الكتاب الثالث: أواخر القرن التاسع عشر
خلفاء سنت بيف
وإنما أسمينا هؤلاء النقاد الفرنسيين الذين تلوا سنت بيف خلفاء له — مع أن هذه التسمية ليست صحيحة على إطلاقها — باعتبار ذلك التأثير العظيم الذي تركه سنت بيف على النقد الفرنسي، فلقد كانت الأحاديث منبعًا لتيار نقدي هادئ لين، ولكنه قوي فياض، وكان تين أكبر شخصية نقدية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا، والحق أن تين ليس إلا سنت بيف زائدًا طريقة أكثر تحديدًا وانضباطًا.
تين Taine
كان سنت بيف يبذل أكبر عنايته في نقده إلى شخصيات الأدباء والشعراء أنفسهم، فهو يرى أن أعمالهم ليست إلا قطعًا من نفوسهم وأخلاقهم، فدراسة هذه النفسيات تعيننا على فهم أعمال الأدباء وتقديرهم ونقدهم. جاء تين فعني أيضًا بشخصيات الشعراء، فهو قد بدأ نظريته مع سنت بيف، ولكنه اتجه اتجاهًا آخر مختلفًا كل الاختلاف بحيث انتهى إلى نتيجة متباينة تمامًا مع فكرة سنت بيف. فهو لا يقتصر على دراسة شخصية الأديب، بل يرى أن هذه الشخصية لم توجد بنفسها، وإنما خلقتها مؤثرات اضطرارية صبتها في القالب الذي هي عليه، هذه المؤثرات هي الجنس، والزمان، والمكان، فدراسة هذه الشخصية ليست إلا دراسة هذه العوامل التي كونتها وخلقتها؛ فأما الجنس فهو تلك الصفات والمقومات النفسية التي ورثها الشخص من شعبه، وأما المكان فهو البيئة الجغرافية التي تحيط بالفرد من أرض مزروعة أو صحراوية في مناخ حار أو بارد إلخ … وأما الزمان فهو ما يحيط بالإنسان من أحداث السياسة وأحوال العمران وأطوار المجتمع، كل هذه المؤثرات الجنسية والزمانية والمكانية تتعاون على خلق شخصية الأديب والشاعر فتفرغها في قالب معين، ثم تنتج هذه الشخصية أعمالها الأدبية، فدراسة هذه الأعمال لا تتحقق إلا بدراسة هذه الشخصية ودراسة هذه الشخصية ليست إلا دراسة العوامل الموروثة والمحيطة التي اجتمعت على تكوين الفرد، ثم اختار تين الأدب الإنجليزي موضوعًا لتطبيق نظريته، فألف كتابه الشهير عن تاريخ الأدب الإنجليزي، وفيه يدرس الجنس الإنجليزي ويكون لنفسه فكرة عنه، ثم يدرس في كل أديب وشاعر الظروف الزمانية والمكانية التي أحاطت به ليثبت أن هذا الأديب ليس إلا هذه المؤثرات ممثلة في شخص.
كان تين ناقدًا، ولكنه سلك في نقده طريقة خاطئة، كان دارسًا جماليًّا كبيرًا، وكان مؤرخًا أدبيًّا موهوبًا، ومعنى ذلك أنه كانت به المؤهلات لأن يكون ناقدًا كبيرًا، فكان يستطيع أن يحكم الحكم العادل على من ينقده، ولكنه لم يسلك سبيل النقد الأدبي الخالص.
لم يكن لدى تين الموهبة الأدبية الصافية، فلم يكن يستطيع أن يتفهم الجليل والرائع في الأدب، ولم يكن يستطيع أن يفهم أن سر الأدب إنما يختبئ في الكلمات المتلألئة المضيئة، أو هو كانت لديه نواة هذا الفهم، ولكنه لم ينمها ولم يفسح لها المجال للظهور بما اتبع من نظرية صارمة في نقده.
فتين هو أكبر مثال للأضرار التي يؤدي إليها ما يسمى بالفلسفة في النقد، ولو أن تين قاوم ميله هذا وأعد نفسه لأن يتلقى الحقائق في بساطة ثم يقارن بينها، إذن لربما كان أحد أعاظم النقاد في العالم.
