الكوارث الطبيعية١
(١) حريق الحمزاوي
في إحدى ليالي صيف سنة ١٨٦٣ شبت نار عنيفة بالحمزاوي — والحمزاوي، كما هو معروف، مجموعة مخازن تشتمل على أهم المستودعات لأنفس البضائع وأثمنها، لا سيما المنسوجات والأبسطة والطنافس بمصر القاهرة — وبالرغم من الهمة والنشاط المبذولين من رجال الحفظ العام، بالرغم من التطوع بإخلاص، المقدَّم من أهالي الجيزة وسكان الجهات الأخرى الذين هبوا للمساعدة على إطفاء النيران، فإن هذه لم تخمد إلا قبيل الفجر، بعد تعب شديد وجهد جهيد، وذلك لعدم وجود رجال مطافئ متخصصين كما هي الحال الآن، ولأن مياه النيل لم تكن قد جلبت بعد إلى القاهرة، فبلغت الخسائر جملة ملايين من الفرنكات — وكان لمليون الفرنكات في ذلك العهد قيمة تعادل نيفًا وعشرة أمثاله الآن.
(٢) وباء الماشية والخيل
وكان قد انتشر في النمسا وإيطاليا في السنة عينها وباء اجتاح المواشي بكيفية مروعة، فانتقلت عدواه إلى مصر بعوامل التبادلات التجارية، وبالرغم من كل الاحتياطات التي أمر (إسماعيل) باتخاذها بكل دقة واعتناء لمقاومة تلك العدوى ومنع تفشيها، انتشر الداء الوبيل، كأنه الطاعون الأسود الفظيع، الذي أهلك الإنسان والحيوان والطير في أيام السلطان حسن، صاحب المسجد الأفخم في القاهرة، وعمَّ جميع البلاد شرقًا وغربًا، ولم يترك بلدًا إلا وحلَّ فيه، ولا قرية إلا ودخلها، واستمر يفتك بمواشي القطر، ويشتد شدة بالغة نيفًا وسنة، حتى بلغ عدد ضحاياه عدة مئات من الألوف، وكاد يفنى جميع البقر، فقلَّ اللبن والسمن، ثم انقطعا، وبلغت الحاجة إليهما أقصاها، وأكل الناس الدهن والزيت.
(٣) الكوليرا
وإنما تطيرت الأرواح لأن الكوليرا — الوباء الفظيع المهلك — كان قد زار مصر في الماضي زيارات متعددة زارها في يوليه سنة ١٨٣١، وفي يونية سنة ١٨٤٨، وفي يوليه سنة ١٨٥٠ وفي يونية سنة ١٨٥٥، وترك فيها عقب كل زيارة من الآثار المخيفة والدمار ما كان جديرًا بأن يجعل المخيلات ترتعد، والقلوب تخور لذكره.
ففي سنة ١٨٣١ — ولم يكن يُعرف قبلها، وقد دار فيها المعمور كله، وفتك به فتكًا ذريعًا، وافترس ضمن ضحاياه كازمير پيرييه، كبير وزراء لويس فيليب، ملك الفرنساويين، ووصف أوچين سي في «اليهودي التائه»، روايته الكبرى، مقدار اتساع بطش ذلك الداء الرهيب وصفًا مرعبًا — فإن (محمد علي) — وقد أقلقته شدة وطأة الوباء، وأخافته بالأخص على تجهيزاته وتعبيئاته الحربية — أقبل يبحث في طرق لمقاومته وإبادته.
فأشار عليه المسيو ميمو قنصل فرنسا العام، بإنشاء إدارة صحية تنظر في ذلك، وتقوم بشئونه، فكلف (محمد علي) بالمهمة جمهورًا من الأطباء الأجانب، فقاموا بها، وكونوا الإدارة المطلوبة في سنة ١٨٣١ عينها، ودعوها «الانتندانس سانيتير»، فألحقت بالإدارة المحلية، وجعلت تحت رياستها، وعهد إلى هذه الإدارة تنفيذ قراراتها.
وكان رئيس «الانتندانس» يعرض على الأمير أسماء الأطباء والعمال المطلوب تعيينهم فيها، فتصدر الإدارة السنية بتعيينهم، ويناط بكل منهم عمل يرفع تقاريره عنه إلى رئيسه مباشرة، وهذا يخبر بما يرى من كان أعلى منه، وهكذا بالتدريج الرسمي، حتى تبلغ المكاتبات الرئيس الأسمى.
