تطبيقات وملاحظات
-
(١)
إذا استعرضنا قول بشار في المشورة وهو:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعنبرأي نصيح أو مشورة حازمولا تجعل الشورى عليك غضاضةفريش الحوافي قوة للقوادموخل الهوينى للضعيف، ولا تكننؤوما، فإن الحزم ليس بنائموأدن من الشورى الكتوم لسرهولا تشهد الشورى امرءًا غير كاتموما خير كف أمسك الغل أختهاوما خير سيف لم يؤيد بقائمفإنك لا تستدرك الرأي بالمنىولا تبلغ العليا بغير المكارموجدنا أن العناصر الأربعة موجودة فيها، ولكن كمية عنصر العقل فيها أكبر من كمية العاطفة، فهي مع جزالتها وعظم معناها، قليلة العاطفة، وهذا طبيعي في كل أشعار الحكم، كحكم المتنبي وأبي العلاء المعري، وزهير بن أبي سلمى، وغيرهم: فطبيعة أبيات الحكم يزيد فيها عنصر العقل على عنصر العاطفة، وعلى العكس من ذلك شعر الغزل، إذ تغلب فيه العاطفة على العقل مثل قول العباس ابن الأحنف:
أمسى بكاك على هواك دليلًافازجر دموعك أن تفيض همولادار الجليس عن الدموع فإن بدتفانظر إلى أفق السماء طويلافهذان البيتان يفيضان بالعاطفة عكس أبيات بشار.
-
(٢)
وإذا سمعنا الشاعر يقول:
وكنت إذا ما زرت سعدي بأرضهاأرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدهامن الحفرات البيض ود جليسهاإذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدهاتحل أحقادي إذا ما لقيتهاوترقى بلا جُرمٍ عليّ حقولُهاأو قول القائل:
يا عاذلي قد كنت قبلك عاذلاحتى ابتليت فصرت صبا ذاهلاالحب أول ما يكون مجانةفإذا تحكم صار شغلا شاغلاأرضى فيغضب قائلي فتعجبوايرضى القتيل ولا يرضّى القاتلاأو قول الآخر:
وخبرك الواشون أن لن أحبكمبلى: وستور الله ذات المحارموإن دمًا لو تعلمين جنيتهعلى الحي: جاني مثله غير سالمأصد، وما الصد الذي تعلمينهشفاء لنا: إلا اجتراع١ العلاقمإلخ. إلخ …
فهذه الأبيات كلها قوية العاطفة صادقتها. وتسألني: ما الدليل على قوتها وصدقها؟ فأقول: إن فيها دلالة على تجربة الشاعر: يعبر عنها في صدق وإخلاص يدل عليهما أثر ذلك في نفوس السامع الخبير، ومثل ذلك قول الآخر:
وليل لم يقصره وقادوقصره له وصل الحبيبنعم الحب أورق فيه حتىتناولنا جناه من قريبفخلنا أن نقطعه بلفظوترجم العيون عن القلوب -
(٣)
إذا سمعت قول القائل يمدح ذا الرئاستين:
لعمرك ما الأشراف في كل بلدةوإن عظموا للفضل إلا صنائعترى عظماء الناس للفضل خشعًاإذا ما بدا والفضل لله خاشعتواضع لما زاده الله رفعةوكل جليل عنده متواضعأدركت رخص عاطفة الشاعر، فقد بذل كثيرًا من قوله في سبيل حفنة من المال قبضها.
-
(٤)
إذا سمعت قول ابن الفارض:
كهلال الشك لولا أنهأن عيني عينه لم تتأي٢حكمت بأن هذا معنى عادي، وعاطفة مألوفة، وأسلوب ثقيل مبتذل.
-
(٥)
عندما تسمع قول قيس بن الملوح، وقد صيد له غزال فأطلقه، وقال
راحوا يصيدون الظباء وإننيلأرى تصيدها علي حرامًاأشبهن منك محاجرًا وسوائقًافأرى عليّ لها بذاك ذمامًاأعزز عليّ بأن أروع شبههاأو أن يذقن على يدي حمامًاتحس أن قلب الشاعر ينبض من حرارته.
-
(٦)
إذا قرأت ديوان العباس بن الأحنف، وأبي فراس والمتنبي وأبي العلاء، رأيت أو شعرت أن عواطف العباس بن الأحنف أقوى الجميع، وتليها عواطف أبي فراس، ثم تليها عواطف المتنبي، ثم تليها عواطف المعري، ولكن إذا نظرت إلى قوة العقل عند الجميع، عكست الترتيب، فالمعري أولًا، ثم المتنبي، ثم أبو فراس، ثم العباس.
-
(٧)
إذا سمعت بشارًا يقول في حسن الحديث:
وحوراء المدامع من سعدكأن حديثها ثمر الجنانوقوله:
وكأن رجع حديثهاقطع الرياض كسين زهراوكأن تحت لسانهاهاروت ينفث فيه سحراأجزت صدقه، ولكن إذا سمعته يقول وهو أعمى كما تعلم:
كأن مثار النقع فوق رءوسناوأسيافنا ليل تهاوى كواكبهأدركت أنه في هذا مقلد غير مبتدع، فلم ير غبارًا يرتفع، وإنما سمع شاعرًا يصف الغبار وهكذا…
-
(٨)
إذا قرأت قول كثير:
ألا ليتنا يا عز من غير ريبةبعيران نرعى في الخلاء ونغربكلانا له عُرٌّ فمن يرنا يقلعلى حسنها جرباء تعدي وأجربإذا ما وردنا منهلًا صاح أهلهعلينا فما تنفك نرمى ونضربوددت وبيت الله أنك بكرةهجانٌ، وأني مصعبٌ ثم نهربنكون بعيري ذي غنى فيضيعنافلا هو يرعانا ولا نحن نُطلبأدركت أنها عاطفة صادقة، ولكنها ساذجة بسيطة لا تنبع إلا من شعور ساذج.
وقول أبي تمام:
سما للعلى من جانبيها كليهماسمو حباب الماء جاشت غواربهفنول حتى لم يجد من ينيلهوحارب حتى لم يجد من يحاربهأرى الناس منهاج الندى بعدماعفت مهايعه المثلى ومحّت لواجبهففي كل نجد في البلاد وغائرمواهب ليست منه وهي مواهبهفيا أيها الساري أسر غير حاذرجنان ظلام أو ردى أنت هائبهفقد بث عند الله خوف انتقامهعلى الليل حتى ما تدب عقاربهتقرؤه فلا تحس بحرارة العاطفة، وإنما هي ألاعيب عقلية، ثم هي عاطفة شخصية، لا عامة كالوفاء: أفرط في المديح نظير مال قليل أو كثير …
فالحكم في قوة العاطفة وسعة الخيال هو شعور السامع وتأثير الأبيات عليه، وخاصة إذا كان عالمًا بالشعر، خبيرًا بجودته أو رداءته، ذا ذوق فنان.
-
(٩)
من أمثلة الخيال الخالق ما فعله بديع الزمان من أعمال قام بها الحارث بن هشام، وما فعله الحريري من حوادث أبي زيد السروجي فكل تلك خيالات خالقة، وكذلك أحاديث شهر زاد في ألف ليلة …
-
(١٠)
نلاحظ أن الشعر العربي في المرأة أغلبه مادي، يبعث على الشهوة، أكثر مما يبعث على السمو بالروح، فكثيرًا ما يصفون الخصر والردف، ويشبهون العين بالنرجس، والخد بالورد، والبنان بالعناب، والأسنان بالبرد، وقل أن يعنوا بالمعاني، كقول ابن الرومي:
ليت شعري إذا أدام إليهاكرة الطرف مبدئ ومعيدأهي شيء لا تسأم العين منهأم لها كل ساعة تجديدبل هي العيش لا يزال حتى استحــدث يبدي غرائبًا ويعيدولكن مثل هذا قليل، وربما كان سبب ذلك نظرة أغلب العرب إلى المرأة على أنها متاع، كالذي يقول أبو تمام:
كانت لنا ملعبًا نلهو بزخرفهوقد ينفس عن جد الفتى اللعبومثل قول المتنبي:
ومن خبر الغواني فالغوانيضياء في بواطنه ظلام -
(١١)
وإذا سمعنا قول القائل:
وأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقتوردًا وعضت على العناب بالبردوجدنا أن فيه نوعًا من الخيال المؤلف، فقد ألف بين الدمع واللؤلؤ، والعين والنرجس، والخد والورد، والبنان والعناب، والأسنان والبرد ونحو ذلك.
-
(١٢)
لما هزم أمية بن خالد بن أسيد، لم يدر الناس كيف يقولون له، فدخل عبد الله بن الأخثم عليه، فقال: الحمد الله الذي نظر إلينا أيها الأمير، ولم ينظر إليك، لأن الله علم حاجة أهل الإسلام إليك، فأبقاك لهم بخذلان من معك.
وكتب حمدون إلى عامل عزل عن عمله، فقال: بلغني أعزك الله انصرافك عن عملك، ورجوعك إلى منزلك، فسررت بذلك، لعلمي أن قدرك أجل وأعلى من أن يرفعك عمل تتولاه، أو يضعك عزل عنه، فهذا خيال خالق.
-
(١٣)
يقول الشاعر:
ويوم كإبهام القطاة محببإلي صباه، غالب لي باطلرزقنا به الصيد العزيز ولم نكنكمن نبله محرومة وحبائلفيالك يوم خيره قبل شرهتغيب واشيه وأقصر عاذلفالبيتان الأولان فيهما خيال مؤلف، جمع فيه بين قصر الليل وإبهام القطاة. وصيد البر، ووقوع نظره على امرأة جميلة.
-
(١٤)
قول أبي تمام:
فسقاه مسك الطل كافور الندىوانحل فيه خير كل سماءخرقاء يلعب بالعقول خيالهاكتلاعب الأفعال بالأسماءقول ثقيل على النفس لأنه في نظري من قبيل الهم.