ثم أي مجال اختاره تين ليطبق نظريته؟ الأدب الإنجليزي، ولو أن تين كان حكيمًا واختار أدبه القومي الفرنسي لكانت النتيجة أقل سوءًا، فقد كان يساعده على عمله أنه كان يستطيع أن يقدر ويحكم تقديرًا مباشرًا، كان لا بد بالطبع أن يكون في عمله أخطاء ونقائص وشذوذات، ولكنه كان يكوّن تاريخًا قيمًا نفيسًا للأدب الفرنسي.
وأما كيتس، وهو حقًّا شخصية عظيمة، فإن كلام تين عنه فاسد باطل، وأما عن شلي، فكلامه سخيف مضحك، وهو لا يزيد على الإشارة إلى بروننج وأغلب أعماله الجيدة كان قد صدر حين كتب تين تاريخه.
وأحيانًا يتساءل الإنسان حين يقرأ ما كتبه تين عن أديب: أفرأى تين هذا الأدب حقًّا؟ وفي كل الأحوال يؤدي إهماله للشخصيات الصغيرة إلى أن تكون كتاباته عن الشخصيات الكبيرة خاطئة ناقصة.
أما أن تين قد ابتدأ مع سنت بيف فهذا ما لا شك فيه، ولكنه ينتهي إلى نقطة معارضة كل المعارضة لفكرة سنت بيف، فهو يتكلم عما لم يره.
بين كولردج وآرنولد أو النقد الإنجليزي بين ١٨٣٠–١٨٦٠
ماكولي Macaulay
وأهم ما يلاحظ في حياة ماكولي ذلك الرواج العظيم الذي لقيه من أغلب طبقات الجمهور، حتى قيل إن مقالاته الأدبية الخالصة كان يقرؤها عدد كبير ممن لا يفكر عادة في النقد، ويرجع ذلك إلى أنه اجتمعت له صفات: منها ما يتصل بالكفايات العظيمة التي توفرت له ومنها أسباب أخرى لا تتصل بكفاية أو موهبة، فقد كانت لديه مقدرة عجيبة على أن يجعل كل ما يلمسه شائقًا ممتعًا، فمهما كان موضوع كتابته، فإن كلامه يفيض بالحيوية واللذة، وندر أن يكتب صفحة مملة بليدة، وكان في قدرته على قص القصص واسع الخيال، حي التصوير، متعدد الصور، وكان ماكولي من خير المعبرين عن الروح الإنجليزية والنفسية الإنجليزية فلقيت كتاباته رواجًا لدى الرجل العادي لأنه يحسن التعبير عن مشاعره وإحساساته دون أن يصادمها أو يتحداها، وكان ماكولي رجلًا عمليًّا واقعيًّا يواجه الحياة كما هي ويعترف بها، ويكره الأوهام والمبهمات، ويوافق النزعة الواقعية التي سادت إنجلترا في عصره، بينما كان كاريل ورسكن يحملان عليها ويناديان بالويل والثبور ويتخذان موقف المتحسر على الأخلاق والعوالم المثالية، فكانا بذلك يصادمان اطمئنان الإنجليزي إلى هذه الحياة الجديدة العملية، ولذلك وجد الإنجليزي في ماكولي متنفسًا أوسع مما وجد في معاصريه، ثم إن ذيوع كتابات ماكولي في عصره ترجع أيضًا إلى سطحيته فهو ضحل سطحي في كتاباته عن التاريخ والشخصيات فكان أقرب إلى الفهم العام، ثم أسلوبه؛ فقد كان أسلوبه خلابًا فياضًا بالحيوية والإمتاع والفكاهة. لم يكن ماكولي مفكرًا كبيرًا، ولم يكن ناقدًا أدبيًّا كبيرًا، ولم يكن كبيرًا في التاريخ أو السير، وكان كثيرًا ما ينساق إلى المبالغة بحبه للتأكيدات الجازمة وللمبالغة الشديدة البعد عن المعقول، ولكنه كان رغم ذلك ممتازًا، وإليه أكثر من غيره يرجع الفضل في ذيوع ذوق للأدب بمقالاته، بينما يظل كتابه التاريخي عن تاريخ إنجلترا منذ جلوس جيمس الثاني أمتع الكتب التاريخية في اللغة الإنجليزية.
