العناية بالعلوم وتوسيع دائرتها١
غير أن أهم نتائج تلك الفتوح تمكُّن (إسماعيل) من إرسال عدة بعثات علمية إلى أواسط أفريقيا ومجاهلها، وأقاصي سواحل المحيط الهندي الشرقية؛ للقيام باستكشافات شتى في أبواب مختلفة، أثْرت العلوم من ورائها، وزادت دائرتها اتساعًا، ورفع في الوقت عينه شأن دولته رفعًا باهرًا.
وذلك علاوة على ما سبق لنا ذكره في الفصل الخامس من الباب الأول، من مظاهر عنايته الفائقة بالمعارف والتعليم والحركة الفكرية، وما بذله لأربابها والقائمين بها من صنوف الإكرام والترغيب ما لم يروَ عن عاهل شرقي غيره، منذ أيام كبار العباسيين وكبار الفاطميين.
ولمَّا كان تفصيل وقائع تلك البعثات، على ما فيه من لذة وتشويق للمطالعة، يستدعي كتابًا على حدته، يحسن بالمجمع العلمي المصري أن يكلف بوضعه أحدَ أعضائه الأفاضل، ولو على سبيل الاعتراف بما كان (لإسماعيل) عليه من أيادٍ، نرانا مضطرين لئلا يطول هذا المؤلف بين أيدينا طولًا منتقدًا إلى الاكتفاء بنبذة وجيزة عنها والإشارة إليها فقط.
على أننا لسنا بذاكرين هنا إلا البعثات المرسلة من (إسماعيل) على نفقة حكومته الخاصة، مغضِّين النظر عن البعثات التي شجع على إرسالها المجامع العلمية الغربية، من نوع الشركة الجغرافية الملكية بلندن وغيرها، أو قام بها أفراد كالسير صموئيل بيكر، بمساعدته الفعالة.
ومرجع الفضل في تمكين (إسماعيل) من الإقدام على إرسال تلك البعثات إنما هو لاستقدامه الضباط الأمريكيين، وانشائه مدرسة خاصة لتخريج أركان حرب، واعتنائه اعتناء فائقًا بتربية ضباطها، ثم لاحتياطه برجال ذوي عزم وشجاعة من الغربيين والمصريين على السواء، رأوا لذة كبرى في إيقاف حياتهم على الرحلات والاستكشافات العلمية.
وإليك بيان تلك الرحلات والاستكشافات مأخوذًا عن كتاب «مصر الخديو» للمستر إدوين دي ليون القنصل الأمريكاني السابق لنا ذكره مرارًا:
(١) رحلة جوردون من جندوكورو إلى بحيرة ألبرت نيانزا، برفقة واطسون، وتشيندال، وچيسي، لمعرفة مجرى النيل الأبيض في تلك الجهات، والوقوف على أحوال البلاد الممتدة على ضفافه؛ الجوية والطبيعية والزراعية وغيرها.
(٢) رحلة واطسون وتشيندال بأمر من جوردون، من الخرطوم إلى جندوكورو، للغرض والمهمة عينها.
(٣) رحلة واطسون وتشيندال أيضًا في ديسمبر سنة ١٨٧٤ إلى رچاف بالقرب من جندوكورو، ليرصدا انتقال الزهرة، ويضعا تقريرًا عنه للمراصد الفلكية بمصر والغرب.
(٤) رحلة چيسي بأمر من جوردون إلى بحيرة ألبرت نيانزا، وطوافه فيها للوقوف على اتساعها، وعلى مقدار المنصبِّ من مياهها في النيل سنويًّا، ولمعرفة أحوال القبائل القاطنة على سواحلها وغير ذلك.
(٥) رحلة لونج تحت إمرة جوردون لارتياد مجرى النيل، واختباره بين بحيرة فكتوريا نيانزا ومرولي، اختبارًا شاملًا، واستكشافه بحيرة إبراهيم، المسماة كذلك على اسم أبي الخديو، ووصفه إياها وصفًا وافيًا.