-
(١٥)
يرى ابن خلدون أن للشعر موضوعات يحسن فيها حيث لا يحسن النثر كالمديح، والهجاء، والرثاء. وهنا موضوعات يحسن فيها النثر حيث لا يحسن الشعر، كالمكاتبات الرسمية الصادرة عن السلاطين والخلفاء، وبعبارة أخرى من الحكومات بعضها لبعض، فإن الشعر فيها يسمج، وكذلك ما يشبه الشعر كالكلام المسجوع ونحوه، فإن ذلك يقلل من جلال المكتوب عنه وله.
ويرى أن الإجادة في الكلام المرسل أصعب منها في الكلام المسجوع، لأن الكلام المسجوع يزينه السجع والبديع ونحو ذلك. وأما الكلام المرسل فيحتاج في الإجادة فيه إلى معان عظيمة، وأسلوب فخم، مما يصعب، وهذا هو السبب أيضًا في أن النثر الجيد أصعب من الشعر الجيد. ويرى أن كلام الإسلاميين المتقدمين أمثال ابن المقفع وسهل بن هارون والجاحظ في النثر، وأمثال بشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبي نواس أرق من الأدب الجاهلي في نثره وشعره، والسبب في ذلك أن هؤلاء بما عندهم من ملكة أدبية قد رقوا ملكاتهم بحفظ الجيد من المنثور والمنظوم، واقتصروا عليه ولم يشحنوا أذهانهم بما دون ذلك، فكانوا إذا قلدوا قلدوا العظيم الراقي دون غيره، فخرج أسلوبهم رفيعًا، ولم يكن للجاهلين هذه المقدرة. وذكر أنه قد عاقه عن التقدم في الشعر حفظه للمتون الكثيرة في نشأته، وغلبتها عليه في كبره، فلما عالج قول الشعر وقفت هذه المتون المحفوظة عائقًا في سبيل جودته.
وهي ملاحظات قيمة … غير أننا نلاحظ أيضًا أن الشعراء الجاهلين كانوا أصدق في عاطفتهم وشعورهم نحو الأشياء، إذ كانوا ببساطتهم يعبرون عن خالص ما في نفوسهم، ولم تفسدهم المدنية والحضارة.
-
(١٦)
قال أبو هلال العسكري:
إنما يحسن الكلام لسلامته وسهولته ونصاعته، وتخير لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وتشبه أعجازه بهواديه، وموافقة مآخره لمباديه. فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه وجودة مقطعه، وحسن وصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه. ومتى جمع الكلام بين العذوبة والجزالة، والسهولة والرصانة. واشتمل على الرونق والطلاوة. وسلم من جنف التأليف، وبعد عن سماجة التركيب، ورد على الفهم الثاقب فقبله ولم يرده، وعلى السمع المصيب فاستوعبه ولم يمجه. والنفس تقبل اللطيف وتنبو عن الغليظ، والفهم يأنس بالمعروف، ويسكن إلى المألوف، ويصغي إلى الصواب، ويهرب من المحال، وليس الشأن إيراد المعاني، فالمعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي، وإنما هو جودة اللفظ وصفاؤه، وحسنه وبهاؤه، ونزاهته ونقاؤه. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون ما وصفناه ا.هـ.
ولسنا نوافق العسكري على أن العبرة بالألفاظ وصياغتها فقط كما أسلفنا. ويكفي أن يكون المعنى صوابًا، بل إن للمعاني جودة لا تقل عن جودة الألفاظ، ولها دخل في البلاغة، كدخل الأسلوب، كالذي ذكرناه من قبل، فإن كان الكلام ألفاظًا رصينة، وأسلوبًا جيدًا، ومعاني صحيحة ولكن مبتذلة، لم تكن كبيرة شأن في البلاغة، وكانت جوفاء، ونرى أن قيمة القطعة الأدبية في معانيها وأسلوبها معًا، لا في المعنى فقط ولا في الألفاظ فقط.
-
(١٧)
قال ابن رشيق في العمدة:
لعن الله صنعة الشعر ماذامن صنوف الجهل منه لقينايؤثرون الغريب منه على ماكان سهلًا للسامعين مبيناويرون المحال معنى صحيحًاوخسيس الكلام شيئًا ثمينافهم عند من سوانا يلامون وفي الحق عندنا يعذروناإنما الشعر ما يناسب في النظموإن كان في الصفات فنونافأتى بعضه يشاكل بعضًاوأقامت له الصدور المتوناكل معنى أتاك منه على ماتتمنى، ولم يكن أن يكونافتناهى من البيان إلى أنكاد حسنًا يبين للناظرينافكأن الألفاظ منه وجوهوالمعاني ركبن فيه عيوناإنما في المرام حسب الأمانييتحلى بحسنه المنشدونافإذا ما مدحت بالشعر حرًّارمت فيه مذاهب المشتهينافجعلت النسيب سهلا قريبًاوجعلت المديح صدقًا مبيناوإذا ما عرضته بهجاءعبت فيه مذاهب المركبيناوإذا ما بكيت فيه على العادين يومًا للبين والظاعنيناحلت دون الأسى وذلك ماكان من الدمع في العيون مصوناثم إن كنت عاتبًا جئت بالوعدوعيدًا وبالصعوبة بينافتركت الذي عتبت عليهحذرًا آمنًا عزيزًا مهيناوأصحُّ القريض ما قارب النظموإن كان واضحًا مستبينافإذا ما قيل أطمع الناس طرًّاوإذا ما ريم أعجز المعجزينا -
(١٨)
روي أنه اجتمع جرير والفرزدق عند الحجاج فقال: من مدحني منكما بشعر يؤجر فيه، ويحسن صفتي. فهذه الخلعة له، فقال الفرزدق:
فمن يأمن الحجاج؟ والطير تتقىعقوبته، إلا ضعيف العزائموقال جرير:
فمن يأمن الحجاج؟ أما عقابهفمرٌّ، وأما عقده فوثيقيسر لك البغضاء كل منافقكما كل ذي دين عليك شفيقفقال الحجاج للفرزدق، ما عملت شيئًا، إن الطير تتقى الصبي والحشبة، ودفع الخلعة إلى جرير.
-
(١٩)
قال الفرزدق:
إذا التقت الأبطال أبصرت وجههمضيئًا، وأعناق الكماة خضوعفقالوا: قد أساء القسمة، وأخطأ التركيب، إنما كان يجب أن يقول: أبصرته ساميًا وأعناق الملوك خضوع، أو أبصرت لونه مضيئًا، وألوان الكماة كاسفة. وفي هذا النقد محاولة لإخضاع الشعر للمنطق وليس بذاك.
-
(٢٠)
نقدوا عمر بن أبي ربيعة بأنه يتشبب بالمرأة، ثم يدعها ويشبب بنفسه، كقوله:
ثم اسبطرت تشتد في أثريتسأل أهل الطواف عن عمروإنما توصف الحرة بالحياء والإباء والامتناع، كالذي يقول:
لقد منعت معروفها أم جعفروإني إلى معروفها لفقير -
(٢١)
قال كثير عزة:
أريد لأنسى ذكرها فكأنماتمثل لي ليلى بكل سبيلفنقدوه بأنه إن كان يحبها حقًّا فلماذا يريد أن ينسى ذكرها؟ هلا قال كما قال الآخر:
فلا خفف الرحمن ما بي من الهوىولا قطع الرحمن عن حبها حبيفما سرني أني خليٌّ من الهوىولو أن لي ما بين شرق إلى غرب -
(٢٢)
قال قائل لابن الرومي يلومه: لم لا تشبه كتشبيهات ابن المعتز، وأنت أشعر منه؟ فقال: ذاك إنما يصف ماعون بيته لأنه ابن خليفة، وأنا أي شيء أصف؟ إنما أصف ما أعرف وهو تصديق لنظرية «تين» في أثر البيئة في الأديب.
-
(٢٣)
مدح شاعر أمير المؤمنين المأمون بقوله:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلًابالدين والناس بالدنيا مشاغيلفنقد لأنه جعل المأمون امرأة عجوزًا في محرابها، وفي يدها سبحتها، وإذا لم يشتغل الخليفة بأمور الدنيا فمن يدير أمرها؟
هلا قال كما قال جرير:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبهولا عرض الدنيا عن الدين شاغله -
(٢٤)
قال أبو الطيب المتنبي أول لقائه كافورًا:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيًاوحسب المنايا أن يكن أمانيافقالوا: إنه مجابهة سيئة في أول لقاء، كما استهجنوا قول شاعر يصف روضًا:
كأن شقائق النعمان فيهثياب قد روين من الدماءلما فيه من بشاعة الدماء. وكالذي عيب على أبي محجن الثقفي في وصف قينة:
وترفع الصوت أحيانًا وتخفضهكما يطن ذباب الروضة الغردقالوا: فأي قينة تحب أن تشبه بالذبابة، وكما استهجنوا قول أبي نواس:
ما لرجل المال أضحتتشتكي منك الكلالافقالوا إن رجل المال بغيضة ثقيلة.
وكما استهجنوا قول البحتري في مدح المعتز بالله:
لا العذل يردعه ولا التعنــيف عن كريم يصدهقالوا: إن هذا من أهجن ما مدح به الخليفة، فمن ذا يعنف الخليفة أو يصده، هلا قال كما قال زهير:
لو كان يقعد فوق النجم من كرمقوم بأولهم أو مجدهم قعدوا -
(٢٥)
قال أبو تمام:
تكاد عطاياه يجن جنونهاإذا لم يعوذها بنغمة طالبفنقدوه، فقالوا: ما باله يحوجها إلى الجنون ويلتمس لها العوذ والرق؟ لقد كلف نفسه شططًا.
-
(٢٦)
وعابوا قول الشعر:
ويوم كطول الدهر في عرض مثلهووجدي من هذا وهذاك أطولفعابوه بأنه جعل للدهر عرضًا وذلك ما لم يقل به أحد. وعذره في ذلك أنه المنطق، فكما يكون للدهر طول يكون له عرض. وكان ابن سينا يسأل الله أن يجعله لحياته عرضًا وإن لم تطل، ولا بأس بذلك.