بل إن في هذه المقالات الأولى نفسها البذور التي إن وجدت المجال للشعر حالت دون صاحبها وأن يكون ناقدًا ممتازًا، فأولها ميله المشهور إلى المبالغة، فماكولي يحب كل الحب هذه الجمل الجازمة الحاسمة، ويحب أن يستعمل أفعل التفضيل لدرجة خطرة تضاد موقف الناقد كل المضادة، وحتى تفضيلاته الصادقة المعقولة القائمة على أساس من الصحة والبرهان تفقد كثيرًا بأسلوبها الجارف المبالغ الجازم، ثم هي تفقد كثيرًا أيضًا بعادته الخاطئة في أن يظهر اللون الأبيض شديد النصاعة بأن يحيطه بالسواد الحالك (أعني أنه لكي يظهر أن من ينقده أعظم الناس في فنه يهوي بكل مشاركيه في هذا الفن إلى الحضيض متناسيًا كل ما لهم من ميزات). فهذا المديح الذي يصبه صبًّا على دانتي لا يبدو له كافيًا إلا إذا اقترن بانتقاص بترارك والتقليل من شأنه بغير حق، بينما يدفع بتاسو ومارينو وجواريني وماتاستاسيو إلى زاوية الخمول والاحتقار. (وهم من كبار كتاب الطليان في عصر النهضة).
ثم لعبت بماكولي حزازاته السياسية فأفسدت حكمه في بعض الأحيان، ولكن ليس هذا بالشيء الخطير، فإنه وإن كان في ذاته خطرًا على النقد الصحيح إلا أنه قد كبر بين النقاد حتى صار شيئًا عاديًّا، وإنما الخطر الأكبر الذي سيقضي على البذرة النقدية الجيدة في ماكولي هو ما نشاهده حتى في مقالاته الأدبية الخالصة التي نلمح فيها دائمًا تفصيلًا للكلام عن الموضوعات التي لا تتصل بالأدب الخالص، فهو لا يحب الأدب للأدب، وإنما هو يعالجه مفضلًا ما يتعلق بمسائل التاريخ، والسياسة، والعادات، والقصص.
ثم يجيء ما يكشف عن ميول ماكولي الحقيقية كشفًا تامًّا، وهو اعترافه الخطير إلى رئيس تحرير مجلة إدنبره إذ ذاك:
إنك تعرف أنني لا أحب التواضع، ولذلك ستصدقني حينما أخبرك في إخلاص وصدق أنني لست أنجح في تحليل الأثر الذي تتركه أعمال العباقرة، لقد كتبت أشياء عدة عن مسائل تاريخية وسياسية وأخلاقية أشعر بأنها تجعلني جديرًا بالتقدير، ولكني لم أكتب قط صفحة ذات قيمة عن نقد الشعر أو الفنون الجميلة؛ بحيث أفلح بصعوبة في ثني نفسي عن إحراقها لو استطعت إلى إحراقها سبيلًا، كان هازلت يقول دائمًا عن نفسه: لست بشيء إن لم أكن ناقدًا، أما أنا فإنني أقول العكس تمامًا. إن لي استلذاذًا قويًّا حادًّا لأعمال الخيال، ولكني لم أعود نفسي قط على تحليلها. ثق بمعرفتي بنفسي، أنا لم أكن في أي فترة في حياتي متأكدًا من شيء كما أنا متأكد مما أقول لك الآن.
والحق أن هذا الحكم الشخصي من رجل مثل ماكولي في سن الثامنة والثلاثين بعد خمسة عشر عامًا في الممارسة الأدبية المنتظمة هو كلام نهائي، ولكنه يؤكد لي شيئًا كنت قد كونته لنفسي قبل ذلك.
ومهما يكن من أمر فماكولي ناقد، وهو كان في أيامه ناقدًا كبيرًا، وهو لا يزال ناقدًا لا بأس به، ولكننا لا نعده من كبار النقاد نظرًا لمبدئنا من تفضيل النقد الأدبي الخالص.
