوح بالساعات. فإذا تهاون أو أخطأ تعرض للعقاب.

هبطنا السلم إلى ما تحت مستوى الأرض. وقفنا في مدخل حجرة معتمة في قاعها قبر السلطان بلعرب الذي حكى سالم قصته؛ أبوه هو الذي بنى القصر في اثنتي عشرة سنة منذ ثلاثة قرون ونصف وترك لابنه دولة مزدهرة. لكن الابن كان كريمًا طيب القلب، فالتف حوله الرعاع وخرج عليه أخوه سيف الذي انحاز له الفقهاء والمشايخ. دارت معارك متعددة بين الأخوين راح ضحيتها الكثيرون. وجرت آخر هذه المعارك في الشمال من نزوى، هُزم فيها بلعرب فارتدَّ محتميًا بمدينته لكن أعيانها منعوه من دخولها، فالتجأ إلى هذا الحصن وانزوى فيه. حاصره أخوه وظل يهاجمه محاولًا اقتحامه ودافع بلعرب مع حاشيته وزوجاته وحرسه عن الحصن حتى يئس فالتجأ إلى هذه الغرفة وحفر قبره ورقد فيه ثم ودع أهله وابتهل إلى الله أن يموت فأجابه الله إلى طلبه.

علقت قائلًا: قصة مأساوية.

قال بوجه خلا من كل تعبير: المأساة الحقيقية أن القاتل وهو سيف دخل تاريخ عمان بل التاريخ العربي كله من أوسع الأبواب. فقد تمكن من توحيد البلد كله تحت سلطانه وحقق السلام والعدالة في ربوعها، وانتزع من البرتغاليين ممباسا وزنجبار، وكوَّن أسطولًا قويًّا مزودًا بأقوى المدافع فرض به سيطرته على البحار من حوله، التاريخ لا يهتم إلا بالنتائج.

فكرت في عبارة سالم الأخيرة ونحن نغادر الحصن ونستقل السيارة. انتظرت حتى دار بالسيارة لنعود من حيث جئنا ثم سألته: كيف ذهبت إلى بلغاريا؟

ظل صامتًا برهة ثم قال: بعثة.

أبديت دهشة: هل كان قابوس يرسل بعثات إلى الدول الشيوعية؟

قطب جبينه وقال: الجبهة هي التي أرسلتني.

قلت وما زلت مدهوشًا: جبهة ظفار؟

قال بلهجة المدافع عن نفسه: كان لي ابن عم بها، فساعدني على الذهاب إلى عدن، وهناك حصلت سنة ٧٤ على منحة دراسية في بلغاريا.

سألته: ومتى عدت إلى عمان؟

قال: منذ ثمانية أعوام تقريبًا.

حسبت المدة وقلت: يعني بقيت هناك عشر سنوات. ولم تواجه أية مشاكل عند عودتك؟

قال: أبدًا. الثورة كانت انتهت وأصدر السلطان عفوًا عامًّا.

قلت: وماذا حدث للجبهة؟ هل انتهت هي الأخرى؟

قال: لم يعد أحد يسمع بها.

– ألا تعرف أحدًا من أعضائها … هل يمكن مقابلة أحدهم؟

هزَّ رأسه نفيًا.

غيرت مجرى الحديث وسألته إذا كان متزوجًا، فأجاب بالإيجاب وأن لديه ثلاثة أطفال، ولدين وبنتًا.

توقفت السيارة في سهل فسيح منبسط تناثرت فيه الأشجار شديدة الخضرة، نزلنا نحرك سيقاننا. وأشار سالم إلى مجرى مائي يمتد مسافة طويلة وتلمع مياهه الصافية تحت أشعة الشمس.

– الفُلج. إحدى العجائب العمانية أو قُل إحدى عجائب التاريخ والحضارات. مثل الأهرامات عندكم.

– ما وجه العجائبية؟

– ليست مجرد قناة للمياه الجوفية. إنها نظام متكامل من قنوات معقدة التكوين.