-
(٢٧)
أراد أبو نواس أن يهنئ الفضل بن يحيي البرمكي بدار جديدة انتقل إليها فافتتح قصيدته بقوله:
أربع البلى إن الخشوع لبادعليك وإني لم أخنك وداديوقال في ختامها:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتمبني برمك من رائحين وغادفتطير منها الفضل واشمأز حتى كلح وجهه وظهرت الوجمة عليه.
وهذا قول أبي الطيب حين زار كافورا الإخشيدي في أول لقاء فابتدأ قصيدته بقوله:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيًاوحسب المنايا أن يكن أمانياكما تقدم.
-
(٢٨)
قال أبو تمام:
فحرام عليك أن تقرعي هامة قلبي بدمعك المهراقويقول:
كلوا الصبر مُرًّا واشربوه فإنكمأثرتم بعير الظلم والظلم باركوكلاهما تخيلات باردة من قبيل ما أسميناه «الوهم».
-
(٢٩)
يقول مسلم بن الوليد في رثاء رجل:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوهفطيب تراب القبر دل على القبرويقول في الهجاء:
قبحت مناظره فحين خيرتهحسنت مناظره لقبح المخبزويقول في مدح رجل بالشجاعة:
يجود بالنفس إن ضن الجواد بهاوالجود بالنفس أقصى غاية الجودويقول في الغزل:
هوى يجد وحبيب يلعبأنت لقى بينهما معذبفكلها من باب الخيال المؤلف الجيد، وكذلك قول الشاعر في الهجاء:
لو اطلع الغراب على تميموما فيها من السوءات شابافقال جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميمحسبت الناس كلهم غضاباوقال الآخر:
وإذا تسرك من تميم خصلةفما يسوؤك من تميم أكثروقول الآخر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيمولا يستأذنون وهم شهودوقول الآخر:
ألم تر أنهم رقموا بلؤمكما رقمت بأذرعها الحميروقول الآخر:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهمقالوا لأمهم بولي على الناروكلها صور جيدة.
-
(٣٠)
إذا سمعت قول القائل:
إذا قلت إني مشتف بلقائهاوحم التلاقي بيننا زادني سقمًاوقول جميل:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتهاويحيا إذا فارقتها فيعودوقول جرير:
فلما التقى الحيان ألقيت بالعصاومات الهوى لما أصيبت مقاتلهوقول السلولي:
يُبين الجار حين يبين عنيولم تأنس إليّ كلاب جاريوتظعن جارتي من جنب بيتيولم تستر بستر من جداروتأمن أن أطالع حين آتيعليها وهي واضعة الخماركذلك هدي آبائي قديمًاتوارثه النجار عن النجارفكل هذه الأبيات تدل على عاطفة حارة وشعور حي وتجربة صادقة.
-
(٣١)
دخل عمرو بن سلم الخاسر على المهدي فأنشده:
إن الخلافة لم تكن بخلافةحتى استقرت في بني العباسشدت مناكب ملكهم بخليفةكالدهر يخلط لينه بشماسفأمر له بعشرين ألف درهم، فقال:
أفي سؤال السائلين بجودهملك مواهبه تروح وتغتديهذا الخليفة جوده ونوالهنقد السؤال وجوده لم ينفدفهذه عاطفة شخصية رخيصة دعا إليها ما أعطاه من المال
ومثل ذلك قول منصور النمري:
خليفة الله إن الجود أوديةأحلك الله منها حيث تجتمعإن أخلف الغيث لم تخلف أناملهأو ضاق أمر ذكرناه فيتسع -
(٣٢)
رواية ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان ومقامات الحريري أمثلة من الخيال الخالق وهي أيضًا من أمثلة التصميم المفكك وهي أيضًا من الأمثلة على الرواية التي تدور حوادثها على الأشخاص أكثر مما تدور حوادثها على الحوادث.
-
(٣٣)
عند علماء العربية ما كان تسعة أبيات فأكثر سمي قصيدة، وإلا فقطعة. ونظرًا لأن شعراء العرب التزموا القافية، وهو التزام عسير، فقد قصر نفسهم، ولم يطل شعرهم طوال الشعر الإفرنجي المرسل، وربما عد من أطولهم شعر ابن الرومي، فبعض قصائده تبلغ أربع مئة بيت، وذلك لمنهجه السهل في الشعر، ولأنه إذا عمد إلى معنى لم يتركه حتى يصفيه.
والشعر العربي أكثره غنائي، فقليل من شعر العرب شعر ملاحم أو شعر تمثيلي. والقصيدة عادة عندهم تبدأ ببكاء الأطلال، ثم بوصف الطريق الذي رحل فيه الشاعر، ووصف الناقة أو البعير، ثم الدخول من ذلك على الممدوح. وقل في الشعر الجاهلي أن نرى قصيدة قيلت في الغزل البحت، إنما كان ذلك في العصر الأموي.
وقد أتقن العرب — والحق يقال — الوصف، وخصوصًا وصف البادية وما فيها، ويكادون إذا وصفوا ناقة أو بعيرًا أو أرضًا وصفوها وصفًا دقيقًا، لا يكادون يتركون شيئًا فيها. واشتهر بالوصف ذو الرمة، والقطامي وغيرهما.
ولكن مع الأسف كما قل في الفقه الاجتهاد المطلق في العصور المتأخرة، وإنما أجازوا الاجتهاد المقيد، كذلك كان الشأن في الأدب، فلم يفتحوا في الشعر ولا في النثر أبوابًا جديدة، بل كل ما فعله مجددوهم أنهم فتحوا الأبواب القديمة مع تعديل بسيط، وإذا كان الأولون يتغزلون في المؤنث، فقد تغزل أبو نواس في المذكر، والغزل هو الغزل … وإذا رثى الأولون أولادهم أو إخوتهم رثى البحتري إيوان كسرى، ورثى المتأخرون المدن كطليطلة ونحوها. أما موضوع جديد مبتكر فلم يوفقوا فيه.
حتى أبو نواس الذي استهجن بكاء الأطلال والدور، ودعا إلى بكاء القصور، والتغزل بابنة الكرم، والمتنبي الذي يقول:
إذ كان مدح فالنسيب المقدمأكل فصيح قال شعرًا متيمعادا فبدآ شعرهما بالغزل والتشبيب بالنساء، وبكاء الأطلال. والسبب في أن دعوتهما لم تنجح أنهما دعوا إلى مذهبيهما في خفوت، ولم يكونا مؤمنين حق الإيمان بما يقولان، ومن جهة أخرى كانت مدرسة الرجعية كالنحويين والصوفيين قوية مسموعة الكلمة، فأخفتوهما كما كان الشأن في المحدثين مع المعتزلة، فقد انتصر المحدثون أخيرًا على المعتزلة، فمنعوهم من الابتكار، وساد المقلدون على المجددين.
وحتى أوزان الشعر قد حصرها الخليل في ستة عشر من عهد الجاهلية إلى يومه، وكل ما فعله المتأخرون أن قلدوه ولم يخرجوا عنها إلا في حدود ضيقة. وليست البحور إلا موسيقى، والأذن الموسيقية متغيرة، فما كان منها يناسب موسيقى أبي إسحاق الموصلي قد لا يناسبنا نحن، بدليل أن أغانينا اليوم غير أغانيهم، فكان يلزم أن نجدد هذه الأوزان، فنجعلها مثلًا ستين بدل ستة عشر، كما جدد شعراء الفرنج في أوزانهم، ولكن هو الهمود الشامل، والعقل الجامد.
وحتى في العصور الحديثة إنما جدد الشعراء والكتاب بعض الشيء، لا ابتكارًا، ولكن انتقالًا من تقليد العرب إلى تقليد الغرب، والكل تقليد. وقد يكون هذا التقليد مائعًا لا يناسب ذوقنا، كما لا تناسب الموسيقى الغربية الأذن الشرقية والله يوفق.