(٦) رحلة لينان وچيسي وبياچيا، تحت إمرة جوردون، لتحقيق مجرى النيل، ودرسه درسًا دقيقًا، ما بين شلالات كما، وبحيرة ألبرت نيانزا.
(٧) استكشاف چيسي الفرع الخارج من النيل بالقرب من بحيرة ألبرت نيانزا، والسائر نحو الشمال الغربي.
(٨) استكشاف بياچيا الفرع الخارج من بحيرة إبراهيم، والسائر نحو الشمال.
(٩) رحلة جوردون بين فويرا ومرولي، لدرس مجرى النيل بينهما.
(١٠) رحلة لونج ومانيو إلى البلاد ما بين النيل الأبيض بالقرب من جندوكورو وبحر الغزال، لاختبارها ودرس أحوالها وطبائعها، واستطلاع بلاد ماكياكا ونيام نيام (النمانم).
(١١) رحلة الكرنيل كلستون ومعه خمسة من ضباط أركان الحرب، لاستكشاف وتخطيط الطرق ما بين الدبة ومتول، والدبة واتيل.
(١٢) تجول الكرنيل كلستون في الجزء الشمالي من إقليم كردوفان، لوضع تقرير وافٍ عنه، وقضاؤه عدة شهور في تلك المهمة.
(١٣) رحلة الميچر پراوت لارتياد إقليم الكردوفان عامة، والوقوف على دقائقه، ووضعه خريطة شاملة مفصلة لغاية الدرجة الثانية عشرة من العرض الشمالي، وتجواله، ومعه الخمسة الضباط البادي ذكرهم من ضباط أركان الحرب في تلك الأصقاع، تجوالًا قطع فيه نيفًا وستة آلاف كيلو متر، وتحديده سبعة عشر موقعًا تحديدًا فلكيًّا.
(١٤) قيام الدكتور پفند تحت إدارة كلستون وپراوت بإجراء اختبارات نباتية، لمعرفة نباتات وأزهار إقليم الكردوفان، والعود بمجموعة نباتية من تلك البلاد، كان لها شأن يذكر عند علماء التاريخ الطبيعي.
(١٥) قيام الكرنيل پردي واللفتننت كرنيل ميسون وخمسة من ضباط أركان الحرب المصريين بارتياد الطريق وسيره ما بين دنقلة والفاشر عقب استيلاء الجنود المصرية على دارفور.
(١٦) رحلة الكرنيل پردي واللفتننت كرنيل ميسون، والميچر پراوت، وتسعة من ضباط أركان الحرب المصريين إلى دارفور، ودار فرتيت، وحفرة النحاس، واستطلاعهم أحوال تلك البلاد الجوية والطبيعية والزراعية والمعدنية، وسيرهم من جبل ميروب شمالًا إلى السكا جنوبًا، وودداي غربًا، ووضعهم خريطة عامة شاملة لجميع هاتيك الأصقاع بعد اجتيازهم ٦٥٠٠ كيلو متر، وتعيينهم ٢٢ مركزًا تعيينًا فلكيًّا دقيقًا.
(١٧) قيام الدكتور پفند، تحت إدارة الكولونيل پردي، بإجراء اختبارات نباتية لمعرفة نباتات إقليم دارفور المفتتح، وأزهاره، والعود منه بمجموعة نباتية كان لها شأن المجموعة التي جاء بها الدكتور عينه من كردوفان.
(١٨) رحلة متشل الچيولوچي، وأميليانو، وضابط من ضباط أركان الحرب المصريين من قنا إلى البحر الأحمر، بالقرب من القصير، ووضع خريطة لتلك الجهات وتقرير علمي عنها.
(١٩) رحلة متشل عينه بمن معه إلى البلاد الواقعة في شمال زيلع الغربي، وبالقرب من فرضة تتچورا، للوقوف على حالها من الوجهة العلمية على العموم، والچيولوچية على الأخص.
(٢٠) قيام القائمقام مختار والمساعد القائمقام فوزي باستطلاع الأرض ما بين زيلع وهرر، وتخطيطها، ووضع خريطة لها وللبلاد الواقعة في جيرتها من جميع الجهات.
