وردة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثامن

مسقط

ديسمبر ١٩٩٢

انقسم الطريق الرئيسي إلى اتجاهين مستقلين، وقام زيد بسلسلة من الدورات المعقدة وهو يوزع اهتمامه بين المرآتين الأمامية والجانبية، مدققًا النظر في السيارات القليلة القادمة خلفنا. اخترقنا وسط المدينة القديمة وطرقاتها الضيقة، وهو يشير إلى المعالم التي تمر بها: قلعة كبريتة، متحف بيت نادر، سور المدينة، السفارة الأمريكية. تمهل عندما أشرفنا على مبنى السفارة البريطانية، وأشار إلى سارية العلم المثبتة في ساحتها الرحبة قائلًا: في السابق كان العبد المملوك الذي يستطيع الوصول إلى هذه السارية ويلمسها يمنح الحرية الكاملة ويزود بشهادة من السفارة تثبت بأنه أصبح حرًّا لا يجوز التعرض له.

أعجبتني الفكرة وتخيلت سارية مماثلة في كل عاصمة عربية.

أومأ إلى قلعة الجلالي العتيقة التي تشرف على المكان من فوق قمة جبل يمثل شبه جزيرة ممتدة باتجاه البحر: البرتغاليون هم الذين بنوا هذه القلعة منذ أربعة قرون، وما زالت فتحات المدافع موجودة. أما الأبراج الدائرية التي تراها فقد تحولت إلى سجون حصينة تفصلها عن البحر شباك حديدية. تصعد ابتداءً اثنتين وخمسين درجة حتى تصل البوابة الرئيسية الأولى، ثم ٤٨ درجة حتى الثانية. وهنا يفكون قيودك ويضعون مكانها القيود الخاصة بالسجن، قيود فولاذية لها أسماؤها: سنجور طوله قدم ونصف قدم، لا يقل وزنه عن خمسة كيلوجرامات، ويونس على شكل قذيفة مدفع ووزنه أربعة كيلوجرامات. الزنازين أيضًا أشكال وألوان، في الطابق الأرضي هناك زنزانة تتسع لمائة وعشرين شخصًا، وهناك الزنزانة رقم ٧ التي لا تريد مساحتها عن ١٢ مترًا ويودع بها عادة ستون سجينًا يتناوبون الوقوف والجلوس أو التمدد على الأرض من أجل قسط من النوم.

التفت إليه في فضول وقلت: أنت تتكلم عن معرفة.

دار بالسيارة في طريق العودة وقال: طبعًا أنا ضيف قديم هنا.

لأول مرة يذكر معلومة عن نفسه، سألته: متى؟

– كنت في الثامنة عشر من عمري تقريبًا. اعتقلوني مع أخي الأكبر عقب هزيمة ٦٧ أيام السلطان سعيد. لم نكن ترى الضوء وطعامنا يقتصر على التمر والخبز صباحًا والعدس ظهرًا، الحراس كانوا وحوشًا بمعنى الكلمة، ولا يوجد بينهم عماني واحد، فجلهم من البلوش أو المرتزقة. وكانت القيود تحز في أيدينا وأرجلنا. كنا نرسم على الجدران بالدم المتسرب من الحز. كنا نرسم شموسًا وورودًا. ورودًا حمراء.

– هل بقيت مدة طويلة؟

– سنة ٦٩ نجحنا مع اثنين من رفاقنا في التسلل باتجاه البحر بعد أن مزقنا أسلاك الشباك الحديدية واستولينا على زورق القنصل البريطاني الراسي قرب السجن. قطعنا مسافة كبيرة بالزورق حتى المنطقة التي يوجد بها ميناء الفحل الآن، ثم نفد البترول وحوصرنا وتمكن أخي من الفرار بينما وقعت أنا، وخرجت مع الجميع عندما تولى قابوس السلطة سنة سبعين.

– وأخوك؟

– هرب إلى الخارج بعد هزيمة الثورة سنة ٧٥.

– ولم يعد؟

– لا.

– لماذا؟ ألم يعفُ السلطان عن الجميع؟

– هل صدقت قصة العفو العام؟ الذين استجابوا لهذا القرار احتجزوا عدة أسابيع جرى خلالها معهم تحقيق واسع عن نشاطهم السابق، ثم أُجبروا على توقيع عريضة يتبرءُون فيها من ماضيهم ويتعهدون بعدم ممارسة النشاط السياسي.

