تصدير
مشكلة العلاقة بين أجسادنا وعقولنا، وبخاصة مشكلة الصلة بين تراكيب وعمليات دماغية من جهة، وميول وأحداث عقلية من جهة أخرى، هي مشكلة صعبة بالغة الصعوبة. ومن غير تظاهر بالقدرة على التنبؤ بالتطورات المستقبلة يعتقد مؤلِّفا هذا الكتاب أن من غير المحتمل أن «تُحَل» هذه المشكلة أبدًا، بمعنى أننا سوف نفهم حقًّا هذه العلاقة. نحن نرى أنه ليس بوسعنا أن نتوقع أكثر من إحراز تقدم ضئيل هنا أو هناك. وقد كتبنا هذا الكتاب آملين أن نكون قد استطعنا أن نفعل ذلك.
نحن على وعي بحقيقة أن ما عملناه هو شيء حدسي للغاية ومتواضع للغاية. نحن على دراية بلامعصوميتنا. غير أننا نعتقد في القيمة الباطنية لكل جهد بشري يرمي إلى تعميق فهمنا لأنفسنا وللعالم الذي نعيش فيه. نحن نؤمن بالمذهب الإنساني: بالعقلانية الإنسانية، وبالعلم الإنساني، وبالإنجازات الإنسانية مهما تكن لامعصوميتها. ونحن غير مشغوفين بالصيحات الفكرية المتكررة التي تُهَوِّن من شأن العلم وغيره من الإنجازات الإنسانية العظيمة.
ودافع آخر لكتابة هذا الكتاب هو أننا كِلَينا نشعر أن «فضْح» مكانة الإنسانِ قد بلغ حدَّ الشطط، فيُقال إننا ينبغي أن نكون قد تعلمنا من كوبرنيقوس ودارون أن مكانة الإنسان في العالم ليست بالرِّفعة أو الحظوة التي كان يظنها الإنسان يومًا ما. قد يكون ذلك كذلك، إلا أننا منذ كوبرنيقوس قد تعلمنا أن نقدِّر كم هي رائعة ونادرة، وربما فذة، أرضنا الصغيرة في هذا العالم الكبير؛ ومنذ داروِن قد تعلمنا عن التنظيم المذهل لجميع الأشياء الحية على الأرض، وأيضًا عن المكانة الفريدة للإنسان بين رفاقه من المخلوقات.
هذه بعض النقاط التي يتفق عليها مؤلِّفا الكتاب. غير أننا أيضًا نختلف على عدد من النقاط الهامة. ونحن نأمل أن تتضح هذه النقاط في حوارنا المسجَّل الذي يشكِّل الجزء الثالث من الكتاب.
على أنه يجدر أن نذكر للتو اختلافًا مهمًّا بين المؤلِّفَين: اختلافًا في المعتقَد الديني. فأحدنا (إكلس) مؤمن بالرب وبما هو خارق للطبيعة، في حين أن الآخر (بوبر) قد يوصف بأنه «لاأدري»، وكلانا لا يُكِنُّ فحسب احترامًا عميقًا لموقف الآخر، بل يتعاطف مع هذا الموقف.
هذا الاختلاف في الرأي ينبغي ألا تكون له أهمية على الإطلاق في تناولنا لبعض المشكلات، ولا سيما المشكلات العلمية المحضة، إلا أنه يُقحم نفسه في نقاشنا للمشكلات الأمعن في الطابع الفلسفي. هكذا فإن أحدنا يميل إلى الدفاع عن فكرة بقاء الروح الإنسانية كما يفعل سقراط في محاورة «فيدون» لأفلاطون، بينما يميل الآخر إلى موقفٍ لاأدريٍّ أشبه بموقف سقراط في محاورة «الدفاع» لأفلاطون. ورغم أنَّ كلينا مناصر لمذهب التطور فإن إكلس يعتقد بأن البَون بين وعي الحيوان وبين الوعي الذاتي للإنسان أوسعُ مما يراه بوبر. غير أننا نتفق فعلًا حول نقاط مهمة كثيرة، مثل ارتيابنا بالحلول المفرِطة البساطة. إننا لَنشُك بأن ثمة ألغازًا عميقة يتعيَّن أن تُحَل. وأطروحتنا الرئيسية — مذهب التفاعل السيكوفيزيقي — سوف تُناقَش باستفاضة في الكتاب. نود هنا أن نذكر فقط نقطة أو اثنتين في المنهج.
بين هذه نحن متفقان على أهمية أن يعمد عرضُ المسائل إلى الوضوح والبساطة. الكلمات يجب أن تُستعمَل بدقة وحذر (من المؤكد أننا لم ننجح دائمًا في هذا) إلا أن معناها، في رأينا، ينبغي ألا يصبح موضوع نقاش أو يُسمح له أن يطغى على النقاش، مثلما هو الحال في كثير من الكتابة الفلسفية المعاصرة. ورغم أن من المفيد أحيانًا أن نشير إلى المعنى المقصود للفظة ما من بين معانيها المتعددة، فليس من الممكن أن يتم ذلك بتعريف اللفظة؛ إذ إن كل تعريف لا بد أن يصطنع استخدامًا أساسيًّا لحدود غير مُعرَّفة. وقد استخدمنا حيثما أمكن حدودًا غير تكنيكية مُفضِّلين إياها على الحدود التكنيكية.
صفوة القول، على كل حال، أن ما يهمنا ليس هو معنى المصطلحات بل صدق النظريات؛ وهذا الصدق هو أمر مستقل إلى حد كبير عن المصطلح المستخدم.
قد يوصَف هذا الكتاب بأنه محاولة في التعاون بين التخصصات؛ فأحدُنا (إكلس) هو واحد من علماء الدماغ قادَهُ إلى هذا الحقل من حقول البحث شغفُه بمشكلة الدماغ-العقل طول حياته، والآخر (بوبر) فيلسوف كان طوال عمره ساخطًا على المدارس الفلسفية السائدة ومهتمًا بالعلم اهتمامًا عميقًا. وكلانا ثنائيٌّ أو حتى تعددي، وتفاعلي. وتعاونهما كان يحدوه الأمل في أن يتعلم كلٌّ من الآخر.
جون إكلس