-
(٣٤)
من محاسن الكتب الأدبية العربية أنها عنيت بالتعرض لأبيات من الشعر قيلت في معنى واحد، ووازنت بينها، وبيان أيها أحسن، كقول بشار:
خليلي ما بال الدجى ليس يبرحوما لعمود الصبح لا يتوضحأضل النهار المستنير طريقهأم الدهر ليل كله ليس يبرحوطال علي الليل حتى كأنهبليلين موصول فما يتزحزحويقول العباس بن الأحنف في هذا المعنى:
أيها الراقدون حولي أعينوني على الليل حسبة وائتجارًاحدثوني عن النهار حديثًاأو صفوه فقد نسيت النهاراويقول آخر:
أرقت ولم تنم عنك الهموموعاد فؤادك الطرب القديمفهل ذهب النهار فعاد ليلًاوهل تركت مطالعها النجومويقول آخر:
يا طول ليلي ما أنام كأنمافي العين مني عائر مسجورأرعى النجوم إذا تغور كوكبكلءٌ لآخر ما يكاد يدورإن طال ليلي في الإسار فقد أتىفيما مضى دهر علي قصيرويقول الآخر:
رقدتَ ولم تَرْثِ للسَّاهروليلَ المحب بلا آخرِويقول الآخر:
تبيت تراعي الليل ترجو نفادهوليس لليل العاشقين نفادويقول آخر:
وطال ليل الهوى عليه وماأمد ليل الهوى وأطولهفبات يستمطر الدموع وإنكان ارفضاض الدموع أنحلهويقول آخر:
سألت نجوم الليل هل ينقضي الدجىفخط جوابا بالثريا كخط لاوما عن هوى سامرتها غير أننيأنافسها المجرى إلى الرتب العلاويقول آخر:
ليل أضل الفجر منه سبيلهحتى حسبت به الكواكب قفلاما تنقضي عذبات نُفيَةِ آخرمن جنحه حتى نعيد الأولاويقول الآخر:
ما بال أنجم هذا الليل حائرةأضلت القصد أم ليست على ملكحادت سواريه وقفًا لا حراك بهاكأنها جثت صرعى بمعتركوقال آخر:
ليل تحير ما ينحط في جهةكأنه فوق متن الأرض مشكولنجومه ركد ليست بزائلةكأنما هن في الجو القناديلوقال آخر:
والنجم في أفق السماء كأنهأعمى تحير ما لديه قائدوقال آخر:
وكم ليال قد لقيت هولهابهمة فوق السماء كالسماطالبت دياجيها فخلنا أنهاتعطف منهن علينا ما مضىوقال آخر:
يا ليل بل يا أبدأنائم عنك غديا ليل لو تلقى الذيألقى بها أو تجد!قصر من طولك أوضعف منك الجلدأشكو إلى ظالمتيتشكو الذي لا تجدوقف عليها مقلتيوقف عليها السهدويقول بشار:
طال هذا الليل بل طال السهرولقد أعرف ليلي بالقصرلم يطل حتى جفاني شادنناعم الأطراف فنان النظرفكأن الهم شخص مسائلكلما أبصره النوم نفروقال آخر:
لا أظلم الليل ولا أدعيأن نجومه ليست تزولليلي إذا شاءت قصير إذاجادت، فإن ضنت فليلي طويلوفي هذا المعنى يقول بشار:
لم يطل ليلي ولكن لم أنمونفى عني الكرى طيف ألموقال آخر:
لا أسأل الله تغييرًا لما صنعتنامت وقد أسهرت عيني عيناهافالليل أطول شيء حين أفقدهاوالليل أقصر شيء حين ألقاهاويقول الآخر:
ويوم من الأيام لم ألقها بهوليس سواء فرقة ولقاءكعام من الأعوام أما نهارهفصيف، وأما ليله فشتاءويقول ابن المعتز:
لا أرق الله من أهدى لي الأرقاوأودع القلب نار الحب فاحترقابدر تعرض لي عمدًا ليقتلنيتذب أنواره عن وجهه الغسقاوقال آخر:
لست أدري أطال ليلي أم لاكيف يدري بذاك من يقلَّىلو تفرغت لاستطالة ليليولِرَعْي النجوم كنت مخلَّىوقال المتنبي:
أعيدوا صباحي فهو عبد الكواعبوردوا رقادي فهو لحظ الحبائبفإن نهاري ليلة مدلهمةعلى مقلة من فقدكم في غياهبوقال امرؤ القيس:
فيالك من ليل كأن نجومهبكل مغار الفتل شدت بيذبلوهكذا …
والقول يطول ويتشقق لو قارنا هذه الأبيات بعضها ببعض، وعرفنا ما امتاز به بعضها من معان وأسلوب ومن خيال، وما قصر بعضها في ذلك فأترك ذلك لرأيك غير أني أقول ربما كان خيرها قول الشاعر:
يا ليل بل يا أبدأنائم عنك غدلخفة روحه، وجودة موسيقاه، وربما كان أقربها إلى الواقعية قول بشار:
لم يطل ليلي ولكن لم أنمونفى عني الكرى طيف ألموهكذا يمكننا ترتيب هذه الأبيات من حيث جودة المعنى، وقرب الخيال أو بعده، وجودة الموسيقى أو قبحها ونحو ذلك.
وننتقل بعد ذلك إلى معنى آخر:
يقول بشار:
عِيُّ الشريف يشين منصبهوترى الوضيع يزينه أدبهوالصدق أفضل ما حضرت بهولربما ضر الفتى كذبهخذ من صديقك غير متعبهإن الجواد يؤوده تعبهيردُ الحريص على متالفهوالليث يبعث حتفه كلبهوقال آخر:
لا خير فيمن له أصل بلا أدبحتى يكون على ما فاته حدباكم من شريف أخي عيٍّ وطمطمةٍفادمن لدى القوم معروف إذا انتسبافي بيت مكرمة آباؤه نجبكانوا رءوسًا فأمسى بعدهم ذنبًاوخاملٍ مقْرَفِ الآباء ذي أدبنال العلاء به والجاه والنسباوقال آخر:
إنك إن كنت عالمًا زادك العلم علوًا أو خاملًا رفعتوإنما تفضل البهائم بالعلم فإن كنت عالمًا نفعكتجنب الجهل ما استطعت فإنكنت جهولًا وعاليًا وضعكوقال آخر:
رأيت العز في أدب وعلموفي جهل مذلتها الهوانوما حسن الرجال لهم بزينإذا لم يسعد الحسن البيانوقال آخر:
حسب الكذوب من البلـية بعض ما يجنى عليهمن إن سمعت بكذبةمن غيره نسبت إليهوقال آخر:
لا يكذب المرء إلا من مهانتهأو عادة السوء أو من قلة الأدبلَعَضُّ جيفة كلب خير رائحةمن كذبة المرء في جد وفي لعبثم ننتقل إلى معنى ثالث:
قال بعض الشعراء:
قوم لحاء المعاني في وجوههموللمكارم تصويب وتصعيدوقال البحتري:
يريك تألق المعروف فيهشعاع الشمس في السيف الصقيلوقال الآخر:
ووجه رق ماء الجود فيهعلى العرنين والخد الأثيلوقال آخر:
يزيد معروفه بالبر منزلةكما يزيد بهاء الخود بالحفرترى مياه الندى تجرى بأنملهترقرق الماء في الهندية البُتُروقال أوس:
كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقتمن ماء أدكن في الحانوت مشّاحأو من معتقة ورهاء نشوتهاأو من أنابيب رمان وتفاحوقال ذو الرمة:
كأن على فيها وما ذقت طعمهزجاجة خمر طاب منها مدامهاوقال آخر:
ذات خدين ناعمين ضنينين بما فيهما من اللقاحوثنايا وريقة كغديرمن عُقار وروضة من أقاحوقال آخر:
قام بقلبي وقعدظبي نفى عني الجلديا صاحب القصر الذيأرق عيني ورقدواعطشا إلى فميمج خمرًا من بردإن قسم الناس فحسبيبك من كل أحدوقال آخر:
كأن المدامة والزنجبيـل وريح الخزامى وطعم العسليعل به برد أنيابهاإذا النجم وسط السماء استقلوقال العباس بن الحسن العلوي:
حور تحور إلى صباك لأعين منهن حوروكأنما برضابهنجنى الرحيق من الخموريصبغن تفاح الخدود بماء رمان النحوروهكذا…
وقد جرتهم هذه المقارنة إلى الإمعان في القول في السرقات الشعرية، فزعموا أن الفضل في ذلك لأول قائل لهذا المعنى، وأن من بعده سرقوا منه. ويعجبني في هذا الباب قول عبد العزيز الجرجاني في الوساطة بين المتنبي وخصومه، وملخصه: «أن السرقة إنما تعد سرقة إذا اتحدت الألفاظ والمعاني، أما إذا اتحدت المعاني فقط أو تقاربت، فمن العسير أن نعدها سرقة، لعدم استطاعتنا الجزم بأن هذا مسروق من ذاك، فربما تواردت المعاني على الناس، ووقع الحافر على الحافر، خصوصًا وأنه ليس بالقليل صياغة المعنى الواحد في أسلوب غير أسلوب الآخر. وقد يزيد الآخر على الأول معنى من المعاني أو صوغه في ثوب جديد حتى كأنه معنى جديد. كما لا تستطيع أن تقول: إن هذا معنى مبتكر، فقد غاب عنا شعر كثير قد يكون الشاعر وقع عليه فقلده ونحن لا نعرفه؛ لأجل ذلك لا نبالغ في عد هذا سرقة. وساق على ذلك أمثلة كثيرة». وهو قول حق، يرد غلو الناقدين في باب السرقة الشعرية.
وننتقل إلى معنى آخر:
وقال ابن المعتز:
يا رُب سر كنار الصخر كامنةأمت إظهاره منى فأحيانيلم يتسع منطقي فيه ببائحةحزمًا ولا ضاق عن مثواه كتمانيوقال آخر:
أيها السائل دع سر نفسيإنما نفسي لسري قبروقال كثير:
كريم يميت السر حتى كأنهإذا استخبروه عن حديثك جاهلوقال آخر:
وما السر في صدري بميت بقبرهلأني رأيت الميت ينتظر النشراولكنني أخفيه حتى كأننيبما كان منه لم أحط ساعة خبراأخذه المتنبي فقال:
وسركم في الحشا ميتإذا نُشر السر لا ينشر -
(٣٥)
لابن الأثير في المثل السائر ملاحظات نقدية صحيحة، أشبه ما تكون بما في كتب النقد الأوربية، مثال ذلك:
-
(أ)
فعنده أن الفصاحة تكون في الألفاظ، والبلاغة في المعاني، والكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة، وإنما كانت بهذه الصفة لأنها مألوفة الاستعمال، دائرة في الكلام. وإنما كانت كذلك لحسنها، لأن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة، وسبروا ألفاظها، واختاروا الحسن من الألفاظ واستعملوه، وتركوا القبيح منها وهجروه؛ فإن قيل: من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ أو القبيح منها؟ قلت: إن هذا من الأمور المحسوسة، فالألفاظ داخلة في حيز الأصوات، فالذي يستلذه السمع منه ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح. ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير، وصوت الشحرور، ويميل إليهما؟ ويكره صوت الغراب، ونهيق الحمار، وينفر منهما … وكذلك الألفاظ، فلفظه المزنة والديمة حسنة يستلذها السمع، ولفظة البعاق قبيحة يكرها السمع، وكلها من صفة السحاب. ومن ذلك ترى أن لفظة المزنة والديمة مألوفة الاستعمال، ولفظ البعاق متروك لا يستعمل. ولا يستعملها إلا جاهل بحقيقة الفصاحة، أو من ليس له ذوق سليم.
-
(ب)
إن أعجب شيء في ذلك أن تكون الألفاظ المفردة واضحة كلها، فإذا نظر إليها مع الترتيب، احتاجت إلى استنباط وتفسير، وهذا موجود في القرآن، وفي الأخبار المروية والأشعار والخطب والمكاتبات. مثل قوله ﷺ: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون».
