توسيع نطاق الزراعة والري والمواصلات١
الزراعة حياة مصر؛ والري روح الزراعة؛ والمواصلات من البلد كالشرايين من الجسد.
من المعلوم أن (محمد علي)، في أوائل سني ملكه، أي ما بين سنة ١٨٠٨ وسنة ١٨١٤، مقابل ترتيبه إيراد سنوي، لحاملي حجج الأطيان المصرية، يوازي إيرادها السنوي المعتاد، استولى على جميع هذه الأطيان، بما فيها أطيان ديوان الأوقاف ورزق المساجد — ما عدا «الوسيات» — وهي أطيان تخلفت للنواحي عن فلاحين ماتوا بدون وريث؛ أو تنازل عنها أصحابها الفقراء، لعدمهم، إلى ملتزم الناحية مقابل مبلغ يسير من النقود؛ فأصبح الملتزم يزرعها لحسابه، نظير دفعه مالًا سنويًّا للميري، ليمكنه من القيام ببعض نفقات في المصلحة العامة كتطهير الترع وصيانة السواقي، وما لبث الملتزم، بعد عهد قليل، أن امتنع عن دفع ذلك المال، مع احتفاظه بالوسية؛ كما فعل البطريقيون «بالأجر العام» في جمهورية روما القديمة، فحقق (محمد علي)، بذلك التملك، الحلم الذي رآه في صباه، وهو في قوله، إذ نظر نفسه يشرب كل ماء النيل، ليروي ظمأً اعتراه، ولا يرتوي.
ومن المفهوم، بداهة، أنه إنما استولى على جميع أطيان القطر، لا لطمع أو جشع في أملاك الغير؛ ولكن لسببين: الأول رغبته في إدخال أصناف مزروعات جديدة على الزراعة المصرية المعاصرة له (كالقطن، والكتان، والأفيون، والنيلة والتوت إلخ)، من شأنها زيادة الثروة العمومية، وإنماء رخاء البلاد؛ وعلمه أن جمود الفلاحين المصريين في الاقتصار على أنواع المحصولات القديمة يحول دون تحقيق رغبته. والثاني تصميمه على احتكار تجارة القطر عامة، ظنًّا منه أن في ذلك مصلحة البلاد؛ لاعتقاده أنه يدري من أساليب التجارة وضروبها ما لا يدريه الفلاحون؛ وإراداته، والحالة هذه، أن يتمكن من زرع ما يشاء، أنى يشاء، وبأية كمية يشاء.
فأدخل، الأصناف الجديدة، التي كان راغبًا فيها، على زراعة البلاد؛ وتصرف في زرعها التصرف الذي رآه مناسبًا لمصلحته ومفيدًا لتجارة القطر، فأكثر، مثلًا، من زراعة أصناف المستعمرات (كالقطن وأمثاله) في الوجه البحري، حتى كاد يجعل زراعة هذا الإقليم كلها قاصرة عليها، وخص الصعيد بزراعة الغلال والحبوب.
وكيلا تحرم مصر الاستفادة حتى من الأطيان البائرة، أنعم بعد سنة ١٨٣٠ بأكثر من مائتي ألف فدان منها على كبار أتراكه؛ وأعفاهم من دفع ضريبة ما عليها مدة تتراوح بين ست وعشر سنين؛ على شرط أن يحيوها ويزرعوها، وقد عرفت هذه الأطيان باسم «الأبعاديات» أو «الأباعد»، وأكثر (محمد علي) فيما بعد من الإنعام بها على المخلصين في خدمته من رجاله الأمناء، بصفة مكافآت لهم على أعمالهم التي أحرزوا بها رضاه؛ ورغبة منه في إنماء المساحة الصالحة للزرع في القطر المصري.
وقد اقتدى به في الاعتناء بالزراعة، بل فاقه تفننًا في أساليبها، ابنه إبراهيم باشا: فإنه، على كونه جنديًّا أكثر منه رجل زراعة، ما كاد يقتني الأطيان الشاسعة بالقطر إلا وأدرك، أكثر من كل مزارع، مقدار الخيرات التي يمكن للأرض المصرية أن تدرها، إذا بوشرت زراعتها على حسب الأصول الفنية.
ولم يكن ليغيب عن ذهن (محمد علي) أن روح الزراعة بمصر إنما هي حسن توزيع مياه الري وأن توسيع نطاق الفلاحة فيها لن يدرك إلا بتوسيع نطاق الري عينه، ونطاق طرق المواصلات؛ وأن خير ضمان لاستمرار الفلاحين مقدمين بنشاط وحب على الزراعة إنما هو استفادتهم وإثراؤهم منها ورؤيتهم أنفسهم غير مرهقين بالضرائب وطرق تحصيلها.
فما وضع يده على الأرض المصرية، للغرضين الذين قلنا عنهما، إلا وأقبل بهمته الفائقة على الاعتناء بذلك جميعه:
ولكن وسائل الري المخلفة عن المماليك كانت قليلة، ولم يكن في القطر من ترع هامة سوى بحر يوسف، وبحر مويس، وبحر شبين الكوم، والجعفرية، فرأى (محمد علي) أنه، رغم كل اعتناء يبذله في الانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به من مياه هذه الترع، فإن جانبًا عظيمًا من الأطيان ذات التربة الخصبة يستمر بورًا لعدم وصول مياه النيل إليه.
فعلى الرغم من اشتباكه في حروب عظمى — اضطر إلى الدخول فيها إما لحفظ الأمن في البلاد؛ وإما امتثالًا لأوامر سلطان تركيا؛ أو لرغبة في التوسع وفي إحياء شأن الأمة العربية — أقبل على إنشاء وسائل ري، يعتبرها التاريخ أسطع ماسة في تاج مجده، وخير وسام على ثوب فخره. أهمها: ترعتا المحمودية والخطاطبة في البحيرة؛ ومد ترعة الجعفرية؛ وترعتا مسدّ الخضراء، والبقيدي في الغربية؛ والنعناعية، والسرساوية، والباجورية في المنوفية؛ والبوهية، والمنصورية، وترعة دوده، والشرقاوية في الدقهلية — وقد أنشأ هذه الترعة الأخيرة، لأن مزارعي الأطيان التي على الفرع الدمياطي، على الرغم من سد الفرعونية، لم يفتروا يشتكون من قلة المياه وعدم كفايتها لمقاومة دخول البحر الملح في النيل بالقرب من المنصورة، وأنشأهما في جهة أعلى بكثير من النقطة التي يصل عندها امتزاج الماء العذب بالماء الملح: فجعل مزارع الأرز ضامنة الحصول على الماء الجيد طوال العام — ومصرف بلبيس، وترعة الوادي في الشرقية؛ والزعفرانية، والباسوسية، والشرقاوة في القليوبية؛ وبضع جداول أخرى في الصعيد، لا نأتي على ذكرها؛ لأن الوجه القبلي ما فتئ قليل الري وغير منتظمه لغاية أيام (إسماعيل).
ولم يقتصر (محمد علي) على إنشاء هذه الترع؛ ولكنه أقام على معظمها قناطر حاجزة، مسهلة للري: لأنها بحفظها المياه في مستوى موافق من العلو تمكن من تسريبها إلى الأرض بمجرد قطع يعمل في هذه؛ أو من توصيلها إليها بواسطة آلات رافعة كالسواقي والتوابيت والشواديف، وقد أنشأ (محمد علي) منها في القطر عامة ما يزيد على خمسين ألفًا، وبعض تلك القناطر على جانب عظيم من الأهمية.
وتوج كل ما عمله في هذا الباب المفيد بشروعه في إنشاء القناطر الخيرية الجليلة، الشاسعة الأطراف، البديعة الصنعة الهندسية، على فرعي النيل، في الموضع الذي أشار نابليون الأول في مذكراته بوجوب إقامتها عنده.
