الفن في عصر الرقمنة
لا تزال الثورة الرقمية التي تسيطر على العالم برُمَّته حدثًا سحريًّا كونيًّا، يغري الجميع ويبتلعه في شبكاته المعولمة، كما كرونوس إله الزمن في الأساطير اليونانية القديمة وهو يلتهم أبناءه، فلا أحد بوسعه أن يفلت اليوم من الشبكة العنكبوتية، ومن منصات التواصل الاجتماعي، ومن حيل الإنستغرام وعمالقة العالم الرقمي غوغل ويوتيوب، وإغراءات النوافذ الافتراضية الصغيرة للرسائل الحميمة والعلاقات الأيروسية الافتراضية، وأساليب التدجين والبروبغندا والسيطرة على العقول والمشاعر على نحو عالمي، وذلك في ضرب من الرقابة المعولمة والمعممة لحياة الناس وأفكارهم ومشاعرهم الأكثر خصوصية. ماذا ستفعل بنا الثورة الرقمية؟ هل ستعزز التواصل العالمي بين البشر عبر منصات التواصل الاجتماعي كما يجسِّده فيسبوك، أم ستزيد من هشاشة الأفراد في عصر قيم السوق وبروبغندا رأس المال، ولوبيات القائمين على مصالح ما تبقى من الدول؟
(١) في مفهوم العصر الرقمي
تكشف لنا الثورة الرقمية أن الكينونة والتقنية أمر واحد. لقد أتاحت لنا الثورة الرقمية اكتشاف كائنات جديدة وطرق جديدة في الإدراك، وعادات معرفية جديدة تزعزع فينا الفكرة التي كنا نحملها عما هو حقيقي وعما هو خيالي، وتدفعنا إلى التفكير مرة أخرى بما يمكن أن يعنيه مفهوم الواقع نفسه. ما هي كينونة هذه الكائنات الرقمية التي تظهر لنا في ألعاب الفيديو؟ ما الفرق بين المعلوماتي والافتراضي والرقمي؟ أيُّ معنًى لكينونتنا في زمن الرقمنة؟
لقد اخترعت الثورة الرقمية للإنسانية عالمًا جديدًا هو عالم تصممه الآلات الرقمية التي تتضمن كمًّا هائلًا من الآلات، مثل الحواسيب المركزية الكبرى، والحواسيب الشخصية المحمولة، وخوادم الواب، ووحدات التحكم بالألعاب، والهواتف المحمولة والذكية، واللوحات الرقمية. والسؤال الخطير حينئذٍ هو التالي: أيُّ مستقبل تُعده لنا هذه الآلات؟ هل سيقع الاستغناء عن العقل البشري وتفويض مهارة الذكاء إلى الآلات الرقمية؟ أيُّ وعد بالسعادة تحمله لنا العوالم الافتراضية؟
هل صار كل شيء في عصر الرقمنة إذن قابلًا لأن يتم تحويله إلى كائن افتراضي؟ هل صار الوجود الذي اعتقدنا أنه محصَّن ضمن ثنائية واضحة، هي ثنائية الواقعي والخيالي؛ قابلًا للاختزال في عملية رقمية؟
وبالتالي فالمعلوماتي هو شيء اصطناعي في معنى برنامج تمت إعادة إنتاجه صناعيًّا، أي: بالاعتماد على تقنيات البرمجة المعلوماتية، أي: على الحساب الخوارزمي، هل صار المبرمج يقوم مقام المبدع أو المفكر أو الفيلسوف الذي كان هو سيد العملية العقلية أو الإبداعية عمومًا؟
(٢) الصورة الرقمية والزمان الافتراضي
ليست الثورة الرقمية مجرد تغير تكنولوجي حصل في أدوات التواصل بين البشر، إنما هي حدث تاريخي نزَّله بعض المفكرين ضمن المسار المعرفي الطويل لاكتشاف الآلة وسطوها على الحياة الحديثة أكثر فأكثر، بحيث اعتبر الفيلسوف الفرنسي ميشال سار صاحب كتاب «الإبهام الصغير»، أن الرقمنة هي الثورة الثالثة الكبرى في تاريخ المعارف الإنسانية، وذلك بعد اكتشاف الكتابة منذ حضارات الشرق القديمة، واختراع الطباعة في عصر النهضة. إن ما حصل في رحاب المجال الرقمي هو تغير عميق في بنية المعرفة والذكاء والذاكرة معًا. إننا اليوم نودِع ذاكرتنا وذكاءنا إلى الكمبيوتر كما لو أننا لم نعد مجبرين على أن نكون أذكياء. لكن هل يمكن الاطمئنان إلى عمالقة الرقمي، أي: غوغل وفيسبوك وتويتر وجيمايل ويوتيوب، وائتمانهم على معطياتنا الشخصية وأسرارنا؟ وماذا عن هذا الاستسلام العالمي إلى هذه الكائنات الرقمية؟ هل صار الإنسان من الهشاشة إلى حدٍّ وجد فيه نفسه مجبرًا على تسليم نفسه طوعًا إلى المكنات الافتراضية؟ من الطبيعي، ربما، أن نكون مدفوعين دومًا إلى السير في ركاب التاريخ، الذي يتميز اليوم بديمقراطية رقمية رائعة، لكن، ومن جهة أخرى، يبدو أن هؤلاء العمالقة من المدبرين للشأن الرقمي على مستوًى عالمي، هم أيضًا على ضرب من الهشاشة القصوى، بحسب تعبير رشيق للفيلسوف ميشال سار.