وقول أبي تمام:
ولهت فأظلم كل شيء دونهاوأضاء منها كل شيء مظلمونحو ذلك.
-
(جـ)
يقول المبرد: ليس أحد في زماني إلا ويسألني عن مشكل من معاني القرآن أو معاني الحديث أو غير ذلك من مشكلات علم العربية، فأنا أمام الناس في زماني هذا، ومع ذلك إذا عرضت لي حاجة إلى بعض إخواني وأردت أن أكتب إليه شيئًا في أمرها، أحجم عن ذلك لأني أرتب المعنى في نفسي، ثم أحاول أن أصوغه بألفاظ مرضية فلا أستطيع ذلك. ولقد صدق في ذلك، وقد رأيت كثيرًا من الجهال الذين هم من السوقة أرباب الحرف والصنائع، وما منهم إلا من يقع له المعنى الشريف، ويظهر من خاطره المعنى الدقيق …
«أقول» لأن البلاغة محتاجة إلى حسن استعداد، وكثرة مران وتدريب، ومن فقدهما أو أحدهما، خلا منها.
-
(د)
يجب على الناظم والناثر أن يتجنب ما يضيق به مجال الكلام من بعض الحروف، كالثاء والذال والخاء والشين، والصاد والطاء والظاء والغين، فإن في الحروف الباقية مندوحة على استعمال ما لا يحسن من هذه الأحرف، وقد يأتي النظم بقصيدة على حرف من هذه الحروف فيأتي فيها بالبشع المكروه، كما فعل أبو تمام في قصيدته الثانية التي مطلعها:
قف بالطلول الدارسات علاثا … إلخوكما فعل أبو الطيب في قصيدته الشيئية التي مطلعها:
مبيتي من دمشق على فراش … إلخوكما فعل ابن هانئ في قصيدته الخائية التي مطلعها:
سرى وجناح الليل أقنم أفتخ … إلخ -
(هـ)
إن الألفاظ تتبع الزمان، فقد تكون الكلمة لطيفة في زمن لا عيب فيها، ثم يأتي زمن تعاب فيه، لاستعمالها في معنى رديء، كلفظ «الصَّرم والصُّرم» ولذلك لم تعب على الشاعر المتبدي كأبي صخر الهزلي في قوله:
قد كان صَرم في الممات لنافجعلت قبل الموت بالصَّرمولكنها عيبت على المتنبي المتحضر في قوله:
أذواق الغواني حسنه ما أذقتنيوعف فجازاهن عني بالصرم -
(و)
من الجموع ما يحسن استعمالها، ومنها ما يسوء، كجمع العين الناظرة، والعين من الناس؛ فإن العين الناظرة خير ما تجمع على عيون، وعين الناس تجمع على أعيان. وهذا يرجع فيه إلى الاستحسان لا الوضع اللغوي. وقد شذ أبو الطيب في قوله:
والقوم في أعيانهم خزروالخيل في أعناقها قبلفجمع العين الناظرة على أعيان، والذوق يأبى ذلك، ولا تجد له في اللسان حلاوة وإن كان جائزًا. وأعجب من ذلك أنك ترى وزنًا واحدًا من الألفاظ يحسن مفرده، ولا يحسن جمعه، وأحيانًا يحسن جمعه ولا يحسن مفرده، وأحيانًا يحسنان معًا. فمن النوع الأول عرقوب وعراقيب، ومن النوع الثاني بهلول وبهاليل، ومن النوع الثالث جمهور وجماهير، وعرجون وعراجين.
وهناك ألفاظ على وزن واحد يحسن بعضها، ويقبح بعضها كالثلث والربع إلى العشر، فالثلث والخمس والسدس حسنة، والسبع والثمن والتسع والعشر ليست كذلك، والجميع على وزن واحد.
-
(ز)
ثم انتقل إلى الكلام على المعاني، فقال: إن المعاني على ضربين: أحدهما ما يبتدعه مؤلف الكلام من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه، وذلك مثل وصف المتنبي للحمى، وهو:
وزائرة كأن بها حياءفليس تزور إلا في الظلامبذلت لها المطارف والحشايافعاقتها وباتت في العظامكأن الصبح يطردها فتجريمدامعها بأربعة سجامتراقب وقتها من غير شوقمراقبة المشوق المستهاموهذا يقع للشاعر الفينة بعد الفينة، وعددها عند كل شاعر ليس بالكثير. فقد قالوا:
إن أبا تمام اخترع نحو عشرين معنى جديدًا، وأبا الطيب خمسة. وكقول أبي نواس في الهجاء:
شرابك في السراب إذا عطشتوخبزك عند منقطع الترابوما روحتنا لتذب عناولكن خفت تغزية الذيابوكقول أبي تمام في الشيب:
يستثير الهموم ما اكتن منهصعدا وهي تستثير الهموماوقول ابن الرومي:
عدوك من صديقك مستفادفلا تستكثرن من الصحابإلى غير ذلك.
والنوع الثاني من المعاني، هو الذي يحتذى فيه على مثال سابق، ومنهاج مطروق. وهذا أكثر ما يستعمله أرباب هذه الصناعة، فالمتأخر إنما يصوغ المعنى القديم فيصوغه صياغة جديدة، وذلك كالأبيات التي ذكرناها من قبل في وصف طول الليل.
-
(ح)
وتعرض أخيرًا للسرقات، شأنه في ذلك شأن من سبقه، وقسمها ثلاثة أقسام: «نسخًا وسلخًا ومسخًا» فالنسخ أخذ اللفظ والمعنى برمته من غير زيادة عليه، والسلخ أخذ بعض المعنى، والمسخ إحالة المعنى إلى ما دونه. وقد أطال في ذلك وعدد الأمثلة على الأقسام الثلاثة، فمن النوع الأول قول الفرزدق:
أنعدل أحسابًا لئامًا حماتهابأحسابكم، إني إلى الله راجعفقال جرير:
أتعدل أحسابًا كرامًا حماتهابأحسابكم، إني إلى الله راجعومن النوع الثاني قول بعض الشعراء:
لقد زادني حبًا لنفسي أننيبغيض إلى كل امرئ غير طائلفقال المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصفهي الشهادة لي بأني كاملومن النوع الثالث قول حسان:
ما إن مدحت محمدًا بمقالتيلكن مدحت مقالتي بمحمدفقال أبو تمام:
فلم أمدحك تفخيمًا بشعريولكني مدحت بك المديحاوهكذا أكثر من الأمثلة والشروح … ا.هـ.
-
(أ)
-
(٣٦)
ومما يؤسف له أن كُتّاب الأدب العربي قصروا بحثهم ونماذجهم ونقدهم على النوع المعروف (Bell Lettre) أو الأدب الجميل أو الأدب الصرف؛ وكان خيرًا لهم أن يفهموا الأدب بالمعنى الواسع حتى يشمل الفلسفة وحتى يشمل مثل مقدمة ابن خلدون، وحتى يشمل الأدب الصوفي. أمثال شعر ابن الفارض، وحكم ابن عطاء الله، فإن ذلك يزيد أنواع الأدب فلا يكون قاصرًا على ما قلّت معانيه وجمّلت ألفاظه. ومن ميزة هذا الذي أقول إن هذا النظر يستطيع أن يغذي الأدب العربي بالمعاني أكثر مما يغذيه الأدب الصرف.
وكان من عيوب طريقتهم واقتصارهم على الشعر المتعارف والنثر المسجوع وتعصبهم لهذا النظر أن كان الشعر الجاهلي كأنه وحي يوحى إذ لم يتذوقوا القصص كثيرًا، لأن الجاهلين لم يتذوقوه. وخصوصًا القصص الذي ورد عن الأمم الأخرى كألف ليلة وليلة، فإننا لم ندرك قيمتها إلا بعد أن رأينا المستشرقين يمجدونها، فأخذنا نقلدهم كأننا عباد تقليد فقط.
ومما يؤسف له أيضًا أن الأدب العربي يميل إلى التركيب أكثر مما يميل إلى التحليل، وخير الأدب ما وجد فيه العنصران معًا: التحليل في موضعه والتركيب في موضعه. ومن أثر ذلك كثرة الأمثال في الأدب العربي وقلة الروايات، فالمثل نظر مركب والروايات نظر محلل، ثم إنه يكثر في الأدب العربي الاستطراد وعدم حصر الذهن في الموضوع الواحد، ولذلك كثيرًا ما يجد الباحث الموضوع الذي يبحث عنه في غير مظانه. وكان الأليق بالمجددين أن يتحرروا من هذه العيوب. كذلك، هم يميلون إلى معان جزئية أكثر من المعاني الكلية، وفاتهم العناية بوحدة القصيدة واكتفوا بالعناية بوحدة البيت، لأن وحدة القصيدة تتطلب نظرًا كليًّا، وأما وحدة البيت فتتطلب نظرًا جزئيًّا. وهذا المعروف في الأدب معروف أيضًا في الفقه، فقلما نرى في باب من أبواب الفقه قواعد كلية كما فعل صاحب البدائع مثلًا وإنما أكثر الكتب موضوعة على أحكام جزئية تستفاد منها القاعدة الكلية مثل: (من اشترى عبدًا … ومن باع عبدًا …). وربما كان المسئول الأول عن هذا شعراء الجاهلية فقد بدءوا القصيدة بالبكاء على الأطلال ثم ثنوا بالرحلة إلى الممدوح وفي أثناء الرحلة عرجوا على وصف الناقة، وإن لم يفعلوا ذلك ظاهرًا فعلوه باطنًا، فبكوا الأطلال في أنفسهم ورحلوا في ضميرهم ثم قالوا:
دع هذا وعد القول في هرموقد أجاد أدباء العرب في الإيجاز أكثر مما أجادوا في الإطناب، وعدوا الإيجاز في البلاغة أقوى من الإطناب، مع أن الإيجاز يحسن في محل والإطناب يحسن في محل آخر؛ ولذلك نجدهم برزوا في الحكم وفي المراسلات وعدوا بابًا كبيرًا من أبواب الأدب التوقيعات وهي جمل مركزة تشير إلى الغرض المقصود، وما يعبر عنه العربي في مثل يعبر عنه الأديب الفرنسي أو الإنجليزي في رواية تبلغ أكثر من مائتي صفحة.