انضم إلينا سائق الفان ووقف يتأمل المياه. كان قصير القامة ضامر الجسد تكاد رأسه تختفي أسفل مصرته.

سألت: من الذي بناها؟

تطوع السائق للإجابة: القديمة بناها النبي سليمان، وبعد ذلك قلده الناس.

– النبي سليمان جاء إلى هنا؟

– الله يسلمك. جاء في موكب على أجنحة الريح.

– لكن من الذي قام بالبناء؟

– الجان. أقام سليمان عشرة أيام وفي كل يوم كان الجان يحفرون ألف قناة.

– معقول، ألم يكلم النمل. والجديدة حفرها الجان أيضًا؟

ضحك سالم وقال: لا، هناك الآن متخصصون في حفر الآبار والأفلاج. بل قبيلة كاملة اسمها العوامر. لديهم خبراء بمواقع الماء تحت الأرض. يلقب الواحد منهم بالباصر، وهو يتفحص التربة ويحدد وجود الماء وعمقه، بعد ذلك يحفرون مجرى الفُلج ويمدونه تحت الأرض في نفق، ولمسافة تمتد عدة كيلومترات.

علق فتحي: هناك فُلج حديث بالإمارات استغرق حفره بطول كيلومتر ونصف كيلومتر حوالي ثمانية عشر عامًا من العمل المستمر.

قال سالم: الفرس هم الذين ابتدعوا الأفلاج عندما كانوا يحتلون المنطقة في عهد الساسانيين. وكلمة فُلج مستمدة من جذور سامية تعني تقسيم الملكية إلى أنصبة، والمقصود عملية تنظيم وتوزيع المياه بين من ساهموا في بنائها وصيانتها.

– عين العدل.

– ليس تمامًا. فالأغنياء هم الذين استفادوا منها إذ تولى كبار الإقطاعيين بناءها وإدارتها واحتكروا مياهها. المفروض أن تكون سقاية الماء من الأفلاج حرة مشاعة للجميع.

لم يُعلِّق أحد ومشينا في صمت إلى السيارتين. توقف سائقنا ليحدق في سيارة شيروكي بألوان مبهرجة وكشافات إضافية وهوائيات متعددة، تابعها ببصره مدة طويلة إلى أن اختفت ثم قال: سأشتري واحدة لي.

سألته عما إذا كان راتبه من الوزارة يمكنه من ذلك فقال: سأترك العمل بالوزارة قريبًا وأعود إلى التجارة.

– وبماذا ستتاجر؟

– العمال.

– لم أفهم.

– أحضرهم من الخارج وأؤجرهم لمن يشاء مقابل عشرين ريالًا في الشهر عن كل رأس.

– كفيل يعني؟

– نعم.

واصلنا السير حتى بهلا فتوقفنا عند الفندق الذي سنقضي به الليلة. واجتمعنا لتناول طعام الغذاء حول مائدة كبيرة قرب مسبح مستدير. وتولى خدمتنا طاقم من الهنود.

جاء مكان السائق إلى جواري. سألته عن عمره فضحك وقال إنه لم يتجاوز بعد الخامسة والثلاثين. أمعنت النظر في الغضون التي تملأ وجهه وفمه الذي أوشك أن يخلو من الأسنان، ثم سألته عما إذا كان متزوجًا.

قال: اثنتين، واحدة عمانيَّة والثانية هنديَّة.

علَّق على دهشتي: الرجال عندكم في مصر يتزوجون أيضًا اثنتين. أليس كذلك؟

قلت: أربعة.

أضفت: هذا كان فيما مضى. فمن يقدر الآن على واحدة؟

أمَّن على حديثي مبتسمًا وقال: خصوصًا المصرية.