وأقبل القناصل يعضدون تلك الهيئة الصحية فجعل كل منهم مندوبًا لديها، يحضر اجتماعات مجلسها، نائبًا عن جنسيته، ويتداول مع أعضاء ذلك المجلس في الإجراءات الواجب اتخاذها، على أن القرارات كانت بأغلبية الأصوات.
وامتازت الحكومة الفرنساوية رغبة منها في المحافظة على سلامة سواحلها التي على البحر الأبيض المتوسط من أن تتطرق إليها الأوبئة، بإيفاد أطباء خصوصيين من لدنها إلى الأسكلة الشرقية، لا سيما بمصر، ليراقبوا فيها الأحوال الصحية، ويخابروا وزير التجارة الفرنساوية رأسًا بكل ما يرونه ذا أهمية من الطوارئ، فلم يعد يسوغ لأي مركب، مهما كانت جنسيتها، أن ترد ثغرًا فرنساويًّا إلا إذا كان لديها إذن صحي من الطبيب الفرنساوي المقيم في الثغر الشرقي الذي بارحته.
هؤلاء الأطباء الفرنساويون كانوا بمصر يحضرون جلسات مجلس إدارة «الانتندانس» ومداولاته، ولهم حق التصويت فيها.
وعينت مدد مختلفة لحجز السفن القادمة من الأقطار المشبوهة في عرض البحر تحت المراقبة، حتى يثبت خلوها من إصابات وعدوى، فجعلت خمس أيام للسفن السليمة، مع عدم إجبارها على تنزيل ركابها وبضائعها في العازاريتة، وأما المراكب غير السليمة فقرر حجزها عشرة أيام، مع إجبارها على تنزيل ركابها وبضائعها، إلا ما كان غير صالح منها للتنزيل، لأجل تطهير الكل.
على أن هذا جميعه لم يتم إلا بالتدريج، ولم يجر معظمه إلا في عهد (إسماعيل) وبفضل همته، فكان أكثر الوقايات الصحية المألوفة الآن لدينا لا يزال — والحالة هذه — مجهولًا في سنة ١٨٦٥، وكانت الأوبئة، إذا ما تفشَّت، فتكت بالأعمار فتكًا ذريعًا، وصعب على القائمين بالشئون الصحية تلافي أمرها واستئصال شأفتها.
ومن جهة أخرى فإن مقاتلة الطاعون البقري كانت قد أفضت إلى القضاء على ذلك الوباء، لدرجة أنهم أبطلوا في ٢٤ مايو الكشف على المواشي الواردة إلى القطر. فما قيل من أن أهل مصر والإسكندرية كانوا يشربون مياهًا خضراء تذوب فيها أكوام مواد حيوانية ميتة كذب بحت، وكذب كذلك ما زعمته جريدة إفرنجية بالإسكندرية من أن جثث التماسيح الميتة كانت تغظي شواطئ النيل التي كانت تحرسها في السابق — كأن التماسيح كان أبدًا شأنها حراسة ضفاف النيل.
فما طار إذًا نبأ ظهور الكوليرا بمكة؛ إلا وأصدر (إسماعيل) أمره، فأرسلت الإدارة الصحية مندوبين إليها للوقوف على حقيقة الحال هناك، وموافاة رجال الحكومة المصرية بالأخبار.
ولكن المرض كان قد تلاشى من المدينة الحرام بمغادرة الحجيج لها، فتعقب المندوبان الحجاج وما افتروا عن ملاحظتهم لحظة، ولكن نقاوة هواء البحر كانت سببًا في أنه لم تظهر على ظهور البواخر إصابات مطلقًا، فأدى ذلك إلى عدم حجز الحجاج في محجر السويس، والتصريح لهم بالذهاب إلى الإسكندرية، ليسافروا منها إلى بلادهم. فجهزت الإدارة قطارات خاصة سريعة، نقلتهم إلى الإسكندرية بدون أن يختلطوا بالأهالي، وأنزلتهم في محجر المكس تحت المراقبة.