ولم يهمل في الوقت عينه، توسيع نطاق المواصلات؛ لعلمه أنه إذا تعذر نقل حاصلات الزراعة إلى حيث يسهل بيعها بأثمان موافقة، فإنها لا تلبث أن تتلف أو تباع بأثمان بخسة: فلا يعود الاشتغال في إنمائها يجدي؛ وتبور الفلاحة مع تمادي الأيام، ولو بلغت وسائل الري درجة الكمال، واتسع نطاقه إلى أقصى ما يتصوره الفكر؛ اللهم إلا إذا كانت تلك الوسائل طرق مواصلات أيضًا.
فاجتهد أولًا في جعل معظم ترع القطر الكبرى صالحة للملاحة كالنيل بتطهير مجراها بين حين وحين، ثم زاد عدد المراكب الماخرة فيها زيادة مطردة: فبينما كان الموجود منها على النيل، في أيام الاحتلال الفرنساوي، سبعمائة من أسوان إلى القاهرة؛ وتسعمائة من القاهرة إلى البحر الأبيض المتوسط، أصبح في سنة ١٨٣٩ ثلاثة آلاف وثلاثمائة؛ منها ثمانمائة للحكومة خاصة، وذلك غير مراكب الصيد التي كانت تمخر في بحيرات البرلس والمنزلة وإدكو ومريوط.
ولما انتشر اختراع فلتن الأمريكي، وبنيت السفن البخارية أسرع (محمد علي) وبنى لنفسه واحدة منها كلها من حديد؛ ظنها الأهالي، أول ما رأوها، حيوانًا بحريًّا ضخمًا ولد في مياه النيل حديثًا، ولكنه لم يستطع تعميم استعمال ذلك الاختراع في النيل لعدم وجود مناجم فحم حجري في القطر.
فجعل (محمد علي) جسر ترعة المحمودية التي أنشأها، طريقًا للمرور، واختط عدة طرق سلطانية أخرى، أهمها السكة التي بين مصر وقصره في شبرا، وهي من أجمل ما يكون، تظلل الأشجار الباسقة جانبيها، وفائدتها، لنقل حاصلات الأطيان المجاورة لها إلى العاصمة، لا تنكر.
على أن أهم طريق للمواصلات أوجدت في أيام الباشا العظيم، هي الطريق التي أنشأها الملازم الإنجليزي (واجهورن) ما بين الغرب والشرق الأقصى، وعرفت باسم «ذي أوڨر لاندروت»؛ وكانت، ما بين السويس والقاهرة والإسكندرية، ذات محطات ونظام وأدوات جعلتها مصلحة تامة المعنى، أطلق عليها اسم مصلحة «الترانزيت»، وكانت في بادئ أمرها إنجليزية محضة، وكل عمالها من الإنجليز، ولكن (محمد علي) تربص حتى تذرع بغلطة ارتكبها مديرها: فدفع تعويضات كافية لعمالها، وصرفهم، وأحل محلهم عمالًا من لدنه، فصير المصلحة مصرية سنة ١٨٤٥.
وكانت إنجلترا منذ سنة ١٨٣٧، أي حالما فرغ من مد الخط الحديدي بين لندن وليڨربول — وهو أول خطوط العالم الحديدية — وقبل أن تمد غيره البلاد البريطانية عينها، قد فاتحته في أمر إنشاء سكة حديدية بين مصر والسويس؛ وراق المشروع في عينه، فبعث من استحضر من أوربا الأدوات والمواد اللازمة له، وهب إلى نفاذه، ولكن فرنسا خافت أن يئول الأمر، إذا ما تم على يد شركة إنجليزية، إلى استيلاء بريطانيا العظمى على القطر المصري، فعارضت في المشروع — ولم يكن (محمد علي) في تلك الأيام يعتمد في الملمات إلا عليها — فأبى إغضابها؛ ورأى، من جهة أخرى، أن نفقات تلك السكة قد تربو على خمسة وعشرين مليونًا من الفرنكات، بين أن إيراداتها قد لا تأتي بأرباح مطلقًا، لاقتصار منافع الخط المرغوب في إنشائه على المواصلات مع الهند، وعدم استفادة الزراعة منه بشيء، فأهمل المشروع وطرحه في زوايا النسيان.
وبما أن المشهور عن عباس الأول، هو أنه عامل القطر المصري كأنه بلد فتحه بحد السيف، فمن البديهي أنه لم يكن ينتظر منه الالتفات إلى ما يعود على أهله وساكنيه بالرفاهية والخير.
فاستمر الفلاح المصري، إذًا، مقيمًا على أطيان لا يملك منها شيئًا، واستمر يزرع وينمي ما لا نصيب له في اختياره؛ ويجني محصولًا لا يستطيع التصرف فيه، ولما رأى أن الحكومة أصبح يعوزها شيء كثير من الحكمة والرأفة النسبيتين اللتين امتازت بهما أيام الباشا العظيم وإبراهيم الهمام؛ وأن عباسًا لا يهمه من أمره إلا أن يملأ خزائنه بالنقود التي يعصر جسمه للحصول عليها؛ وأنه، فيما عدا لذاته، غير مشتغل في شأن من الشئون العامة، اللهم إلا في إحلال الجنود الألبانيين وغيرهم من الأتراك محل الجنود المصريين، وتسليحهم بمسدسات أميريكية — كأن الشر المندلع من طبنجاتهم لا يكفي لإلقاء الرعب في القلوب — ورأى أن مشروع مد سكة حديدية بين الإسكندرية ومصر لم ينفذ إلا رغم إرادة ذلك الوالي، أخذت عنايته بالحقول تقل، واهتمامه بريها، ودفع طوارئ الحدثان عنها، وتطهير الترع الصغرى الموكول أمر صيانتها إلى القرى، يزول، وبات الخراب يهدد الزراعة المصرية بأسرها.
فأصدر أمرًا بتوزيع الأطيان، في كل ناحية، على القائمين بزراعتها ليتصرفوا في زرعها كما يشاءون، وأمر بتقييد ذلك التوزيع في سجلات خاصة، تكون بمثابة حجج ملكية لأولئك المزارعين، ولئن لم يمنحهم حق امتلاك الأرض بالمعنى الذي يفهم من هذا التعبير (لأن ذلك لم يكن ممكنًا بسبب الاعتقاد السائد من أن ملكية الأرض حق من حقوق السلطان دون غيره)، فإنه أباح لهم حق التصرف فيها بيعًا ورهنًا، على أن تكون «أثريتها» — كما كانوا واستمروا يسمونها لغاية عهد غير بعيد — لا هي بعينها، موضوع ذلك التصرف، فأنعش بذلك الزراعة المصرية وجعلها تترعرع وتشتد.
وتوصلا إلى استئصال كل الأشواك من سبيلها دفعة واحدة، أقبل على الضرائب، وعدل طريقتي ربطها وجبايتها: فأبطل النظام التضامني الذي كان قاعدتها؛ وهو نظام — بما كان يوجبه من التضامن في دفع الأموال، بين أهل الناحية الواحدة، وأهل نواحي القسم الواحد، وأهل أقسام المركز الواحد، وأهل مراكز المديرية الواحدة — كان يلزم العامل النجيب النشيط بسد العجز الناجم عن كسل رفاقه، وتهاونهم، أو جهلهم؛ والعجز الناتج عن الفراغ الذي يحدثه الموت، أو أي طارئ كان في عدد سكان الناحية أو القسم أو المركز أو المديرية: وفي ذلك من الغبن والظلم ما لا يسلم به عقل.
ثم أسقط، جملة واحدة، كل المتأخرات التي كانت على النواحي — وكانت تبلغ ثمانين مليونًا من القروش؛ أي: سدس الأموال جميعها في عهد (محمد علي) أبيه — والمتأخرات نتيجة طبيعية لسوء ربط الضرائب وسوء جبايتها.
وتنازل أخيرًا عن الاحتكار التجاري الذي كان لأسلافه، فعدل، بإذنه عن أخذ الضرائب فعلًا: وأطلق الحرية للمزارعين في بيع محصولاتهم، أنى يشاءون ولمن يشاءون، وطالبهم بدفع الأموال الأميرية نقدًا.
