إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل العاشر

تدهور الأوضاع

في السجن أخذ نهرو يفكر كثيرًا في اسم لحفيده، وأرسل إلى إنديرا قائمة بالأسماء المقترحة، لكنهما ظلا وقتًا طويلًا دون الاتفاق على اسم.1 ولهذا ظل الجميع يدعون المولود ﺑ «الطفل» — الذي نام خلال أول لقاء له مع غاندي في منتصف سبتمبر في بومباي — قبل أن يأخذه والداه إلى البيت في الله آباد. وظل حتى أواخر أكتوبر حينما كان عمره شهرين يدعى ﺑ «الطفل» أو «الصغير». فكتب نهرو إلى أخته نان بانديت يقول إنه إذا لم تقرر العائلة اسمًا للطفل عما قريب فسيضطرون لدعوته … ﺑ «من لا اسم له»، أو «من له أسماء لا تحصى».2 واقترح على إنديرا أن تتمسك باسم راجيفا راتنا [الذي كانت تفضله] … وقال لها: «يمكنك أن تجعلي اسمه الثاني بيرجيز إن شئت … ماذا عن إضافة اسم نهرو إلى اسمه؟ لا أقصد أن يكون اسمه مركبًا؛ نهرو-غاندي. فهذا يبدو سخيفًا … ولكن أقصد إضافته كاسم منفصل.»3
كان طلب نهرو يفصح عن الكثير، لكنه لم يقصد به التأسي بالأسر الحاكمة. يبرر نهرو اقتراحه بقوله: «إنها مسألة ميل حقًّا؛» أمنية رجل بلا أبناء في أن يرى اسمه متوارثًا.4 وعليه سجلت إنديرا اسم طفلها الأول في كتاب الأطفال الخاص به باسم «راجيف راتنا بيرجيز نهرو غاندي». كان اسم راجيف يعني اللوتس مثل اسم كامالا، وراتنا يعني الجوهرة مثل اسم جواهرلال.5 وبهذا كانت ثلاثة من أسماء الطفل الخمسة مستوحاة من أسماء أفراد عائلة نهرو. أما اسم بيرجيز فيبدو أنه طرأ فجأة على خاطرهم. كان فيروز هو الوحيد الذي لم يكن له رأي في قصة تسمية الطفل الطويلة، لكنه بالطبع أسهم باسم عائلته الذي لا يُنسى؛ غاندي. والحق أنه اسم شهير جدًّا، لدرجة أن الناس خارج الهند — حتى المثقفين منهم — كانوا يشيرون إلى إنديرا وابنها راجيف غاندي بوصفهما ابنة وحفيد المهاتما غاندي.

بدأ فيروز يجد نفسه فردًا مهمشًا في العائلة إلى حد ما، مما زاد من انزعاجه. فقبل الزواج كان قلقًا من ضياع هويته بين آل نهرو. وفي حفل زواجه قدَّم إلى إنديرا صرة من الملابس ليرمز بها إلى أنه سيوفر لها العناية المادية. لكنهما اضطرا إلى التخلي عن منزلهما في ٥ شارع فورت رود عندما سُجنا عام ١٩٤٢ ومنذ إطلاق سراحهما في العام التالي وهما يعيشان في آناند بهافان. وبعد مولد راجيف كانت وظيفة فيروز الوحيدة هي العمل لدى لجنة المساعدات القانونية لحزب المؤتمر في الله آباد ولكناو التي تختص بأعمال الإغاثة وتدبير المساعدات المالية والقانونية لموظفي حزب المؤتمر المسجونين وأسرهم. ومقابل هذه الوظيفة يتقاضى فيروز مائة روبية شهريًّا من حساب حميه نهرو. ومنح نهرو إنديرا وفيروز ألف روبية هدية. لكن حتى مع إقامة إنديرا وفيروز في بيت آل نهرو كانا لا يزالان يجدان صعوبة في تدبر أمرهما ماديًّا، وكانت إنديرا — على الأقل — متحرجة من العيش على نفقة أبيها.

كتب نهرو لإنديرا من السجن مطمئنًا إياها يقول: «لا تترددي في السحب من رصيدي متى وجد فيروز ذلك ضروريًّا»، ولأنها ظلت قلقة كتب يقول لها: «من الحماقة أن تظلي قلقة بشأن المسائل المالية … لقد أخبرتك أن تستخدمي رصيدي … ولا أحتاج بالتأكيد إلى أن أكرر ذلك في كل … مناسبة.»6 كان تهاون نهرو فيما يتعلق بالشئون المالية جزءًا من شخصيته. قبل زواج إنديرا وفيروز حذرت أخت فيروز «تيهمينا غاندي» نهرو وقالت له بالحرف الواحد: «لم نكن قط أناسًا أغنياء … وفيروز ليس لديه دخل ثابت، ولا أدري كيف سيتمكن من إعالة زوجته.» فقال لها نهرو إنه ليس قلقًا بشأن قلة دخل صهره المستقبلي. عندئذٍ حاولت تيهمينا أن تحذر فيروز نفسه. فقالت له: «لا تغرق في الأحلام» وأخبرته أن عليه أن ينتظر قبل الزواج إلى أن يحظى بدخل ثابت يمكنه من إعالة زوجته، «وخاصة واحدة مثل إنديرا».7 لكن فيروز كان لا يكترث للمال مثل حميه، وهو ما لم تدركه إنديرا حقًّا إلا بعد أن تزوجته.
كان موقف نهرو اللامبالي بالمال يعكس زهده فيه. أما فيروز فكان يحب أن يحيا حياة مترفة. لم يكن شخصًا ماديًّا لكنه كان يعاقر الخمر، ويدخن، ويتلذذ بتناول الأطعمة الفاخرة، وتأسره المعدات الميكانيكية والكهربائية والسيارات باهظة الثمن. ومع أنه كان عضوًا مميزًا في حزب المؤتمر فإنه لم يعرف التقشف. ومن هذه الناحية كانت طبائعه مختلفة جدًّا عن طبائع إنديرا وحميه. فكان صاخبًا ومنطلقًا ومباهيًا وانفعاليًّا يفقد أعصابه بسرعة، لكنه يتدارك ما يفعله بالسرعة نفسها. كان ينفجر ضاحكًا بضحكة مدوية ومجلجلة عندما يطلق النكات البذيئة. أما إنديرا فكانت طبعًا متحفظة وهادئة، ولا تنسى الإساءة أبدًا. فحتمًا كانت هناك مصادمات بينهما، وتفاقمت بسبب مخاوف إنديرا المالية. كان واضحًا لبنتي بانديت عمة إنديرا أن علاقة إنديرا وفيروز الزوجية متوترة منذ أوائل عام ١٩٤٣.8 ويضاف إلى تلك الضغوط حقيقة أن حياة إنديرا وفيروز العائلية حفلت بعدم الاستقرار. فقد غزت السياسة حياتهما الزوجية وعكرتها كما هي الحال طوال حياة إنديرا.

•••

وفي ٢٨ مارس عام ١٩٤٥ نُقل نهرو من حصن أحمد نجار إلى سجن باريلي المركزي في الأقاليم الاتحادية. فسافر بالقطار من هذا السجن إلى ذلك تحت الحراسة عبر الله آباد، التي احتُجز فيها ليوم واحد في «منزله القديم»؛ سجن نايني المركزي. يعني هذا أن بإمكان إنديرا وفيروز رؤيته في زيارة خاطفة عند بوابة سجن نايني. لم تكن إنديرا ونهرو قد رأى أحدهما الآخر منذ قرابة ثلاثة أعوام، بالتحديد منذ صباح ٩ أغسطس ١٩٤٢، عندما قُبض على نهرو في بومباي. كتب نهرو في مذكراته بالسجن يقول: «عند بوابة سجن نايني، كانت إندو ترتدي بنطال الشالوار … وتقف على مسافة مني! … فذهبت إليها — وبقيت معها لثوانٍ — وبعدها اضطررت لركوب سيارة الشرطة.»9 وفي اليوم التالي لهذا اللقاء القصير كتبت إنديرا إلى أبيها تصف السعادة التي غمرتها برؤيته ثانية، مع أنهما كانا متباعدين، ومع أنهما لم يتمكنا إلا من تبادل بضع كلمات. ندمت جدًّا لعدم اصطحابها راجيف، فلم يكن نهرو قد رأى حفيده بعد. وأخبرت إنديرا والدها بمدى حزنها إزاء ما بدا عليه «من نحول شديد … [و] ضآلة في الجسم.»10

وفي الشهر التالي ذهبت إنديرا براجيف ذي الثمانية الشهور إلى كشمير مع حاضنة راجيف وامرأة دنمركية تدعى آنا أورنشولت عملت كمربية لبنتي بانديت، وستصير فيما بعد مربية لأبناء إنديرا. أما فيروز فظل في الله آباد ليعنى بشئون آناند بهافان وليواصل القيام بأعمال الإغاثة لحزب المؤتمر. نزلت إنديرا وراجيف في لاهور عدة أيام، ثم قصدا سارينجار حيث مكثا لدى آل هاثيسينج في بيت بشارع جوبكار رود يطل على «منظر غاية في الجمال لسلسلة الجبال الجليدية بأكملها». وبعدها استقرا في منزل بريجلال نهرو (والد بريج كومار نهرو) الذي كان المستشار المالي لمهراجا كشمير.

لم تقصد إنديرا كشمير منذ شهر عسلها قبل ثلاثة أعوام، وكما في السابق استسلمت على الفور لسحرها، وبعيدًا جدًّا، أعلى السهول ذات الحر اللافح في سجن باريلي المركزي، حاول نهرو أن يصحب بخياله إنديرا إلى الجنة الواقعة في ظلال جبال الهيمالايا:
«أي الزهور تتفتح وأي الثمار تتدلى من أفرع الأشجار المثقلة بها؟ … لا بد أن اللوتس لا يزال في براعمه … فهو يزهر على سطح بحيرة دال في يوليو … وقريبًا ما سينبت الكرز والمشمش والتفاح والخوخ … أما زالت بحيرة دال كما كانت دائمًا أم أن الشوارع الراقية قد أحدثت فارقًا كبيرًا فيها؟ أي الطيور تزقزق وتغرد على الأشجار؟ أتأمل في كل هذه المناظر المدخرة في كنز ذكرياتي، بل فوق ذلك أتخيل منظر الأودية العالية التي تقود إلى الثلوج وأنهار الجليد بمياه جداولها الباردة كالثلج وهي تقرقر وتندفع بسرعة إلى الأودية بالأسفل.»11

وفي هذه الأثناء، بعيدًا في العالم خارج جنة كشمير، كانت الحرب في مراحلها الأخيرة. ففي ألمانيا في عصر يوم ٣٠ أبريل وضع هتلر في مخبئه السري مسدسًا في فمه ثم أطلق النار على نفسه منتحرًا. وفي الوقت نفسه خسر الحرب أيضًا حليف هتلر الهندي سوبهاس شاندرا بوس الذي كان على علاقة وثيقة بكامالا وإنديرا قبل تسعة أعوام في سويسرا. ففي ٣ مايو، سقطت رانجون في يد القوات البريطانية، واستسلم جيش سوبهاس الوطني الهندي الذي كان قد تشكل من القوات الهندية التي أسرها اليابانيون، وهرب بوس نفسه وبعض أتباعه إلى بانكوك، وفورموزا. وفي ٧ مايو استسلمت القوات الألمانية استسلامًا غير مشروط.