– هل تعرف سالم؟

– الذي في مركز الموسيقى؟ نحن نسميه سالم مطيع. أعرفه بالاسم فقط.

– كان يدرس في بلغاريا. وقال لي إن الجبهة هي التي أرسلته. هل عاد بنفس الطريقة.

– كلهم وقَّعوا.

غيرت مجرى الحديث: أفهم أنك ما زلت في المعارضة.

ضحك كاشفًا عن أسنانه الناصعة البياض: يمكنك أن تقول ذلك.

– ما لاحظته هو أن هناك عملية تحديث تمت بالفعل. أشياء كثيرة كان لا بد ستفعلها الجبهة لو أتيح لها استلام السلطة. البنية الأساسية مثلًا.

– أي تحديث هذا الذي يتم تحت سيطرة الأجنبي؟ هناك مستشار إنجليزي في كل وزارة. وهناك قواعد أمريكية جوية وبحرية في أماكن مختلفة. في جزيرة مسندم. في تمريت. هناك قاعدة بريطانية قديمة في جزيرة مصيرة ببحر العرب حولتها الولايات المتحدة في ٧٥ إلى محطة تموين لطائراتها المنطلقة من الفليبين، وتم تطويرها وتحديثها عام ٨٠، وقامت بدور مهم في تسهيل وصول الطائرات الأمريكية إلى إيران في عملية تحرير الرهائن الفاشلة. بل هناك قاعدة جوية في السيب بجوار مسقط. هناك أيضًا إسرائيل، علاقات وتطبيع وجواسيس يمرحون في كل مكان.

قلت: في مصر قواعد أمريكية أيضًا ومناورات مشتركة وتطبيع رسمي مع إسرائيل، لكن الثوريين لا يقولون بقلب النظام ويسعون إلى التأثير فيه. السياسة هي فن الممكن.

ضحك وقال في ازدراء: ومن قال إن هناك ثوريين في مصر؟ اسمع. التحديث المزعوم انتهى. خلاص. آخر مول بني هذا العام ولا جديد بعده.

– مول.

– أقصد المراكز التجارية الضخمة، النظام قدم كل ما عنده، أنفقوا عوائد النفط في شراء الأسلحة الغالية، وفي مشروعات تتطلب مقاولين أجانب يأتون ومعهم رجال الإدارة العليا والمتوسطة، ثم يتحدثون عن التعمين.

– لكني لاحظت نشاطًا واسعًا للقطاع الخاص.

– رجال الأعمال العمانيون يستثمرون في مشروعات تعيد لهم أموالهم في أسرع وقت خاصة في الإسكان. يقترضون رأس المال من بنك تجاري، ثم يفرضون إجارات عالية تغطي تكلفة المشروع في ثلاث سنوات ويحولون الأرباح إلى بنك في الخارج.

– لم أكن أقصد الإسكان وحده، فهناك …

قاطعني: الجامعة تكلفت مليارًا، لهف معظمها ابن مرجريت تاتشر وعدد من الوزراء، هذا الطريق الذي نسير عليه أليس حريرًا؟ كل فترة يعاد رصفه بواسطة مقاولين هم أنفسهم الحكام. النظام مسخر لخدمة مصالح التجار الكمبرادور من الأسرة الحاكمة والوزراء وشيوخ القبائل ووجهائها. كل من تولى منصب وزير أو مدير دائرة أصبح مليونيرًا. هناك سياسة حكومية لتشجيع هذه الظاهرة، مدير بنك سرق عدة ملايين وافتضح أمره فحكم عليه بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ … وكيل وزارة البلديات قبض رشوة من شركات أجنبية قدرها ثلاثة ملايين ريال، وأبلغ عنه شريكه، فحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ. وكيل وزارة المواصلات أيضًا حكم عليه بسنتين وغرامة مع وقف التنفيذ، ثم صدر عنهم عفو، بل منح الثاني مكافأة مالية!