ورغبة منه في تسهيل الانتقال عليهم من طور إلى طور وجعله أمين العواقب، قسط تلك الأموال على اثني عشر قسطًا شهريًّا؛ ونظم طريقة تحصيلها، طبقًا لما كان متبعًا في فرنسا حينذاك، ومنح مهلًا للدفع، ريثما يتاح لدى المزارعين مال كاف، وتجاوز، في بعض الأحيان ولبعض النواحي المشتدة عضة الفقر على ساعدها عن ضرائب سنة برمتها.
ثم أضاف إلى جميع هذه النعم نعمة أخرى وهي: رفع الضرائب سنويًّا، عن كل أرض لا تبلغها مياه النيل، إما لقلة في الفيضان، أو لأي سبب كان — مقتفيًا في ذلك أثر أسلافه عن عواهل مصر الصالحين: كأحمد بن طولون، والمعز لدين الله، والعزيز بالله، وصلاح الدين.
غير أن إصلاحاته لم تكن لتجدي الزراعة النفع المرغوب فيه، لو لم تقترن باعتناء تام بوسائل الري وطرق المواصلات.
فأقبل عليهما، ولكنه ما ألقى نظره على الواجب عليه عمله في شأن الري، حتى هالته جسامته؛ وذلك لأن الأوحال كادت تطمر الترع التي أنشأها أبوه، بما فيها المحمودية؛ لقلة الاعتناء بها وقلة صيانتها؛ ولأن أمر تطهيرها فقط — ناهيك بحفر ترع غيرها — كان من شأنه استنفاد همة رجل مقدام في عدة سنوات، فأحجم.
ولكنه — حينما أفهمه موچيل بك أن المحمودية التي كلفت أموالًا وأعمارًا ثمينة، والتي تستقي الإسكندرية منها ماءها، إن لم تتدارك حالًا بالتطهير، انطمرت بعد قليل، وباتت غير صالحة للملاحة بتاتًا، حتى ولا للشرب — شمر عن ساعد الجد والنشاط، وأصدر إلى المديريات الأوامر بتسيير العدد اللازم من الأنفار إلى ضفاف تلك الترعة ليشتغلوا في تطهيرها، فأرسلت النواحي مائة وخمسة عشر ألف عامل؛ وخصص لكل منهم عمل يؤديه؛ ووعد وعدًا صريحًا بتسريحه حالما ينجزه، فجدوا، وتباروا؛ وبالرغم من أنه لم يعط إلا فأسًا واحدة لكل خمسة منهم، أتموا العمل على ما يرام في ظرف اثنين وعشرين يومًا فقط؛ دون أن يموت أحد منهم، بل دون أن يمرض أكثر من خمسة في كل ألف، بفضل الاحتياطات والوقايات الصحية التي اتخذت.
غير أن إقدام سعيد على تتميم مد السكة الحديدية بين الإسكندرية ومصر — وهي سكة افتتحها في أول يناير سنة ١٨٥٦ — وإنشاء خط آخر بين القاهرة والسويس؛ وانشغال فكره في الإصلاحات التي عزم على إدخالها في حكومة السودان؛ وفي الامتياز الذي منحه المسيو دي لسبس لأجل حفر ترعة السويس؛ ثم في عقد القرض الذي أورث خلفه عبأه؛ ومداهمة المرض له، على أثر ذلك، مداهمة هدمت بناء جسمه الشديد؛ كل ذلك حال دون مثابرته على عمل تطهير الترع التي أنشأها والده، ودون التفكير في إنشاء غيرها.
فلما مات ترك الزراعة في أزمة، كان لا بد لحلها من همة شماء، ونشاط فائق، يبذلان بسخاء في سبيل ذلك.
تلك الهمة وذلك النشاط وجدا، لحسن حظ مصر، في (إسماعيل) خليفته، فإنه وقد رأيناه وهو أمير، وولي عهد فقط، يقبل على تحسين مزروعاته الخاصة تحسينًا ضاعف محصولها — صمم أن يعمل للقطر، بشكل كبير واسع، ما عمل في أملاكه بشكل صغير ذي دائرة ضيقة.
فأقدم، أولًا، على إنماء مساحة الأطيان المنزوعة قطنًا بمصر، لا سيما في الصعيد، إنماء كبيرًا، وذلك لأن الحرب الأهلية بالولايات المتحدة كانت حينذاك في أشد استعارها، ونشأ عنها بوار مزارع أميركا القطنية بوارًا عظيمًا، فتحولت أنظار المعامل النسجية البريطانية وغيرها إلى القطن المصري؛ وأخذت تقبل على ابتياعه أيما إقبال، بأثمان عالية علوًّا لم يكن يحلم أحد به.
فلكي ينال غرضه سريعًا أعلن في عموم مديريات مصر العليا على ألسنة كبار موظفي الإدارة والعمد والمشايخ عن استعداده لإعطاء المزارعين، مجانًا، كل البذرة التي يحتاجون إليها، مهما بلغت مقاديرها وقيمتها، فبينما كانت مساحة الأطيان المنزرعة قطنًا في الصعيد تقرب من أربعة آلاف فدان فقط، إذا بها قد أصبحت، بفضل سعيه ودأبه، مائة ألف فدان في نهاية سنة ١٨٦٤؛ أي: بعد مرور أقل من سنتين على تبوئه سدّة الإمارة.
وكان كثيرون من الفلاحين يزرعون أطيانًا، وجدوها مهملة، فوضعوا أيديهم عليها واستغلوها، دون أن يكون عندهم حجج ملكية بها؛ فيحدث كثيرًا أن أهواء أصحاب الأمر أو الجاه في نواحيهم، تغتنم ذلك لتنزعها من بين أيديهم متذرعين بأية وسيلة كانت أو ترهقهم في مطالبات مالية عليها، تحملهم على تركها والإقلاع عن زراعتها؛ فتعود بورًا، فتنقص بذلك المساحة المنزرعة في القطر؛ وتضيع على المالية الضرائب التي كانت تلك الأطيان تدفعها، فخول (إسماعيل) لأولئك الفلاحين حق استخراج حجج ملكية لتلك الأطيان، على أن يدفعوا جانبًا يسيرا من النقود بصفة رسوم عليها، فتهافتوا على الانتفاع بالحق المخول لهم؛ وأصبحت الأطيان التي كانوا يزرعونها وهم متخوفون، ملكًا حرًّا لهم، لا يستطيع أحد منازعتهم فيه، وباتت فلاحتها مضمونة؛ والأموال المربوطة عليها، كذلك؛ بعد أن كان تحصيلها موكولًا إمكانه إلى طوارئ الحدثان.
على أن إنماء (إسماعيل) كمية الأطيان المزروعة في القطر إنماء كبيرًا لم يكن إلا باكورة أعماله في مضمار، كان يهمه أن يجري شوطًا بعيدًا فيه، بقدر ما تهمه الفائدة التي تعود عليه منه، بصفته أكبر مزارع في القطر.
فإنه ما لبث أن استقدم من أوروبا عددًا عظيمًا من ماكينات الري البخارية — وكان استعمالها قد شاع هناك، وحل محل معظم الآلات الرافعة — وأقامها في أطيانه الخاصة، فاقتدى به كبار الملاك وصغارهم، من الباشا والبك، إلى العمدة والشيخ، واستوردوا من تلك الماكينات ما كاد يجعل، بسبب الدخان المنبعث عنها والمخيم في الأفق، ضفاف النيل شبيهة بضفاف التيمس.
وتسهيلًا لمهمة هذه الماكينات من جهة؛ ولكي يزيل من جهة أخرى الخطر الذي كان يهدد زراعة البلاد كلها بسبب انطمار ترع القطر بالطمي المتراكم في قاعها، أقبل، بكل همة ونشاط، على تطهير الكبري من تلك الترع — وكان أمر تطهيرها منوطًا بالحكومة رأسًا — وأصدر الأوامر إلى المديريات بإلزام النواحي والكفور بتطهير صغرياتها المارة بها والملقى أمر صيانتها إليها، وشدد في تلك الأوامر تشديدًا كفل نفاذها، وما فتئ كل سنة يكلف المديرين بالإسراع، أيام التحاريق، في إنجاز الأشغال اللازمة لحفظ جسور النيل، حفظًا فعالًا، حتى تكون على أتم ما يرام، في أوان الفيضان — لأنه كان قد علم بنفسه، وهو أمير، أن الهيئات الحاكمة، كثيرًا ما تهمل تلك الأشغال، أو لا توفيها حقها من العناية؛ فتصاب الزراعة والقرى بمضار جسيمة، حتى في السنوات التي يكون فيضان النيل فيها عاديًا.
