مقدمة
بسم الآب والابن والروح القدس
الإله الواحد
آمين
أومن بإله واحد آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، كل ما يُرَى وما لا يرى؛ وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنس، وصُلِب عنَّا على عهد بيلاطس البنطي، وتألَّمَ وقُبِر وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الآب، وأيضًا يأتي بمجد ليدين الأحياءَ والأموات، الذي لا فناء لملكه.
وبالروح القدس الرب المحيي، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن، مسجود له وممجَّد، الناطق بالأنبياء.
وبكنيسة واحدة جامعة مقدَّسة رسولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وأترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي. آمين.
•••
«وديننا لا يقتصر على ما يثبته العقل بدليل منه، ولو اقتصر على ذلك لما شعرنا بحاجة إليه، ولكنه لا يعلم ما يراه العقل محالًا، ولو فعل لَكان ضربًا من الضلال والتضليل، وليس كل معقول قابلًا للإثبات بحجج العقل؛ فحقائق الوجود أعمق من أن يسبر غورَها عقلٌ محدودٌ، وحقائق الوحي كالشمس تبهر ولكنها تنير السبيل.»
وقد أقام العلماء حججًا كثيرةً على وجود الله، منها: حجة الحركة والقول إن الكون سلسلة أحداث، وإن كل حادث مفعول، وكل مفعول يفترض فاعلًا، ومنها الاستناد إلى قضية الإمكان والوجوب، والقول إن في الموجودات حاجات وكمالات، وإن الله وحده كامل بذاته لا يتأتى له الكمال من غيره، وإنما هو كامل بحكم طبعه، والقول أيضًا بتدبير الكون، وبأن الله عقل ما لا يعقل وقصد ما لا يقصد، وأنه قد طبع في كل طبع ما أراده إليه، وهيَّأ لكل طبع فعلًا ملائمًا له محققًا لغايته.
ولكن أهم من هذا كله وأشد أثرًا في النفس دليل الخبرة الشخصية، فالرسل والأنبياء والقديسون والمؤمنون جميعهم خبروا الله يومًا بعد يوم، ولمسوا عنايته لمسًا، فعلموا أنه عالم بكل معلوم.
ولكم دجا ليلُ الخطوب، وأظلمت سبلُ الخلاص، فصلوا مع داود: «إلى الرب صرخت في ضيقي، يا رب أنقذ نفسي، إني ولو سلكتُ في وادي ظل الموت لا أخشى سوءًا؛ لأنك معي، عصاك وعكازك هما يعزيانني.» فأتاهم من ألطافه فرجٌ لم يحتسبوه. وكم أثقلت الذنوب ظهورَهم، وسوَّدت العيوب صحفهم، فصرخوا مع باسيليوس الكبير: «يا رب، يا رب، يا مَن أنقَذنا من كل سهم يطير في النهار، أنقِذنا أيضًا من كل عائق يسري في الدجى.» فستر عفوُه وشمل لطفه، فكانت صلاتهم نورًا لهم وبرهانًا.
وندموا واستغفروا وتقدَّموا من جسد الرب ودمه الكريم للتطهير والتقديس والإنارة والحراسة، وللنمو في الفضيلة والكمال، فخرجوا شاكرين واثقين من شفاء النفس والجسد، وإنارة العين وسلامة القوى، ممتلئين حكمةً، عاملين بالوصايا، عائشين بالبر والطهارة للسيد له المجد.
•••
وميزة ديننا أن الكلمة صار جسدًا، فكان إلهًا كاملًا في إنسان كامل، فالشرقي كان قد أذعن لله، ولكنه لم يكن حرًّا طلقًا، فجاء إذعانه سلبيًّا؛ وكان الغربي قد نشط وتحرَّر، وحاوَلَ جهد المستطاع أن يصل بالإنسان إلى درجة الكمال، ولكنه كان لا يزال يجهل الله، فجاء المسيح إلهًا كاملًا في إنسان كامل، فأوجَدَ للشرق ضالته، وأعطى الغربَ ما طلب واستقصى، وأظهر الحقيقة وهو الحقيقة المتجسدة، فأبان للشرق الإلهَ الكامل متَّحِدًا بالإنسان الكامل، وأكَّد للغرب أن الإنسان الكامل إنما هو مظهر من مظاهر الإله الكامل، ومن هنا سجود مجوس الشرق ﻟ «الإله المولود»، ومن هنا أيضًا قول ممثِّل الغرب بيلاطس البنطي: «ها هو ذا الرجل.»