-
(٣٧)
من غلبة عنصر التقليد في الأدب العربي أنا نرى أدب كل أمة عربية يشبه أدب الأمة الأخرى مع اختلاف التاريخ والحوادث التي تقع فيها، فأدب الأندلس يشبه أدب مصر في موضوعاته وأساليبه وهما يشبهان أدب العراق، حتى ليعسر على القارئ أن يدرك الشخصية الممتازة لكل قطر مصرية كانت أو أندلسية أو بغدادية؛ حتى الأخطاء التي وقع فيها بعضهم وقع فيها الآخرون كبدء المديح بالغزل والتقيد بالوزن المعروف، والمحاسن التي كانت لأدب قطر ظلت محاسن لآداب الأقطار الأخرى كالانتقال سريعًا من وصف لحادثة إلى حكمة عامة. وأظن أن لو كانت هذه الآداب لرقعة أخرى في العالم يسكنها أمم متعددون لكان الاختلاف بينهم أوضح، وربما كان السبب في ذلك خضوعهم لدين واحد يوحي إليهم بأفكار متشابهة. والدين يوحي بتمجيد العرب وتمجيد العرب يوحي بتقليدهم في أساليبهم ومعانيهم.
خصوصًا وأن المعجزة الكبرى للمسلمين القرآن العربي، وربما كان اتخاذ الأدباء القرآن مثلهم الأعلى سببًا في محافظتهم على اللغة الفصحى والتقارب بين أدباء كل قطر في أسلوبه ومعانيه.
-
(٣٨)
يعتقد بعض الباحثين أن من أسباب انحطاط المسلمين وخاصة العرب الأدب العربي نفسه، وتعليلهم لذلك أن أكثره قيل في المديح والملق والغرام، وعلى حد تعبير بعضهم أكثره أدب معدة لا أدب قوة، ولو نظرنا إلى الأنواع الأخرى لكانت كذلك أو أقرب إليها، فالمقامات للبديع أو للحريري أو لغيرهما إنما هي مبنية على الكدية، والكدية استجداء، وهي من أحط أنواع الخلق بل هي أحط من المديح، ثم إن الأدب العربي من نوع الأدب المكشوف الذي لا يتحرج من ذكر العورات بأسمائها، وحتى كان يسمح بمثل هذا الفحش في مجال الخلفاء والأمراء من غير تحرز ولا إيماء. ومعجم كقاموس الفيروزابادي مملوء بألفاظ الفحش حتى لا تكاد تخلو صفحة منها، هذا إلى مجون سخيف كمجون الحجاج وابن سكرة، فإذا طبعت هذه الأشياء كلها في عقل الناشئ أتلفت ملكاته وحركت شهواته.
هذا قولهم ولكن هل هو صحيح؟
فبعض شعر المديح قوي جميل يبعث في النفس أخلاقًا قوية كما أن باب الأدب في العربية عظيم وواسع سعة لا حد لها، وكذلك باب الحكم، فالحكم الصحيحة يجب أن ينظر فيها إلى هذا وذاك والعيب عيب من اختار لا عيب من قال. وكم رأينا من رجال كمصعب بن الزبير وهشام بن عبد الملك وأبي جعفر المنصور قاموا بأعمال عظيمة لذكرهم أبياتًا عظيمة دفعتهم إلى تقديم نفوسهم خوفًا من العار أو إباء من الذل أو نحو ذلك.
وعابوه أيضًا بأنه أميل إلى الخيال منه إلى العقل وخصوصًا في الشعر، فليس فيه شعر فلسفي عميق إلا قليلًا، وفاتهم أن أشعار أبي العلاء المعري وابن الشبل البغدادي وابن سينا وغيرهم مملوءة بالفلسفة والحكمة، وربما جاءهم هذا الظن من أن الأدب العربي لما عرضوا نماذجه استبعدوا منها كتب العقل كمقدمة ابن خلدون، وكتب التصوف كشعر ابن الفارض وجلال الدين الرومي، وكتب الحكمة ككليلة ودمنة، وكتب التاريخ كالطبري والفخري مع أنها في صميم الأدب وكانت خليقة أن تظهره بمظهر الغنى.
وعابوه أيضًا بأنه وإن التفت من قديم إلى الطبيعة فقد عني بالصور البهلوانية ولكنه لم يتغن بحبها، والشاعر الحق في الطبيعة هو من سلك إحدى الطريقتين: إما أن يذوب فيها حتى يفنى وإما أن يتشربها حتى يستوعبها؛ ولم يفعل الشاعر العربي شيئًا من ذلك بل أخذ يلعب بصورها كما لعب الحاوي بالمناظر والصور، وهذا حق، فبعض الشعر الأوروبي سلك هذا المسلك أو الآخر فكان رائعًا حقًّا وإن حدث ذلك في العصور الأخيرة بعد أن كان الشاعر الأوروبي لا يأبه له.
وعابوه أيضًا بأنه يكاد يقتصر على نوع واحد من أنواع الشعر، وهو الشعر الغنائي وليس فيه شعر ملاحم ولا شعر تمثيلي إلا في القليل النادر. وربما دعا إلى ذلك التزامهم البحر والقافية فإن طبيعة الملاحم والشعر التمثيلي تتطلب طول النفس وطول النفس يتطلب تغير البحور والقوافي، ولكن في الأدب العربي شيء من الملاحم كما في ملحمة أبي زيد الهلالي وإن كان بعضها نثرًا وبعضها شعرًا، وفي الشعر العربي بعض القصص التمثيلية كبعض شعر عمر بن أبي ربيعة، ولكن الحق أن ذلك قليل وليس بكثير كثرته في الشعر الأوروبي. وهذا أيضًا حق، ولكن ينبغي أن نفسح صدرنا للخلافات بين الآداب من هذا النوع، فليس بضروري أن تتبع الأمم منهجًا واحدًا فتقسم نفسها إلى هذه الأبواب الثلاثة من الشعر، وإن كان أساس الأدب كله واحدًا. كالمأكول والمشروب، فأساسه كله حاسة الذوق وما يؤكل وما يشرب؛ ولكن أمة قد تفضل البطاطس على كل أنواع المأكولات، وغيرها يفضل صنفًا آخر، سواء في ذلك الأفراد والأمم. ثم هذا لا يطعن في أن أساس كل تقدير يرجع إلى حاسة الذوق وانفعالها مع المأكول والمشروب، فهذه الآداب العربية مالت بطبيعة بيئتها إلى الأدب المكشوف، والآداب الأوروبية مالت بطبيعة بيئتها إلى الأدب المستور.
والآداب الغربية إن تفوقت على الآداب العربية في الملاحم والقصص التمثيلية فإن الأدب العربي يتفوق في الحكم والأمثال والشعر الغنائي ولكل وجهة هو موليها، ورحابة الصدر تسمح بكل هذه الفروق كما تسمح للأسرة الواحدة أن يكون فيها مذكر ومؤنث وحليم وغضوب، ولا يخرجها كل ذلك عن أنها أسرة واحدة.
وعابوه أيضًا بأنه يكاد يكون على نغمة واحدة من عهد الأدب الجاهلي إلى اليوم. فالموضوعات هي الموضوعات، والأوزان هي الأوزان، والأساليب هي الأساليب؛ ومع اختلاف البيئات في بغداد ومصر والشام والأندلس ظلت كل الآداب ذات منهج واحد، وعلى العكس من ذلك الأدب الأوروبي، فيجد مؤرخها مجال القول ذا سعة في نوع من الأدب وجد بعد أن لم يكن، ونوع من البحور وجد بعد أن لم يكن، وأدب مطبوع بالطابع الألماني، وأدب مطبوع بالطابع الإنجليزي، وأدب مطبوع بالطابع الفرنسي، تبعًا لتغير البيئات والزمان والمكان، أما الأدب العربي فمتشابه: الأدب المصري والأدب الأندلسي يشبهان أدب بغداد، وأدب القرن التاسع عشر يشبه أدب القرن الرابع أو الخامس من غير كبير تغيير.
وهذا اعتراض وجيه سببه ما عرف عن الشرق من جمود وخمود عقليين وقلة ابتكار وحب وتقليد، فإن وجد بين الشرقيين مبتكر كابن خلدون فذلك نادر.
وهذا العيب ليس مقصورًا على الأدب، فهذا هو الشأن في الفقه والنحو وكل العلوم فمتى تحرر من ناحية سرى التحرر إلى النواحي الأخرى، والمأمول في الأدب أن يكون أسبق إلى التحرر لأن التجارب علمتنا أن الأدب إرهاص للعلم والفلسفة، ولأن من عناصر الأدب الأربعة عنصر الخيال وليس الابتكار أول أمره إلا خيالًا يتحقق فيما بعد. والله يوفق.
-
(٣٩)
يرون أن الحريري لما اخترع المقامات شك في أنه واضعها، وطلب إليه أن يضع مثلها عن موضوعات عينت له فلم يستطع، وهذا صحيح، فبعض الكتاب يحسن أن يكتب فيما يختار، ولا يحسن أن يكتب فيما يُختار له. وبعض الكتاب على العكس، وبعض الكتاب يحسن أن يكتب فيما يختار وما يُختار له على السواء، وهذا أقدر، وهو تابع لاختلاف الاستعدادات والملكات. فالنوع الأول قدير في ناحية معينة لا يحسن غيرها، ولذلك لا يكتب إلا فيما يحسن، والبعض يحار بين الموضوعات ليكتب في هذا أم في ذلك؟ ويتردد كثيرًا في ماذا يكتب مع سعة قدرته. فإذا حدد له موضوع رحمه ذلك من تردده فكتب وأجاد، وبعضهم قدير على أي موضوع وليس عنده تردد، فهو يجيد الكتابة فيما يريد، وما يراد منه، وهذا ينطبق على أدبائنا في العصر الحاضر، فمنهم من يحسن المقال ولا يحسن القصة، ومنهم من يحسن القصة ولا يحسن المقال، ومنهم من يحسن الشعر ولا يحسن النثر والعكس وهكذا.