- أولًا: الاطلاع على مشاريع كل ترميم تقتضيه الأشغال العمومية الجارية.
- ثانيًا: درس كل مشروع خاص بإنشاء أشغال جديدة تستلزمها المنفعة العامة، فإذا وافق الأعضاء على شيء من ذلك، وزعت الأموال اللازمة لنفاذه على الجهات بنسبة مقدار استفادتها منه ومقدار نصيبها في إجرائه.
- ثالثًا: وعلى الأخص الاهتمام في تحسين الشئون الزراعية سواء أكان ذلك بالنصائح والإرشادات والتعليمات التي تلقيها على الفلاحين، أم بتشجيع كل ما من شأنه أن يوجد رقيًّا في أصناف المزروعات ويزيدها جودة، فأدى ذلك الاهتمام إلى اكتشاف أحد اليونانيين نوع القطن المدعو «يوانوڨيتش» ورواجه في القطر: وهو صنف قطن كان له، في أيامه، الشأن الذي بلغه في أيامنا الصنف المعروف باسم «ساكلاريدس»، ومكتشفه؛ وأدى، في سنة ١٨٧٣، إلى اكتشاف أحد الأقباط، بالقرب من بركة السبع، شجيرة قطن دعاها «قطن البامية» لمشابهتها لشجيرة الباميا؛ وأتت، إذ اعتنى بزراعتها، بثلاثة أضعاف محصول شجيرات القطن العادية، وبيع إردب بذرتها بثمن تراوح بين خمسة وعشرين وثلاثين جنيهًا؛ بينما أن إردب البذرة الأخرى لم يكن يباع إلا بجنيه فقط.
وأنشأ فوق تلك المجالس، وزارة الزراعة التي أشرنا إليها؛ وعهد بها إلى أكفأ رجاله وهو نوبار باشا، ليكون مرجع تلك المجالس إليها: فتجد من حكمة الوزير الذي على رأسها خير مسدد لآرائها وأعمالها.
ولكن إنماء عدد الأطيان الزراعية؛ وإحضار ماكينات بخارية، بمصاريف كثيرة، من البلاد الأوروبية؛ وإدارتها بمصاريف تكاد لا تقل عن جملة أثمانها الأصلية؛ وتوسيع نطاق الإدارة الزراعية؛ كل ذلك كان يوجد لكي ينطبق الكنه على المظهر ويكون الصيد في جوف الفرا حقًّا، ألا يكتفي بتطهير الترع القديمة وصيانتها، والاعتناء بوسائل المواصلات الموجودة وحفظها، بل أن يوجه الجهد إلى الاستفادة من مخترعات العصر، لإنشاء ترع جديدة، ووسائل مواصلات حديثة، تكون وافية بالحاجة.
ولم يكن (إسماعيل) الرجل الذي يفوته ذلك، لا سيما وأنه — مذ جعل لنفسه مرتبًا سنويًّا، وفصل، بذلك، بين ماله الخاص ومال الخزينة المصرية — أقبل إقبالًا عظيمًا على إنماء ثروته العقارية؛ وأخذ نظار مزارعه ومفتشوها — لا سيما إسماعيل المعروف «بالمفتش» — في جميع أنحاء القطر، يبذلون من المجهود، وتفتيق الذهن، والتفنن في حمل الفلاحين على بيع أطيانهم إلى سموه، ما صير، في أقل من ثلاث سنوات، خمس أطيان القطر الجيدة ملكًا له.
ولما كان معظم تلك الأطيان في مصر العليا؛ وكان هذا الجزء من القطر قد أعوزه جانب عظيم من العناية التي أحاط (محمد علي) الوجه البحري بها — وأن يكن قد عهد، في أواخر سني حياته إلى لينان بك رئيس مهندسي ديوان أشغاله، أمر تحسين وسائل الري فيه — فما فتئ أهلوه ومزارعوه متألمين من قلة تلك الوسائل، فإن (إسماعيل) بدأ في الصعيد بتنفيذ الخطة التي وضعها لنفسه بخصوص الإكثار من حفر ترع وجداول جديدة في القطر، وأنشأ، غربي النيل، الترعة العظمى التي سماها «الإبراهيمية» إكرامًا لذكر أبيه: وهي ترعة تخرج من النيل بالقرب من أسيوط؛ وعرضها، من مبدأها لغاية ثلث مجراها، ثلاثمائة قدم؛ وأما عرض الثلثين الباقيين فخمسون قدمًا، فتسير ما بين ديروط وما فوق الواسطة بقليل، أي مسافة تسعين ميلًا، على موازاة بحر يوسف، راوية مديريتي أسيوط والمنيا، وجميع الأطيان ما بين البهنسة والسلسلة العربية، ثم تستمر متجهة نحو الشمال حتى تصب في فرع رشيد.
ولما كان الحكم، الذي أصدره نابليون الثالث في مسألة الخلاف القائم بين الحكومة المصرية وشركة ترعة السويس، قضى بتخلي هذه الشركة للحكومة المصرية عن كل حق في مد الترعة ذات الماء العذب من مصر إلى السويس وبورسعيد، التي كانت الشركة مباشرة حفرها؛ وإلزام الحكومة المصرية بمدها، همَّ (إسماعيل) في الوقت عينه، بنفاذ ذلك الحكم؛ لا سيما أنه كان شديد الرغبة في إحياء ما يستطيع إحياءه من أرجاء الصحراء العربية الشمالية: فلم يمض إلا زمن يسير وسارت مياه النيل تتهادى في مجرى الترعة، المحفورة ما بين بولاق والسويس، والمدعوة بالإسماعيلية إكرامًا لمنشئها، وأصبحت الملاحة ميسورة فيها حتى للسفن التي حمولتها أربعمائة طن فانتعشت أرجاء شاسعة من الصحراء العربية ما بين مصر والسويس؛ وعلى الأخص ما عرف منها، فيما بعد، باسم «تفتيش الوادي» — وهو أرض «جسان» التي أقطعها يوسف بني اسرائيل، على ما جاء في التوراة، وبوصول ماء النيل العذب باستمرار إلى مدينة السويس، لأول مرة منذ نشأتها، أمكن هذا الثغر أن يكبر بسرعة عجيبة ويزداد سكانًا وأهمية تجارية.
تلك القناطر؛ التي كان أقل ما فيها من فائدة إغناؤها عن خمسة وعشرين ألف ساقية وشادوف، وري أربعة ملايين من الأفدنة؛ فكيف بها، وهي، بمنعها استمرار انصراف مياه فرع دمياط إلى فرع رشيد، لانخفاض مجرى هذا عن مجرى ذاك، تمنع الشرق عن كل الأطيان الواقعة شرقي ذلك الفرع؟
تلك القناطر؛ التي بالحال التي هي عليها، وبالرغم من نقصها، كانت محط الإعجاب وموضع الفخار الأبدي.
هذه بالنسبة لمرور كل حكم عباس وسعيد عليها دون أن تنجز أو ترمم، كانت قد أخذت تئول إلى السقوط، وكما قلنا، فاستدعى (إسماعيل) المستر فولر، أكبر مهندسيه، وكلفه بإتمام عملها، حتى يبلغ درجة الكمال؛ وألا يألوا في ذلك جهدًا حتى يفرغ منه، مهما كلفه من نفقات، أو استدعى من عمال.
فاشتغل المستر فولر في ذلك العمل ثلاث سنوات، حتى تمكن من إنهائه، وأبرز في سنة ١٨٧٨ القناطر الخيرية في حلتها القشيبة التي كان (محمد علي) يود أن يراها فيها لتقر بها عيناه.
فقلد (إسماعيل) بذلك، الوجه البحري عامة، منة ليس بعدها منة؛ وأولى البلاد خيرًا لو لم يولها غيره، لكفى!