ولكنه حدث — لسوء الحظ — أن بعض الشيالين في مصلحة سكة الحديد، من قاطني حي كوم الشقافة بالإسكندرية، اختلطوا بهم لقضاء حاجاتهم، فما كان يوم ١١ يونية سنة ١٨٦٥ — وهو يوم مشئوم، لأنه في مثله من سنة ١٨٨٢ وقعت بالإسكندرية عينها المذبحة التي أكسبت الثورة العرابية المدنية صبغة الحركة الدينية التعصبية، فأدت إلى تداخل الدول الغربية، لا سيما إنجلترا في الشئون الإدارية المصرية، تداخلًا لم يعد في الإمكان إزالته بالتي هي أحسن، وأفقدت العالم الغربي القليل الذي كان لديه من ثقة في مقدرتنا على التجرد، في إرادة شئون بلادنا، من مؤثرات القرون الدينية علينا تأثيرًا يخرجنا عن المضمار الذي تجري المدنية الحديثة شوطها فيه — ما كان يوم ١١ يونية سنة ١٨٦٥ إلا وظهرت الإصابة الوبائية الأولى بناحية كوم الشقافة، وتلتها في الحي عينه أربع إصابات في ١٢ يونية، واثنتا عشرة إصابة في ١٣ يونية، وأربع وثلاثون إصابة في ١٤ يونية، وثمان وثلاثون إصابة في ١٥ يونية.
فهلعت قلوب الإسكندريين، واستولى عليهم الرعب، فزاد ذلك الطين بلة، وبعد أن كان عدد الإصابات قد انحط في ١٦ يونية إلى ٣٤، عاد فوثب مرة واحدة، وظهرت ثلاث وخمسون إصابة في ١٧ يونية، منتشرة في عموم أنحاء المدينة، وبدت على الأخص في بيوتها وشوارعها وأحيائها القذرة.
وكان الدكتور كولوتشي بك رئيس «الانتندانس سانيتير» قد أخطر هذه الإدارة بظهور الوباء منذ يوم ١٢ يونية، فهبت واتخذت الاحتياطات اللازمة، وعرضت نفاذها على الحكومة المحلية، فقامت به خير قيام، وأخطر كولوتشي بك القناصل بالقرارات المتخذة، وطلب منهم المساعدة، فأبدوها بكل ارتياح ونشاط، فنظفت المدينة بسرعة، ورشت الشوارع بغزارة، بل غسلت عدة مرات في اليوم، وأتلفت كل المأكولات التي اعتبرت غير صحية، وشددت المراقبة على المواد الغذائية عمومًا، وأنشئت ستة مكاتب إسعاف اشتغل العمال فيها ليلًا ونهارًا بالمناوبة، وبدون انقطاع، ولم يأل أطباء الحكومة والأطباء الأجانب المتطوعون معهم ورجال «الانتندانس» جهدًا في القيام بواجباتهم، حتى استحق جميعهم ثناء الصحافة والعموم عليهم.
غير أنه تعذر في بادئ الأمر إنقاذ المصابين من الموت — لأن الإصابات كانت صاعقية — ولا أمكن حصر الوباء، بالرغم من كل الاحتياطات التي اتخذت، ولو أن عدد المصابين في البيوت والشوارع والأحياء التي استعملت فيها الوسائل الصحية بحكمة واستمرار كان قليلًا بالنسبة لغيرها.
فبعد أن كان الكوليرا لغاية ١٧ يونية قاصرًا على الإسكندرية، لا يفارقها، سرى في ذلك اليوم، فأصيب به في أبي قير بحري، وفي طنطا امرأة، قدما إلى البلدين من الإسكندرية، وظهرت أعراضه في مصر على ستة أشخاص منهم خمسة قادمون من السويس، وواحد من الإسكندرية.
ثم تفشى بسرعة غريبة بمصر السفلى والوسطى، وانتقل أخيرًا إلى بعض أنحاء الصعيد، ولوحظ أنه أصاب — على الأخص — البلدان والبيوت الواطئة، فبينما أفقد من قريتين متجاورتين مبنيتين على أرض تستوي مع المحمودية عشر سكانهما، فإنه لم يصب إلا واحدًا فقط من أهالي بلدة أبي طاحون الستمائة. وكان أعصب أيامه يوم ٣ يولية بالإسكندرية، وبلغت الوفيات فيه ٢٢٨، ويوم ٥ يولية بمصر، وبلغت الوفيات فيه ٤٦٨، ويوم ٢٩ يونية برشيد، وبلغت الوفيات فيه ٢٧٩، ويوم ٥ يولية بدمياط، وبلغت الوفيات فيه ١٧٢، ويوم ٧ يولية بالمنصورة، وبلغت الوفيات فيه ٣٥، ويوم ٢٤ يونية بطنطا، وبلغت الوفيات فيه ٩٦، ويوم ٢٧ يونية بالزقازيق، وبلغت الوفيات فيه ١٠٥.