وبوسع هذه الصورة الافتراضية، بوصفها قابلة للبرمجة وللتخزين، اختراع حقل جديد بين الفن والبيولوجيا، كما يحدث داخل الفن العابر للجينات، حيث نشهد على ظهور أشكال جديدة من العبور من الأنا إلى الآخر المحوَّل جينيًّا، هذا الآخر الذي يشبهنا كما في حالة تجارب الاستنساخ.
في هذا الأفق الرقمي الوسيع ظهر ضرب جديد من الزمن الذي يكسر الزمن الخطي الكرونولوجي التقليدي، زمن الذاكرة وزمن التقدم. إنه الزمن الرقمي أو الافتراضي الذي لا يقف في مستوى القبض على الأفراد فرادى أمام شاشاتهم الصغيرة، وحواسبهم أو هواتفهم الذكية، بل تتعدى مفاعيله إلى أبعد من ذلك بكثير. وقد تصل هذه المفاعيل إلى توفير مساحات افتراضية لاستراتيجيات فيروسية أو للوبيات إرهابية تولَد وتنمو وتزحف وتدير ألعابها على شبكات الثورة الرقمية بكل صفاقة لا إنسانية، ساخرة من كل علم بريء، ومن كل عقل رصين، ومن كل مكاسب الحداثة الإنسانوية. إلى جانب ذلك ثمة ديمقراطيات تُدار أيضًا وتُبنى أو تُهدم على ظهر الزمن الرقمي، وصفقات تهريب، وشبكات اتِّجار بالبشر تمر أيضًا فوق السطوح الرقمية دون أدنى شعور بالذنب من طرف أحد؛ وذلك لأن الزمن الرقمي هو زمن اللاأحد، وزمن أيٍّ كان معًا، هو مساحة للعبور غير الشرعي لكل من يملك القدرة على العبور إلى أي عقل أو قلب أو مدينة. ها هنا لا شيء يحصِّن الذوات التي تبحر في الزمان الرقمي من خطورة ما يمكن أن يحصل لهم، فالجميع يسقط في أحابيل الشبكة، فيصطدم بخطوط إفلات من الواقع تتيه في أي اتجاه لا متوقع. كل الأفراد في هذا الزمان والمكان الرقميَّين هائمون صلب الشبكات بلا رقيب، خاصة أطفالنا، أطفال عالم الديجيتال، ولكن أيضًا بدون أية ضمانات أخلاقية.