ولكنه لم يقف في عمله عند ذلك الحد، بل ما فتئ يفحر مجاري ترع وينشئ جداول، حتى إنه لم تنقض أيام ملكه إلا وقد خدد منها في الأرض المصرية أكثر من مائتين استدعت حفرًا زاد ٦٥٪ على ما أوجبته ترعة السويس، على قول المستر فولر؛ وبلغت نفقاتها ما يقرب من ثلاثة عشر مليونًا من الجنيهات؛ وطولها ما يزيد على ثمانية آلاف وأربعمائة ميل؛ كما أثبت المستر ملهل في «الكنتمبورري رڨيو» (أكتوبر سنة ١٨٨٢)؛ وبلغت مساحتها المائية مائة ألف ميل مربع.
ناهيك بزيادة الآلات الرافعة عما كانت عليه في أيام (محمد علي) زيادة هائلة؛ حتى بلغ عدد السواقي في سنة ١٨٧٧ ثلاثين ألفًا وأربعًا وثمانين؛ والشواديف سبعين ألفًا ومائة وثمانية وخمسين؛ والتوابيت ستة آلاف وتسعمائة وستة وعشرين؛ والماكينات البخارية أربعمائة وستًّا وسبعين؛ واشتغل فيها أكثر من ستين ألف حيوان، ومائة وثمانية وخمسين ألف رجل كل مائة وثمانين يومًا.
وناهيك بالكباري التي أقامها على تلك الترع وعددها أربعمائة وستة وعشرون كبريا: منها مائة وخمسون في مصر العليا، ومائتان وستة وسبعون في الوجه البحري. علاوة على ثمانية كباري ضخمة أهمها كوبري قصر النيل الفخم، الذي قلما كان له مثيل في تلك الأيام، في العالمين الغربي والشرقي معًا؛ وعد من أفخر أعمال العالم الهندسية، وقد بلغ ما أنفق على تشييدها كلها مليونين ومائة وخمسين ألف جنيه!
فأدى هذا جمعيه إلى زيادة ما يقرب من مليون ونصف مليون من الأفدنة، على مساحة الأرض المزروعة في القطر، يربو إيرادها السنوي على أحد عشر مليونًا من الجنيهات، ثمن محصولات؛ وتزيد إيجاراتها، في ذلك الوقت، على مليونين.
ولعلمه أن تحسين طرق المواصلات يجب أن يقترن دائمًا بتحسين وسائل الري، مهد أكثر من ستة آلاف ميل من السكك الزراعية، في القطر عامة، ولا سيما في الوجه البحري، ولمناسبة زيارة الإمبراطورة أوچيني للبلاد المصرية في سنة ١٨٦٩ أنشأ، في أقل من ثلاثة أسابيع، السكة الجميلة الموصلة من بر الجيزة المقابل مصر إلى الأهرام؛ والمغروسة، على جانبيها، بالأشجار الباسقة التي جعلتها أهم متنزهات سكان القاهرة وأبهاها.
ولما كانت السكك الحديدية والتلغرافات أكبر وسائل للمواصلات أوجدها العلم الحديث، كان من البديهي أن يخصها (إسماعيل) بأكبر جانب من عنايته في سبيل إحياء الزراعة من مواتها.
فلما ارتقى العرش المصري، لم يكن في القطر كله سوى الخط الحديدي الواصل ما بين الإسكندرية ومصر وطوله مائة وثلاثون ميلًا؛ والخط الواصل ما بين بنها والزقازيق وطوله أربعة وعشرون ميلًا؛ والخط الواصل ما بين مصر والسويس عن طريق بلبيس وطوله تسعون ميلًا؛ أي ما كان مجموعه مائتين وأربعة وأربعين ميلًا.
فزاد، هو، على ذلك أكثر من ألف ومائة ميل، فإنه هو الذي أنشأ الخطوط: من بولاق إلى اتياي البارود؛ ومن الإسكندرية إلى رشيد؛ ومن طنطا إلى دسوق، وإلى زفتى، وإلى دمياط، وإلى شبين الكوم؛ ومن الزقازيق إلى المنصورة؛ ومن بنها إلى ميت بره؛ ومن قليوب إلى القناطر؛ ومن الزقازيق إلى الإسماعيلية والسويس على محاذاة الترعة البحرية؛ ومن أبو كبير إلى الصالحية؛ ومن مصر إلى حلوان، وإلى المرج؛ ومن بولاق الدكرور إلى أسيوط؛ ومن الواسطى إلى الفيوم؛ ومن أسوان إلى الشلال الأول؛ علاوة على ستين م يلًا تحويلات، وإذا عرفنا أن النفقات اللازمة لمد ميل واحد من هذه السكك كانت تبلغ، عادة، نيفًا وأحد عشر ألف جنيه، فإنا لن نستغرب أن يكون ما صرف على إنشاء جميع هذه الخطوط قد تجاوز الثلاثة عشر مليونًا من الجنيهات.
على أن ما هو أهم من أمر إنشاء السكك الحديدية، أمر إصلاح إدارتها؛ فقد كانت في أيام عباس، بل في أيام سعيد عينها، فوضى لا ضوابط لها: يركب المسافر في قطاراتها، وهو غير متأكد من صدق مواعيد قيامها، ولا من بلوغه المكان الذي يقصده، لكثرة ما يعتور القيام والطريق من عراقيل وموانع، فقد يكون القطار على أهبة السفر من محطة الإسكندرية مثلًا، فيأتي ناظر المحطة رسول من قبل قنصل من القناصل العامة، أو خصي من لدن أحد الباشاوات، أو البيكوات الأتراك، ويأمره بتأجيل ميعاد قيام القطار ريثما يأتي القنصل أو الباشا أو البيك، أو حرم أحدهما، فيؤجل الناظر الميعاد، ويقيم المسافرون على أحر من الجمر في انتظار مجيء حضرة القنصل أو سعادة السري التركي وحرمه؛ وربما طال انتظارهم ساعات، وقد يكون القطار مسافرًا، فتتعطل عدته؛ أو يخرج عن الخط لجهل السواق؛ أو يصادفه مانع آخر، كإرسال أحد باشاوات الريف رسولًا إلى إحدى المحطات ينبئها بحجز القطار لحين تشريفه، فيقف في الطريق ساعات وساعات؛ وأحيانًا، أيامًا، ريثما يزول أو يزال ذلك المانع.
ويُحكى، في هذا الموضوع، أن القطار تعطل مرة في محطة طنطا وفيه تجار من الإنجليز قادمون من الهند وذاهبون ببضائعهم إلى الإسكندرية؛ فبعد أن عيل صبرهم من طول الانتظار، ذهبوا ليبثوا شكواهم من التأخير إلى ناظر المحطة، وكان إنجليزيًّا؛ ولكنه تزيا بزي البلاد وتقمص في عوائدها؛ وتظاهر بعدم معرفة غير التركية والعربية فرارًا من شكاوى الأجانب — لا سيما من بني جنسه — الكثيرة؛ وابتغاء للتمتع بقلة الاهتمام بالأمور وعدم المبالاة بتضييع الوقت، الخصيصتين بنا، معشر الشرقيين، في تلك الأيام؛ واتخذ لنفسه مترجمًا بينه وبين الغربيين — فوجدوه في حجرته، جالسًا على أريكة، يدخن شيشة عجمية، ولا يعنيه من الدنيا إلا التلذذ بها والنظر إلى الدخان المتصاعد منها في الفضاء، على هيئة أنصاف دوائر، فأفرغوا جعبة تشكياتهم أمامه بالإنجليزية؛ ومترجمه المصري يترجمها له بالعربية، وهو لا يبالي بها ولا يزداد إلا تدخينًا، كأنه لا يفهم الإنجليزية ولا العربية؛ أو كأن الحديث غير موجَّه إليه، فاحتدم غيظ أولئك التجار، وقالوا للمترجم: «قل لشيخك هذا الأبله أن يبطل جعل نفسه مدخنة، ويلتفت إلى ما نحن فيه؛ وإلا شكوناه إلى قنصلنا العام بالإسكندرية، ورجوناه أن يطلب من سمو الوالي، أن يركله من وظيفته ركلًا!» فضحك الناظر، بين أسنانه، لما سمع ذلك؛ ولكنه استمر متظاهرًا بعدم فهمه الإنجليزية، واستمر على عدم مبالاته بقولهم، بعد أن ترجمه مترجمه له، ولم يتنازل إلى إجابتهم عن لسانه إلا بعد مدة، ليقول لهم: «على رسلكم! تمهلوا فالأمور مرهونة بأوقاتها!» وأضاف، لكي يثبت لهم أنه شرقي تمامًا، التعبير الشرقي المتداول، عادة، على الألسن، لحمل قليل صبر على الصبر؛ وهو: «إن الله خلق العالم في ستة أيام!» فخرجوا من حضرته وهم يلعنونه ويحرقون الأرم.