قلت: هذه مسائل عادية اليوم. عندنا في مصر الكثير منها، ثم إن …

استوقفني قائلًا: أعرف ما ستقوله. إن هذه العملية تحقق إعادة توزيع الدخل وخلق مجتمع رأسمالي. لكن المشكلة هي أن برجوازيتنا متخلفة فاقدة لطموح البرجوازية السياسي وتقاليدها وقيمها. والنظام يعتمد سياسة قصيرة الأمد. إيرادات النفط تمثل حوالي ٨٥ في المائة من إيرادات الدولة و٧٠ بالمائة من الإنتاج القومي الإجمالي. يمكنك إذن أن تتصور المستقبل المظلم الذي ينتظرنا خلال عقد أو عقدين عندما ينضب النفط. والدولة لا تفكر في ذلك ولا تهتم، وإنما تتمسح بإسرائيل لتفتح لها أبواب الاقتراض من المؤسسات الدولية.

أليس هذا شأنهم جميعًا؟

كانت الشمس تغرب بسرعة وأضاءت السيارات كشافاتها. بلغنا شمال العاصمة الذي خلا تمامًا من المارة ولزمناه في اتجاه الكورنيش.

سألني: قرأت؟

فتحت حقيبة يدي وأخرجت منها الكيس الذي يحوي اليوميات وأطرقت بالإيجاب.

تناول الكيس ووضعه أسفل مقعده. وعندما استعاد يده كانت تحمل كيسًا آخر قدمه إليَّ.

– كراسة أخرى؟

لم يرد إذ تعلقت عيناه بالمرآة.

كانت هناك سيارة خلفنا تضيء وتطفئ كشافاتها الأمامية في إشارة متعمدة. وتبينت فوق سطحها المصباح المألوف.

أسرع يدس الكيس تحت مقعده وهو يقول: الشرطة.

أخذ جانب الطريق وأوقف السيارة. وفعلت سيارة الشرطة المثل خلفنا. نزل منها شرطي يرتدى قميصًا بنصف كم وبنطلونًا بلون عسكري ويضع على رأسه كابًا بشريط مزخرف. اقترب منا على مهل حتى بلغ نافذة السائق فرفع يده بالتحية العسكرية وطالبه بأوراق السيارة في أدب وحزم.

ألقى نظرة على الأوراق في ضوء مصباح يد يحمله ثم أعادها إلى زيد والتفت إليَّ قائلًا: ضع حزام الأمان من فضلك.

اكتشفت أنني نسيت ربط حزام الأمان، فجذبت طرفيه على الفور. رفع يده بالتحية مرة أخرى واستدار عائدًا إلى سيارته.

سألت زيد إذا كان معه سجائر.

قال: التدخين ضار بالصحة.

أدار السيارة وانطلق حتى الدوار الذي يبدأ منه شارع قابوس. أضاف كأنما لنفسه: في الغالب لمحونا وتبينوا أنك لا تضع حزام الأمان. إنهم يلبدون دائمًا في أماكن مظلمة ويظهرون فجأة.

بدا عليه التردد ثم قال كأنما حسم أمره: ولن تصل إلى صديقيك هنا في العاصمة. لا بد لك من السفر إلى صلالة.

سألت في دهشة: في الجنوب؟

أومأ برأسه: نعم. إنها تبعد أكثر من ألف كيلومتر، لكن الطائرة تقطعها في ساعة ونصف، يمكنك أن تذهب بالسيارة في حوالي عشر ساعات أو اثنتي عشرة على الأكثر.

– وماذا سأفعل هناك؟

– سيتولى أصدقاء لي مساعدتك.

– ألا تجد غرابة في الأمر؟ أنت تطلب مني الذهاب إلى آخر الدنيا دون أن تذكر لي من سأقابل وكيف. أنت لا تذكر حتى اسمك. لماذا تظن أني مستعد لمثل هذه الرحلة من أجل العثور على شخص بتعبيرك أنت لم أرَه من ثلاثين سنة؟

هزَّ كتفيه: لن تندم إذا ذهبت. إنها منطقة رائعة الجمال. على الأقل سترى قبر النبي أيوب.

وضحك.

– وماذا يهمك أنت من الأمر؟ ماذا تستفيد؟

– سأقول لك. لا بأس من أن تعرف بضعة أشياء بعد كل هذا.

– لا بأس فعلًا.

– أنا ورفاقي نخوض صراعًا مريرًا في عدة جبهات منها جبهة الانتهازيين. إنهم هؤلاء الذين عقدوا مؤتمرًا مزيفًا وانتحلوا لأنفسهم اسم الجبهة ورفعوا راية الاستسلام للنظام وقدموا التنازلات. إنهم يحلمون بالاشتراك في السلطة وكل ما يصلون إليه هو مسح الأحذية.