وفي ٢٦ يوليو عام ١٩٤٥ في بريطانيا فاز حزب العمال بالانتخابات العامة. وأصبح كليمنت أتلي — الذي كان عضوًا في بعثة سيمون التي قوطعت على مستوى البلاد حينما زارت الهند عام ١٩٢٨ — خليفة تشرشل في رئاسة الوزراء. وفي الهند عم الفرح لفوز حزب العمال لأنه كان واضحًا أن حكومة بريطانيا ستكون متحمسة أكثر بكثير لأن تمنح الهند الاستقلال إن تألفت من أعضاء حزب العمال عنها إن تألفت من أعضاء حزب المحافظين، مع أن نائب الملك أرشيبالد ويفل بالغ عندما تنبأ بامتعاض «من الواضح أن أعضاء حزب العمل يعتزمون تسليم الهند إلى أصدقائهم في حزب المؤتمر بأسرع ما يمكن». صار انتهاء الحرب حتميًّا عندما ألقيت قنبلة ذرية على هيروشيما في ٦ أغسطس. وبعدها بثلاثة أيام ظهرت سحابة الفطر الفتاكة (التي تتولد من ذات القنبلة) مرة أخرى فوق ناجازاكي. وبعدها بتسعة أيام مات بوس إثر حادث طائرة في تايبيه، قبل وقت قصير من قبول نائب الأميرال لورد لويس ماونتباتن لاستسلام اليابانيين في جنوب شرق آسيا وسنغافورة. ولكن كما حدث مع هتلر انتشرت قصة تقول إن بوس قد نجا بمعجزة وإنه يعيش خارج الهند، وإنه سيعود ليكشف عن نفسه. لكن ما كان مؤكدًا هو أن الحرب قد انتهت أخيرًا، ويعني هذا تباعًا انتهاء حكم بريطانيا للهند.

في أوائل يونيو عام ١٩٤٥ نُقل نهرو من سجن باريلي إلى سجن ألمورا حيث سُجن قبل عشرة أعوام وقتما كانت صحة كامالا تتدهور في مصحة بهوالي. وفي الخامس عشر من الشهر نفسه أُطلق سراحه أخيرًا بعد فترة سجن بلغت ثلاثة أعوام تقريبًا. وأُطلق سراح جميع القيادات البارزة في حزب المؤتمر لعموم الهند، وفي اليوم السابق على إطلاق سراحها أعلن نائب الملك ويفل عن تأليف حكومة مؤقتة، يكون كل أعضائها من الهنود عدا رئيس الأركان البريطاني وويفل نفسه.

كانت إنديرا لا تزال في كشمير عندما سمعت في الإذاعة عصر يوم ١٥ يونيو أن والدها سيُطلق سراحه. فحجزت مقعدًا في القطار التالي، وغادرت على الفور إلى الله آباد تاركة ابنها راجيف في كشمير مع زوجة عمها رامشواري نهرو. كانت إنديرا وفيروز في آناند بهافان لاستقبال نهرو الذي عاد إلى منزله بعد سجن طويل وكأنه أوديسيوس العصر الحديث. وبعدها غادرت إنديرا وأبوها بسرعة إلى بومباي لحضور اجتماع لحزب المؤتمر، لكنها لم تلبث أن أصيبت بإنفلونزا وأخذت درجة حرارتها في الارتفاع. فلما عادت إلى آناند بهافان اضطرت إلى المكوث أغلب الوقت في الفراش. لم تكن صحتها جيدة بما يكفي للعودة إلى كشمير حتى الأسبوع الثاني من يوليو، الذي علمت فيه أن راجيف أيضًا كان مريضًا وأنه صار في الوقت الذي غابت عنه فيه «نحيلًا جدًّا» و«فقد قوته بالكامل». فأخذته على الفور إلى باهالجام حيث أملت أن يعيد «الهواء الجميل المعبق برائحة الصنوبر» إلى كل منهما قواه.12

انضم نهرو إلى إنديرا وحفيده في كشمير بعد انعقاد أول مؤتمر للقادة القوميين في سيملا في يوليو عام ١٩٤٥. فشل المؤتمر فشلًا ذريعًا في التوفيق بين مطالب حزب الرابطة الإسلامية وحزب المؤتمر، فكانت النتيجة أنه — وإن كان استقلال الهند قد صار مؤكدًا — فقد صارت وحدتها وهمًا. قدم نهرو إلى كشمير من سيملا لرؤية إنديرا وراجيف، لكنه لم يكن وحده ولم يكن في إجازة فحسب. فقد دعاه القائد الكشميري الشيخ عبد الله هو ومولانا أبو الكلام آزاد وممثل المقاطعة الحدودية الشمالية الغربية في حزب المؤتمر خان عبد الغفار خان لحضور اجتماع لحزبه السياسي؛ حزب المؤتمر القومي الذي كان يعارض حزب الرابطة الإسلامية وحاكم كشمير الهندوسي المستبد؛ المهراجا هاري سينج.

كانت إنديرا قد قابلت الشيخ عبد الله لأول مرة عندما مكثت هي وفيروز لديه في شهر عسلهما في عام ١٩٤٢، لكنها لم تتعرف حقًّا إلى «أسد كشمير» — كما كان يلقب — الحازم، طويل القامة (كان طوله يبلغ ست أقدام، في حين كان طول نهرو خمس أقدام وأربع بوصات) إلا عندئذٍ. مثل نهرو كان الشيخ عبد الله اشتراكيًّا وعلمانيًّا. ويعتنق مفهوم الكشميرية (سمو الهوية الكشميرية المشتركة على الديانة)، ولديه خطط لبناء «كشمير جديدة»، لكن هذه الخطط تتطلب تبني إجراءات جذرية منها على سبيل المثال إعادة توزيع الأراضي حالما يطاح بحاكم أسرة دوجرا المستبد؛ هاري سينج. حينما وصل نهرو إلى كشمير رتب الشيخ عبد الله لأن يشارك هو ونهرو وإنديرا وأبو الكلام آزاد في موكب رائع بالقوارب النهرية؛ أحد الطقوس السارينجارية التقليدية. لكنهم ذاقوا جزءًا مما ينتظرهم من مشكلات عندما قامت مجموعة من حزب المؤتمر الإسلامي المعارض بمظاهرة أسفرت عن مقتل واحد من أتباع الشيخ عبد الله على الأقل.13

كان الشيخ عبد الله أيضًا مضيف حفل تسمية الطفل راجيف في عيد ميلاده الأول، وقد تركت إنديرا بعد هذا الحفل راجيف ثانية مع رامشواري نهرو، وذهبت مع أبيها في رحلة تسلق لجبال كشمير لعشرة أيام. باستثناء المرشدين والخدم كانت إنديرا ونهرو وحدهما أخيرًا في أكثر مكان يحبانه في العالم. ولم يكونا وحدهما فحسب، بل كانا بمعزل تمامًا عن العالم وهما يتسلقان ويخيمان ويتناولان بسيط الطعام المعد على النيران، وينامان في الخيم تحت السماء المرصعة بكويكبات النجوم التي كانا يميزانها عندما ناما في الهواء الطلق في السجن.

في خطاب إلى نان بانديت يصف نهرو كيف أنه عبر هو وإنديرا ممر يامبر باس الذي يصل بين واديا ليدار والسند.

«اضطررنا إلى عبور جرف شديد الانحدار يمتد لخمسين ياردة أو أكثر ويغطيه الجليد والثلج، إن انزلق أحد من عليه فسيهوي إلى عمق كبير يصل إلى ٤٠٠٠ قدم. شق المرشدون لنا طريقًا عبر الجبال الجليدية فعبرنا خلاله. وعلى غرار أغلب أمور الحياة اتضح أن الأمر أسهل مما يبدو. ومع هذا فعندما نظرت إلى الوراء بدت فكرة العبور مرعبة جدًّا، فسعدت لأنني وإندو استطعنا العبور إلى الجانب الآخر … ثم شاهدنا أحصنة الركوب وأحصنة نقل المتاع وهي تقاد لتعبر الجرف. فكدت أصاب بالغثيان من المنظر؛ إذ كنت أتوقع بين لحظة وأخرى أن يهوي أحدها إلى أسفل الجرف … وتساءلت كيف كنت سأشعر إن رأيت إندو أو أي شخص آخر عزيز عليَّ وهو يعبر هذا المنحدر شبه العمودي. لا أعتقد أنني كنت سأحتمل ذلك.»

يعيد هذا الموقف إلى الذهن المرة التي سقط فيها نهرو في صدع عميق سقطة كادت تودي بحياته أثناء تسلقه الجبال في شهر العسل. لا تقتصر جاذبية كشمير على عظم جمالها. فركوب المخاطر هناك ينطوي على إثارة كبيرة. لكن في خطابه إلى أخته يختم نهرو وصفه لعبوره هو وإنديرا لممر يامبر بتعليق ظريف، فيقول: «ليتني كنت أحمل كاميرا لألتقط صورة … لي أنا وإندو ونحن نعبر؛ كان هذا سيمنحنا شهرة متسلقي الجبال الجسورين. لكنه لن يكون حقيقيًّا، كأغلب ما يشتهر عن الناس.»14 وكتب نهرو إلى غاندي أنه قطع هو وإنديرا في رحلتهما في كشمير أكثر من ١٠٠ ميل، ووصلا إلى ارتفاعات يبلغ طولها ١٤٠٠٠ قدم، وعبرا مجازات خطرة، وخيما في أودية نهرية نائية، وعادا «مبتهجين من كل ذلك».15

وفي سبتمبر عادت إنديرا براجيف إلى الله آباد. وفي الشهر التالي مرضت بالنكاف، واضطرت إلى لزوم غرفة أرضية بآناند بهافان. وظلت لعدة أسابيع لا ترى ابنها أو زوجها أو أي أحد آخر عدا الخدم. كانت تشعر بالتعاسة والاكتئاب. فمنذ عودتها إلى الهند عام ١٩٤١ ونوبات الأمراض تهاجمها، وفيها السل الرئوي، «مشكلتها القديمة». كان الكل قلقًا من مرضها، ومع هذا لم يتحدث أحد عنه. وأثناء مرض إنديرا بالنكاف عكفت على مراجعة نسخة ما قبل الطباعة لكتاب «اكتشاف الهند» لنهرو الذي كان وقتها يدير الحملات الانتخابية في جميع أنحاء الهند استعدادًا لانتخابات مجلس النواب المركزية والمحلية التي من المقرر إقامتها في جميع الولايات من نوفمبر عام ١٩٤٥ إلى مارس عام ١٩٤٦. وفي الواقع نادرًا ما كان نهرو يمكث في منزله في هذه المدة.