واستمرت الحال كذلك في أيام (إسماعيل) الأولى: لأن مفتشي مزارعه وكبار مستخدمي دائرته الخاصة، لعلمهم أن السكك الحديدية، بالرغم من كونها مصلحة عامة، ملك خاص به، كثيرًا ما كانوا يتجاوزون حدود الاعتدال في تصرفاتهم مع إدارتها، لا سيما في مواسم القطن، فيحتكرون القطارات، ويعطلون سفر بضائع التجار عامة، حتى يفرغوا من شحن بضائع مولاهم الخاصة وتسفيرها؛ فيصيب التجار، من جراء ذلك، خسائر جسيمة، لتأخرهم الاضطراري عن تسليم بضائعهم في الأوقات المحددة لتسليمها، ويحمل الغيظ بعضهم أحيانًا، على ارتكاب أعمال قحة، يعضدهم قناصلهم فيما بعد، على الخروج منها بدون أذى. مثال ذلك ما فعله أحد تجار اليونان، فإنه، لما أيقن أنه، بسكوته على تصرفات أولئك المفتشين والمستخدمين، وتأخره عن تسليم الأقطان التي اشتراها إلى المحلات التجارية التي باعها لها، قد تصيبه خسائر فادحة ربما ذهبت بكل ثروته، استأجر عدة أشخاص من بني جنسه، وأقامهم على المحطة المكدسة أكياسه فيها؛ ولما وصل قطار البضاعة المحمل أقطان سمو الوالي، أوقفه، بواسطتهم عنوة؛ وأفرغ مشحونه؛ وشحن أقطانه فيه بدله؛ وأجبر سواق القطار، إرهابًا، على السير بها إلى الإسكندرية.
حينذاك أخذ (إسماعيل) يفكر في إنشاء سكك حديدية في السودان، ترويجًا للزراعة فيه، وللتجارة بينه وبين القطر المصري.
وتلا انتشار السكك الحديدية، انتشارها العظيم، تشعب مد الأسلاك البرقية في البلاد.
فلما انتشر في أميركا وأوروبا اختراع المستر سامويل مورس الأمريكي — وهو التلغراف الحالي — أدخله (سعيد) إلى القطر، ولكنه لم يمد من أسلاكه إلا شيئًا يسيرًا.
من مصر إلى الإسكندرية | ١٤٢ ميلًا على سبعة أسلاك |
من مصر إلى ضواحيها | ٣٢ ميلًا على سلكين |
من مصر إلى حلوان | ١٨ ميلًا على سلك واحد |
من مصر إلى قليوب والقناطر | ١٧ ميلًا على سلكين |
من مصر إلى إتياي البارود | ٧١ ميلًا على سلك واحد |
من مصر إلى السويس عن طريق بلبيس | ١٥٤ ميلًا على سلك واحد |
من مصر إلى المنصورة عن طريق قليوب | ٩٦ ميلًا على سلكين |
من أبي كبير للصالحية | ٢٥ ميلًا على سلكين |
من بنها إلى ميت بره | ٩ أميال على سلكين |
من بنها إلى الزقازيق والسويس | ١٢٣ ميلًا على سلكين |
من طنطا إلى طلخا ودمياط | ٧٣ ميلًا على سلكين |
من طنطا إلى زفتى | ٣٣ ميلًا على سلكين |
من طنطا إلى دسوق | ٤٧ ميلًا على سلكين |
من طنطا إلى شبين الكوم | ١٩ ميلًا على سلكين |
من نشرت إلى كفر الشيخ | ١٠ أميال على سلكين |
من الإسكندرية إلى ضواحيها | ١٢ ميلًا على سلكين |
من الإسكندرية إلى رشيد | ٤٦ ميلًا على سلكين |
من دمنهور إلى العطف ورشيد | ٥٠ ميلًا على سلكين |
من بورسعيد إلى السويس | ٩٦ ميلًا على سلك واحد |
من بورسعيد إلى القنطرة | ٢٦ ميلًا على سلك واحد |
من مصر إلى غزة عن طريق بنها | ٢٨٨ ميلًا على سلكين |
من مصر إلى أسيوط | ٢٣٩ ميلًا على ثلاثة أسلاك |
من الواسطى إلى الفيوم | ٢٥ ميلًا على سلكين |
من ببا إلى الروضة | ٩١ ميلًا على سلكين |
من أسيوط إلى أبي تيج | ٥ أميال على سلكين |
من أسيوط إلى أسوان | ٣٠٠ ميل على سلكين |
من قنا إلى القصير | ١٦٤ ميلًا على سلكين |
من أسوان إلى الخرطوم | ١٠١٢ ميلًا على سلكين |
من بربر إلى كسلا | ٤٠٧ أميال على سلك واحد |
من كسلا إلى مصوع | ٤٤٧ ميلًا على سلك واحد |
من كسلا إلى سواكن | ٣٠٠ ميل على سلك واحد |
من الخرطوم إلى الأبيض | ٤٠٧ أميال على سلك واحد |
من الخرطوم إلى المسلمية وسنار | ١٦٢ ميلًا على سلك واحد |
- (١)
محطات الوجه البحري.
- (٢)
ما بين مصر وأسيوط.
- (٣)
ما بين أسيوط وإسنا.
- (٤)
ما بين إسنا ووادي حلفا ودنقلا.
- (٥)
ما بين دنقلا وبربر.
- (٦)
ما بين بربر والخرطوم.
- (٧)
ما بين الخرطوم ومصوع.
- (٨)
ما بين مصر وسوريا.
وجعل ثمن الإشارة البرقية ذات العشرين كلمة علاوة على العنوان عشرة قروش صحيحة في كل قسم، وجعل لغة التراسل: جنوبي مصر، عربية؛ وشماليها، عربية أو فرنساوية أو إنجليزية أو تليانية أو تركية، وأقام على إدارتها المستر جورج الإنجليزي وأناط أمر هندستها بالمستر هوز بورن الذي أنشأ أسلاك السودان.
-
من الإسكندرية إلى الأستانة عن طريق كريت ورودس وأزمير.
-
من الإسكندرية إلى أوترنتو عن طريق كريت وزانتي.
-
من الإسكندرية إلى إيطاليا عن طريق مالطة وسقاليا.
-
من الإسكندرية إلى إنجلترا عن طريق مالطة وجبل طارق واشبونه.
-
من الإسكندرية إلى فرنسا عن طريق مالطة وبونا ومرسيليا.
وبلغت نفقات إنشاء كل هذه الخطوط ما يقرب من مليون من الجنيهات.
ومن ألطف ما يروى في شأن ربط القطر المصري، بالأسلاك التلغرافية، بالأستانة أن موظفي الحكومة المصرية لم يكونوا ليصدقوا في بادئ الأمر أن الكلام ممكن بين القاهرة ودار السعادة بواسطة تلك الأسلاك؛ فأقبلوا يتخاطبون مع رجال الباب العالي، ولا غاية لهم إلا التحقق من صحة الزعم، فلما تيقنوا من صحته، ذاقوا من التكلم لذة فائقة؛ فقضوا أكثر من ثلاث ساعات وهم يخاطبون الأستانة، بكلام لا طائل تحته ويسألون أسئلة عن صحة رجالها وعن حال الطقس فيها حتى أفقدوا الخزينة المصرية ما يزيد على خمسين ألف جنيه ثمن كلام فارغ.