(٢١) بعثة الكرنيل لكيت والكرنيل فيلد، واللفتننت كرنيل دريك، والضابط بليغ أفندي، والميچرات ديوليو ودنيش وديوهولي، والكبتن إرجنس، وعدة من ضباط أركان الحرب الآخرين إلى جوار مصوع وهضبة الحبشة، لدرس طبيعة الأرض وطوبوغرافيتها، ومناخ البلاد، ووسائل معيشتها، ولوضع خريطة مفصلة لها، وذلك قبيل الحمل عليها عسكريًّا.
(٢٣) رحلة الضابط عبد الرزاق نظمي وبعض زملائه من أركان الحرب المصريين، من بربرة إلى جبل دوبار، للوقوف على حال البلاد الواقعة بينهما، ووضع خريطة تبينها وتشرحها.
(٢٤) رحلة الكرنيل وورد، واليوزباشي صدقي إلى سواحل المحيط الهندي الإفريقية الشرقية، لدرس طبيعتها، ومعرفة مواقعها، ووضع خريطة تفصيلية لها.
(٢٥) رحلة الميچر ديوهولي، صحبة ضابط من ضباط أركان الحرب، لاستطلاع الطريق بين أسيوط وعين العجبة، ووضع خريطة لها تسهل على القوافل السير فيها.
(٢٦) رحلة الضابط محمد هدايت من ضباط أركان الحرب تحت إدارة متزنجر، للاستطلاع ما بين فرضة تتچورة وبحيرة أعوسا.
(٢٧) و(٢٨) و(٢٩) بعثات مختلفة إلى كردوفان ودارفور وخط الاستواء، لإجراء اختبارات واستطلاعات بارومترية، وترمومترية متنوعة.
(٣٠) بعثة برتن إلى أرض مدين للوقوف على معادنها وغلاتها. وبرتن رحالة مشهور جال المعمور بأسره تقريبًا، ووضع كتبًا ترغب في مطالعتها، وصف فيها أسفاره وصفًا حيًّا.
وإن الإنسان ليقف مبهوتًا حائرًا أمام انبعاثات هذه الهمم الإسماعيلية الفائقة في ميدان لم يخطر لأحد من أسلاف صاحبها العمل فيه، مع أن المدة المنصرمة بين ملكهم وملكه قصيرة، ويكاد العقل لا يتصورها كافية لنضوج مثل هذا التقدم الرائع في العقلية العلمية، وتقدير العلم حق قدره لمجرد ذاته.
فلا يسعنا، ونحن نعلم ذلك جميعه، ونرى — إزاءه — المجهودات المتنوعة المبذولة من (إسماعيل) في زيادة كنوز العلم المجرد، وعدم إحجامه عن أية نفقة وأية مشقة تستدعيها تلك الجهود، إلا أن نعتقد بأن قرنًا على الأقل انقضى بين ملك (سعيد) وملكه، ونكاد نأبى التصديق بأن مثل ذلك التطور العقلي المدهش في الوسط المصري بأكمله، قد أمكن أن يتم بمجرد ظهور رجل واحد على مسرح الحياة العمومية.
لذلك كان إعجاب الأوساط المتمدينة في الشرق والغرب بما امتاز به عهد (إسماعيل) من حركة فكرية خصيبة، وبعناية الخديو الفخيم بالعلوم وزيادة كنوزها، ورغبته في توسيع دائرتها، إعجابًا عامًّا لا تشوبه شائبة؛ ولذلك استحق (إسماعيل) عن جدارة أن يجلسه احترام الإنسانية لكل من عُني بالعلوم في مصافِّ الأكارم من النوع البشري، كپريكليس، وأغسطس قيصر، وعمانوئيل السعيد البرتغالي، وليو العاشر، ولويس الرابع عشر، الذين امتازوا بتنشيط العلماء، وترغيب ذوي المعرفة والإقدام في الرحلات العلمية والاستكشافات العمرانية! ألا فليبقَ جالسًا هناك إلى أن تدق الساعة!