كارليل Cariyle
ولكارليل أسلوب فريد في اللغة الإنجليزية بكثرة مفرداته وبجمله المبنية بناء غريبًا وبما يتخلله من قطع، واعتراض، والتفات فجائي، وعلامات التعجب والاستفهام والشولات، وهو خير معبر عن نفسية كارليل وخير مصداق على المثل المشهور: إن الأسلوب هو الرجل.
وكان كارليل يتكلم باحتقار عن الفن كفن، ولم يكن يصبر على الناحية الأدبية الخالصة من الأدب، ولكنه كان رغم ذلك من كبار الأدباء الفنانين في الأدب الإنجليزي، فهو لا يجارى في تملكه وسيطرته على العبارة الأنيقة المليئة بالحيوية. وكان يستخدم السخرية والتهكم استخدامًا جيدًا فعالًا، فبينما هو يكاد يرتفع إلى مصاف الأنبياء والشعراء من نزعته الروحانية المتأججة وخياله الرقيق إذا به لا يقل عبقرية في الفكاهة والتندر والسخرية.
إن الصفة العامة التي يتصف بها نقد ماكولي من بعده عن الروح الأدبية الخالصة وعدم جنوحه إلى التحدث عن الفن كفن نجدها أيضًا في نقد معاصره وخصمه ومصححه كارليل، حقًّا إن هناك اختلافات كبيرة بين هذين الكاتبين الكبيرين المتعاصرين في نزعتهما ومشاربهما ونفسياتهما ولكنهما يتفقان في تغلب النزعة الفلسفية عليهما.
وقد يبدو غريبًا لأولئك الذين يعدون كارليل أكبر مشجع ونافخ في ملكاتهم الذهنية والثقافية ويجعلونه من أعظم العظماء في الأدب كله، قد يبدو غريبًا لهم أن نتساءل هنا عن مكانة كارليل كناقد.
ولكنه يأخذ يبتعد عن الناحية الأدبية ابتعادًا تدريجيًّا، فيفقد شيئًا فشيئًا نزعته الأدبية الخالصة حتى يستحيل آخر الأمر إلى عدو صريح لما يسمى الأدب الخالص أو الفن كفن.
يترك كارليل فيما ينقده الجانب الأدبي المحض ويهتم بأشياء أخرى، ويبدو هذا في كل المقالات التي تتلو المقالات الأولى.
ولنأخذ منها مثالًا، مقالته عن ديدرو، فبرغم أن ديدرو كان أديبًا خالصًا كأخلص ما كان عليه أديب في التاريخ فإن كارليل لا يتكلم عن ناحيته الأدبية، فهو لا يتكلم عن ديدرو الأديب، إنما هو يتحدث عن ديدرو الرجل وعن صلته وعلاقته بالعقلية الفرنسية والمجتمع الفرنسي، ثم هو في مقالاته الأخيرة قد يختار موضوعات لا صلة لها بالأدب كحديث عن ميرابو الذي لم يؤلف كتابًا قط.
ثم يستمر كارليل على هذا الموقف الذي اتخذه فلا يتبدل عنه بحال في أي كتاب أو مقال أو عمل قام به بعد ذلك في سنيه الأخيرة.
فرجل يتكلم هكذا، ويفكر هكذا، لا بد أن يفقد كل ما كان لديه من مقدرة على تحليل الأدب الخالص، بل أن يفقد القدرة على مجرد التذوق، تذوق النواحي الفنية في الأدب والفنون، إلا أنه يجب ألا نأسف على ذلك، فإن كارليل قد أتى بأشياء أخرى لم يكن ليستطيع أن يأتي بها أي ناقد أدبي خالص.
ولكن من وجهة نظر تاريخ النقد الأدبي فإن كارليل، شأنه في ذلك شأن ماكولي، يبين أن النقد الإنجليزي في الفترة من ١٨٣٠ إلى ١٨٦٠ هبط من المرتبة العليا التي كان يمكنه بلا شك أن يظل محتفظًا بها.