وبما أننا في سياق الكلام عن طرق المواصلات على أنواعها، فيجدر بنا التكلم هنا عن المواصلات البريدية أيضًا؛ ولو أن علاقتها بتحسين الزراعة قليلة لا سيما في ذلك العهد؛ وأنها إلى موضوع ترقية الشئون التجارية والاجتماعية أقرب منها إلى غيره من المواضيع.
(فمحمد علي) كان قد رتب بريدًا رسميًّا يحمل على أيدي السعاة برًّا وفي السفن بحرًا، واكتفى خلفاؤه (إبراهيم وعباس وسعيد) به: فلم يزيدوا عليه شيئًا، ولولا إقدام الدول الأجنبية وبعض أفراد من الجاليات الغربية على إنشاء مكاتب بريدية في الإسكندرية ومصر وغيرها، لاستمرت البلاد المصرية محرومة من التواصل البريدي كما كانت في عهد المماليك.
وأشهر أولئك الأفراد السنيور موتسي الإيطالي — وكان، لغاية سنة ١٨٦٥، قائمًا لحسابه الخاص بأعمال بريدية عامة في العاصمتين؛ يساعده جملة مستخدمين بأجور يدفعها إليهم على استلام الخطابات والمراسلات حتى الرسمية منها وتصديرها إلى جهاتها وتسليمها إلى أربابها.
فرأى (إسماعيل) أن استمرار مهمة كهذه من وسائل المواصلات في يد إدارة فردية، مع احتياج الحكومة نفسها إليها، لأمر يشين الحكومة المصرية كثيرًا لأنه ينم عن تأخرها في المضمار الجارية فيه الدول المتمدينة، فاشترى مصلحة البريد من ذلك الإيطالي النشيط بمبلغ ستة وأربعين ألف جنيه؛ وأنعم عليه بلقب بك، وأبقاه مديرًا لها؛ وخصص له، في ميزانية حكومته، مبلغًا وفيرًا لينفقه على تحسين نظامها وترقية شئونها.
فأبقى موتسي بك مستخدميه القدماء فيها — وكان معظمهم من الإيطاليين، وباقيهم خليطًا من السوريين والفرنسيين والجريك والنمساويين والروس والمصريين — واجتهد في إنماء عدد المكاتب وحركة التراسل، بجملة إصلاحات أدخلها على مصلحته تباعًا.
وفي سنة ١٨٧٦ طلب إقالته منها، فمنحه (إسماعيل) مكافأة سنية؛ وعين خلفًا له إنجليزيًّا يقال له: المستر كليار (وهو الذي أصبح فيما بعد، كليار باشا؛ وعين مديرًا عامًّا للجمارك المصرية؛ وترك لنفسه أثرًا جميلًا في قلوب المصريين) ولما رأى المدير الجديد أن عدد المستخدمين أكثر مما يستدعيه العمل؛ وأن معظمهم لا موجب لوجودهم في المصلحة إلا دالتهم على بعض كبار موظفيها، صرف ربعهم وأبدل بكثيرين من الباقين غيرهم من الأكفاء؛ وبالخليط، أولاد عرب بالتدريج.
وبعد أن نظم أقلام الإدارة العامة، أقبل ينشئ مكاتب جديدة في القطر حتى أبلغ عددها إلى مائتي مكتب وعشرة، فيها ثمانمائة وثلاثون مستخدمًا، عدا عن ثلاثمائة واثنين وأربعين جمالًا وبربريًّا، وجعل توزيع المراسلات يوميًّا بين مصر والإسكندرية وجميع الجهات المهمة، بعد أن كان أسبوعيًّا أولًا؛ فمرتين، ثم ثلاثًا في الأسبوع، وما فتئ يحسن فيه حتى صيره إلى ثلاثة وأربعة وخمسة توزيعات في النهار على محطات السكك الحديدية الكبرى، ولما كان عدم انتظام الشوارع وعدم تنمير المنازل في المدن والبنادر يحولان دون توزيع المراسلات على أبواب البيوت، ويوجبان حصرها في شبابيك المكاتب، أنشأ في العاصمتين صناديق خاصة لمراسلات من شاء الاشتراك فيها من التجار والأعيان.
فبلغ عدد المراسلات في سنة ١٨٧٨ مليونين ونصفًا، معظمها تجاري، وبلغت قيمة النقود التي تصدرت، صرا، من عموم المكاتب، عشرة ملايين من الجنيهات، وما من شيء أبلغ من هذه الأرقام في بيان مقدار الخدمات الجليلة التي قامت بها مصلحة البريد بعد أن جعلها (إسماعيل) مصرية.
على أننا، إذا علمنا أنها قامت بها، ومصالح بريد أوروبية بجانبها في الإسكندرية ومصر والسويس، تزاحمها في أعمالها، وتستدعي إلى نفسها، طبعًا، لا سيما في أوائل قيام المصلحة المصرية، ثقة التراسلين الغربي والشرقي على السواء؛ وإذا علمنا أن البريد لم يكن يستطيع السفر بين أسيوط وأسوان، وبين أسوان والسودان، إلا كل خمسة عشر يومًا على سفن تجارية، ازداد في أعيننا قدر تلك الخدمات وازددنا ثناء على مسديها.
بقي علينا أن نرى ما الذي عمله (إسماعيل) في آخر سبيل من سبل توسيع نطاق الزراعة؛ وأعني به كيفية ربط الضرائب على الأطيان وتوزيعها توزيعًا حسنًا.
فلا مشاحة في أن القاعدة التي يجب لكل حكومة أن تقيم عليها أمر فرض الأموال على العقارات، إنما هي ثمن هذه الحقيقي، ومقدار ما يجنى منها من ثمار؛ ولا خلاف في أن أثمان الأطيان المصرية ارتفعت في أوائل عهد (إسماعيل) ارتفاعًا عظيمًا؛ وبيعت حاصلاتها، لا سيما القطنية، بأثمان تكاد تكون منامية: وذلك بسبب الحرب الأمريكية الأهلية، وبوار زراعة الولايات المتحدة ومزارعها.
وليس من ينكر أن اتساع نطاق الري وطرق المواصلات، الاتساع الذي بيناه، كان من شأنه أن يجعل ارتفاع أثمان الأطيان، وزيادة حاصلاتها، مطردين.
فلا غرابة، والحالة هذه، في أن تكون الضرائب في عهد (إسماعيل) قد زادت على ما كانت عليه في عهد سلفه؛ وأن يكون قد أدخل على فئاتها شيء من التعديل، في مصلحة «الميري».
ولكن (إسماعيل)، قبل زيادة أي شيء فيها أو تعديله، رأى أن يعيد فك زمام القطر كله، ويروكه روكًا جديدًا؛ لكيلا يقع على أحد حيف بسبب ربط الضرائب الجديدة؛ لأنه كان يحدث كثيرًا، في تلك الأيام، أن ذوي الجشع من القابضين على القوة الإدارية، وسواهم من ذوي الجاه كانوا يغتصبون أملاك صغار المزارعين، ويضعون أيديهم عليها، ولكن بدون نقل تكليفها إلى أسمائهم: فيستمتعون بغلائها، ويستمر الفلاحون، أصحابها الأصليون، يطالبون بأموالها ويجبرون على دفعها.
فصدرت الأوامر، إذًا، إلى مشايخ البلاد وعمدها، بالاجتماع في المراكز، وتعيين مندوبين من قبلهم يكلفون بتقديم بيان وافٍ إلى المديرين عن زمام الأطيان التابعة لدائرة نواحيهم، وكشف بأسماء ملاكها الحقيقيين، لكي تتمكن الحكومة من ربط الضرائب عليها، على نسبة ما هي عليه من الجودة، وتحصيلها ممن هو ملزم بدفعها في الواقع.
وكانت الأطيان المزروعة كلها تنقسم إلى قسمين: «خراجية» و«عشورية».
أما «الخراجية»، فهي التي آلت ملكيتها إلى أصحابها بموجب الأمر الذي قلنا إن (سعيد باشا) أصدره بأن تكلف الأطيان على أسماء المشتغلين فيها.