وفي الانتخابات فاز حزب المؤتمر في جميع الولايات ما عدا ولاية البنغال في شرق البلاد، وولايتي السند والبنجاب في غربها. إلا أن حزب جناح؛ حزب الرابطة الإسلامية قد أبلى بدوره بلاء حسنًا. وآنذاك كانت بريطانيا مثل المؤتمر ترغب في وحدة الهند واستقلالها. فندبت في أوائل عام ١٩٤٦ ستافورد كريبس لبعثة إلى الهند من جديد، على الرغم من فشل بعثته إلى الهند قبل أربعة أعوام، فجاء كريبس على رأس بعثة وزارية مكونة من ثلاثة وزراء لوضع خطة لجعل الهند دولة فيدرالية. لكن بسبب العداء بين حزب المؤتمر وحزب الرابطة الإسلامية ولجاجة جناح كانت المفاوضات التالية صعبة وغير مثمرة إلى حد بعيد. ﻓ «حكماء البعثة الثلاث» — كما وصفهم نائب الملك — قدموا العديد من التنازلات، لكن كما قال ويفل: «لم تثمر روح الود التي أتوا بها، وكلامهم المعسول الطيب، ووعودهم البراقة إلا القليل. فالسياسيون الهنود ليسوا أطفالًا غُرًّا حتى وإن كانوا يرتدون ثيابًا شبيهة بقماط الرضع.»16
في مايو صار نهرو رئيسًا لحزب المؤتمر الوطني، وكانت هناك مواجهة جديدة بين أعضاء بعثة كريبس الوزارية وقادة حزب المؤتمر وحزب الرابطة الإسلامية في مؤتمر بسيملا. حيث اجتمعت أطراف الخصومة المعتادة وتصرفت كسابق عهدها. رفض جناح مصافحة مولانا أبو الكلام آزاد ونعته بالعميل الهندوسي. مثَّل نهرو حزب المؤتمر في المفاوضات، غير أن غاندي — الذي جاء إلى سيملا في قطار خاص مع «خمسة عشر تابعًا شاحب الوجه» — اضطلع بدور مهم بمنأى عن الأنظار. وستافورد كريبس كان يفاوض غاندي النباتي مثله سرًّا، إلا أنه خرج صفر اليدين، وفي هذا يقول ويفل: «لست … مقتنعًا بأن كريبس … قد غرر بغاندي، بل أعتقد أن غاندي هو الذي أوقع بكريبس.»17 وإلى منتصف مايو لم يُتوصل إلى أي اتفاق في المؤتمر، ولم يتحقق شيء، حتى وصلت المفاوضات إلى طريق مغلق. وصار واضحًا أن الهند ستخضع للتقسيم. وكان ذلك مفجعًا لنهرو وغاندي على وجه الخصوص.
غير أنه في الثاني من سبتمبر عام ١٩٤٦ اتُّخذت أول خطوات نقل السلطة إلى الهند عندما أقسم أعضاء الحكومة المؤقتة الجديدة للهند يمين تقلد مناصبهم، ورأسهم نهرو الذي صار يملك جميع صلاحيات رئيس وزراء المستعمرة المستقلة، مع أنه رسميًّا شغل منصب نائب رئيس المجلس التنفيذي. واضطلع نهرو بوزارة خارجية الهند. وقد كتبت إنديرا إليه من الله آباد في اليوم السابق على أدائه القسم تقول:

أبي العزيز،

كم أشتاق لأن أكون في دلهي الآن لأشهد هذا؛ إنه نصر لك على الصعيد الشخصي، والأهم نصر لهذه المنظمة العظيمة التي تمثلها. سأكون معك بعقلي وروحي [في الثاني من سبتمبر]، أتمنى لك التوفيق في هذه المهمة الجديدة التي أخذتها على عاتقك. أتمنى أن تتمكن من محو المفاسد العديدة المخزية التي يعانيها حكم هذا البلد حتى تستطيع الهند حقًّا المضي إلى الحرية والاستقلال الحقيقي. النصر للهند!

مع خالص حبي، إندو18

لكن الخوف ومعه الأمل سيطرا على أجواء البلاد مع اقتراب الاستقلال. ففي ١٦ من أغسطس، الشهر السابق على إعلان الاستقلال، دعا جناح إلى إقامة «يوم الحسم» «لتقوم دولة باكستان». فقام المسلمون في كالكتا بإضراب، ووقعت أعمال شغب ونهب. وبعد ثلاثة أيام من الفوضى كان ما لا يقل عن ٥٠٠٠ شخص قد قتلوا و١٥٠٠٠ قد أصيبوا. فيما عرف ﺑ «مذابح كالكتا الكبرى»، التي كانت بمنزلة البوق الذي أنذر بالمذابح الطائفية التي ستبتلع الهند في العامين القادمين.

في صيف عام ١٩٤٦ اكتشفت إنديرا أنها حامل ثانية. آنذاك كانت هي وفيروز يعيشان معًا حياة هادئة نسبيًّا في الله آباد. فقد كان أكثر ما تمنته إنديرا في ذلك الوقت — حسبما ذكرت بعدها بأعوام — هو أن تكون لها حياتها العائلية الخاصة مع زوجها وأطفالها. كان استقلال الهند يلوح في الأفق، وتصورت إنديرا أنها بعده ستتحرر من قبضة التاريخ وتهتم بمصيرها الخاص. إضافة إلى أن الاستقلال المادي والاستقرار بدوَا — لأول مرة — ممكنين. فقد حصل فيروز على أول وظيفة حقيقية له؛ إذ عين مديرًا لجريدة «ناشيونال هيرالد» التي تتخذ من لكناو مقرًّا لها والتي أسسها نهرو عام ١٩٣٧ لتكون ناطقة بلسان حزب المؤتمر والصراع من أجل الحرية. توقف إصدار الجريدة عام ١٩٤٢ في بداية حركة تحرير الهند بعد رفضها الخضوع للرقابة. لكنها عادت إلى الصدور من جديد في سبتمبر عام ١٩٤٦ مع تأسيس حكومة الهند المؤقتة، وقد رتب نهرو لأن يشغل فيروز وظيفة مدير عام الجريدة براتب شهري يبلغ ٦٠٠ روبية.

في نوفمبر انتقلت إنديرا وفيروز إلى لكناو وأجَّرا بيتًا من طابق واحد في منطقة هوزراتجانج، كان عيبه الوحيد هو احتواء حديقته على مقابر للمتمردين. كان فيروز يهوى النجارة ويبرع فيها، فصمم وصنع أثاثًا متقنًا أثث به هو وإنديرا منزلهما. في حين زينت إنديرا المنزل وفقًا لذوقها الجميل الذي يميل نحو البساطة، وحول فيروز — الذي كان بستانيًّا موهوبًا — مقابر المتمردين إلى حديقة زهور وشجيرات. وبدا أن كل شيء صار مهيأً لأن تحظى إنديرا وفيروز بحياة زوجية مثالية؛ ففيروز أصبح أخيرًا عائل أسرته، وصار لديهما منزل مثالي، وطفل جميل وآخر في الطريق.

كان من الواضح أن وظيفة فيروز بجريدة «ناشيونال هيرالد» مناسبة له، في البداية كان نهرو راضيًا عن أداء صهره في العمل. وبعد ستة شهور من تعيين فيروز في الجريدة كتب نهرو يقول: «هناك سلام في مكتب الجريدة، وتعاون بين أقسام التحرير والإدارة والنشر.»19 لكن هذا الوضع لم يدُمْ طويلًا. فلم يكن الجميع راضين عن أداء فيروز كما كان نهرو. ففيروز لم يكن صحفيًّا ولا رجل أعمال. وقد اشتكى «إم شالاباثي راو» رئيس تحرير جريدة «ناشيونال هيرالد» بعد عدة سنوات من «جهل» فيروز و«عدم خبرته وتهوره». ووفقًا لراوٍ أدار فيروز الجريدة إدارة تعسفية وطائشة.20
غير أن وضع الجريدة المالي كان أكثر ما أثار القلق. فبعد وقت قصير من تولي فيروز لإدارة الجريدة بدأت تعاني عجزًا كبيرًا من فرط السحب البنكي، وهو ما أقلق نهرو فكتب إلى فيروز يحدثه فيه. وفوق ذلك يبدو أن فيروز قد استولى على مبلغ قدره ٢٠٠ ألف روبية كان براتاب سينج مهراجا بارودا قد قدمه إلى الجريدة كقرض بلا فائدة. فلما عُلم الأمر بعث فيروز إلى سكرتير نهرو في دلهي ببرقية مبهمة تنم عن ذعره، يقول فيها: «برجاء لقاء لاكسمان شخصيًّا «نقطة» قرابة أربعين ألف روبية محتجزة للتحقيق فيها ولا شيء مؤكد «نقطة» يجب أن تساعدني وإلا غرقت «نقطة» أبرق الرد فورًا.» لكن فيروز لم يسدد القرض قط، وعندما تأسس ائتمان بعدها ببضع سنوات للإشراف على إدارة الجريدة المالية تنازل المهراجا براتاب سينج عن قرضه ووهبه للائتمان كتبرع.21
بالإضافة إلى ذلك كانت هناك مسألة معقدة أخرى، وهي مسألة إصدار طبعة في نيودلهي، التي كان نهرو متحمسًا لأن يبدأها فيروز. فتعاقد فيروز لشراء ماكينات طباعة باهظة الثمن من أمريكا بمساعدة من البنك التجاري المتحد من أجل مشروع طبعة دلهي. وصلت ماكينات الطباعة في موعدها، لكنها ظلت في أقفاص الشحن على أرصفة ميناء بومباي لسنين فيما أخذت غرامة تأخير تفريغها وفوائد قرض البنك في التراكم. لم يُمكن العثور على مكان لتخزين الماكينات في دلهي. وفي النهاية أخفق فيروز في إطلاق مطبعة دلهي، غير أن المدير الذي خلفه أطلقها فيما بعد.22 كان انشغال نهرو الشديد بالشئون المحلية والدولية يمنعه من مراقبة إدارة فيروز للجريدة عن كثب، لكن إنديرا اضطلعت بهذا، وسرعان ما أهمها الأمر، وأصبح سببًا يضاف إلى أسباب توتر علاقتهما الزوجية.
بعد شهر بالضبط من انتقال إنديرا مع فيروز إلى لكناو عادت إلى دلهي للمكوث لدى والدها في بيته الحكومي في شارع يورك رود. ظاهريًّا ذهبت إنديرا إلى هناك لتساعد نهرو في إعداد البيت الذي سيقيم فيه بصفته رئيس الحكومة المؤقتة، ولتضع طفلها في دلهي حيث الإمكانات الطبية أفضل من لكناو. لكنها أرادت أيضًا أن تبتعد قليلًا عن فيروز. فبعد وقت قصير من استقرارهما في لكناو بدأت إنديرا تدرك أن لفيروز علاقات مع عدة سيدات هناك. وقد أزعجها بوجه خاص علاقته بابنة عمتها الصغيرة ليكها بانديت التي كانت آنذاك صحفية متدربة في جريدة «ناشيونال هيرالد». وفي الواقع كان فيروز هو من أمَّن لليكها تلك الوظيفة، ووفقًا لنايانتارا أخت ليكها كان فيروز «مولعًا جدًّا» بليكها، وكانت إنديرا «غيورة جدًّا».23 لاكت الألسنة الأمر، فتركت ليكها الجريدة. كان حدثًا مؤلمًا لإنديرا، وقد تحول في مجتمع لكناو الصغير الضيق إلى ما يشبه الفضيحة.