ولم يَبْقَ بعد هذا أيُّ مجال لثقافة شرقية وثقافة غربية، فالمولود الجديد أوجَدَ ثقافةً إنسانيةً شاملةً ثقافةَ الشرقِ والغرب معًا، وأوجب على الخلق أجمعين أن يجعلوا من أنفسهم بشرًا أقوياء طلقاء كاملين قدر المستطاع؛ لينصرفوا إلى تطبيق مشيئة الله على أكمل وجه.
والكنيسة في العالم هي جماعة المقدسين في المسيح وبنعمة الروح القدس، المدعوين ليكونوا قديسين بشرًا أحرارًا كاملين قدر المستطاع، منصرفين إلى تطبيق مشيئة الله على أكمل وجه، والكنيسة فوق العالم هي سر الله المكنون، ولولا هذا لما عاشت في العالم.
•••
وكنيستنا واحدة جامعة مقدسة رسولية؛ فإننا جميعنا قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهودًا كنَّا أم يونانيين، عبيدًا أم أحرارًا، وسقينا جميعًا من روح واحد، ونحن جسد واحد هو جسد المسيح وأعضاء كلٌّ بمقدار، ومكانة كنيستنا في تاريخ البشر أنها أذعنت لله وسعَتْ لتطبيق مشيئته، وطلبت من المؤمنين إيمانًا وعملًا في آنٍ واحد.
والكنيسة تتألَّف من عنصرين؛ إلهي وبشري، من الحقيقة الإلهية المعطاة لها ومن سعيها البشري لتنفيذ المشيئة، وقد يسهو البعض عن أن النعمة الإلهية لا تقسر الناس قسرًا، وإنما تعمل فيهم عمل النور في الهواء، فتخترق نفوسهم لتعطيهم حرارةً وإشعاعًا، ونحن أعضاء هذه الكنيسة الجامعة بشرٌ، وكبشر نستبق التطوُّر أحيانًا، فنلجأ إلى الإكراه والقسر، وإكليروسنا قد يستكن أو يتحرك، فبينما يستكن الإكليروس الشرقي في بعض الأحيان، يتحرك الغربي أحيانًا إلى أن يمسي متهجِّمًا صلفًا؛ وهكذا فإنه نشأ — على ممرِّ العصور — شيء من الاختلاف في تطبيق العقائد الواحدة، ولم يخلُ حقلُ الرب في فرعَيْه الغربي والشرقي من الزوان من حب السيطرة والمجد الفارغ، ومن الطمع والحسد وسوء الظن والحقد، فكان انشقاق مؤلم مخيف.
ويتوجب على المؤمنين والحالة هذه، أن يصلُّوا بحرارةٍ لأجل زوال هذا الشقاق، وأن يبتهلوا بقلب منكسر ونفس منسحقة لأجل التقارب والوحدة، وألا ينسوا قول الذهبي الفم: «إن الذي يشق كنيسة الله يعمل عملًا أفظع من إنكار الإيمان؛ لأن الذي يُنكِر الإيمانَ يُهلِك نفسًا واحدة، وأما الذي يشقُّ الكنيسة فإنه يُهلِك نفوسًا كثيرة.» وعلى كلِّ مؤمن أن يلاحظ هؤلاء الذين يحدثون الشكوك والشقاق، وأن يعرض عنهم؛ لأنهم على حدِّ قول بولس الرسول: «لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم.»