وأما «العشورية»، فهي الأطيان المعروفة بالأباعد والوسيات، وهي التي أنعم بها على أصحابها ليفلحوها في مقابل إعفائهم من دفع أموال عليها، مدة معينة؛ ومقابل ربط أموال يسيرة عليها، بعد انقضاء تلك المدة — وكان المنعمون بها يشترطون، في بادئ الأمر، نظير هذا الإعفاء، عودتها إلى الحكومة عند موت من وهبت إليهم، ولكن هذا الشرط أهمل فيما بعد؛ وأصبحت الأطيان العشورية تورث كالأطيان الخراجية، وقد بلغ مقدارها في أواخر أيام (إسماعيل) مليونًا ومائتين وخمسين ألف فدان.
فلما تم روك البلاد، جعل متوسط ما ربط على الفدان من الطين الخراجي مائة قرش وعشرة؛ ومتوسط ما ربط على الفدان من الطين العشوري خمسة وثلاثين قرشًا؛ علاوة على ريال أضيف إلى مال كلا الصنفين من الأطيان للقيام بأعمال الري وحفظ الترع والجسور.
فلا نزاع في أن هذه الفئات لم تكن لتتعب الفلاحة أو ترهقها؛ وأن أقصى ما كان يؤخذ عليها هو عدم مساواة الأطيان العشورية بالأطيان الخراجية فيها، مع أن معظم الأطيان العشورية كان لا يقل جودة عن مثله من الأطيان الخراجية.
- أولًا: أن الفرق في المعاملة كان نتيجة تعهدات سابقة بين طرفين، لم يكن إلى نقضها من سبيل إلا باتفاق هذين الطرفين معًا، أي الحكومة وأصحاب الأطيان العشورية عينها.
- ثانيًا: أن معظم أصحابها، إن لم نقل كلهم، كانوا من الأغنياء الجهلاء الذين يرون في عدم مساواتهم بالفلاحين البسطاء، رفعة لشأنهم وإجلالًا لقدرهم؛ ويهمهم أن يحافظوا عليها أكثر مما تهمهم مبادئ العدالة والإنصاف؛ وأنه لم يكن في الاستطاعة، والحالة هذه، مساواتهم بالفلاحين، قسرًا، إلا بإحداث ثورة قد تتحول من اقتصادية إلى فتنة سيئة العواقب، كانت البلاد في غنى عنها.
فمن المشهور، مثلًا، عن إسماعيل صديق باشا، المعروف «بالمفتش» و«الصغير»، وزير المالية، أنه كان يتبجح علانية، ويفتخر بأنه يحصل عادة من الفلاحة المصرية مليونين من الجنيهات سنويًّا أكثر من الظاهر في حساباته.
ومن المعلوم أيضًا أن المديرين والحكام الآخرين المتولين شأن التحصيل — لا سيما في المديريات البعيدة عن العاصمة — كانوا يغتنمونها فرصة ليبتزوا من الفلاح التعيس، بوسيلة الكرباج، ما يزيدون به رخاءهم وثروتهم؛ وأنهم لكي يتمكنوا من حمل الصيارفة على الثبات في تحصيل ما يستطيعون تحصيله من الفلاح، تحت أسماء متنوعة، كانوا يأنفون من تعريفة المواعيد المقررة لدفع الأموال؛ بالرغم من أن الإرادة العليا، وقرارات مجلس شورى النواب جعلتها في الأوقات المناسبة؛ أي: بُعيد جناء كل محصول هام.
- أولًا: من أنه — لما وضعت الحرب الأهلية الأمريكية أوزارها في أوائل سنة
١٨٦٥؛ وتسبب عن انتهائها غير المنتظر نزول أسعار القطن في بورصة
ليڨربول نزولًا فاحشًا وإصابة سوق الإسكندرية بخسائر جسيمة؛
وارتجاج الأرياف المصرية ارتجاجًا سيئًا فائقًا؛ لأن المزارعين،
ارتكانًا على أن أثمان القطن ستستمر، حتمًا، غالية وأسعاره متمسكة،
كانوا قد توسعوا في زراعته توسعًا كبيرًا، واستلفوا، لذلك، أموالًا
طائلة برهون عقارية، فأدى سقوط أسعاره فجأة إلى اختلال التوازن بين
قيمة الأقراض وقيمات ضمانات سدادها العقارية، اختلالًا نجمت عنه
توقفات عديدة عن الدفع، أوجبت شكاوى ودعاوى، هددت بيوتًا كثيرة
بالخراب والمحق — تداخل (إسماعيل) في الأمر وتلافاه، فأصدر، وهو في
ڨيشي يتطبب بمياهها المعدنية، أمره إلى ماليته، بفحص طلبات دائني
المزارعين المصريين، وتحقيقها، وتسديد ما يثبت صحته منها، مقابل
إصدار أذونات بالمبالغ المدفوعة تدعى «أذونات القرى»، يسدد أصحاب
الأملاك المدينون قيماتها إلى المالية على ثمانية أقساط، ابتداء من
سنة ١٨٦٩؛ أي: بعد الأزمة بأربع سنوات، فصدعت المالية بالأمر؛
وسددت من ديون المزارعين المصريين ما أصدرت به أذونات قيمتها خمسة
وثلاثون مليونًا من الفرنكات.٢١
ولعل الذي حمل (إسماعيل) على إنقاذ مزارعي بلاده من هذه الورطة التي وقعوا فيها، علاوة على رغبته في رفع الضيم عنهم، رغبته في عدم تحويل ثقة رءوس الأموال الغربية عن الأرض المصرية، لاعتباره هذه الثقة من عوامل تقدم البلاد في سبيل الحضارة، ومن أكبر أسباب إحياء روح العمل والنشاط فيها — وإلا، فإن المقرضين الغربيين الذين باتت أموالهم، بسبب هبوط أسعار القطن الفجائي، عرضة للضياع، أو إنها ضاعت بالفعل، لم يكونوا ليلوموا في ذلك إلا سوء تبصرهم، وشدة مطامعهم؛ ولم يكونوا جديرين بمواساة ما، فضلًا عن العناية بهم؛ لأن معظمهم كانوا يقرضون المزارعين بفوائد معدلها ثلاثة أو أربعة، وأحيانًا، خمسة في المائة شهريًّا!
- ثانيًا: من أنه لما زاد النيل في سنة ١٨٧٠ زيادة عظيمة هددت بالغرق، ثلاثًا من قرى مصر، وبالخراب التام أهلها، ونما الخبر إلى (إسماعيل)، أمر بكسر الجسور فوق تلك القرى، في وسط أطيانه الخصوصية، لتتحول إليها وتغمرها المياه المتدفقة المهددة: فتنجو قرى الفلاحين البائسين ومزارعهم، فكسرت الجسور؛ وغرقت أطيان الأمير بالفعل، فأصابته، من جراء ذلك، خسائر قدرت بأربعة ملايين من الفرنكات، ولكن قرى المزارعين ومحصولاتهم نجت وأبعد، عنهم وعنها، البؤس والشقاء، فأعلن (إسماعيل) أن هذا يسره سرورًا يجعل خسارته لا قيمة لها عنده بالمرة.٢٢
فأمير هذه عنايته بمزارعي بلاده وفلاحيها، حتى وهو في بلاد الغربة يتطبب وهذا شعوره، لم يكن ليرضى أن تثقل كاهلهم جباية الأموال المقررة على أطيانهم منهم ولئن أوخذ على شيء من المظالم والمغارم التي أحاقت بهم، في هذا الباب، فإنه إنما يؤاخذ بحق، على عدم تنزيله العقاب الصارم بموظفيه المجرمين المتجاوزين الحدود في ذلك، مثلما أنزله بإسماعيل صديق باشا كبيرهم، وعلى سماحه لنفسه بأن تغيب تلك المظالم والمغارم عن نظره وهو يتطلع إلى آفاق كان من شأن شرور الحاضر أن تتضاءل فيها، وتتوارى أمام عظمة المستقبل وزهوه وخيراته الجمة، التي كان يسعى إلى تحقيقها!
على أن عذره في ذلك، هو أنه لا بد، لجاني الورد، من وخز الشوك؛ ولا مفر، لقاطف العسل، من إبر النحل!