لكن أكثر علاقات فيروز الغرامية جدية كانت علاقته بفتاة مسلمة وهي ابنة علي زهير، أحد ساسة لكناو. كان فيروز قد التقى بهذه الفتاة في لكناو، إلا أنها في الواقع كانت تعمل في نيودلهي لدى إذاعة كل الهند. وقد كانت علاقة فيروز بابنة زهير جادة، بخلاف ما سبقها وما تلاها من علاقات. ففي العلاقات الأخرى كان فيروز يظل «بلا أي التزام»، وكانت إنديرا — عندما تعلم بعلاقاته الغرامية — تتجاهلها. لكن فيروز وقع في حب ابنة زهير، وأخبرها أنه يريد أن يطلق إنديرا ويتزوجها. وقد بادلته الفتاة الحب، وأخبرت أباها بنواياه.

كتب علي زهير الذي كان وزيرًا من حزب المؤتمر في الأقاليم المتحدة إلى نهرو يبثه قلقه، وعليه أرسل نهرو في طلب فيروز. لم يجبن فيروز وأخبر نهرو أنه يريد أن يطلق إنديرا، وأنه يتحمل مسئولية فشل زواجهما. فاستدعى نهرو إنديرا وسألها عما تريد أن تفعل حيال الأمر. أوضحت إنديرا أنها لا ترغب في الطلاق. وعندها قرر نهرو أن يقوم بما يستطيع ليحافظ على زواجهما. فعهد بهذه المسألة إلى صديقه المقرب رافي أحمد كيداوي، وطلب منه أن يتدخل لينهي المسألة ويقطع الطريق على الفضيحة التي ستنجم عن علاقة فيروز الغرامية. فقام كيداوي بما يمليه عليه الواجب، فقصد لكناو وطمأن علي زهير إلى أن العلاقة بين فيروز وابنته لن تفضي إلى شيء. وبعدها حث فيروز على ترك ابنة زهير، وهو ما قام به فيروز على مضض شديد بعد مقاومة. وهكذا في آخر الأمر انتصرت إنديرا في هذه الجولة، لكنه كان انتصارًا أجوف. فمع أن العلاقة الغرامية انتهت وتزوجت ابنة زهير من رجل آخر، فقد زادت الطريقة التي أُكره بها فيروز على الاستمرار مع إنديرا من توتر زواجهما.

وكما هو متوقع بدأت إنديرا تدريجيًّا تزيد من الأوقات التي تمضيها بعيدًا عن لكناو. وكان نهرو يحتاجها في دلهي. وقد ذكرت إنديرا بعدها بأعوام، عندما سألها كاتب سيرتها دوم مورايس عن حياتها وقتما كانت مدبرة ومضيفة منزل نهرو، أنه كان عليها بالطبع القيام بهذا الدور لأن أباها كان مضطلعًا بأعمال أهم من زوجها.24 فسرت إنديرا لشخص آخر سبب مساعدتها لنهرو بأن قالت: «شعرت أن من واجبي أن أساعد [أبي]. وكان … من المهم للدولة أن يعنى أحد به. ولم يكن هناك من يقوم بهذا سواي.»25 غير أن العيش مع نهرو في دلهي كان يناسب حاجة إنديرا نفسها؛ إذ كان بمنزلة مخرج لها من مشكلاتها الزوجية. ولا بد أن طول غياب إنديرا وإقامتها لدى أبيها كان مذلًّا لفيروز. لذا لجأ إلى غيرها ليسري عن نفسه.
كانت علاقتهما بمنزلة حلقة مفرغة. ومع هذا وطوال خمسة أعوام لاحقة إلى أن أصبح فيروز عضوًا بالبرلمان وانتقل إلى دلهي، ظلت إنديرا تتنقل بين دلهي ولكناو بطفليها. من الواضح أن نهرو كان على علم بتوتر علاقتهما الزوجية، ومع أنه كان كثيرًا ما يُتهم بأنه ساهم في توترها؛ لأنه كان يطلب من إنديرا المكوث معه في نيودلهي، فقد كان ذلك الاتهام أبعد ما يكون عن الصحة. ففي يونيو عام ١٩٤٧ على سبيل المثال كتب نهرو إلى نان بانديت يقول: «أتمنى بشدة أن تستقر إنديرا للوقت الحالي في لكناو. يجب أن يواصل فيروز عمله في جريدة «ناشيونال هيرالد»، ومن الأنسب أن تمكث إندو هناك لوقت طويل من السنة.»26 لم يحدث خلال زواج إنديرا وفيروز أن انفصلا بصورة رسمية، لكن بمرور الوقت تناقصت المدة التي أمضياها معًا أكثر فأكثر. ويذكر أنه عندما كان زواج ابنة أخت نهرو نايانترا بانديت ساهجال يتداعى في أواخر الخمسينيات أخبرها نهرو بأن عليها إما أن تصلح علاقتها الزوجية أو تنهيها، قائلًا: «لا تحذي حذو إندو التي تركت المسألة معلقة إلى الأبد، فلا هي متزوجة ولا هي منفصلة.»27

•••

في ١٣ من ديسمبر عام ١٩٤٦ كانت إنديرا وفيروز مقيمين في دلهي في بيت نهرو بيورك رود لأن طفلهما كان على وشك القدوم. وفي عصر ذلك اليوم عرجت السيدة كريبس عليهما وطلبت من إنديرا أن تصحبها للتسوق لشراء شال كشميري. وقتها كانت إنديرا تشعر أنها ضعيفة ومتعبة، لكنها لم ترد أن تخيب رجاء السيدة كريبس، فركبت معها الطريق إلى سوق الحرفيين الكشميريين في دلهي القديمة. كان الجو باردًا مساء ذلك اليوم، فلما رجعت إنديرا إلى البيت اتجهت إلى الفراش مباشرة. وقتها كان البيت مزدحمًا لأن آل هاثيسينج وغيرهم من الأقارب كانوا قد جاءوا للزيارة. وربما لأن إنديرا كانت تشعر بالتعب في المراحل الأخيرة من الحمل — أو لأن علاقتها هي وفيروز كانت متوترة — كانت إنديرا وفيروز لا يتشاركان غرفة نوم واحدة؛ فيضطر فيروز إلى النوم في خيمة بحديقة البيت، مما كان يزعجه.28

في الثالثة من صباح اليوم التالي أيقظت خادمة بالبيت كريشنا هاثيسينج قائلة: «السيدة غاندي لا تشعر أنها على ما يرام.» قصدت كريشنا غرفة إنديرا فوجدتها قد بدأت المخاض. فأرسلت الخادمة لإيقاظ فيروز في خيمته، وبعدها أوصلت كريشنا وفيروز إنديرا إلى مستشفى ولينجدون الخاص دون أن يوقظا نهرو. هاتفت كريشنا طبيب توليد إنديرا الإنجليزي، الذي وصل بعدها بساعة ونصف وهو عصبي المزاج لأنه أوقظ من نومه في وقت غير ملائم. اختفى الطبيب في غرفة التوليد، في حين ذرع فيروز وكريشنا ممر المستشفى جيئة وذهابًا. مرت ساعات. وبعدها في حوالي التاسعة والنصف من صباح ذلك اليوم، ظهر الطبيب أخيرًا وقال: «حسنًا، لقد أنقذتها … الطفل على ما يرام، لكن السيدة غاندي مرت بوقت عصيب، وخسرت الكثير من الدم.» ثم دار على عقبيه، تاركًا فيروز وكريشنا ليعرفا بنفسيهما من إحدى الممرضات أن الطفل ذكر.

في الواقع كانت إنديرا قد أصيبت بنزيف حاد، وشارفت على الموت. وعندما دخل فيروز وكريشنا حجرتها بالمستشفى وجداها قد استحالت إلى جسد شاحب يرقد على الفراش بلا وعي تقريبًا. «فمع كل ما نزفته من دم … بدا أنها ليست … على قيد الحياة.» فهاتفت كريشنا على الفور نهرو، الذي وصل بعدها بوقت قصير، وجلس ثلاثتهم حول فراش إنديرا، والقلق يتملكهم إلى أن بدأت تستفيق. غير أنه لم يعلن أن حالتها قد جاوزت مرحلة الخطر إلا بعد عدة أيام.29

وبذا جاء سانجاي غاندي إلى العالم. ومنذ لحظة وصوله وهو مثير للمشكلات.

•••

بعد أن وضعت إنديرا ابنها الثاني ظلت في دلهي لتتماثل للشفاء، في حين عاد فيروز إلى لكناو. وسرعان ما غادر باقي الضيوف والأقارب أيضًا. وخلا البيت لإنديرا ونهرو من الجميع، باستثناء الخدم وسكرتير نهرو «إم أو ماثاي». كان ماثاي رجلًا قصيرًا وسمينًا يملك وجهًا يشبه في استدارته القمر، كان من جنوب الهند، وقد تسلل إلى حياة إنديرا ونهرو في العام السابق، دون أي إشارة للدور الذي سيلعبه في حياتهما فيما بعد. فبعدما أُطلق سراح نهرو من السجن بوقت قصير، في صيف عام ١٩٤٥، كتب ماثاي (الذي لم يكن قد قابل نهرو من قبلُ) إلى نهرو يعرض عليه خدماته لأنه — كما ذكر — كان «يبحث عن هدف في الحياة».30 حينما التقيا أعجب نهرو بجديته وإخلاصه، وقبل بتوظيفه في وظيفة بلا تعريف محدد.

في البداية كان ماثاي منوطًا بمراسلات نهرو وطباعة كتاباته، وبعدها تعقدت مسئولياته واتسعت تدريجيًّا. فعلى سبيل المثال، عهد إليه نهرو بشئونه المالية المعقدة (وفي ذلك تدابير نشر كتاباته) التي كانت إنديرا تتولاها سابقًا. وبعد الاستقلال عندما صار نهرو رئيس وزراء الهند، عين ماثاي سكرتيرًا خاصًّا له، وصار مسئولًا عن العديد من كتاب الاختزال وكتاب الآلات الطابعة. وبحلول هذا الوقت كان كل شيء يمر من تحت يديه قبل أن يصل نهرو.