وإذا ما صلَّينا وابتهلنا لوحدة الصفوف، فإنما نفعل ذلك لأجل متابعة العمل في حقل الرب بعد جمودٍ دامَ طويلًا، وحقلُ الرب واسعٌ جدًّا يشمل العالَمَ بأسره، والعمل فيه لا يثمر إلا إذا اقترن بظروف صالحة معينة، وأهم هذه الظروف التجدُّد الداخلي الذي يتحلَّى بإنكار الذات، وإنكارُ الذات يبدأ باعترافٍ داخلي بالعيوب وعدم الوصول إلى الكمال، ويفرض تنازلًا حقيقيًّا عمَّا نسمِّيه كرامةً شخصيةً، وهو يتطلَّب استعدادًا للتعاون مع الغير في سبيل مبدأ صحيح عام كلي المفعول؛ والمبادئ الأدبية الروحية كثيرة لا يخلو منها فؤاد، ولكن المقصود هنا هي تلك التي يعترف جمهور المؤمنين بصحتها، وتوجب الكنيسة الجامعة تطبيقها، وإذا كان الشرقيون منَّا قد أخطئوا في مجرد التمادي في التأمُّل والتعبُّد والمحافظة على قدسية الإيمان والوقوف عند هذا القدر، فالغربيون منَّا أخطئوا أيضًا في التشديد على نواحٍ معينة من العمل وإعطائها المرتبة الأولى؛ وهكذا فإنه يحقُّ للأرثوذكسي الشرقي أن يفاخر بشدة حرصه على استقامة الإيمان، ولكنه ينسى في بعض الأحيان قول الرسول بولس: «ولو كانت لي النبوة، وكنتُ أعلم جميعَ الأسرار والعلم كله، ولو كان لي الإيمان كله حتى لأنقل الجبال، ولم تكن فيَّ المحبة؛ فلستُ بشيء!» ويحق للكاثوليكي أن يفاخر بدوره بأعماله الكثيرة، ولكنه ينسى في بعض الأحيان قول هذا الرسول نفسه: «ولو بذلتُ جميعَ أموالي إحسانًا، ولو أسلمتُ جسدي لأُحرَق، ولم تكن فيَّ المحبة؛ فلا أنتفع شيئًا!» والواقع أن عيب الكاثوليكيين والأرثوذكسيين كان ولا يزال منذ الانشقاق إغفال المحبة. «والمحبة تتأنَّى وترفق ولا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ ولا تأتي قباحة، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد ولا تظن السوء، ولا تفرح بالظلم بل بالحق، تتغاضى عن كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء!»
•••
وقد أزمن الداء وتعسَّرَ برؤه، ولكنه ليس من النوع الذي لا ينجع فيه دواء، ورأينا أن نبتعد عن سياسة القسر والإكراه، فلا نستغل ظرفًا سياسيًّا، ولا نستعين بسلطة زمنية مسيطرة، فقد جرَّبنا هذا النوع من العلاج مرارًا وتكرارًا؛ فأخفقنا وتباعدنا.
وعلينا أيضًا أن نقلع عن التشويق إلى طقس معيَّن، أرثوذكسيًّا كان أم كاثوليكيًّا؛ فكنيسة المسيح غربية وشرقية في آنٍ واحد، ويجب أن تظل هكذا؛ لأن السيد المخلص إلهٌ كامل في إنسان كامل، ولأن هذه الصفة الشاملة التي تضم الشرق والغرب صفةٌ لازمة للكنيسة على ممر العصور، وكفانا نحن الاثنين — إلى أن يتم اتحادنا — أن هيرارخيتينا رسوليتان، وأن دستور إيماننا إلهي بشري واحد لا غشَّ فيه، وأننا نمارس أسرارًا إلهية مقدَّسة واحدة، تُنشِئ فينا بنعمة الله عندما نصبح مستعدين، ظرفًا روحيًّا طاهرًا يتطلَّب الاتحاد.