قلت: لكن لماذا هنديَّة؟

قال: إرادة ربنا، كنت أتردد على الهند كل سنة. أنا في الأصل تاجر أقمشة قبل أن ألتحق بالوزارة. وفي الهند أقيم شهرًا. وهناك يمكن تقريبًا أن تشتري الهنديَّة.

– والعمانية تعرف أنك متزوج في الهند؟

– طبعًا تعرف. لأننا نعيش سويًّا الآن.

– هنا في عمان؟

– أجل. فالسلطان أصدر قانونًا يحرم الزواج من أجنبيات، لأن الرجال انصرفوا عن البنت العمانية وصاروا يتطلعون إلى الزواج من بنات متعلمات أو متحررات، وأعطى السلطان مهلة اشترط خلالها إجراءات معينة لتقنين الزيجات القائمة فعلًا. كان لا بد من إحضار الهندية. فلم أرد التخلي عنها بعد أن صارت أمًّا لأولادي.

– الاثنتان في بيت واحد؟

– طبعًا. العلاقات بينهما على أحسن ما تكون.

قلت وأنا ألتقط حبات الجمبري: لا بد أنك تعدل بينهما.

قال بثقة مطلقة: لا أترك لهما فرصة للشكوى.

– ألا تفكر في واحدة ثالثة؟ مصرية مثلًا؟

قال بجدية شديدة: ليس الآن. ربما في المستقبل.

– بس خلي بالك. المصرية صعبة للغاية. لن تقبل الحياة مع ضرتين.

لم تهتز ثقته بنفسه.

أجلت النظر حولي وعلقت على فخامة الفندق، فقال فتحي: انتظر حتى ترى قصر البستان.

سألت: أهو فندق؟

قال السائق: تكلف ٢٨٠ مليون ريال واستغرق بناؤه سنتين.

ضربت الرقم كعادتي في ٨، وأطلقت صفيرًا: ٢٢٤٠ مليون جنيه، ملياران وربع مليار جنيه أو ٧٥٠ مليون دولار!

قال فتحي كأنما يلتمس تبريرًا لهذا السفه: أقيم لتُعقد به قمة مجلس التعاون الخليجي.

قال السائق بصوت محايد: بعد افتتاح الفندق بمدة لاحظ جلالة السلطان أن شعار الفندق قريب الشبه من شعار السلطنة فأمر بتغييره. وتكلف ذلك فقط ٣ ملايين ريال.

صفرت مرة أخرى: ٢٤ مليون جنيه لتغيير الشعار!

استطرد بنفس الصوت المحايد: تطلب الأمر تغيير كل الأطباق والشوك والسكاكين والأكواب والمفارش والملاءات والستائر … إلخ.

صببت لنفسي كوبًا من المياه المعدنية. وتبينت أن الزجاجة تحمل اسم القرية التي دمرها الإنجليز وزرناها منذ قليل.

قلت لسالم وأنا أعيد الزجاجة إلى مكانها بحيث تواجهه اللوحة الملونة التي تحمل اسمها باللغتين العربية والإنجليزية: التاريخ أيضًا لا ينسى.

تأمل الزجاجة باستغراق ثم التفت إليَّ قائلًا: ألا تحب الصعود إلى الجبل؟

نهضت على الفور واستمهلته حتى غسلت يدي ثم أخذنا السيارة الجيب وخرجنا مرة أخرى إلى الطريق الرئيسي وانطلقنا في اتجاه نزوى.

قلت: كان لي صديق عماني من هذه النواحي. كان يتحدث عن الجبل الأخضر ونزوى. اسمع … أتذكر أنه تحدث عن قرية لها اسم له علاقة باليسار. وكنا نتندر بذلك … يعني مثلًا اليسرى أو التقدم أو نجمة … حاجة زي كده …

– توجد هنا قرية مشهورة اسمها الحمرا … ربما تكون هي.

– هل يمكن أن تسأل عنه؟

قال: سنرى.