وكذلك الشأن في الملكات الأخرى، فمن الأدباء من لا يحسن الحديث ولكنه يحسن الكتابة، كالذي حكي عن البحتري أنه لم يكن يجيد الإلقاء، ويرجو آخر في أن يلقي له شعره، وكذلك كان في عصرنا المرحوم شوقي بك، يحسن الشعر أكثر مما يحسنه حافظ إبراهيم، ولكن حافظ إبراهيم كان يحسن الحديث أكثر من شوقي، وكان مجلسه ظريفًا يثير الضحك إلى أقصى حد، وربما كان نصف الإعجاب بشعره مرجعه إلى حسن إلقائه؛ فترى من تحس بإظلامه في الحديث إذا تحدث، وإشراقه في الكتابة أو الشعر إذا كتب أو شعر.
وقد اشترطنا فيما مضى للقصاص أن تكون عنده ملكة القص وهي ضرورية في القصص، حتى إن هذه الملكة تعادل جودة القصة نفسها، فقد يقص قاص قصة فتجعلك من حسن قصه وحركات وجهه وغرابة شكله تضحك ملء شدقيك، ويقص آخر قصة وليس لديه هذه الملكة وربما كانت القصة أجود من سابقتها، ولكنه يقرفك بقصها، والله يرزق من يشاء ما يشاء …
-
(٤٠)
نلاحظ أن العرب من أول أمرهم — والحق يقال — لم يتفننوا في أدبهم التفنن الواجب عليهم سواء من ناحية الكمية أو من ناحية الكيفية، وربما كان هذا أول مظهر لذلك الأدب بعد الإسلام، فقد كان الأدب الجاهلي غنيًّا واسعًا في ألفاظه وتراكيبه وموضوعاته، فلما جاء الإسلام لم نجد من التطور في الأدب ما كنا ننتظر، فالموضوعات هي الموضوعات من هجاء ومديح وغزل وفخر ونحو ذلك. والأساليب هي نفس الأساليب، بل نحن كنا ننتظر أن الفتوحات الإسلامية العظيمة وما رآه العرب في البلاد المفتوحة من أشياء لم يروها من قبل كالنيل في مصر، ودجلة والفرات في العرب، والمناظر الجديدة في خراسان وما وراء النهر أن تطلق ألسنتهم بالقول كما أطلقت الجاهليين في الصحاري ونباتها وحيوانها، فأين الغدير من النيل أو من دجلة والفرات؟ وأين غمدان من الأهرام؟ وأين وأين إلى آخر ما لا عداد له، ولكنه التقليد أبكم ألسنتهم. وربما التمسنا عذرًا للفاتحين لانشغالهم بالمسائل الحربية والسياسية ودهشة الفتح ونحو ذلك، فما بال غير المحاربين ممن سكنوا هذه الأقاليم.
واستمر الحال على هذا المنوال طوال تاريخ الأدب العربي، فالحروب الصليبية مثلًا لم تنل من القول حقها بل إن الشعراء الأوروبيين قالوا في الحروب الصليبية أكثر مما قال الصليبيون المسلمون، والذي قالوه لا يكفي لإشباع النفس.
ثم كان تحت نظرهم الأدب الهندي والصيني والفارسي واليوناني والروماني، وقد اطلعوا على هذه الآداب كلها وفيها من غير شك فنون من القول لا عهد للعرب بها كالأقاصيص الفارسية والتمثيلات اليونانية والخرافات الهندية ونحو ذلك، فلم لم يأخذوها ويحتذوها، بل وقفوا عند الأدب الجاهلي وحده يحتذونه.
هذا موضع من الغرابة يدل على قلة الابتكار في الأدب العربي وظلوا يعرضون عن ألف ليلة وليلة لا يستوحونها حتى استوحاها الأوربيون، وهذا مما جعل مؤرخ الأدب العربي لا يستطيع أن يفرق بين أدب عصر وأدب عصر آخر إلا بمنظار معظم.
والأوزان هي الأوزان من عهد أن خلق الجاهليون الستة عشر وزنًا إلى اليوم مع أن الأوزان ترتبط تمام الارتباط بالأذن الموسيقية، والأذن الموسيقية التي كانت ستحسن بعض الأغاني والأوزان الموسيقية استحسنت في عصرها الحديث أغاني أخرى حتى ربما اقتبستها من الأوزان الأوروبية.
بل نرى أن البيئات تختلف كما بين العراق والأندلس فيحذو الأندلسيون في أدبهم حذو الأدب العراقي ولا يزيدون فيه إلا أشياء طفيفة.
والموضوعات هي الموضوعات والشكل هو الشكل، ويؤلف أبو علي القالي وابن عبد ربه فينقلان لنا في كتبهما الأدب الشرقي.
هذا شيء يستوقف النظر ويحار المتفلسف في تعليل ذلك وما رموا به من العقم، حتى المحدثون الذين تعلموا اللغات الأوروبية غيروا تقليدًا بتقليد لا تقليدًا باجتهاد؛ فبدل أن كان الأولون يقلدون العصر الجاهلي أصبح هؤلاء يقلدون الأدب الأوروبي تقليدًا تامًّا، فهل يأتي عليهم زمن يتغلب عليهم الوعي الأدبي فيخلقون ويبتكرون ويستلهمون بيئاتهم ويستوحون نفوسهم ويحوزون كل الفنون الأدبية في الأمم المختلفة ثم يخلقون ما يناسب أنفسهم؟
ذلك هو المأمول لأنه يتفق وطبيعة الأشياء.
إن هذا الشأن الذي اعتراهم في الأدب هو الشأن الذي اعتراهم في الفقه والعلم والفلسفة، فلم يقفل باب الاجتهاد في الفقه وحده، ولعله قبل ذلك أقفل أيضًا باب الأدب والبلوى تعم، فإذا انكشفت هذه الغمة وفتحت أبواب الاجتهاد في علم أو فقه رأيت الأبواب الأخرى قد فتحت بإذن الله.
-
(٤١)
من أحسن ما قال المرزوقي في مقدمته على شرح ديوان الحماسة:
«إن العرب كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته والإصابة في الوصف. ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت الأمثال، وشوارد الأبيات.
وعيار اللفظ الطبع والرواية والاستعمال: كما سلم مما يهجنه عند العرض عليها، فهو المختار المستقيم. وهذا في مفرداته وجماله مراعى، لأن اللفظة قد تستكرم بانفرادها، فإذا ضامها ما لا يوافقها عادت الجملة هجينة.
وعيار المعنى أن يعرض على العقل الصحيح والفهم الثاقب: فإذا انعطف عليه جنبنا القبول والاصطفاء، مستأنسًا بقرائنه، خرج وافيًا، وإلا انتقص بمقدار شوبه ووحشته.
وعيار الإصابة في الوصف، الذكاء وحسن التمييز. فما وجداه صادقًا فذاك سيماء الإصابة فيه. ويروى عن عمر — رضي الله عنه — أنه قال في زهير: «كان لا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال» فإذا أضيف إلى ذلك المقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائهما للقافية. حتى لا تكون منافرة بينهما فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر».
-
(٤٢)
مما يدل على اتصال الشعر بالغناء قول حسان:
تغن في كل شعر أنت قائلهإن الغناء لهذا الشعر مضمارعنى بذلك أن الغناء وسيلة لتحسين الشعر واختباره، فإذا أردت أن تمتحن شعرًا أجيد أم رديء فغنه، فما لان للغناء ووقع توقيعًا حسنًا فشعر حسن، وإلا فرديء.
وكان حافظ إبراهيم — رحمه الله — يتغنى بشعره، فإذا غناه عرف إن كانت اللفظة قلقة أو وضعت موضعها، كما عرف إن كانت اللفظة جيدة أو غيرها خير منها.
ويرون أن النابغة أقوى مرة فخاف الحاضرون منه إن هم نبهوه على الإقواء، فاستدعوا جارية تغني أبياته ليعرف من غنائها أنه وقع في عيب الإقواء. فالغناء معيار الشعر ومحكمه ليعرف منه جيده من رديئه.
-
(٤٣)
يقول قوم إن المسئول الأول عن تدهور أخلاق العرب تدهور الشعر العربي، فهو أدب معدة لا أدب روح، أكثره في مديح على إعطاء أو إرضاء عاطفة بانغماس في اللذائذ، وأدب المقامات نفسها أدب استجداء، لنيل شيء قليل من الماء. أما أدب السمو والدعوة إلى البطولة والإعجاب بها والتغني بالنبل والشجاعة، فقليل نادر، مع العلم بأن للشعر تأثيرًا كبيرًا في الأشخاص، فقد رووا لنا أن عبد الملك أراد مرة أن يستمتع بنسائه الجميلات فاستحضر بيتًا من الشعر، فنفر عنهن وخرج إلى الحرب وكذلك فعل مصعب بن الزبير وأبو جعفر المنصور.
وهو قول مبالغ فيه، فهذه الأبيات التي تمثلها هؤلاء ودفعتهم إلى الشجاعة لا تزال باقية، وقد أضيف عليها أمثلة كثيرة من شعر المتنبي وأبي فراس وغيرهما من الشعراء. نعم، إن كثيرًا من الشعر العربي، مع الأسف، قيل في مديح أو هجاء أو في تلذذ بالخمر والنساء، مما أضعف هم الناشئين، ولكن؛ ليس ذلك كل الشعر العربي. وربما عالج الشعراء المحدثون هذا العيب بإفاضتهم في القول بسامي المعاني، والتمدح بنبيل الصفات.