وإذا ما تمَّتْ هذه المهادنة بيسوع وله وتابعنا الصلاة المخلصة الحارة، «من أجل ثبات كنائس الله المقدَّسة واتحاد الجميع»، زال من نفوسنا مركب الشقاق والانشقاق، وحلَّ محله مركب المحبة، وعندئذٍ نجلس معًا ونتبادل الرأي بإلهام الروح القدس إلى ما فيه مشيئة الله وخير البشر.
•••
وكنيستنا الأنطاكية يونانية سريانية عربية؛ فقد كانت يونانيةً برجالها في المدن، وبفكرها ولغتها وطقوسها، وكانت سريانية وعربية بشعبها في القرى والأرياف، ولا يخفى أن الأرياف السورية اللبنانية الفلسطينية الأردنية استعربت قبل الفتح الإسلامي بتسعمائة سنة، وأن السريانية تقلَّصت تدريجيًّا، فانحصرت في القرى والمدن، ثم في التلال النائية في لبنان والقلمون مثلًا، وأخبار العرب والعروبة ثابتة في المراجع الهلينية، وفي سِفْر الأعمال، وفي أخبار القديسين ولا سيما أفثيميوس العظيم (٣٧٧–٤٧٣) وسمعان العمودي (٣٩٠–٤٦٠).
ولا نرى مبررًا للضجة التي يثيرها بعضُ إخواننا من رجال الكنائس السريانية، كلما وجدوا مخطوطةً من مخطوطات كنائسنا الأرثوذكسية مكتوبةً باللغة السريانية؛ فمجرد العثور على هذه المخطوطات لا يجيز الاستنتاج أن كنيسة أنطاكية كانت سريانيةً بلغتها وطقوسها ثم تهلنت؛ فالواقع الذي لا مفرَّ من الاعتراف به هو أن هذه الكنيسة التي نتشرف بالانتماء إليها جمعت في جميع عصورها يونانيين وسريانيين وعربًا، وأن لغتها الرسمية وطقوسها وقوانينها وثقافتها كانت يونانيةً قبل أن تكون سريانيةً أو عربيةً.
وقد يفيد أن نذكِّر إخواننا السريانيين أن مثل اجتهادهم هذا لا يصحُّ إلا في أحوال منطقية معيَّنة؛ فلا بد من كلية مُعترَف بصحتها، كأنْ نقول مثلًا إن اللغة التي كُتِب بها كتاب كنسي هي وحدها لغة الكنيسة التي استعملت هذا الكتاب. ولا بد من جزئية صحيحة أيضًا، كأنْ يُقال إن هذا السواعي الأرثوذكسي كتب بهذه اللغة؛ فتلزم النتيجة بطبيعة الحال، فكل ما صدق على حدٍّ صدق على كلِّ ما يصدق عليه ذلك الحدُّ إيجابًا وسلبًا، وأنَّى لنا أن تكون هذه الكلية صحيحة! وكنيستنا الأرثوذكسية كانت ولا تزال تعمل بوصية الرسول، فتجعل الصلاةَ بلغةٍ يفهمها الشعب، وقد رأينا بأم عيننا كتابًا طقسيًّا أرثوذكسيًّا يعود إلى السنة ١٦٨٠ مكتوبًا باللغة الثلاث معًا: اليونانية والعربية والسريانية، وإذا جاز استنتاج إخواننا، فماذا نقول عن اللغة الكرجية في كنائس فلسطين؟ فالرقوق الكنسية الكرجية والكتب القديمة الكرجية كثيرةٌ في ديري المصلبة والقديس سابا.
•••
وندرس ماضي كنيستنا لفهم حاضرها وإعداد العدة لمستقبلها، ولا سبيلَ لفهم الحاضر فهمًا تامًّا كاملًا شاملًا إلا بالطريقة العلمية المثلى، والطريقة العلمية المثلى تستوجب جَمْع جميع مخلفات الآباء، بالإضافة إلى الأناجيل الطاهرة والرسائل المقدَّسة وفهمها فهمًا دقيقًا كاملًا؛ وفهم هذه المخلفات فهمًا علميًّا كاملًا يُوجِب التذرُّع بما يسمِّيه المؤرخون العلومَ الموصلة، والعلومُ الموصلة لتاريخ كنيستنا تشمل إجادة اللغات التي كُتِبَتْ بها الأناجيل والرسائل ومخلفات الآباء، وهي بترتيب أهميتها: اليونانية واللاتينية والسريانية والعربية، ولما كان لا بد من الاطِّلاع على أبحاث المؤرخين الزملاء، وجب علينا أن نجيد الألمانية والإفرنسية والروسية والإنكليزية وغيرها.