انعطفنا بعد مسافة قصيرة في طريق جانبي إلى اليسار يميل إلى أعلى. واصلنا الصعود مسافة تربو على عشرة كيلومترات، ولحظت أن التربة تكتسب لونًا أحمر بالتدريج.

توقفنا أمام تليفون عمومي على الطريق، ثم غيَّرنا الطريق وولجنا القرية.

سألني: ما لقب صديقك؟

قلت: لا أذكر …

التفت إليَّ مستغربًا. فأضفت: هذا كان من زمن بعيد. من أكثر من ثلاثين سنة.

– بالكاد كنت ولدت.

– أي سنة؟

– سنة ٥٧.

– هذا هو تقريبًا الوقت الذي تعرفت فيه بيعرب.

– هذا اسمه؟

– لست متأكدًا.

– كيف؟

اخترت كلماتي بعناية: تعرفت عليه في ظروف خاصة بالقاهرة. كان مضطرًّا لإخفاء اسمه الحقيقي. ربما كان هو يعرب. لا أذكر.

– ولم ترَه من وقتها؟

– ولا مرة.

قال: كيف سنستدل عليه إذا كنت لا تعرف لقبه؟ الناس هنا عائلات وقبائل.

اخترقنا طرقات نظيفة يلعب بها الأطفال إلى ساحة مركزية تحيط بها عدة مبانٍ حديثة البناء متواضعة الشكل تتألف من بقالة ومدرسة وعيادة طبية ومقر إداري.

تركنا السيارة في الساحة وانطلقنا في طرقات ضيقة حتى بلغنا مسجدًا صغيرًا، اقترب سالم من المدخل وأطل داخله دون أن يجتاز عتبته بقدميه، ثم هزَّ رأسه وكرَّ راجعًا.

اتجه إلى منزل صغير ملاصق للمسجد ومكون من طابق واحد وطرق بابًا خشبيًّا حديث الدهان بألوان فاقعة.

كانت واجهة المنزل مؤلفة من نوافذ خشبية مغلقة خلف قضبان أفقية من الحديد. كرَّر الطَّرْقَ، فانفرج مصراع نافذة عن رجل أصلع في حوالي الأربعين من عمره. ألقى عليه سالم السلام ثم سأله عن أبيه.

ظل الرجل يتطلع إلينا صامتًا ثم اختفى في الداخل وأغلق مصراعي النافذة خلفه. مضت دقائق. وكنت سأقترح عليه أن يطرق الباب مرة أخرى عندما انفتح فجأة وظهر في فتحته عجوز ضئيل الحجم ذو عينين يقظتين ولحية بيضاء كثَّة تنسدل فوق صدره. تأملني بإمعان ثم تحول إلى سالم وصافحه في تحفظ قائلًا: كيف الحال؟

قال سالم: الحمد لله.

قال الشيخ: كيف الجماعة؟

قال سالم: بخير والحمد لله.

قال الشيخ: كيف الأهل والأولاد؟

قال سالم: الحمد لله. طيبين. بخير.

صمت الشيخ. وانتظرنا إلى أن قال بعد فترة: من هين الأخ؟

أجاب سالم: من العاصمة.

قال الشيخ: تفضلوا عندنا.

قال سالم: أحسنت. مشكور.

قال الشيخ: كيف الأحوال في العاصمة؟

قال سالم: بخير. الأخ من مصر، وهو يسأل عن صديق.

رفع الشيخ حاجبيه وتأملني من جديد في إمعان.

استطرد سالم: كان له صديق عُماني في القاهرة، من ثلاثين سنة، وليس متأكدًا من اسمه.

قلت معتذرًا: الذاكرة أصبحت ضعيفة. ربما كان اسمه يعرب.

قال الشيخ: من هنا؟ من الحمرا؟

قلت: نعم.

فكر الشيخ قليلًا ثم قال: هناك كثيرون بهذا الاسم.

قلت في لهفة: عمره الآن لا بد يقترب من الستين. كان يتعلم في الجامعة في مصر.