إن الزمن الرقمي الذي يولَد فوق سطوح العالم الافتراضي، وفي فخاخ شبكاته، هو زمن آلي يُزعزِع — عبر مسطح المحايثة العالمي الذي يخترعه — كل مسلَّماتنا البيولوجية والإتيقية والسياسية، بل هو يمثل ضربًا من الأرضية الأركيولوجية لما يسميه الفلاسفة اليوم «الفكر ما بعد الإنساني». لكنْ أيُّ معنًى لهذا الزمن الرقمي؟ وأيُّ فكر يمكن توقيعه في أفقه؟ وماذا عن مفهوم «ما بعد البشر» هذا؟ هل يعني هذا أن نهاية الإنسان البشري تبشِّر بولادة نمط جديد من سكان الأرض من نوع الربوتات، التي صارت إلى واقع علمي تحتفي به تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي والثورة السيبرنيطيقية؟ وماذا عن الإنسان كبشر يأتي من أديم الأرض، هل سينجح في البقاء بشريًّا جدًّا، أم هو مهدَّد بالسقوط إلى مرتبة «ما دون الإنسان»؟
إذا كان التصور الحديث للعالم قد قام على التمييز بين الخصوصي والعمومي، فإن هذا الحد قد سقط صلب الزمنية الرقمية، وصار الفرد منا يبسط مشاعره الأكثر خصوصية أحيانًا على سطوح العالم الافتراضي، حيث يتم تقاسمها على نحو عمومي. وتتزعزع كل الفواصل بين الزمن الاجتماعي الواقعي، والزمن الحميم الذي أصبح مباحًا على شبكات التواصل الاجتماعي. هكذا يخترع الزمن الرقمي مجتمعات الهشاشة، أو ما يسميه المفكر البولوني زيغمونت بومان (١٩٢٥–١٩٩٨م) «المجتمعات السائلة». إن مجتمعات التواصل مسكونة بمفارقة مفزعة؛ في حين توهمنا التكنولوجيات الرقمية أننا نتقاسم معًا فضاء الحياة والآمال والآلام، فإنها تخلق في نفس الوقت أشكالًا جديدة من العزلة، بحيث نفقد الصلات الحقيقية بيننا كأفراد اجتماعيين، من أجل أن نستسلم لتواصل افتراضي لاكتئاب عالمي معولم.
هو البؤس الرمزي المعمم تخفيه إغراءات الشبكة وحلولها الوهمية، وعيون المتطفلين على حيواتنا الحميمة، واستسلامنا إلى المجهول بعد أن خنقَنا الواقع في لحميَّته المفزعة. إن ما يحدث هو إذن تسليم أنفسنا عن طواعية إلى شبكات افتراضية، هي في نفس الوقت شبكات مراقبة معولمة تنزع إلى القبض على العالم برُمَّته، فهي تنزع المواطن من وطنه، وتلقي به في فضاء افتراضي سائل زائل، هو اللامكان، هو أيضًا الترحل والضياع. إنه الزمان يخرج عن طوره، كما في مجاز شعري جميل لشكسبير.
نحن إذن بإزاء براديغم جديد للزمن، هو ما تسميه الفيلسوفة الفرنسية بوسي غلوكسمان؛ كوجيطو الزائل، بحيث يتمثَّل هذا الكوجيطو في هذا التحول العميق الذي حدث في الثورة الرقمية من ثقافة السلع إلى ثقافة الصور المتدفقة، أي: ثقافة الشاشات والأشباه والأشباح. إن هذا النوع الجديد من ثقافة الشاشات لا يعيد إنتاج الزمن بالمعنى التقليدي الخطي له، إنما هو ينتج زمنا آليًّا خاصًّا، زمن التأثير والإثارة، زمن الآلات المجردة المعولمة، بحيث توقِّع مكنات الزمن الرقمي المرور مما يسمَّى «الصورة البلورية» إلى «الصورة المتدفقة» الخاصة بالشاشات والصيرورات، تلك التي تنتج كوكبات من الصور والزمن الرهيف جدًّا.
غير أن الزمن الرقمي هو زمن المفارقات بامتياز؛ فهو زمن افتراضي زائل، لكنه مخزن ومبرمج ببرمجيات دقيقة ومضبوطة، إنه صيرورة بلا ذاكرة، لكنه زمن مكتظٌّ بالمعطيات والمعلومات. هذا الزمان لا يسيل على إيقاعات الزمن التقليدي والبيولوجي للإنسان، هذا الإنسان الذي يجد نفسه منفصمًا ومنقسمًا بين الواقعي والافتراضي. لكن على سطح الزمن الرقمي لا يحدث فقط التواصل الاجتماعي، ولا تشتغل شبكات الإرهاب والتهريب، ولا ترعبنا الشبكات الرقمية بألعاب الفيديو التي يدمن عليها أطفالها إلى حد تحولها إلى ألعاب قاتلة، بل ثمة مساحات خلاقة وموجبة للعوالم الرقمية، تجد في الفن الرقمي عبارتها المبدعة.
(٣) الفن في عصر الرقمنة
- أولًا: ظهور أشكال جديدة من الوساطات بين الفن والعلم.
- ثانيًا: هو فن ما بعد استعماري يربط بين الثقافات، بحيث يمكن للصورة الرقمية أن تحتضن كل الأرشيفات الافتراضية للاختلافات بين الثقافات.