وينتقل المؤرخ المدقق في المرحلة الثانية من عمله إلى نقد هذه المراجع الأولية؛ ليتثبت من أصالتها وعدم تزويرها أو الدس فيها، ويعين تاريخها ومكان تدوينها، ثم يتحرى نصوصها، فيجيء بلفظها الأصلي، ويتذرع بالعلوم الموصلة إلى فهم ظاهرها وباطنها، ثم يدقِّق في أخبار رواتها، فيتعرَّف إلى أحوالهم ويتوصَّل إلى تقدير عدالتهم وضبطهم، فيتمكَّن من المفاضلة بينهم، ويعين درجات متانة رواياتهم، فيجعلهم ثلاثة: راوٍ لا تُقبَل روايته، وآخَر ضعيف الرواية مجهول المكانة، وثالث هو أولاهم في انتباهه، ولكنه على هذا يظل موضوعًا للنظر والاختبار، ولا يصل المؤرخ في هذا النقد كله إلى نتيجة إيجابية يمكنه الاعتماد عليها للتثبُّت من حقيقة الماضي، ولا يقطع في شيء سوى أمر واحد هو إسقاط رواية مَن لا يعتمد عليه.
وتجيء المرحلة الثالثة في التأريخ، وهي دور إثبات الحقائق المفردة، فيتابع المؤرخ البحث والتنقيب للوصول إلى طمأنينة العقل وسلامة الاستنتاج؛ فيبتعد أولًا عن الروايات التي انفرد بها راوٍ واحد، فإذا كانت العلوم الطبيعية تتطلب المشاهدة والاستدلال القياسي والتحقيق بالمقابلة والتجربة؛ فتبتعد كل الابتعاد عن الإطلاق في النتيجة من مشاهدة واحدة، فالتأريخ أولى بذلك منها؛ لأنه بعيد عن المشاهدة، ضعيف الاستدلال بالقياس، عديم التجربة؛ فحري بنا أن نبتعد عن كل رواية تاريخية انفرد بها راوٍ واحد، فإذا قضت الظروف بتدوينها، فعلينا أن نصرِّح بأنها فريدة في بابها، وقد تتعدَّد الروايات التاريخية في أمر واحد فتتوافق أو تتناقض، وحيث تتناقض يجب على المؤرخ أن يترفَّع عن اتخاذ موقفٍ وسط بين الطرفين، فإذا ما وقع مثلًا على أصل من الأصول فيه أن عدد الشهداء كان أربعمائة، وآخَر فيه أنهم كانوا مائتين؛ فإنه من الخطأ الفاضح أن يوفِّق بين الطرفين، فيزعم أن العدد الحقيقي كان وسطًا بين الطرفين أيْ ثلاثمائة، فإذا جعل أحدهم حاصل الرقمين ٢ × ٢ أربعة، وجعل الآخَر الحاصل ستة، فهل يُقال إن الحاصل الحقيقي لا هذا ولا ذاك، بل هو خمسة؟! وعلى المؤرخ أن يعيد النظر لعله يكشف الستار عن عيب في إحدى الروايتين لم يتنبه إليه أولًا، أو لعله يجد ما يجعله يثق بالواحدة أكثر من الأخرى، فيسقط ما قلَّتْ ثقتُه فيه ويرجِّح القولَ الآخَر.