هزَّ الشيخ رأسه ببطء: من أي عائلة؟

تدخل سالم: للآسف لا نعرف.

قلت فجأة: كانت معه أخته. وكانت تدرس أيضًا في الجامعة.

سألني الشيخ: هل تذكر اسمها؟

هل أذكره؟ قلت: أظن أنه شَهْلا.

التفت سالم في حدة نحوي وفتح فمه ثم أغلقه دون أن ينبس بحرف.

أطرق الشيخ برأسه إلى الأرض وقال في حسم: ليسا من هنا، لا أعرف أحدًا بهذين الاسمين، تفضلوا عندنا.

قال سالم: أحسنت. لا بد أن نذهب.

استدار الشيخ ودخل المنزل قائلًا: مع السلامة.

وقبل أن نتحرك كان قد أغلق الباب في وجهينا.

سألت ونحن نخطو بعيدًا عن المنزل: تعرفه من قبل؟

قال: أبدًا. هو شيخ المسجد. وإذا كان لا يعرف فلن يوجد من يعرف غيره.

– والمجلس البلدي؟

– لن نحصل على شيء منهم. فكلهم شبان يعملون في النظافة ورش المنازل بالمبيدات والتفتيش على المتاجر.

سألت: ألا يوجد هنا أو في مسقط ناس من الذين شاركوا في الثورة؟

توقف عن السير واستدار نحوي: أي ثورة؟

قلت: ثورة ١٩٥٧ التي قادها إمام لا أذكر اسمه.

قال: الإمام غالب. يوجد بالطبع لكني لا أعرف أحدًا منهم.

استأنف السير وعدنا إلى السيارة وهو يسبقني بخطوة كأنما يضع حاجزًا غير مرئي بيننا.

قال: سنبذل محاولة أخيرة في القرية التالية.

انطلقت السيارة صاعدة إلى الجبل. ولم يعد الطريق مرصوفًا وإنما ممهدًا تتخلله مناطق وعرة. ودار بنا عدة دورات وضعتنا على حافة هاوية سحيقة أو وادٍ. وانتشرت أمامنا خضرة كثيفة ومسطحات خضراء. تعلقت بباب السيارة ونحن ندور في طريق ضيق يطل على هوتين، وأخيرًا توقفنا في ساحة صغيرة بين عدَّة منازل إلى جوار شاحنة بيك أب، وغادرنا السيارة.

كان ثمة عدة رجال متجمعين فيما بدا أنه مدخل القرية. وجلس بعضهم فوق سور حجري بينما ظل الآخرون وقوفًا. ومن أول نظرة استوقفتني وجوههم. كان يبدو عليها القدم والمتحفية رغم أن أغلبهم كان في أواسط العمر. القدم وشيء ما من التشويه أو الخلل، كأن يكون الوجه أكثر طولًا من المألوف أو مائلًا إلى إحدى الجهتين أو نحيلًا بشكل غير عادي أو تكون الجبهة ضيقة للغاية أو عريضة للغاية. كانوا يرتدون الجلابيب المألوفة وارتدى أحدهم فوقها سترة أوروبية قصيرة.

واصلوا حديثهم في لهجة لم أستطع تبينها بينما كانوا يلاحظوننا خِلسة.

اقتربنا منهم ووجهنا إليهم التحية فاستقام الجالسون وقوفًا وتصافحنا. وجرت طقوس التحية المألوفة: كيف الحال وكيف الجماعة والأهل والأولاد ثم الدعوة التقليدية: تفضلوا عندنا.

ورد سالم بالطريقة المنتظرة: أحسنت، متمشيين.

عندئذٍ أطرقوا برءوسهم كأنما يدركون ما يدفع الأغراب لزيارة قريتهم النائية.

سألت سالم ونحن نخطو في طرقة ضيقة بين منازل مغلقة الأبواب: هل يعرفونك؟

– أبدًا.