على أن جهود الإدارة الصحية لم تفتر لحظة عما كانت عليه في أول يوم، بل زادت على ما كانت مع ازدياد المرض، ففرضت على مراكب البريد ذاتها حجرًا صحيًّا مدته خمسة أيام، بما فيها يوم السفر، وأخضعت كل من فيها لزيارة طبية يومية. هذا إذا كانت سليمة، وأما إذا كانت مراكب حدثت عليها إصابات في مدة السفر، فالحجر كان ثمانية أيام عقب يوم الوصول، وإذا حدثت على ظهرها إصابة جديدة في هذه المدة ضربت عليها ثمانية أيام أخرى. كذلك لم يكن يسمح لأي مركب، بخارية كانت أم شراعية، أن تداني المواني والثغور إلا بعد قضاء مدة الحجر المفروضة. وأما البضائع التي كان لا بد من إنزالها وتصريفها في الحال، لئلا تتلف، فكانوا ينزلونها في ماعونات ويطهرونها تطهيرًا شاملًا، ثم يسمحون لها بالدخول إلى القطر.
ومع ذلك فإن فريقًا من الرأي العام وجد أن الإدارة لم تقم بكل واجبها، فحمل عليها في بعض الجرائد حملات منكرة، أدت إلى زيادة الهلع والخوف اللذين كانا قد عمَّا العاصمتين المصريتين، وبعض مدن الريف الكبرى منذ أن انتشر خبر الإصابات الأولى، وأوجبت نزوح الكثيرين من أهل البلاد إلى الخارج، حتى لقد قدر أن عدد الذين هجروا القطر ما بين ١٢ يونية و١٥ يولية بلغ نيفًا وخمسة وثلاثين ألفًا أي أنه قد سافر كل من استطاع إلى السفر سبيلًا.
وكان (إسماعيل) قد عزم على السفر إلى أوروبا في ذلك العام قبل أن تظهر أخبار مطلقًا عن الوباء، فلما ظهرت، تشدد كل التشدد في إنفاذ الوسائل الصحية وتعميمها، لكيلا يقضي عليه تنفيذ عزمه بترك الحالة الصحية في القطر مضطربة، سائدًا عليها الخوف، ولكنه لما وثق من أن أوامره نفذت كلها، وأنه لم يعد على مسئوليته غبار، فوض إلى شريف باشا قائمقامية القطر في مدة غيابه، وإلى نوبار باشا أمر الاهتمام الكلي بمقاومة الوباء والقضاء عليه، وأقلع في صباح اليوم الرابع عشر من شهر يونية من الإسكندرية على ظهر يخته «المحروسة»، وبعد أن قضى مدة يتجول بين جزر البحر الأبيض المتوسط، ويتنزه في عرضه، مستنشقًا نسيمه العليل نزل بمرسيليا، وتوجه منها إلى فيشي للتطبب بمياهها.
فاتخذت الألسنة النمامة سفره في تلك الظروف ذريعة للطعن عليه، واتهمته في بعض الجرائد الفرنجية في القطر المصري وخارجه بأنه إنما سافر لشدة خوفه من العدوى، وشدة حرصه على حياته الثمينة! مع أن تلك الألسنة كانت تعلم حق العلم أنه لم يكن بالجبان، ولا اشتهر عنه الخوف من الخطر، ولو أنه لم يلجأ في إثبات شجاعته إلى ما عمله (محمد سعيد باشا) سلفه، ليقيم الدليل عليها.
على أن لا (سعيد) ولا (إسماعيل) كانا في حاجة إلى إقامة الأدلة على شجاعتهما، فإن المثل السائر يقول «هذا الشبل من ذاك الأسد»، وأيضًا «ابن الوز عوام»، فكيف يكون ابن (محمد علي) وابن (إبراهيم)، بطلي أبطال الشرق الحديث، جبانين؟
وبعد أن أقام الوباء ستين يومًا، أخذ ابتداء من ١٣ أغسطس يتناقص شيئًا فشيئًا حتى إذا كانت أوائل سبتمبر تلاشى وزال، كعادته في المرات الأخرى التي حل فيها على القطر ضيفًا ثقيلًا، فكان جملة من مات به من المسلمين ٥٦٧٦ شخصًا، ومن الأقباط ٢٦٣، ومن الفرنج ١٦٥، وذلك غير ٦١٠٤ أشخاص توفوا إبان فتكه بأسباب أخرى، فيكون مجموع وفيات القطر في أثناء إقامته ١٢٤٢٩ شخصًا.