وفي الواقع طوال اثني عشر عامًا لاحقة كان ماثاي درعًا بشرية يحيط بنهرو؛ فهو الذي يقرر من يقابله نهرو، ومن يتحدث إليه على الهاتف، ويتحكم في كل ما يدخل إلى مكتب نهرو ويخرج منه. فكان ينتقي الأوراق التي يطلع عليها نهرو بعناية، وكثيرًا ما كان يرفق بها ملاحظاته ومذكراته الخاصة. وبالنسبة للأوراق التي يجدها ماثاي أتفه من أن يطلع عليها نهرو يتصرف فيها من تلقاء نفسه باسم وصفة رئيس الوزراء. كان يرسل لنهرو مذكرات حول العديد من القضايا، ويبلغه بالشائعات. وكما يشير كاتب سيرة نهرو إس جوبال، يكون رئيس الوزراء عادة «شخصًا وحيدًا … منقطعًا عن المجتمع». فنهرو — لسبعة عشر عامًا — لم يدخل متجرًا أو بنكًا، ولم يوقف سيارة أجرة أو يستقل حافلة. ولم يحمل معه مالًا أو يجري اتصالًا تليفونيًّا بنفسه قط. كان ماثاي يتولى كل شيء، ودائمًا رهن إشارة نهرو. كان نهرو يعتمد على ماثاي في الحصول على المعلومات، ويستعين به «ليعفيه من الأمور الروتينية التافهة، ويحميه من الأصدقاء المزعجين، ويحذره من زملائه المتآمرين».31 وبهذا كان ماثاي في موقف يمكنه من استغلال اعتماد نهرو عليه، وتعزيز نفوذه الخاص، وجمع ثروة وسيطرة على حساب نهرو. فلا عجب أن بعض أفراد عائلة نهرو كإنديرا ونان بانديت وبنتيها وأصدقاء العائلة المقربين مثل بادماجا نايدو قد حرصوا على أن تظل علاقتهم طيبة بماثاي الذي كانت له يد في كل نواحي حياة نهرو، وكان مقربًا منه.

لكن من كان هذا الرجل بالضبط؟ كان ماثاي مثل كريشنا مينون — الذي تحول ماثاي إلى كراهيته — يجذب وينفر نفس القدر من الأشخاص تقريبًا. لم يكن هناك حياديون مع ماثاي، فكانت النتيجة أن آراء الناس فيه كانت منحازة جدًّا. بالإضافة إلى هذا، فإن الكثير مما نعرفه عن ماثاي يأتي من سيرته الذاتية المكونة من مجلدين، التي كتبها في منتصف السبعينيات بعدما صار مدمن خمر حانق، متلهفًا للنكاية بمن شعر أنهم أخطئوا في حقه، وخاصة إنديرا غاندي.

في سيرته الذاتية لا يذكر ماثاي متى ولد، لكنه كان على الأرجح يكبر إنديرا بحوالي عشرة أعوام. كان مسيحيًّا من كيرالا، وقد قرر في وقت مبكر من حياته ألا يتزوج. ادعى أنه يحمل درجة علمية من جامعة مدراس، غير أن كاتب سيرة نهرو يقول إنه كان «كاتب اختزال غير متعلم».32 كانت لغته الإنجليزية جيدة وكان واسع الاطلاع. وقد عمل إبان الحرب لدى منظمة الصليب الأحمر الأمريكية على حدود منطقة آسام-بورما. كان يتقاضى راتبًا مجزيًا، وعندما انتهت الحرب حصد من منظمة الصليب الأحمر مبلغًا قيمًا يزيد عن حاجته. فادخر واستثمر هذا المبلغ، الذي أدر له دخلًا شخصيًّا ضخمًا. وفي مذكراته يفتخر بأنه لم يتقاضَ راتبًا من الحكومة أو من نهرو، وبأنه لم يُطلب منه قط أن يوقع على قسم سرية.33 لذا شعر أن بمقدوره إفشاء بعض المسائل المثيرة للجدل في سيرته الذاتية. غير أن هذا لم يعطِه الحق في أن يقوم بعمل نسخ من جميع أوراق نهرو والاحتفاظ بها، وهذا لم يُكتشف إلا بعد وفاة نهرو.34 وقد زعم أيضًا أن ماثاي كان يعمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.35

وسواء كان ماثاي (الذي كان يدعى ﺑ «ماك» في دائرة معارف نهرو) يعجب الناس أو لا، اتفق الكل على أن ماثاي في السنوات الأولى كان بمنزلة هدية لنهرو. كان ماثاي كفؤًا وجلودًا وبارعًا. وكان أول من يصل إلى المكتب صباحًا وآخر من يغادره مساءً. وكان تحت الطلب لأربع وعشرين ساعة فيمكن أن يُستدعى في أي وقت من غرفته ببيت نهرو. كان يسافر مع نهرو ويشرف على كل أنشطته تقريبًا، السياسية منها والشخصية، مما عنى أنه على اتصال دائم ومباشر بإنديرا. لم تكن لديه أسرة ولا مسئوليات ولا اهتمامات — ولا حياة على ما يبدو — تتجاوز حياة نهرو ومتطلباته.

لكن مكانة ماثاي كانت غير عادية، فسرعان ما تجاوز دور المستخدَم العام. وقد كان رجلًا معتدًّا بنفسه وماكرًا. وحينما يكون على سجيته يتصرف على نحو سوقي، لكنه حرص على ألا يكون فجًّا أبدًا في وجود نهرو. كان نهرو يمقت السوقية، غير أنه علم بمعاقرة ماثاي للخمر، وتغاضى عنها.36 وبعدما ناور ماثاي ليكسب ثقة نهرو ويقتحم دائرة مقربيه تصرف كما لو أنه أدرك المكانة التي يستحقها. ومع أنه من الناحية العملية سكرتير نهرو، ويؤدي — على الأقل في البداية — مهام الخدم كالكتابة على الآلة الكاتبة، أو إحضار نوع السجائر التي يفضلها نهرو (سجائر ستيت إكسبريس ٥٥٥)، لم يكن سلوكه يوحي بأنه تابع. وبعكس نهرو لم يكن محصنًا ضد غرور السلطة. وحتى لو كان ماثاي يتمتع بأخلاق مثالية، فستظل المكانة التي حظي بها في بيت نهرو منذ عام ١٩٤٦ فما بعده تمثل خطرًا، وماثاي لم يكن ملاكًا.

•••

في ديسمبر عام ١٩٤٦ وقتما كان ماثاي قد رسخ قدميه بالفعل في بيت آل نهرو، وتقريبًا في الوقت نفسه الذي أتى فيه سانجاي غاندي إلى العالم، في لندن، كتبت إدوينا ماونتباتن في مذكراتها عبارة مبهمة تقول: «مهمة مرعبة جديدة محتملة».37 رأى رئيس الوزراء البريطاني الجديد كليمنت أتلي أن نائب الملك في الهند أرشيبالد ويفل ذا الشخصية غير الجذابة، وزوجته المملة كويني غير مناسبين للإشراف على انسحاب بريطانيا من الهند. لذا دعا زوج إدوينا؛ فيكونت بورما لويس ماونتباتن — أو «ديكي» كما كان مقربوه يدعونه — إلى تسلم مهام ويفل ليكون بهذا آخر نواب الملك في الهند.
قبل أربعة وعشرين عامًا، عندما كانت إدوينا آشلي وريثة شابة وفاتنة، خُطبت إلى ديكي ماونتباتن الجذاب في دلهي يوم عيد الحب عام ١٩٢٢؛ وقتما كان ماونتباتن يجول الهند مع أمير ويلز. ثم تزوجا في شهر يونيو التالي، وكان أمير ويلز قد شاهد العريس في الزفاف. وكما ذكر المؤرخ دافيد كانادين «كان زواجهما من الناحية الاجتماعية مثاليًّا؛ فهي تملك الثروة، في حين يملك هو المكانة الاجتماعية، وكلاهما لديه الطموح.»38 في الواقع كانت إدوينا قد ورثت مليوني جنيه استرليني عن جدها السير إرنست كاسل، في حين كان ماونتباتن يجني سنويًّا ٦١٠ جنيهات استرلينية فقط، لكنه ولد أميرًا؛ الأمير لويس فرانسيس باتنبيرج (لم يعد اسم عائلته ألمانيًّا بناءً على مرسوم ملكي صدر إبان الحرب العالمية الأولى)، وكان ابن حفيد الملكة فيكتوريا. وفي العشرين عامًا الأولى من زواج إدوينا ولويس ماونتباتن عاشت إدوينا حياة كسل تافهة اتخذت فيها سلسلة من العشاق، في حين كان زوجها النشيط الذي لا ينطفئ عزمه يترقى في المناصب في البحرية الملكية.

غير أن الحرب العالمية الثانية هي التي صنعت كلا الزوجين. فقد صار ديكي الحاكم الأعلى لجنوب شرق آسيا وأوقفت قواته هجمات اليابانيين على الهند وأعادت احتلال بورما. في حين مرت إدوينا بنقطة تحول في حياتها؛ فأثناء قصف لندن ظلت إدوينا تواظب على جلسات تدريم الأظافر أسبوعيًّا، وتستجلب كميات من أنواع أحمر الشفاه النادرة، لكنها اعتنقت كذلك قضايا اليساريين، وصارت مؤيدة للاتحاد السوفييتي، ومتعاطفة مع الحركات القومية، ومعادية للرأسمالية. وعملت بلا كلل لدى منظمة الصليب الأحمر وفرقة إسعاف سان جون، واضطلعت بغيرها من أعمال الإغاثة المهمة والأنشطة الاجتماعية. وفي أواخر عام ١٩٤٦ كانت في منتصف الأربعينيات وتعاني اشتداد أعراض سن اليأس. وفي أوائل العام التالي خضعت لجراحة استئصال رحم جزئي. فكانت قطعًا غير مستعدة جسديًّا ونفسيًّا للارتحال في «مهمة مرعبة» إلى شبه القارة الهندية لمساعدة زوجها في بدء الاستقلال بالهند.