ماتيو آرنولد Matthew Arnold
آرنولد أحد كبار الكتاب الإنجليز في العصر الفكتوري أو عصر تنيسون وكان آرنولد إلى جانب النثر والنقد شاعرًا، وقد يعده البعض ثالث شعراء هذا العصر إذ لا جدال في أن أعظم شعرائه تنيسون وبروتنج، وآرنولد على كل حال لم يشتهر بشعره قدر ما اشتهر بكتابته النثرية. ولد ماتيو آرنولد في ١٨٢٢ وكان طالبًا ممتازًا في أكسفورد، ثم اشتغل زمنًا سكرتيرًا لأحد اللوردات، ثم صار من ١٨٥٥ إلى ما قبل وفاته بسنتين مفتشًا فنيًّا للمدارس، وأسند إليه مع ذلك كرسي الشعر في جامعة أكسفورد من١٨٥٧ إلى ١٨٦٧ وفي سنتي ٨٣، ٨٦ قام برحلات في أمريكا كان يلقي فيها محاضرات ثم توفي في ١٨٨٨.
-
(1)
Essays on Criticism. two series 1888, 1865.
-
(2)
Lectures on Translating Homée. 61,62.
-
(3)
Mixed Essays 1879.
ويتميز نثر آرنولد بوضوحه وصفائه وبرشاقته وجاذبيته، ولكنه كثيرًا ما تشوهه الصنعة الأسلوبية والتكرار، ورغمًا من أنه يكثر من اللغة العامية فإنه دائمًا يحتفظ بنقائه وتهذيبه ولطفه، وهو إلى جانب ذلك يستعمل المداعبة والمزاح والتهكم استعمالًا فعالًا، وكانت لدى آرنولد مقدرة خارقة للعادة في أن يركز أفكاره وآراءه في عبارة خالدة رائعة.
والخلاصة أن آرنولد كان من أكبر كتاب عصره ومن أشدهم تأثيرًا في الحياة الإنجليزية، ورغمًا من أنه كان يختلف عن كارليل ورسكن في الخلق والطبع فإنه واصل في طريقته الخاصة حملاته ضد النزعة المادية التي انتشرت في إنجلترا في العصر الفكتوري.
حين نصل في تاريخنا النقدي إلى ماتيو آرنولد فإننا نصل مرة أخرى — ولكنها المرة الأخيرة — إلى أحد أعاظم النقاد، أنا ناقد أخالف خطرات آرنولد النقدية، أخالفها أشد المخالفة، وقد أعارض أحكامه الذاتية، ولكنني حينما أرجع ببصري إلى تاريخ النقد الأدبي في الفترة التي تبدأ من سنة ولادته (١٨٢٢) والتي تقارب قرنًا فإني لا أستطيع أن أجد ناقدًا قد ولد في هذه الفترة يمكن أن يسمو على آرنولد بل أن يقارن به في الميزة النقدية العامة وفي المقدرة النقدية، وإذا عممنا النظرة حتى شملت منذ عهد أرسطو حتى مولد آرنولد فإننا قد نجد نقادًا أعظم منه، أعظم منه في الابتكار وفي الإخلاص وربما في روعة الخطرات النقدية الذاتية، ولكننا رغم ذلك نجد أن آرنولد من صف هؤلاء النقاد العظام ومن طبقتهم لا يهبط عن مستواهم العام.
نجد هؤلاء النقاد الأعاظم في تاريخ النقد صنفين: أما أحدهما فهم النقاد الذين صرحوا في فترة ما من فترات حياتهم بنوع من الاعتراف أو التقرير عن عقيدتهم الأساسية في النقد، بحيث لا تعدو أعمالهم النقدية الأخرى عن أن تكون تطبيقًا وممارسة لهذه العقيدة وتوسعًا وبسطًا لها. وأما الصنف الثاني فهم النقاد الذين لم يصنعوا ذلك قط وإنما دأبوا على بناء صرحهم النقدي مضيفين جناحًا إلى جناح وغرفة إلى غرفة وهادمين في أحيان ليست بقليلة ما سبق أن بنوه مبكرًا.