مررنا بخزان مياه كبير الحجم طُبعت عليه عبارة وزارة الكهرباء والمياه تمتد منه أنابيب رفيعة بحذاء الجدران إلى حوض أسمنتي به حنفية عمومية، وعبرنا نفقًا مظلمًا أسفل أحد المنازل، وأوشكت أن أفقد توازني فوق درجات حجرية ضيقة نحتتها الأقدام عبر الأعوام.

بدت القرية كأنها أقيمت بصورة عمودية على سطح الجبل بعدة مستويات وبصورة عشوائية، فتراكمت البيوت الصغيرة فوق بعضها دون نظام، وتخللتها حقول صغيرة منحدرة. وقفت أمام بيت أقيم فوق صخرة مائلة، فبدا موشكًا على السقوط، واعتمد عليه منزل آخر يتألف من مستويين عُلِّقت في نوافذه قلل الماء الفخارية لتبرد.

مر بنا صبي وفتاة على أعتاب المراهقة … كانا يجريان ضاحكين ولاحظت شحوب وجهيهما وهزال جسديهما. ولمحت في نهاية الدرجات وبين الأوراق الخضراء العريضة الأشجار الموز، ركنًا وارف الظلال يتردد فيه صوت انسياب المياه من مكان ما وزقزقة العصافير. وكان ثمة عجوزان يتبادلان الحديث دون أن يأبها لنا.

اتجه سالم إليهما وبقيت مكاني: ترامت إلى مسمعي التحيات المتبادلة ثم مرت لحظة من الصمت هز الاثنان بعدها رأسيهما بالنفي، وتردد أذان المغرب في قوة بين الأشجار والنخيل.

انضم سالم إليَّ فقلت وأنا أفكر في المنحنيات الضيقة التي تشرف على الهاوية: الأفضل أن نعود قبل أن يسود الظلام.

وأخذنا خطواتنا عائدين إلى السيارة.

٦

غادرنا الفندق بعد الإفطار وخرجنا إلى ساحة واسعة في ظاهر البلدة تجمع بها حشد من الرجال في الملابس التقليدية يحملون السيوف اليمنية المقوسة والبنادق والأعلام العمانية ذات الألوان الحمراء والبيضاء والخضراء.

كانوا يشكلون صفوفًا مستعرضة، يضم كل صف منها عددًا صغيرًا من الأفراد، وبينه وبين الصف الآخر مسافة تسمح لأفراده بأن يحمل كل منهم بندقيته أو سيفه مشرعًا في الهواء وفي وضع مائل إلى الأمام. وتصدَّر الصفوفَ طبالان يحمل كل منهما نوعًا مختلفًا من الطبول وإلى جوارهما نافخ البوق.

نصب سالم ومساعداه آلات التصوير وشرع يقيس المسافات، ثم انفرد باثنين من حاملي السيوف وتحدث إليهما بصوت منخفض وهو يلتفت ناحيتي بين الحين والآخر.

اتخذ مكانه أخيرًا خلف الكاميرا. وبدأ صاحب البوق في النفخ وهو يطلق صيحات متقطعة تنبه أهل العشيرة وتدعوهم للانضمام إلى المسيرة، وتحرك الحشد والطبالان يدقان في إيقاع ثنائي نشط.

تقدمت المسيرة في خطى سريعة ثابتة تتوافق وسرعة الإيقاع، وتوحي بالشجاعة والإقدام. وترددت أهازيج لم أفهمها في البداية إلى أن تكررت فميزت بعض الكلمات وإن غاب عني معناها في أكثر الأحيان.

وصلوا إلى الساحة فانقسموا إلى صفين متقابلين. وأخذ الطبالان يتنقلان بين الصفين وهما يدقان بإيقاع سريع بينما تبادل الصفان الغناء بأبيات واحدة:

أول سلامي على الديرة،
وانتو عليكو سلام الله،
الحصن ناشل بناديره،
خسران لي يخون عهد الله.