- ثالثًا: تنصيب مدن افتراضية تقترح طريقة جديدة في هندسة المدن وتنظيم الفضاء، وتخترع فضاءات ذكية مغايرة للفضاءات الواقعية.
- رابعًا: أصالة الفن الرقمي وجِدَّته، ضد حداثة تفصل بين المرئي والمقروء، وضد حداثة قائمة على استقلالية الفن عن بقية مجالات المعرفة، بحيث إن جماليات الافتراضي إنما هي جماليات «متعددة الأحاسيس، أي: هي جماليات بوسعها إعادة تنضيد المحسوس وتأسيس المعنى.
- خامسًا: الفن الرقمي يخترع مكنات للنظر، ومفاعيل جديدة، ومشاعر مغايرة، وكائنات رقمية، هي أكثر مما يقع، وأبعد مما نتوقعه من أحداث. تهجين للكائنات وللأمكنة داخل براديغمات جديدة تواصل صناعة المعنى، وتأثيث العالم الذي يكاد يسقط كل يوم، تحت سطوة حضارة السلع، في قحط الثقافة، وبؤس عزلة الأفراد، والاكتئاب العالمي المعولم.
(٤) الفن الرقمي وأسئلة المستقبل
- الأول: خاص بمفهوم الزمن الرقمي؛ أيُّ زمنية يخترعها الفن الرقمي اليوم حينما نعلم أنه يحدث صلب زمنية الزائل التي يتحكم فيها منطق الخوارزميات والمعلوماتية؟ «إن الرقمي يقلب علاقتنا بالزمان، وطريقة عيشنا صلبه، ونمط إعادة إنتاجه، أو الاستباق عليه أو الانسحاب منه عبر الفن.»٢٧ إضافةً إلى ذلك، فإنه وانطلاقًا من الزمن الرقمي نغير أيضًا التاريخ؛ لأن اختياراتنا الفنية تعيد اختراع تاريخ ما، عبر ضرب من مقاومة «الزمن الواقعي». إن الفن الرقمي لا يحدث في الزمن الرياضي العادي الواقعي، بل ضمن شبكة من البيانات الدقيقة التي تمت برمجتها عن طريق الذكاء الاصطناعي. إن الزمن الرقمي هو زمن تم إنتاجه تقنيًّا، وبالتالي فهو ليس الزمن المعطى في التجربة اليومية الواقعية.
- ثانيًا: في علاقة بكيفية نشر الفن الرقمي، ونمط جوَلانه داخل الثقافة الفنية. فالفن الرقمي هو فن يقوم على التفاعل والمحادثة والمشاركة؛ لذلك هو يُحدِث انقلابًا رمزيًّا في علاقتنا لا فقط بالمؤلف وبالعمل الفني والجمهور، بل في ميكانيزمات انتشار الفن ومساهمته في بناء الثقافة. وفي حين يعوِّل الفن المعاصر على الوصول إلى الناس عبر مجال الفن، أي: الفنانين أنفسهم، ومجمل المؤسسات الثقافية الحكومية أو الخاصة، وسوق الفن، والنقد الفني، والتاريخ، والجماليات، من أجل الوصول إلى الجمهور، وهو يَدين إلى هذه الوساطات بوجوده وقيمته، فإن الفنون الرقمية تهدف إلى إقامة علاقة مباشرة بين العمل الفني والجمهور دون أي شكل من الوساطة الخارجية.
- ثالثًا: الفن الرقمي في علاقة بعصر العولمة، أي: بسوق الفن والاقتصاد والصناعات الثقافية وبالعلم وبالتكنولوجيا، أي: العولمة بوصفها نسقًا لتكنولوجيات التواصل، وإعادة الإنتاج، وحفظ المعلومات، والانتشار الجماهيري، وهي بذلك تمارس تأثيرات مباشرة بالفن، وبالتالي بالفن الرقمي أيضًا. كيف يتم ذلك؟ من خلال توقيع أشكال جديدة من الأنماط العلائقية والتشاركية التي تتجلى ضمن مجال العلاقة بالفن وبالمجتمع وبالصناعة. ومن جهة أخرى يمكننا أن نلاحظ كيف أن الصناعات الرقمية هي بصدد القطع مع المنطق الناظم لوسائل الإعلام التقليدية.