لم يكن ديكي بدوره متحمسًا لقبول هذه المهمة الصعبة، وقد وضع العديد من الشروط، حتى إنه كان متأكدًا من أن أتلي سيلغي عرضه. لكن أتلي لم يفعل ذلك، وفي فبراير عام ١٩٤٧ وافق ماونتباتن أخيرًا على أن يخلف ويفل كنائب الملك في الهند. وخطط هو وإدوينا لأن يصحبا معهما ابنتهما باميلا ذات الثمانية عشر عامًا، ولما كانت إدوينا لا تزال تتعافى من عملية استئصال الرحم أرهقتها تعقيدات التحضير للسفر. فحاولت السيدة ويفل أن تساعدها برسائلها من دلهي؛ فتقول لها: «وجدت أن التاج في الحرب غير ضروري … إلا أنني ارتديته عدة مرات هذا الشتاء. يصعب العثور على قفازات أنيقة هنا … إن إنيد في كونوت بلاس هي أفضل خياطة ثياب.»39
وفي ٢٢ من مارس عام ١٩٤٧ وصلت إدوينا وباميلا وديكي ماونتباتن إلى مطار دلهي بست وستين حقيبة سفر شخصية. ثم اصطُحبوا كالملوك في عربة مكشوفة تجرها الخيول برفقة الخيالة إلى بيت نائب الملك الفخم الذي صممه المعماري لوتيان، وهناك قابلهم آل ويفل المغادرون أعلى درج عظيم مد عليه بساط أحمر.40 وبعدها بأيام أثار آل ماونتباتن ضجة عندما ذهبوا إلى حفل في حديقة بيت نهرو في شارع يورك رود. وبعد ذلك دُعي نهرو وإنديرا وكريشنا مينون لغداء في بيت نائب الملك، ولم يكن ذلك إلا البداية. ففي كل الحفلات ومآدب العشاء التي أقامها آل ماونتباتن، كان ما لا يقل عن خمسين في المائة من المدعوين (لأن ديكي كان رجلًا يحب الدقة) من أصل هندي وكانت إدوينا تضيف بعض الأطباق النباتية إلى الأصناف المقدمة على الطريقة الهندية التقليدية على أطباق الثالي النحاسية. ولما دعي غاندي إلى شرب الشاي قدمت له خثارة لبن الماعز في زُبدية من القصدير. حظيت سروجيني نايدو وابنتها بادماجا ومانيبن باتل وسكرتير غاندي راجكوماري أمريت كاور بحفل شاي عادي. كانت إدوينا ماهرة دبلوماسيًّا حتى إنها عندما دعت نان بانديت وفاطمة جناح معًا لشرب الشاي، كانت تلك أول مرة منذ ثلاثة أعوام تتحدث فيها أخت نهرو مع أخت جناح.41 كان انطباع إدوينا عن العشاء الذي أقامته لآل جناح أنه كان «مملًّا إلى حد لا يطاق»، في حين تعشى مساء اليوم التالي نهرو وإنديرا ونان بانديت في بيت نائب الملك، وكان العشاء حسبما ذكرت في مذكراتها «كله ساحرًا جدًّا، أدخل البهجة بعد أمسية الليلة السابقة.»42
لكن ما هو الرأي الذي كونته إنديرا عن إدوينا ماونتباتن الفاتنة الذكية اجتماعيًّا — ومع هذا — الجافة جدًّا، وماذا كان موقفها من العلاقة الرومانسية التي نشأت آخر الأمر بين أبيها وزوجة نائب الملك؟ إذ بحلول وقت رحيل آل ماونتباتن عن الهند في يونيو عام ١٩٤٨ كانت إدوينا ونهرو قد وقعا في الحب.43 قبل أحد عشر عامًا انزعجت إنديرا جدًّا من علاقة أبيها ببادماجا نايدو، وكان ذلك يعود إلى حد ما إلى أنها بدأت بعد وقت قصير من وفاة كامالا نهرو، بالإضافة إلى رفض إنديرا أن يشاركها أحد في حب أبيها، وكان هناك احتمال قوي أن تتزوج بادماجا ونهرو. لكن لم تكن هذه هي الحال مطلقًا بين نهرو وإدوينا، لذا لم تكن علاقتهما تمثل تهديدًا لإنديرا. غير أن إنديرا نفسها صارت متزوجة وأمًّا لطفلين صغيرين، وكونت روابط عاطفية قوية بعيدًا عن أبيها.

التقى ديكي وإدوينا ماونتباتن نهرو لأول مرة في عام ١٩٤٦. ونشأت بينهم في الحال علاقة وطيدة، وفي ربيع وصيف عام ١٩٤٧ صارت تجمعهما وابنتهما باميلا أيضًا علاقة وثيقة بإنديرا. إن إدوينا ماونتباتن — التي قد تتصرف تجاه النساء الجذابات مثل إنديرا بعدائية — كانت حكيمة بالدرجة الكافية لأن تكون دبلوماسية وودودة مع إنديرا. فاستطاعت أن تكسر تحفظ إنديرا، وبكياسة أسدت إليها نصائح عن إدارة منزل رئيس الوزراء. وكانت إنديرا تأخذ بنصائحها حينًا وترفضها حينًا. فعلى سبيل المثال قررت إنديرا أن تلغي ترتيب المقاعد وفقًا لمراسم التشريفات الدبلوماسية في حفلات العشاء الرسمية لأن زوجات الدبلوماسيين الهنود نادرًا ما يتحدثن الإنجليزية. وفي هذا قالت إنديرا لإدوينا: «من المفترض أن يحظين بوقت ممتع كذلك، لذا سأجلس الناس حسب اللغة التي يتحدثونها، حتى يكون الناس من نفس المكان يجلسون متقاربين.» حاولت إدوينا أن تثنيها عن ذلك، لكن إنديرا كانت مصممة. ومع أن نواياها من هذا التغيير كانت نبيلة، إلا أنه أدى إلى كارثة. نهض الرجال الهنود من مقاعدهم — أزواج السيدات اللاتي كن «من المفترض أن يحظين بوقت ممتع كذلك» — واحتجوا على ترتيب المقاعد الجديد المهين لهم ولزوجاتهم.

رأت إدوينا وباميلا ماونتباتن أن إنديرا جذابة ومحنكة اجتماعيًّا ومثيرة للاهتمام لكنهما ذهلتا بعض الشيء من «حدة لسانها». فإنديرا صريحة جدًّا في انتقاداتها التي تشجب فيها الأمراء الهنود ونمط حياتهم، إلا أن أعنف انتقاداتها وجهتها لعمتها نان بانديت. فعلى سبيل المثال، لما نصب نهرو أخته السيدة بانديت سفيرة للهند في موسكو عادت إلى دلهي بمعطف من فراء المنك. وهذا ما أدانته إنديرا بشدة مع أنه هدية من الحكومة السوفييتية. وانتقدت إنديرا بنتي عمتها شاندرليكها ونايانتارا لارتيادهما إحدى مدارس تعليم آداب السلوك في المجتمعات الراقية في أمريكا (كانت في الواقع جامعة ويليزلي) وقالت إنديرا أيضًا: «يناضل بقيتنا في السجن من أجل الاستقلال.» لم يلتقِ آل ماونتباتن بفيروز كثيرًا، غير أنه كان يحضر من وقت لآخر، كحضوره احتفالات الاستقلال. كانوا يرون أن فيروز شخص «تافه»، وتساءلوا عن السبب الذي دفع إنديرا إلى الزواج منه، وعن السبب الذي يدفعها باستمرار إلى الذهاب بابنيها على عجل إلى لكناو لرؤيته. بدا كما لو أنها «تجذب في اتجاهين متعاكسين»، وواضح لكل من هو مقرب لأسرتها أن زواجها يعاني مشاكل.44
في مايو عام ١٩٤٧ ذهب نهرو وكريشنا مينون إلى سيملا وماشوبرا مع آل ماونتباتن، وفي الحال عرض ديكي على نهرو «خطة البلقان»؛ مخطط بريطانيا لتقسيم الهند إلى اتحاد من الولايات الفيدرالية المفككة. درس نهرو الخطة في ساعة متأخرة من الليل بعد أن نام الجميع، ففزع من «صورة التفكك والصراع والاضطراب» التي تعرضها. فاندفع غاضبًا إلى غرفة كريشنا في الثانية صباحًا، وأطلق مذكرة احتجاج إلى ماونتباتن قبل أن يذهب أخيرًا للنوم.45 فاستدعي في بي مينون مسئول الإصلاح التابع لماونتباتن لإنقاذ الموقف، وتوصل بعد ثلاث ساعات إلى «خطة مينون» لتقسيم الهند. اقتضت الخطة أن تنقل السلطة إلى حكومتين مركزيتين هما حكومة الهند وحكومة باكستان. وبذا يحصل جناح على دولته الإسلامية، لكنها ستكون منقوصة وبالية ومقسمة بين البنجاب والبنغال. وافق قادة الهند على خطة مينون في دلهي في الثالث من يونيو. وفي اليوم التالي أعلن ماونتباتن في مؤتمر صحفي أن الهند وباكستان ستكونان دولتين مستقلتين في الخامس عشر من أغسطس عام ١٩٤٧.
وفي مساء ١٤ أغسطس كانت إنديرا وفيروز ونهرو وبادماجا نايدو يتناولون العشاء لدى نهرو في بيته في العقار رقم ١٧ في يورك رود، عندما رد نهرو على مكالمة تليفونية من لاهور. أُبلغ نهرو بأن المدينة أضرمت فيها النيران وأن أعمال الشغب والنهب والقتل اجتاحت شوارعها. هذا بالإضافة إلى أن إمدادات المياه قُطعت عن أحياء الهندوس والسيخ. وما إن حاول قاطنو منازلها الخروج بالدلاء بحثًا عن المياه حتى ذبحهم رعاع مسلمون. حطمت تلك الأنباء نهرو، لكنه أبقى على ترتيبات احتفالات الاستقلال التي ستقام في منتصف ليل ذلك اليوم.46 كان في بي مينون الذي وضع خطة تقسيم الهند لماونتباتن جالسًا في غرفة المعيشة بشقته في دلهي عندما علم بما يحدث في لاهور. فقال لابنته: «الآن تبدأ كوابيسنا بالفعل.»47

وقبل أن ينتصف ليل ١٤ أغسطس عام ١٩٤٧ بدقيقة واحدة وقف نهرو أمام المجلس التأسيسي في دلهي وقال: «قبل أعوام طويلة واعدنا قدرنا، وها قد جاء الوقت لنفي بالوعد.» ومع أن الصالة الكبيرة كانت مكتظة بالمستمعين فقد خيم عليهم الصمت حتى إن الصوت الوحيد المسموع كان صوت أزيز مراوح السقف وهي تحرك هواء الصالة الساخن. مضى نهرو في خطبته يقول: «مع دقة الساعة معلنة منتصف الليل، عندما يخلد العالم للنوم، ستفتح الهند عينيها على الحياة والحرية. جاء وقت قلما يأتي في التاريخ نخرج فيه من عهدنا القديم ونخطو إلى الجديد، وينصرم العصر القديم، وتجد روح الأمة التي لطالما كبتت صوتًا لها.»