وأكبر دليل على قيام الإدارة الصحية والحكومة المحلية بواجباتهما، القيام الحق، هو كثرة ورود السائحين والزائرين الغربيين إلى القطر في هذا العام، عام سنة ١٨٦٥، فقد بلغ عددهم ٥٠٣١٧ سائحًا، ولم يكن يبلغ نصف ذلك في السنوات السابقة، فلو أن الانتقادات والمخاوف كانت في محلها لأحجم جمهور هؤلاء عن المجيء إلى بلادنا.
(٤) طغيان النيل وعجزه، وما نجم عن ذلك من غلاء ومجاعات
وكأن هذه البلايا لم تكن كافية لإحراج الصدور، واستنفاد الأموال فإن فيضانات النيل في كل سني ملك (إسماعيل) تقريبًا، خرجت عن طور المألوف، وأخذت تارة تزيد على المطلوب زيادة فاحشة، وطورًا تقل عنه قلة محرقة.
ولكي يثبت الأمير الاطمئنان في قلوب رعيته، لم يحجم عن الذهاب بنفسه لافتتاح خط سكة حديد طلخا — وهو خط يحاذي جانب عظيم منه النيل — غير أنه حدث بعد وصوله إلى طلخا بقليل، أن الحاجز الأكبر انهار، وتدفقت مياه النهر منه بغزارة، وهددت الجيزة كلها، فأمر (إسماعيل) حالًا باتخاذ الاحتياطات، وإجراء التصليحات والترميمات اللازمة، فلم تمض ثلاثة أيام إلا والحاجز قد أعيد إلى حالة من المتانة خير من الأولى.
وكانت نتيجة ذلك الفيضان الجارف القضاء على جانب عظيم من المغلِّ؛ فارتفعت أسعار الحنطة والذرة ارتفاعًا فاحشًا، طار بسببه غلاء شديد، أوجب ارتفاع عموم أسعار حاجات المعيشة ارتفاعًا مخيفًا، ثم انقطع وارد القمح بالمرة، واشتد الطلب فلم يجد الفقراء له أثرًا لا في سواحل بولاق، ولا في مصر القديمة، ولا في جميع رقع الغلال الأخرى، فضجوا وعجوا، وكثر طواف النساء في الأسواق يحملن المقاطف، لعلهن يجدن من يبيعهن قمحًا أو دقيقًا.
على أن النيل عاد إلى الطغيان سنة ١٨٦٦ فبلغ ارتفاعه نيفًا وخمسة وعشرين ذراعًا وأربعة عشر قيراطًا، فعادت ويلات سنة ١٨٦٣، وزادت شدة، وكان ذلك هو العام الذي فاز (إسماعيل) فيه بحصر إرث العرش المصري في الابن البكري. فالابن البكري من ذريته، فأبى أن يشوب كدر عام أفراحه، لذلك بذل قصارى جهده في منع كل غرق وخراب عن البلاد وساكنيها، وما فتئ كالمرة الأولى متنقلًا في جهات القطر، لا سيما في الصعيد، مراقبًا بنفسه شئون المحافظة على الجسور، حتى تمكن من درء شر جسيم.
على أن كثرة توافد الزائرين في هذا العام — وقد بلغ عددهم ٧٧٧٦٧ — وكثرة ما أنفقوه أو أنفق عليهم جعلتا ذلك الغلاء في مصلحة منمي المواد الأولى ومورديها وفي مصلحة التجار والصناع على العموم. فعوضتاهم خسائرهم وزيادة، ولكن الفقراء — وهم بكل أسف الأغلبية — لم يستفيدوا إلا قليلًا من الملايين المقنطرة التي صرفت في هذه السنة واحتفالاتها، فلم يخفف بؤسهم، ولا فاقتهم لطفت. وهم الذين كانت تقع عين الأجنبي عليهم في الغالب، فيحكم بانتشار البؤس وينسبه إلى مظالم الحكام ومغارمهم، أو إلى تعسف الحكومة بالرعايا، مع أن الحكومة في هذه السنة عينها وضعت تعريفة عمومية للنقود منعًا لتلاعب ذوي المطامع بها.