- رابعًا: يتعلق الأمر هنا بمسألة حفظ الأعمال الفنية الرقمية، وهنا نطرح السؤال التالي: أيُّ شكل من الذاكرة هي الذاكرة الرقمية؟ سوف يكون لزامًا علينا أن نفهم كيف يتم استبدال ما سماه مالرو بالمتحف الخيالي بمتحف جديد، هو العالم الافتراضي. وإن هذا النوع من الذاكرة الرقمية إنما يطرح علينا مشاكل من نوع جديد خاصة بالحدود بين المحلي والعولمي، العمومي والخصوصي، والجماعة والفرد. ومع الرقمي يتم إذن تجاوز السؤال القديم حول مكان العمل الفني (الشرق والغرب، والفن الإسلامي، والفن المسيحي، والفن الأمازيغي …) وإعادة طرحه بشكل مغاير. سنتكلم حينئذٍ عن جغرافيا جديدة، وشكل جديد من الانتماء لا تكون فيه القوميات الحالية غير مزحة ميتافيزيقية. إن الفن الرقمي يطرح علينا أفقًا جديدًا من الانتماء إلى العالم، أفق يعلو فوق عقولنا التقليدية والهوياتية، هو الانتماء الرقمي.
خلاصة
إن التفكير بالفن الرقمي اليوم يدفعنا إلى إنشاء نموذج منهجي فيما أبعد من الخصومة بين أنصار التكنولوجيا وأعدائها، أي: فيما أبعد من الاعتقاد في القدرات المذهلة للتكنولوجيا على إنقاذ العالم من جهة، ومن الاعتقاد في أن التقدم كارثة، وأن التكنولوجيا الحديثة ستجعل العالم يسقط في البربرية الكبرى من جهة أخرى. وعلينا أيضًا أن ننتبه إلى خطورة الخصومة حول مصير الفن بين من يروِّج للفن المعاصر الذي يتم استثماره ضمن سوق العولمة، ومن يكتفي بالفن التكنولوجي الذي يظهر دومًا على هامش الفن الرقمي. إضافةً إلى ذلك، نحن مطالَبون بإعادة التفكير في الحدود بين ما هو فن وما ليس بفن، وبين الفن والعلم وبين الفنون نفسها، من أجل إسقاط الجدران بينها، انطلاقًا من نظرية التفاعل بينها، ومن براديغم التقاطع والتداخل بين الاختصاصات. إن ظهور الفن الرقمي يدفعنا إلى إعادة تنضيد فضاء الإستطيقا بما هي جملة التمثلات الفلسفية حول الفن، بحيث لم يعد بوسعنا التفكير في الفن والأعمال الفنية انطلاقًا من التناقضات الثنائية بين التقليد والحداثة، وبين النزعة الأكاديمية والنزعات المتمردة عليها.
نحن نعيش اليوم بعد نهاية السرديات الكبرى، وانفجار الحدود بين الثقافات، وتحوُّل العالم إلى مساحات عبور وهجرات وهويات هجينة، وظهور أشكال جديدة من الانتماء والمواطنة، ومفهوم جديد للإنسان نفسه، وتحوُّل مفهوم الشعب نفسه من هوية قومية جغرافية وثقافية إلى جموع إنترنتية افتراضية، مما يفرض علينا تعديل عقولنا على هذه الثورة الرقمية التي منحت شعب الإنترنت مساحات مغايرة للوعد بالحرية وبالفرح الرقمي أيضًا، كما تمنحه لأبنائنا ألعاب الفيديو. إن قوة الفن الرقمي اليوم تكمن في إعادة وضع البراديغمات القديمة موضع سؤال، أي: تلك النماذج التي تقوم على التناقض بين الثقافي والتقني، وعلى اعتبار التقني يهدد الحياة الرمزية والقيم الروحية، في حين أن الثقافي هو وحدة الوجود والمعنى معًا.
تبقى في الأخير الإشكالية المحرجة في الفن الرقمي هي التالية: أية مقاييس يمكن اقتراحها اليوم للفن؟ هل يمكن القول إننا بإزاء عصر غير قادر على إنتاج المقاييس الجمالية؟ ذلك أن الفن الرقمي لا يخضع إلى تقييمات ثقافية أو أسلوبية جمالية تقليدية، وجماليته تخرج من أفق التمييز الكلاسيكي بين الجميل والقبيح. ما ينتجه الفن الرقمي هو القدرة على التفاعل، وعلى عبور الحدود، والسخرية من صراع الثقافات. بقي علينا فقط أن ندافع عن خصوصيات التجارب الفنية، سواء كانت رقمية أو غير رقمية، وعن تحرير الفنان اليوم من أمرين اثنين؛ أن يتحول إلى مجرد تاجر، أو إلى مجرد مهندس أو مبرمج تقني.