غيَّر سالم موضع آلات التصوير وأدركت السبب عندما نزل الساحة رجلان شاهري سيفيهما وفي اليد اليسرى لكل منهما قطعة معدنية مخروطية الشكل أشبه بدرع صغيرة. وبدأت المبارزة بينهما.

وأخذا يدوران حول بعضهما وأبديا مهارة فائقة في توجيه الطعنات وتفاديها. وبعد أن ظلا يتحركان في حذر وكل منهما يتلمس نقاط قوة وضعف الآخر، تسارعت حركاتهما وعنفت، وتردد صليل احتكاك السيوف مختلطًا بإيقاع الطبول الذي تسارع هو الآخر.

كان صراعهما حادًّا عنيفًا، وخلت في لحظة أنهما لا يمثلان، وأن المبارزة جادة، وأن كل منهما يسعى لإصابة الآخر، ولن يتوقف إلا بعد أن يغمد سيفه في صدر خصمه.

لحظت أن سالم يوجه عدسة الكاميرا نحوي بين الحين والآخر كأنما يسجل انفعالات وجهي. وشعرت بالانفعال يسري بين المتفرجين وهم يتطلعون في تركيز إلى المتبارزين كأنما يتلهفون على النتيجة: هزيمة أحدهما ومصرعه؟ وبدأ الغناء يعلو تدريجيًّا، وتصاعد الغبار من حولنا، وميزت من الغناء الشطرين الأخيرين:

الحصن ناشل بناديره،
خسران لي يخون عهد الله.

قدرت أن الشطر الأول يشير إلى الرايات المرفوعة أو المدافع المنصوبة وأن الثاني يهدد من يخون العهد.

ازداد صراع المتبارزين عنفًا، وتفصد العرق على وجهيهما. وتسارع دق الطبول. واقتصر المغنون على الشطر الأخير: خسران لي يخون عهد الله، يرددونه في إيقاع لاهث.

كان المتبارزان قد دارا في أنحاء الحلقة حتى أصبحا أمامي مباشرة. وجاءتني رائحة عرقهما، ودارا مرة أخرى بحيث أصبح ظهر أحدهما لي والتحم سيفاهما وجسداهما فجأة ثم انفصلا مرة واحدة. تراجع المبارز الذي أعطاني ظهره خطوة جعلت الفاصل بيني وبينه قدمًا واحدة ثم قفز فجأة جانبًا بينما كان الثاني يستعد ليوجه له طعنة نافذة. ارتفع دق الطبول وتردد الشطران الأخيران من الغناء في عنف بينما خطف بصري لمعان الشمس فوق سيف المتبارز الآخر، تعلقت عيناي بالسيف وهو يندفع نحوي، ولم أشعر به إلا وقد صار أمام وجهي واستقر طرفه الحاد على مسافة شعرة من ذقني.

توقف دق الطبول والغناء مرة واحدة وساد السكون. وخف فتحي إلى جانبي بادي الانزعاج، لمحت السيف يبتعد عن وجهي، وانحنى فتحي فوقي مستفسرًا عما إذا كنت أصبت بشيء.

مسحت وجهي بيدي اليمنى ورفعتها أمام عيني متوقعًا رؤية الدماء رغم أن طرف السيف لم يلمسني، ثم نهضت واقفًا وتراجعت إلى الوراء وأنا أقول: بخير لم يحدث شيء.

تحول فتحي إلى المبارز غاضبًا، وشرع هذا يعتذر.

كررت: لم يحدث شيء.

بحثت بعيني عن سالم فوجدته خلف كاميرته التي أخفت ملامح وجهه. سمعته يسأل: هل سنعيد التصوير؟

ردَّ فتحي: لا، صعب أن نمسك بنفس الإيقاع مرة أخرى.

وأضاف وهو يغتصب ابتسامة: على الأقل حصلنا على نهاية درامية.

وماذا عن البداية؟