كانت إنديرا بين جمهور المستمعين تصغي إلى كلمات نهرو وهو يعبر بصوته عن تلك الروح. قبل سبعة عشر عامًا ونصف كان صوتها هو أول صوت ينطق بقرار نهرو للاستقلال بعدما أعد نسخته الأولى لاجتماع حزب المؤتمر في ديسمبر عام ١٩٢٩ في لاهور. قطعت إنديرا على نفسها عهد الحرية، مع الآلاف غيرها، على ضفاف نهر رافي. كان الكفاح من أجل الحرية هو الذي شكَّل ولوَّن حياتها كلها. ووقتها حان موعد حصاد ثمار هذا الكفاح. وفي هذا تقول إنديرا: «كان من المستحيل أن نصدق بعد كل هذه السنين أن الهدف الذي شغلنا، وراودنا في أحلامنا، وعملنا من أجله منذ زمن بعيد قد تحقق. لقد كان حدثًا قويًّا.» بدا الاستقلال كما لو أنه معجزة. وفي غمرة البهجة التي عمت دلهي وأغلب الهند تولد لدى إنديرا شعور غريب ﺑ «الخدر». تقول عنه: «أتعلم كيف تصاب بالخدر عندما تشعر بالسعادة البالغة أو الألم البالغ. كان نيل الحرية حدثًا جللًا، أكبر من أن تدركه الحواس، كان يملأ كيانك وعالمك كله.»48
وفي صباح اليوم التالي، صباح «اليوم الموعود» كما كتب نهرو على عجل في مذكرة جيبه، أدى نهرو اليمين كأول رئيس وزراء للهند المستقلة أمام ماونتباتن؛ الذي صار الحاكم العام للهند، وليس لباكستان لأن جناح صمم أن يحتفظ لنفسه بالمنصب، مما كدر ماونتباتن. ثم رُفع علم الهند المستقلة ذو اللون الزعفراني والأبيض والأخضر في برينسز بارك أمام حشد صاخب يقارب نصف مليون شخص. وبعدها عاد آل ماونتباتن إلى قصرهم الذي صممه لوتيانز في عربة رسمية مذهبة والحشود تصطف في طريقهم وتهتف لهم في سعادة. ثم أقيمت مأدبة فخمة استمرت حتى بواكير الصباح التالي وقف فيها خلف كل مقعد حامل طعام معمم يرتدي بزة خاصة. وحضرها كل من إنديرا وفيروز. بدت إنديرا بثوبها الحريري وبعض ما تبقى من حلي أمها متألقة، وقد جلست إلى جانب أبيها في حين جلس فيروز بعيدًا في آخر المائدة إلى جانب ملحق ماونتباتن الصحفي آلان كامبل جونسون.49

استمرت احتفالات الاستقلال لأيام، في حين وصلت إلى دلهي أنباء مزعجة أكثر فأكثر إزاء وقوع أعمال شغب طائفية في بنجاب. فزال عن إنديرا «الخدر»، وبدأت تدريجيًّا تعي ما يحمله الاستقلال من بشائر ونذر. وفي نهاية أغسطس عاد فيروز إلى لكناو، واصطحبت إنديرا طفليها في عطلة قصيرة إلى موسوري.

•••

صارت الهند حرة، ولكن مجزأة.50 كان جزءا دولة باكستان التي رأسها جناح يقعان على جانبي الحدود الشرقية والغربية لشمال الهند، ويفصل بينهما أكثر من ١٢٠٠ ميل. وضع الحدود الفاصلة بين الهند وباكستان محامٍ بريطاني يدعى السير سيريل رادكليف الذي لم يكن قد ذهب قط إلى أبعد من جبل طارق شرقًا عندما وصل إلى دلهي في أوائل يوليو عام ١٩٤٧. ولم يكن أمامه سوى خمسة أسابيع من العمل في جو حار ورطب ليضع فيها الحدود بين ثلاثمائة مليون شخص، فلما فرغ من ذلك كتب إلى ربيبه يقول: «لقد كنت متعرقًا طوال الوقت.»51
كانت أصعب مهمة واجهها رادكليف هي تقسيم البنجاب. ومع أنه حاول تحقيق أفضل النتائج في هذه المهمة الصعبة فقد ترك خمسة ملايين سيخي وهندوسي في إقليم البنجاب الباكستاني وأكثر من خمسة ملايين مسلم في إقليم البنجاب الهندي. وبعد أن شاهد رادكليف ماونتباتن وهو يؤدي قسم توليه منصب الحاكم العام للهند قصد مطار دلهي مباشرة واستقل الطائرة التالية إلى إنجلترا، وفسر رحيله بقوله: «لن يحبني أحد في الهند بسبب قراري في تقسيم البنجاب والبنغال، وسيكون هناك نحو ٨٠ مليون شخص متضرر يبحث عني.»52

أجَّل ماونتباتن الإعلان عن حكم تقسيم البنجاب والبنغال حتى لا يسلب احتفاليات الاستقلال في الهند وباكستان جزءًا من فرحتها كما قال. لكن لم يتوقع أحد — ولا حتى رادكليف الهلوع — الفوضى والمجازر التي تفجرت لدى الإعلان عن الحدود الفاصلة بين الهند وباكستان في ١٦ أغسطس عام ١٩٤٧. فما أعقب الإعلان كان أكبر حركة هجرة عرفها التاريخ. إذ حزم الناس أمتعتهم ورحلوا بلا عودة عن مواطنهم التي عاش فيها أسلافهم جيلًا بعد جيل، ولم يصل أغلبهم إلى وجهتهم. غادر الأغنياء والفقراء وسكان القرى والمدن والعجائز والنساء والرضع والأطفال شذر مذر، إما سيرًا على الأقدام أو في عربات تجرها الثيران أو بسيارات أو في شاحنات أو بواسطة السكك الحديدية.

وفي الفوضى التي أعقبت الإعلان انقلب الهندوس والمسلمون والسيخ بعضهم على بعض بعدما كانوا يعيشون معًا في انسجام. فدُمرت قرى بأكملها وذُبح أهلها. واغتُصبت النساء والفتيات واختطفن، أو تفاديًا لهذين المصيرين ألقين بأنفسهن في الآبار أو قتلهن رجالهن. كانت الدماء تسيل على أرصفة محطات السكك الحديدية في لاهور. إلا أن البعض نجح في الصعود على متن القطارات المغادرة. لكن بعدها بساعات كانت عربات القطارات تصل إلى المحطات الأخيرة وهي محملة بجثث القتلى الذين ذُبحوا في الطريق على يد عصابات المسلمين والسيخ والهندوس. كان الهندي يقتل الهندي. وبلغ عدد القتلى ما لا يقل عن مليون هندي. تُرك الإنجليز وهم ينسحبون على عجل بلا مساس. فكان الوحيدون القادرون على التجول في البنجاب بأمان نسبي في خريف عام ١٩٤٧ هم البيض.

وفي سبتمبر عام ١٩٤٧ مع تدفق الكثير من اللاجئين الهندوس والسيخ من البنجاب. اندلعت في دلهي فوضى طائفية؛ حيث اجتاحت المدينة أعمال الشغب، والقتل، والحرائق المتعمدة، والنهب، والاغتصاب. وأوشكت السلطات المدنية على فقدان سيطرتها بالكامل. وفي موسوري سمعت إنديرا عبر الإذاعة عن وقوع «اضطرابات» في دلهي، فهاتفت فيروز الذي كان وقتها يمكث لدى نهرو بعد مجيئه من لكناو. طلب فيروز من إنديرا ألا تعود إلى دلهي آنذاك نظرًا لندرة الطعام وخطورة الوضع هناك. قالت له إنديرا إنها ستجلب معها بعض أكياس البطاطس وصممت على أن تعود بأولادها في أول قطار. حينما توقف قطار إنديرا في ضاحية شهدارا، إحدى ضواحي مدينة دلهي، ألقت نظرة عبر نافذة عربة القطار فرأت حشدًا من الهندوس يطاردون رجلين مسلمين مسنين. فتركت ولديها مع حاضنتهما واندفعت إلى خارج القطار مع بعض المسافرين الآخرين وحاولت التدخل لإنهاء المشاجرة. نجح المسافرون في إنقاذ أحد الرجلين المسنين، أما الآخر فكان بعيدًا جدًّا، وكان يطارده كثيرون.53

حينما وصلت إنديرا إلى بيت نهرو في شارع يورك رود وجدت أهل البيت قائمين على إطعام الكثير من اللاجئين وإيوائهم في خيام. وقد وظف العديد من هؤلاء اللاجئين البنجابيين الهندوس — ومن بينهم شابة تدعى فيمالا سيندهي التي فُرِّق بينها وبين عائلتها — لدى نهرو في مكتبه وبيته آخر الأمر. كان المزيد من اللاجئين يصلون يوميًّا، وكانت إنديرا تتحدث إليهم كل صباح فرادى أو جماعات لتحاول تدبير أمر رعايتهم. كان من الواضح أن بيت يورك رود لا يمكن أن يُئوي إلا القليلين، فنقلت إنديرا بقية اللاجئين إلى العديد من معسكرات اللاجئين بالمدينة. وطاف نهرو دلهي بسيارته الجيب. وكان كثيرًا ما يتدخل ملوحًا بعصاه عندما يشهد أعمال النهب والعنف، ويصيح في الغوغاء بأن يلزموا النظام. أما إدوينا ماونتباتن فقد ارتدت بذلة عسكرية وطافت معسكرات اللاجئين لتنسيق أعمال الإغاثة وتنظيم العمل مع لقاحات الكوليرا والمرافق الصحية.

وفي دلهي ألفت امرأة جوجاراتية من أتباع غاندي ومن أصدقاء نهرو تدعى مريدولا سارابهاي فيلق سلام. وقد انشغلت سارابهاي نفسها بإنقاذ النساء المختطفات في البنجاب واستعادتهن، وأولت امرأة بنجابية تدعى سوبهادرا داتا (التي صارت فيما بعد عضوًا في البرلمان عرفت باسم سوبهادرا جوشي) مسئولية تنظيم أعمال الإغاثة في دلهي. وحينما سمع غاندي بالأعمال التي قامت بها إنديرا من أجل اللاجئين في يورك رود أخبرها بأنه يريدها أن تذهب إلى معسكرات اللاجئين المسلمين والهندوس في دلهي حيث كان ٢٠٠ ألف شخص يعيشون في مناطق قذرة وظروف بائسة. كان من الممكن في هذه المعسكرات المكتظة التي تفتقر إلى الظروف الصحية ألا يتوافر سوى صنبوري مياه لـعدد ٢٥ ألف شخص إلى جانب تلال من القمامة لم تجمع، ومراحيض طفحت بما فيها لأن الكناسين رفضوا الدخول إلى هناك للتنظيف. وانتشر في تلك المعسكرات مرض الكوليرا والتيفود وغيرهما من الأمراض المعدية. وكان الناس يتضورون جوعًا لعدم وصول الطعام إلى هناك. والكثير من قاطني تلك المعسكرات كانوا قد جُرحوا في طريقهم إلى دلهي، وظلوا أسابيع دون أن تنظف جروحهم أو تغير ثيابهم.