كم مرة سمعت فيها هذه التعبيرات؟

– إنهم يشيعون أن صاحبتك وردة كانت تدعو للتفاهم مع السلطة والتخلي عن الكفاح المسلح. إنها شخصية أسطورية هنا. واختفاؤها ما زال لغزًا. لا أحد يعرف ما حدث لها بالضبط. أنا شخصيًّا أعتقد أنها أُعدمت على يد رفاقها، وهناك من يعتقد أنها موجودة على قيد الحياة وستظهر في الوقت المناسب. مثل قصة المهدي. ها أنت ترى أن الكشف عن حقيقة موقفها ومصيرها جوهري بالنسبة للصراع الدائر مع الانتهازيين.

– وكيف سيتم ذلك؟

– أنت قرأت جزءًا من يومياتها، والجزء الذي سأعطيه لك هو آخر ما لدينا. هناك أجزاء أخرى. وفيها الإجابة عن كل الأسئلة.

– وأين هذه الأجزاء الأخرى؟

– في صلالة.

– فكرت قليلًا ثم قلت: أظن هذا هو السبب في أنك تريدني أن أسافر؟

التفت إليَّ مبتسمًا: بالضبط. أنت الوحيد الذي يستطيع الوصول إليها.

– أنا؟ لماذا؟

– لأنها ذكرتك بالاسم. وطلبت أن تُسلَّم إليك.

كنت عاجزًا عن الحديث، أدير المعلومات المتلاحقة في رأسي.

أخيرًا قلت: هناك شيء لا أفهمه. أنت لا تعرف محتويات الأجزاء الباقية، ومع ذلك تقول إنها طلبت أن تسلم إليَّ.

– هذا ما تقوله ابنتها.

– ابنتها؟

نظر إليَّ محرجًا ثم قال: لم تكن تعرف أن لها ابنة؟

– لأ. ما هو عمرها؟ من هو الأب؟

– عمرها بالكاد ١٧ و١٨ سنة. أما الأب فهو من قبيلة معروفة، وكان من قادة الجبهة ثم اختفى أيضًا مع وردة وأخيها. والبنت الآن تعيش في كنف عمها ولا يستطيع أحد الاقتراب منها. وهي تحتفظ بالجزء الباقي من اليوميات، وترفض إعطاءه لأحد غيرك وشخص آخر لبناني. لهذا لا تتصور سعادتنا عندما عرفنا بوصولك.

– وكيف أجدها؟

– إنها ترأس الجمعية النسائية في مرباط. قرب صلالة.

– واسمها؟

– وعد. وعد الغميري.

هززت رأسي تعجبًا: افرض أني لم آتِ أصلًا.

– كنا سنجد وسيلة ما. أما وأنت هنا الآن …

– لو ذهبت فكيف سأتصل بأصدقائك؟ كيف سأتصل بك؟

– ليست هناك ضرورة. سيعرفون عندما تصل، سيجدونك بسهولة، صلالة مدينة صغيرة، ربما لا يتجاوز تعداد سكانها عدد قاطني شارعين بالقاهرة.

تطلعت حولي في المعالم التي نمر بها ثم قلت: لا أظن أن رغبتي في معرفة مصيرها كافية لأن أقوم بكل هذه المغامرات. أنا مجرد زائر عابر. لا شأن لي بقضاياكم ومشاكلكم.

استخرج الكيس الذي أخفاه أسفل مقعده وناوله لي: اقرأ أولًا، ربما غيرت رأيك، سأتصل بك بعد يومين.

أخذت الكيس وقلبته في يدي كان يحمل اسم لاكوست وعلامة التمساح الشهيرة. وبدا خفيف الوزن لا يحتوي على أوراق كثيرة. دسسته في حقيبة يدي وعلقتها في كتفي.

كنا قد بلغنا دوار رُوي ولمحت لافتة مطعم كنتاكي عن بُعد فطلبت منه إيقاف السيارة. مددت يدي إلى المقبض ودفعت الباب إلى الخارج، ثم تمهلت وقلت: لماذا الاهتمام بهذه المذكرات أو اليوميات الآن؟

– لأنها لم تظهر إلى الوجود إلا منذ فترة قصيرة.

– أنت تفترض أن الأجزاء الباقية تدعم وجهة نظر جماعتك. ماذا يحدث لو تبين العكس؟

اتسعت ابتسامته: هل تتذكر ما حدث لوصية لينين؟