أما آرنولد فينتمي إلى الصنف الأول في عقيدته النقدية وفي ممارسته معًا، وقد صرح آرنولد بتقريره عن عقيدته النقدية في زمن مبكر جدًّا وهو لا يزيد عن سن الثلاثين إلا قليلًا، وإنما كان سن الثلاثين مبكرًا لأن آلهة النقد قد رفضت دائمًا أن تخلق ناقدًا جيدًا قبل سن الثلاثين.
نجد هذا التصريح في المقدمة التي كتبها آرنولد لما انتخبه في ١٨٥٣ من دواوينه الشعرية الأولى وأضاف إليه كثيرًا ثم طبع المجموعة في أكتوبر ١٨٥٣.
وإني لأشك في أن يكون آرنولد قد كتب في كل حياته ما هو خير من هذه المقدمة سواء في المعنى أو في الأسلوب. في هذه المقدمة تبدو نقائص آرنولد واضحة، ولكن مع ذلك تبدو ميزاته النقدية فمنها ما لا يزال بذورًا ومنها ما يبدو ثمارًا ناضجة.
هذه العقيدة التي جهر بها آرنولد في المقدمة في ١٨٥٣ استمر متمسكًا بها في كتبه النقدية التالية، وأهم هذه الكتب:
-
(١)
On Translating Homer.
-
(٢)
The Study of Celtic Literature.
وفيهما يجمع محاضراته في أكسفورد حين كان كرسي الشعر بها مسندًا إليه.
-
(٣)
ثم كتابه المشهور Essays on Criticism.
في هذه الكتب نجد عقيدة آرنولد وقد نمت وتنوعت ووضحت بعدد عظيم من المقالات النقدية الممتعة الكثيرة التنوع، إلا أن آرنولد يظل مع كل ذلك متمسكًا بنظريته أشد التمسك، لا يتطرق إليه أي تقهقر عن فكرته أو تغيير فيها أو تشكك في صوابها.
ونلاحظ في المنهج النقدي الذي يتبعه آرنولد أنه يتجنب التاريخ والطريقة التاريخية في النقد، فآرنولد لا يحب هذا النوع من النقد الذي يتناول التاريخ والسيرة، ويغالي في هذا التجنب مغالاة كثيرًا ما تعود على نقده بالضرر الكبير.
وكذلك كان آرنولد محقًّا حين قال: إن النقاد الإنجليز لا يشغلون أذهانهم بالقدر الكافي، وإن العقلية الإنجليزية تبدو غير مثقفة ولا متجددة إذ ترفض قبول المبادئ النقدية الصحيحة.
وإن كثيرًا مما يحتويه هذا الكتاب لصحيح صائب جيد، ولم يناد آرنولد قط بنظرية صادقة خالدة صحيحة لكل العصور ولكل الأجناس كما نادى بألا نهمل النقد أبدًا، وكما دعا إلى أن نقارن الآداب للأمم المختلفة، والآداب للأزمنة المتغايرة.
في هذه المقالات يحبونا آرنولد بمقدار فائق عظيم من المهارة النقدية ومن الإشراق والإبداع ومن الخلق والإنشاء، ولست أجد مجلدًا واحدًا آخر في النقد يفوق هذا الكتاب في نصاعة نقده، ولا يهم أن نوافق أو لا نوافق على أحكامه ولا يهم أنه أخطأ حين بالغ في الانتقاص من قيمة الأدب الإنجليزي من ١٧٩٨–١٨٣٤ كل ذلك ليس بذي بال، إنما المهم هو أن آرنولد في هذا الكتاب يمتعنا بالنقد الجيد الممتاز الملهم، الرائع المتنوع، المقارن المتذوق، وهو في نفس الوقت نماذج صادقة من الأدب الإنشائي.
ونعود مرة أخرى إلى نظرية آرنولد الأساسية في أهمية الموضوع وفي ضرورة العناية بانتخابه وتخيره. نعود إليها لنلاحظ أنها لم تكن سوى رد فعل لما استرسلت فيه الرومانتيكية من غض من شأن الموضوع وادعاء أن كل شيء إنما يتوقف على إتقان المعالجة والممارسة وأن لا شيء مطلقًا يعتمد الموضوع، وقد رأينا مغالاة فكتور هوجو في هذا الرأي وعرفنا خطأه في مغالاته، فالآن جاء آرنولد برد الفعل وقام يحد من مبالغة الرومانتيكية وينادي بما للموضوع من الشأن الأكبر.
