تقديم١
•••
وسواءٌ أكانت حكاية الفيلسوف الكلبي صادقة أم من نسج خياله، فإن مغزاها لا يخفى على القارئ. لقد أراد هذا الشحاذ البائس — الذي عرفت العصور القديمة جولاته في القرى ومواعظه للفقراء بالزهد والعودة إلى حياة الطبيعة — أراد أن يقول: إن الإسكافي المسكين أقدر على الحياة الفلسفية من الملك صاحب السلطة والجاه والثراء. والأهم من ذلك أنه لم يكن ليروي الحكاية ولم يكن زينون ليرددها بعده لو لم يكن «بروتريبتيقوس» أرسطو معروفًا بين الناس في النصف الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد.
•••
ولهذا فإن الدعوة البليغة التي يحملها الكتاب إلى التفلسف دعوة موجهة في الواقع إلى الشباب الأثيني المتزاحم على أبواب المدرستين المتنافستين، وهي حث له على حياة التأمل التي هي وحدها الحياة الخليقة بالإنسان.
•••
يبدأ أرسطو دعوته بالإشارة إلى أهمية الفلسفة والتساؤل عن الفضيلة والخير، ويبين أن كليهما لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق معرفة مطابقة له، فبغير هذه المعرفة يصبح امتلاك الخيرات الخارجية من ثروة وقوة وجاه خطرًا يُهدد الإنسان ويضره أكثر مما ينفعه. هذه المعرفة هي التي تضفي على تلك الخيرات قيمتها، وهي في الحقيقة تفوقها في القيمة؛ لأنها لم توجد لأجلها فحسب، وإنما هي قيمة في ذاتها، بل هي القيمة العليا التي تجعل لكل ما عداها قيمة؛ وبذلك ينتهي الغرض الأول بإثبات أن الفلسفة ممكنة.
ثم يشتبك المُعَلِّم الأَول في مجادلة الخصوم الذين يشكُّون في هذه النتيجة ويروِّجون بين الشباب أن الفلسفة لا ضرورة لها في الحياة العملية ولا جدوى منها، ويردُّ على هذا الاعتراض القديم المتجدد أبدًا بأن الفلسفة جديرة بالسعي إليها لذاتها؛ لأنها أسمى خير يمكن أن يبلغه الإنسان، ولما كانت الغاية الطبيعية للإنسان هي ممارسة العقل فإن الحياة العقلية المكرَّسة للتأمل والنظر هي مهمته الحقيقية وواجبه الأول، وبها يبلغ كماله ويجد سعادته، وإذا كان البعض يتهم هذه الحياة بأنها غير نافعة، فإن أرسطو يبين أنه لا يصح التقليل من قيمتها بالنسبة للمشرِّع والسياسي، وبهذا يثبت أن الفلسفة «نافعة».
ويتابع أرسطو طريقته في الحِجاج دفاعًا عن الفلسفة فيبين أن السعادة البشرية تقوم على فاعلية العقل، وأن التفلسف هو غاية الحياة الإنسانية بحكم طبيعتها نفسها، وأن هذه الحياة التي يهبها صاحبها للعقل هي أسمى لذة وأنقى فرح ممكن؛ لأن فاعلية العقل هي الخير الوحيد الذي لا يتوقف على غيره ولا يتطلب أي شروط خارجية، وهكذا تنتهي هذه الحجج إلى الفقرة الأخيرة (ب١١٠) التي ترتفع فيها موجة التحمس حتى تبلغ أسمى قمة، إن الفلسفة تعلو بالإنسان فوق الأرض وفوق الفناء، وتتيح له المشاركة في الخلود والألوهية، بل تجعله أشبه بإلهٍ بين بقية مخلوقات الله.
•••
هذه هي جملة الأفكار الأساسية في الكتاب، وهي تعبِّر بغير شك عن دفاع مخلص عن الفلسفة، يوشك في مفهومنا الحديث أن يكون نوعًا من الدعاية الأدبية الفلسفية، ولا بد أن القارئ قد أحس نغمته الخطابية التي تعلو في أجزائه (وخصوصًا في الفقرتين ب٤٣، ٤٤) إلى حد الصخب الذي يُخفِت صوت المنطق! ولكن هذا الصوت المرتفع في بعض الأحيان لا يستطيع أن يُخفي دفء العاطفة التي تسري فيه، وتجعل منه شهادة اعتراف صادقة سجَّل فيها الفيلسوف مَثَله الأعلى في الحياة، ومع أن أسلوب الكتاب يشفُّ عن روح الشباب ويختلف اختلافًا واضحًا عن أسلوب الكتب التعليمية المتأخِّرة التي يتميز بالموضوعية والجفاف، فإنه مع ذلك يعكس تفكير رجل ناضج ويدلُّ على خبرته بالحياة والناس وقدرته على الحجاج والإقناع، ولعل التحليل المتأني لمضمون الكتاب أن يؤكد هذا الإحساس ويمهد للإجابة عن السؤال الذي يطوف في أذهاننا عن زمن تأليفه وموقعه من كتابات المُعَلِّم الأَول وتطوره العقلي والروحي.
من المعلوم أن التعرض لهذه الاختلافات يقتضي النظر الدقيق في النص اليوناني وإبراز التفاوت في فهم أسلوبه وكلماته، وهو أمر نشر النص الأصلي بجانب ترجمته؛ وذلك ما لا تساعدنا عليه حالة النشر ولا حالة البحث في الفلسفة الأرسطية في العالم العربي، وقد أغنانا النص الذي توصلنا إليه — من تحقيق الأستاذ إنجمار ديرنج وترجمته — عن ذلك، ومن شاء أن يتتبع تاريخ البحث في الكتاب فليرجع إلى مؤلف الأستاذ و. ج. رابينوفتس عنه:
W. G. Rabinowitz; Aristotle’s Protrepticus and the source of its reconstruction, I, Berkeley 1975, 1–22.