وعليه أن يمتنع عن الحكم إذا عمَّ الشك وبانت قلة الثقة؛ فليس هنالك ما يضطره لإبداء رأيه وإصدار حكمه، والعالِم مَن يعلم أنه لا يعلم، والشك في الإيمان قبل اليقين، وشدة الانطباق بين الروايات المختلفة توجب الشك لا الثقة، وهنالك تآلف بين الحقائق التاريخية لا بد من الالتفات إليه، والاستعارة هنا من فن الموسيقى، فكما تتآلف الألحان فتؤلف مجموعًا شائقًا، كذلك الروايات التاريخية المختلفة، فإنها إذا ما عبرت عن الحقيقة الراهنة، تتآلف بعضها مع بعض، فتتناصر على البطل وتلمع لمعان الحق.
وقد تتوفَّر الحقائق المفردة في ناحية، وتعدم في الناحية الأخرى، فيجتهد المؤرخ في تلافي ما قد يقع من فراغ ويتذرع بالمنطق، فيعمل أحيانًا بما نسميه الاجتهاد السلبي، وأحيانًا أخرى بالاجتهاد الإيجابي؛ والاجتهاد السلبي هو ما عبَّر عنه المناطقة بقولهم: «السكوت حجة.» ومعناه أن يتمكَّن المؤرخ من القول بأن كذا وكذا حدث أو لم يحدث؛ لأن الأصول ساكتة خالية، وهو أمر خطر للغاية، فقد يكون السكوت حجة وقد لا يكون، ولا بد من التثبُّت من أمور ثلاثة قبل التذرُّع بمثل هذه الحجة، وهي أن يكون المؤرخ على يقين جازم من أمر اطلاعه على جميع الأصول، وألَّا يعتريه شك في أن ما لديه من هذه المراجع الأولية هو جميع ما دوَّنه السلف في الموضوع الذي يبحث، وأنه لم يضع منها شيء، وثالثًا أن يتأكَّد من استحالة سكوت الأصول عن الموضوع الذي يبحث؛ وهكذا فإن حجة السكوت لا تتم إلا إذا اقترن بالراوي حالتان لا تنفصلان: أولاهما أن تكون الوقائع التي يمكن أن يكون قد سكت عنها وقائع يهتم بها اهتمامًا شديدًا، والثانية أن يكون الراوي قد صمَّمَ على تدوين جميع الأخبار التي أحاط علمًا بها.
وسيتضح في تضاعيف هذا الكتاب أن بعض علماء الأوساط البروتستانتية وبعض علماء الكنيسة الكاثوليكية الغربية، لم يتقيَّدوا في بعض أبحاثهم بقواعد علم المصطلح؛ فدوَّنوا استنتاجات من هذا النوع لا يقرُّها المنطق.
وهنالك محاولات في بعض المصنفات الغربية للحطِّ من قدر رجالات الكنائس الأرثوذكسية، وللمبالغة في الاختلافات التي نشأت بين بعض كنائسنا، وهي أمور لا تخفى على كل ذي بصر.
وهنالك مئات من الأبحاث في مواضيع خصوصية محدودة في اللغات الألمانية والإفرنسية والروسية والإنكليزية والإيطالية واليونانية، أشرنا إليها في محلاتها إشاراتٍ واضحةً تامة تعاون على الرجوع إليها عند الحاجة.
وقد لقيت في شخص كلٍّ من حضرات الآباء: أغناطيوس (هزيم)، وجاورجيوس (خضر)، واسبيريدون (خوري) غِيرةً واندفاعًا وتضحية، ولولا جهود السيد أندره جحا وغيرته الأرثوذكسية ونشاطه الذي لا يعرف الكلل، واهتمام غيره من شباب الحركة الأرثوذكسية المباركة، لما تمَّ طَبْع هذا الكتاب في هذا الوقت القصير.
في يوم تذكار القديس الأنطاكي
يوحنا الذهبي الفم
١٣ تشرين الثاني سنة ١٩٥٨
أسد رستم
لقد بزغت النعمة من فمك فأنارت المسكونة،
فتشفع إلى الكلمة المسيح الإله في خلاص نفوسنا.