ومع أن فيضان سنة ١٨٧٠ كان أقل علوًّا من سابقه، إلا أنه كان طاغيًا أيضًا — فإن ارتفاع مياهه بلغ نيفًا وأربعة وعشرين ذراعًا وسبعة عشر قيراطًا، فأتلف كل الذرة المزروعة على السواحل النيلية، وأنذر — لا سيما في جهات الصعيد — أطيان الفقراء من مزارعيها بالطغيان عليها وتخريبها، فما كان من (إسماعيل) إلا أنه أمر بكسر جسور النيل أمام أطيانه الخاصة لتحويل مياهها إليها، وصرفها عن أطيان أولئك البائسين، ولم يبال في سبيل منفعتهم بالضرر الذي أصابه.
ومما زاد الطين بلة في فيضان تلك السنة أن الأمطار انهمرت انهمارًا غير معهود في عموم بلاد مصر السفلى ومصر الوسطى، فهدمت ما هدمت، وجرفت ما جرفت، واستمر نزولها بمصر القاهرة وحدها نيفًا وتسعة أيام متواليات، واستمرت في ذات يوم منها تنهمل تسع ساعات، وست دقائق بلا انقطاع.
واستمر النيل على الطغيان في العامين التاليين، ولو أن شدَّته فيهما لم تضارع شدَّته في عام ١٨٧٤، ففي سنة ١٨٧٥ أناف ارتفاع مياهه على أربعة وعشرين ذراعًا وأربعة قراريط، وفي سنة ١٨٧٦ على أربعة وعشرين ذراعًا وخمسة عشر قيراطًا، فزاد الطين بلة، وحلقات البؤس تعقدًا. أضف إلى ذلك تعسف وزير المالية في تحصيل الأموال مقدَّمًا، بدون مبالاة بالمضارِّ المهلكة، اللاحقة بالفلاحين من وراء إتلاف تلك الفيضانات الثلاثة الطاغية المتوالية جانبًا عظيمًا من مزروعاتهم ومحصولاتهم.
وبينما النفوس المبتهجة بنكبة إسماعيل صديق، والمترقبة بعدها فرجًا، تنتظر بفارغ صبر أن يعوِّض الله خيرًا ما أصابت به تلك الفيضانات البلاد من ضرٍّ، ويمن على القطر بنيل محسن، إذا بفيضان سنة ١٨٧٧ أشح ما رآه عهد (إسماعيل) قاطبة، لعدم بلوغ مياهه سوى سبعة عشر ذراعًا وثلاثة قراريط، وإذا به لا يكفي لري جانب يسير من الأطيان، فضج المزارعون والأهالي، وانخلعت قلوبهم وقلب كل ذي مصلحة في القطر معها، وتوقع الجميع مجاعة لا نظير لها في العام التالي. ولم تُخيِّب الأقدار السيئة توقعهم، فإن نتيجة شح المياه بعد طغيانها ثلاث سنوات متواليات طغيانًا مدمرًا، وإتلافها جانبًا عظيمًا من المزروعات، كانت في الواقع مجاعة شديدة، انتشرت في صميم الربوع المصرية، وأكلت لحوم البؤساء من الفلاحين وأرباب الحرف، لا بل ذات عظامهم، لا سيما في الصعيد، وكأن ذلك لم يكن كافيًا لإهلاك الحرث والنسل، علاوة على الزرع والضرع، فإن الذين خلفوا إسماعيل صديق على دفة المالية من الغربيين قاموا يسلكون مسالكه للأسباب التي سنبينها فيما بعد، وابتزوا من فلاحي القطر الأموال مقدمًا، فطارت صرخة التألم في البلاد قاطبة، ودوت في مسامع الغربيين أنفسهم، وهم في عقر دورهم ببلادهم.
فهبت حكومة (إسماعيل) وأرسلت إلى أولئك البؤساء كمية من الخبز يقتاتون بها، ولكن الفناء ما انفك يعمل عمله، لا سيما في الأطفال والشيوخ، حتى لم يعد يبقى منهم في القرى والنواحي إلا القليلون.
أما وقد تكلمنا عن الكوارث الطبيعية، فلنتكلم الآن عن هذه العقبات ولو بإيجاز.