وسواء أكنت ممن يؤيدون هذه النظرية أو ممن يرفضونها، وسواء أكنت ترى أن كل شيء يتوقف على الموضوع أو أن كل شيء يتوقف على النتيجة، فليس يهم ذلك في تبين منزلة آرنولد النقدية، وإنما المهم أن نتساءل: كيف يستطيع هذا الناقد أن يعبر لنفسه وأن يحمل إلى قارئه التقدير الصائب والمتعة الفائقة للأدب؟ تلك هي المسألة، وقليل من النقاد من يتفوق على آرنولد في هذه الرسالة النقدية، فإذا أنت سألته حكمًا واضحًا نهائيًّا كاملًا عن عمل رجل ما، وإذا أنت سألته عن تحديد منزلته في عالم الأدب تحديدًا مضبوطًا، فإن آرنولد لن يجيبك إلى هذا الطلب، وإنما يمنعه من ذلك نقص طريقته النقدية من الوجهة المنطقية والمنهجية، وكراهيته لقراءة مسألة لا تجتذبه ولا تمتعه، وأخيرًا خطؤه الجسيم في إهماله للنقد التاريخي، ولكن آرنولد قد صرح لنا بهذا منذ البدء وأعلمنا أننا لن نجد عنده نقدًا تاريخيًّا، أما إذا تطلبت من آرنولد ملاحظات نقدية جيدة وخطرات نقدية ثاقبة حساسة مُلْهَمة ومُلْهِمة، عن الرجل، أو عن العمل، أو عن ذلك الجزء أو غيره من الرجل أو العمل، وقد صيغت في تعبير جذاب شائق وألفت في عبقرية ومهارة، إذا تطلبت منه هذا فلن تجد ناقدًا سواه يتفوق عليه.
ثم لنلاحظ دعوته إلى الاحتراس من خلط الحكم الأدبي بالحكم اللا أدبي، ولم يعارض أحد كما عارض آرنولد التطرف في المناداة بنظرية أن الفن للفن وحده، كما أنه لم يناد أحد كما نادى آرنولد بضرورة الاحتراس من ترك العواطف القومية والحزبية والمذهبية تتدخل في الأدب نفسه وفي النقد الأدبي.
فما أداه آرنولد إلى النقد الإنجليزي هو إذن أجلّ من أن يوفى حقه من الثناء، فلقد كان أول القواد الذين قاموا بإصلاح الحالة التي هوى إليها النقد الرومانتيكي من التفكك والتشعب وعدم القيام على أساس من النظام والترتيب، فإذا أضفنا إلى ذلك ميزاته الخاصة قدرنا منزلته ومكانته، حقًّا إن ماتيو آرنولد لا يمتلك صواب الحس وصحة العقل كما يمتلكه كولردج، وحقًّا إنه لا يمتلك القوة التي يمتلكها جونسون، وحقًّا إنه لا يمتلك التقدير النفيس الفاخر الذي يمتلكه لامب، وحقًّا إنه لا يمتلك التقدير النظامي الحماسي الذي يمتلكه هازلت، ولكنه لا يهوى إلى حالة غياب الحس وفقدان الشعور التي تصيب كولردج، وأحكامه أكثر دقة مورقة من جفاف جونسون وبلادته، ودائرة اطلاعه كانت أوسع من دائر اطلاع لامب، وثقافته ومهارته ترفعانه فوق هازلت.
فماثيو آرنولد: بنظامه وترتيبه اللذين لا يصلان إلى حد التقيد والجمود. وباطلاعه الواسع الذي لا يشوبه تظاهر بالعلم أو تشدق بالمعرفة، وبرقته ودقته اللتين لا يخالطهما ضعف أو سطحية أو تفاهة، وبحماسته التي لا ينتقصها خلط أو تهويش، بكل ذلك يكون ماثيو آرنولد واحدًا من أعاظم النقاد الإنجليز، وإذا ما جعلتنا محاسنه وميزاته نتناسى مواطن نقصه فإن يصير من أعاظم النقاد في تاريخ النقد العالمي.