وقد سمعنا في هذه الأيام العصيبة أحاديث في الإذاعة وأغاني وطنية تشهد بهذا التطور العجيب. وكل هذا وذاك يدل على ما للأدب من ظل على الحياة الاجتماعية.
-
(٤٤)
يعجبني قول التبريزي في شرحه لقصيدة تأبط شرًّا المشهورة التي مطلعها:
إن بالشعب الذي دون سلعلقتيلا دمه ما يطلعند قوله:
جل حتى دق فيه الأجلإلخ … … … …أنه رجح أن القصيدة ليست لتأبط شرًّا، لأن قوله جل حتى دق فيه الأجل، لا يمكن أن يصدر من أعرابي بدوي كتأبط شرًّا، ووجه الإعجاب بهذا النقد أنه نقد من القليل النادر الذي يؤمن بأن الأدب ظل للبيئة، فإذا كانت البيئة بسيطة ساذجة لم يصدر من أصحابها إلا البسيط الساذج، وإذا كانت معقدة لم يصدر من أصحابها إلا المعقد المركب، فالبدوي الأعرابي لا يستطيع أن يقع على معنى جل حتى دق فيه الأجل، لأنه معنى دقيق لا يمكن أن يصدر عن البدو.
ومما يعجبني أيضًا في هذه القصيدة نقد ناقد آخر بأن هذا لا يمكن أن يكون لتأبط شرًّا، لأن سلعًا التي وردت في شعره من نواحي المدينة، وتأبط شرًّا من نواحي هذيل، وأين مسكن هذيل من سلع؟ فهو نقد من نوع آخر، وهو مبني على معرفة مواقع البلدان. وكما يعجبني كثير من نقود ابن خلكان وإن كانت من الناحية التاريخية لا الأدبية، فإنه كثيرًا ما يكذب الحادثة لأن تاريخها لا يوافق تاريخ من حكيت عنه، أو لأن الحادثة روت اجتماع جماعة لا يمكن في عرف التاريخ أن يجتمعوا معًا، وهذا كثير فيه، وفضيلة من فضائله، أما ابن خلدون فله نقد بديع من نوع آخر وهو أن الحوادث ليست من طبيعة الأشياء، فإن للأشياء طبيعة تقتضي السير في طريق خاص، فإذا انحرفت يمنة ويسرة كان ذلك على خلاف طبيعتها، فدل انحرافها على أنها لم تحدث، وإنما اختلقها بعض المؤرخين لا اعتمادًا على الحقيقة والتاريخ، ولكن خلقها خيالها.
وكل هذه نقود جيدة، سواء في الأدب أو الجغرافيا أو التاريخ، وهذا يفتح نظرنا لنقد قيم حين نريد أن نمتحن صدق ما حُكي عن النص، وما نسب إلى شاعر أو ناثر، فإن تحقيق التاريخ وتحقيق الوقائع يدلنا على أن النص لفلان أو ليس له. وربما كان أول من التفت إلى هذا ابن سلام في كتاب طبقات الشعراء، فكثيرًا ما يتبين له من دراسة بيئة الشاعر وحالته أن القصيدة المنسوبة إليه من وضع الوضاع.
-
(٤٥)
ينسب الجاحظ لبشر بن المعتمر صحيفة في البلاغة والنقد تعد في نظرنا من أقوم ما كتب فيهما، وربما كان كل ما كتب المسلمون في النقد والبلاغة مؤسسًا عليها، وبشر بن المعتمر هذا كان معتزليًّا، فإذا قلنا: إنه بفضل بشر هذا المعتزلي وفضل الجاحظ المعتزلي أيضًا تأسست البلاغة والنقد لم نَبعُد عن الصواب، وقد كان بشر هذا نخاسًا يعذب الإماء والعبيد، ويتخيرهم ويعلم مقدار كل منهم: فلعل هذا مكنه من إملاء هذه الصحيفة وهي:
«خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ. وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف، ومعنى بديع. واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولًا قصدًا، وخفيفًا على اللسان سهلًا. وكما خرج من ينبوعه، ونجم من معدته. وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالًا منك، قبل أن تلتمس إظهارهما، وتوِّقهن نفسك بملابستهما، وقضاء حقهما، فكن في ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت. والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضح بأن يكون من معاني العامة. وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال. وكذلك اللفظ العامي والخاصي، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك. إلى أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام، فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى قرارها، وإلى حقها من الأماكن المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها، وفي نصابها، ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور. لم يَعِبْكَ بترك ذلك أحد؛ فإن أنت تكلفتهما ولم تكن حاذقًا مطبوعًا، ولا محكمًا لسانك، بصيرًا بما عليك وما لك، عابك من أنت أقل عيبًا منه؛ ورأى من هو دونك أنه فوقك، فإن ابتليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعاصى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك وسواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة. إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق، فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث عرض، أو من غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفّها عليك، فإنك لم تشته ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى مشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات، لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود مع الشهوة والمحبة، فهذا هذا. وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلمًا، تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام، واصفًا أو مجيبًا أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذا كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحن، وبها أشرف، ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من أكثر البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، وصاروا في ذلك خلفًا لكل سلف، وقدوة لكل تابع».
فأنت إن تأملت هذه الصحيفة وتأملت الكتب التي ألفت بعدها في البلاغة كالصناعتين لأبي الهلال العسكري وكتب عبد القاهر الجرجاني وأمثالها، وجدتها تقريبًا ليست إلا شرحًا لهذه الصحيفة أو تعليقًا عليها والله أعلم.
-
(٤٦)
يقسم النقاد العرب الأدباء وخصوصًا الشعراء إلى مطبوعين ومصنوعين فيقولون: شاعر مطبوع، وشاعر ليس بمطبوع، ويعنون بالشاعر المطبوع من جاءه الشعر على الفطرة والطبيعة من غير تكلف ولا تصنع، وبغيره من تعمل الشعر تعملًا، وتكلفه تكلفًا. ويمثلون للشعر المطبوع بامرئ القيس، وبشار. ويمثلون لغير المطبوع بأبي تمام. والتصنع لا يمنع أن يأتي الشعر أولًا على السليقة ثم يأخذ الشاعر في تجميله، وهو تقسيم صحيح ظاهر. وهو ينطبق على الفن كله من شعر ونثر وموسيقى وتصوير، فهناك بعض الفنانين لديهم ملكة فطرية تنمو بالتمرين لا يعرفون كيف أنت، ولا كيف تعالج الفن. ولو سألت الشاعر منهم مثلًا كيف يشعر لما عرف أن يجيبك، غاية الأمر أنه يحس إحساسًا غامضًا بحاجته إلى الشعر، ثم يتدفق منه الشعر.
وكان الشعراء الأولون لسذاجتهم وغموض هذا المعنى عندهم يسمون هذا المعنى «شيطانًا» فيزعم كل شاعر أن له شيطانًا يمده بالشعر. وإذا لم يأته الشعر لسبب من الأسباب قال: إن الشيطان لا يواتيني، والحق أن الشعراء المطبوعين عندهم ملكة غامضة لا يرتاحون إلا إذا طاوعوها، وشعروا، كالذي حكي عن شاب ألماني عرض ديوان شعره على أستاذ ألماني أيضًا ورجاه أن يقرأه، ويقول له: إن كان سيكون منه شاعر جيد أولًا، فرده إليه الأستاذ من غير أن يقرأه، وقال: «إن كنت تستطيع أن لا تشعر وتستطيع أن تهدأ إذا شئت، لم يكن منك شاعر. وإن كنت لا تستطيع أن تسكت ولا تهدأ ثورتك حتى تشعر، كان منك شاعر».
وهو قول حق يدل على أن الشاعر المطبوع مشبوب العاطفة لا يستريح حتى يخرجها في شعره. غاية الأمر أن هذا لا يمنعه من إحلال لفظ محل لفظ، ومعنى محل معنى للذوق. ويصح أن نسمي هذه الملكة إلهامًا أو لقانة أو اسمًا من هذه الأسماء تولد مع الناشئ حتى يبلغ السن المناسب فيكون منه شاعر مطبوع، أما من أخذ يغوص الأعماق حتى يستخرج معنى أو يسبح في السماء أو يعمل خياله إعمالًا شاقًّا حتى يتأتى له ما يريد فليس بذي شيطان، وبعبارة أخرى ليس بذي إلهام. وهذا الإلهام غير العقل، فالعقل يحتاج إلى مقدمات على شروط خاصة تنتج منها النتائج، ولهذا قال البحتري:
كلفتمونا حدود منطقكموالشعر يغني عن صدقه كذبهأما هذا الإلهام فلا منطق له ولا مقدمات ولا نتائج له، إنما هو وحي يوحي استعد له بعض الأشخاص بالفطرة، ولا يمكننا في دقة أن نحكم من أين أتى هذا الإلهام وهل هذا الشخص ملهم أو لا ابتداء، كما لا يمكننا الحكم بأن هذا المغني أو المغنية لم كان أو لم كانت صوتها حسنًا من بين الملايين المخلوقة كخلقتها وفي بيئتها ومثل ظروفها؟ والشعراء المطبوعون يختلفون في مقدار جودة طبعهم، كما يختلف الشعراء المصنوعون في اختلاف صنعتهم.
-
(٤٧)
شاع بين العرب أن الشعر يحلو بمقدار ما يكون فيه من كذب، وهذا نظر خاطئ، ربما بنوه على أن الشعراء يمدحون فيغالون في المديح، أو يكذبون فيغالون في الكذب، فترى مثلًا أن الشاعر إذا أعطى شيئًا ولو قليلًا جعل الممدوح غيثًا، وإذا منع عنه العطاء لسبب من الأسباب جعله جدبًا أو نحو ذلك. وقد يكون غير الممدوح أكبر قيمة في الواقع من الممدوح؛ ولذلك نرى أن الشعر لا يقاس كما يقولون بمقدار كذبه، وليس بصحيح أيضًا ما يقولون: «إن أعذب الشعر أكذبه» فعذوبة الصدق في كل فن خير من عذوبة الكذب …