انضمت إنديرا إلى سوبهادرا في العمل بمعسكرات اللاجئين. في البداية أخبرت إنديرا سوبهادرا أنها لن تستطيع القدوم إلى المعسكرات إلا ساعتين يوميًّا لأن سانجاي وقتها لا يزال رضيعًا وعليها أن ترضعه. لكن سرعان ما وجدت نفسها منغمسة في أعمال الإغاثة لثماني أو عشر ساعات يوميًّا مع سوبهادرا داتا. وكل صباح تصل إنديرا إلى بوابة المعسكر وحدها على قدميها لأن السائق الذي كان يوصلها من يورك رود يرفض الدخول إلى «أماكن الاضطرابات» بالمدينة. وقد أتت هي وسوبهادرا بعمال التنظيف والكناسين وعملتا على توفير الإمدادات الطبية وحصص الطعام واستمعتا إلى شكاوى اللاجئين وطلباتهم. ووفقًا لسوبهادرا (التي صارت فيما بعد ألد أعداء إنديرا غاندي) فإن إنديرا تمتلك الشخصية التي تتناسب مع أعمال الإغاثة. فهي جريئة وحاسمة لا تعرف الخوف وتجيد التنظيم. وتعرف كيف تخاطب الناس في محنتهم. لم تكن انفعالية بل قوية تتعاطف مع الآخرين.54
كانت إنديرا كما أخبرت أباها قبل بضعة أعوام تصمد أشد الصمود في الأزمات. وقد كان تقسيم الهند وما جلبه على دلهي من اضطرابات طائفية ومعاناة في خريف وشتاء عامي ١٩٤٧ و١٩٤٨ هو أسوأ كارثة وطنية حلت بالهند. ويذكر بعدها بعدة أعوام قيام الفنان ساتيش جوجرال برسم صورة لا تُنسى لإنديرا يصورها فيها على أنها ضمن اللاجئين بعدما وجه لها السؤال الآتي: «لم تخفين مشاعرك؟ هل من أجل أن تخفي نفسك؟» أجابت إنديرا: «لأنه لا يجب على المرء أن يبدي كل ما في قلبه.» صحيح أن إنديرا لم تكشف عن مشاعرها أثناء اضطلاعها بأعمال الإغاثة لكنها بلا شك كانت تمتلك قلبًا رقيقًا. ومن المحتمل أن عاطفتها دفعتها بقدر ما دفعها سخطها وغضبها.55

كان اندلاع العنف بين الطوائف واحدًا فقط من تبعات التقسيم. وأحد التبعات الأخرى هو ضياع كشمير مسقط رأس نهرو والملتجأ الذي ظلت إنديرا طوال حياتها تلوذ إليه. كان من غرائب حكم البريطانيين للهند أن ثلث شبه القارة الهندية تقريبًا يتكوَّن من ٥٦٥ إمارة؛ كانت ممالك قديمة متوارثة وَقَّع حكامها معاهدات مع التاج البريطاني كلٌّ على حدة. كان نهرو يبغض تلك الإمارات ويدين مجتمعاتها الإقطاعية ومهراجاتها وحكامها المستبدين في كتابه «لمحات من تاريخ العالم». لذا بعدها بأعوام جردت إنديرا الأمراء الهنود من امتيازاتهم وحرمتهم من رواتبهم. إلا أن الخطر الفوري الذي مثلته تلك الإمارات عام ١٩٤٧ كان إشكالية وضعها بعد الاستقلال الهندي. فكان يصعب البت فيما إذا كانت ستنضم إلى الهند أم باكستان، وفيما إذا كانت الكثير من إمارتها الكبيرة مثل كشمير ستصبح مستقلة. وبحلول ١٥ أغسطس كانت كل الإمارات قد انضمت لحسن الحظ إلى الهند أو باكستان — عدا ثلاث — بناءً على وقوع الإمارة داخل حدود أي من الدولتين.

كان وضع إمارة جامو وكشمير (المشار إليهما عادة باسم كشمير فقط) هو الأكثر تعقيدًا من الناحية السياسية من بين أوضاع الإمارات الثلاث التي لم يتقرر وضعها، لأن كشمير لها حدود مع كل من الهند وباكستان. ومع أن حاكمها كان مهراجا هندوسيًّا فقد كان المسلمون يمثلون نحو ٨٠ بالمائة من سكانها، ولهذا السبب توقع جناح أن تصير جزءًا من باكستان. غير أن نهرو أراد أن تظل كشمير جزءًا من الهند لأسباب سياسية واستراتيجية، ولأنه أيضًا شديد التعلق بهذه الإمارة. لكن جناح ونهرو أُحْبِطا حينما صارت كشمير من الناحية القانونية مستقلة في ١٥ من أغسطس لأن مهراجا الإمارة هاري سينج لم يقرر هل إمارته ستنضم إلى الهند أم باكستان.

انفردت كشمير عن غيرها من الإمارات بالاستقلال لثلاثة وسبعين يومًا فقط. ففي فجر ٢٢ من أكتوبر عام ١٩٤٧ عبر ما لا يقل عن ٣٠٠٠ شخص من قبيلة بشتون من منطقة الشمال الغربي الحدودية الباكستانية نهر جهلم إلى داخل كشمير. ظن الباكستانيون أن هؤلاء المغيرين قد أتوا للمشاركة في ثورة وطنية كشميرية عارمة ضد حكم هاري سينج الاستبدادي. ظن الهنود أنهم يمثلون غزوًا باكستانيًّا أجازته أعلى المراتب الحكومية في باكستان.

حينما أطبق البشتونيون على سارينجار ذُعِر المهراجا هاري سينج. والتمس المساعدة العسكرية من دلهي لطرد هؤلاء الغزاة، ثم في ٢٤ من أكتوبر فر هاري سينج بعائلته وحاشيته الضخمة (وفيها صائغه الروسي فيكتور روزنتال) إلى قصره الشتوي في جامو. اشترط نهرو وماونتباتن على المهراجا أن تنضم كشمير إلى الهند ليرسلا قوات هندية لطرد البشتونيين. ولما لم يكن أمام المهراجا خيار آخر أذعن لشرطهما. وفي ٢٧ من أكتوبر بدأ إنشاء جسر جوي على سارينجار، وفي غضون أيام وصل إلى كشمير ٣٥٠٠٠ جندي. إلا أن هناك اختلافًا حول ما إذا كان هذا التدخل العسكري قد وقع قبل أو بعد توقيع المهراجا هاري سينج فعليًّا أصول معاهدة انضمام كشمير إلى الهند.56

بعد انضمام كشمير إلى الهند نُصب صديق نهرو الشيخ عبد الله رئيسًا لحكومة كشمير الإدارية الطارئة. ولم يتنازل هاري سينج رسميًّا عن العرش، لكنه نفي من كشمير وتخلى عن السلطة في مايو عام ١٩٤٩، عندما صار الشيخ عبد الله رئيسًا لوزراء كشمير. ولم يخلف ابن هاري سينج؛ كاران سينج — الذي كوَّن صداقة دائمة مع نهرو وإنديرا — والده أبدًا، بل عُيِّن وصيًّا على عرش كشمير. غير أن الشيخ عبد الله وحزبه — حزب المؤتمر القومي — كانوا المديرين الفعليين لشئون كشمير.

ومع أن هاري سينج قد وقع أصول معاهدة انضمام كشمير إلى الهند، فمن الواضح أنه فعل ذلك لأنه كان في حاجة ماسة إلى المساعدة العسكرية من الهند. ونظرًا لأنه كان حاكمًا هندوسيًّا مستبدًّا لإمارة أغلب سكانها من المسلمين، فلا يمكن بأي حال اعتبار رأيه تعبيرًا عن إرادة شعب جامو وكشمير. لذا اشترط ماونتباتن ونهرو أن يتحدد مصير كشمير النهائي «بمشورة شعبها»، وفي الثاني من نوفمبر قال نهرو في إذاعة عموم الهند: «نحن مستعدون لإجراء استفتاء عندما يستتب الأمن ويطبق القانون ويحل النظام.»57 وأعاد نهرو تأكيد هذا العهد في برقيته إلى رئيس الوزراء الباكستاني لياقت علي خان التي قال فيها: «نحن موافقون على أن تشرف جهة دولية محايدة كالأمم المتحدة على أي استفتاء.»58

لكن السلام لم يحل سريعًا، إذ استمر القتال في كشمير لعام قبل أن يصير قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النيران نافذًا في أول يناير عام ١٩٤٩. وقد نتج وضع خط وقف إطلاق النار عن وقوع ما يقرب من ثلث كشمير تحت سيطرة باكستان فيما عرف في باكستان باسم «أزاد كشمير» أي [كشمير الحرة] وفي الهند بـاسم «كشمير التي احتلتها باكستان». ولم يجرِ الاستفتاء الذي وعد به نهرو قط، فكانت النتيجة أن ظلت «تراجيديا الأخطاء» قائمة إلى اليوم في كشمير بلا حل، وبعبارة أخرى باتت كشمير مثار عداء مستمر بين الهند وباكستان.

لطالما حظيت كشمير بأهمية كبيرة في حياة عائلة نهرو التي تعود أصولها إلى هناك. صحيح أن نهرو وصف نفسه مازحًا فيما بعد بأنه «آخر إنجليزي يحكم الهند»، وأن إنديرا قالت في تهكم عن نفسها إنها «إمبراطورة الهند». إلا أن كليهما شعر في قرارة نفسه أنه كشميري قبل كل شيء، مع أن أسلافهما قد رحلوا عن سهول كشمير من أجيال، وكان كلاهما لا يتحدث اللغة الكشميرية. غير أنه مع التقسيم اكتسبت كشمير أهمية مختلفة في حياتهما. ولطالما كانت كشمير مكانًا يقصدانه كلما شعرا برغبة داخلية ودعتهما الحاجة إلى ذاك. لكنها صارت بعد عام ١٩٤٧ مصدر ألم وفرح، ومشاكل ومخاطر، وفي الوقت نفسه مصدر سلوى وطمأنينة، وبمعنى آخر صارت كشمير جرحًا سياسيًّا عنيدًا يأبى أن يندمل.

•••

طوال خريف عام ١٩٤٧ كانت إنديرا وطفلاها مع فيروز في لكناو يحاولون إنجاح حياتهم. كان وقتًا تعيسًا وعصيبًا. شعرت إنديرا بالعزلة. ففيروز لا يزال على علاقة بغيرها من النساء. ومن ناحية أخرى كانت إنديرا تجد لكناو «كئيبة» و«رجعية». وفوق كل هذا كانت تكره السياسة المتبعة في المدن القروية. فقد كتبت إلى أبيها في ديسمبر. تقول: «كم هو غريب الهمود الذي يسيطر على مدننا القروية، ما يثير السقم في المناخ هنا هو الفساد والتقصير وتكبر البعض وخبث البعض الآخر. لا تقدم الحياة هنا شيئًا.» غير أن إنديرا فزعت من حجم النفوذ الذي تتمتع به منظمة «راشتريا سوايامسيواك سانغ» لإحياء الهندوسية (التي تعرف اختصارًا ﺑ «آر إس إس»)، وهي منظمة طائفية فاشية شبيهة بجماعة أصحاب القمصان البنية التابعة لهتلر.59 لم تكن إنديرا بصحة جيدة في لكناو. فمع دخول برد الشتاء عاودتها الأعراض التي كانت تصيبها قديمًا من سعال وارتفاع في درجة الحرارة وفقدان الوزن. وفي بداية السنة الجديدة عادت بطفليها إلى دلهي.

وبعدما استقرت إنديرا وطفلاها من جديد في بيت نهرو بيورك رود بدأ غاندي — الذي كان وقتها مقيمًا في دلهي بمنزل رجل الصناعة الثري جي دي بيرلا — إضرابه السادس عشر عن الطعام احتجاجًا على استمرار العنف تجاه المسلمين بالمدينة. وهذه المرة أوشك غاندي على الموت، لكن حيل بينه وبين الموت جوعًا في آخر لحظة عندما قام قادة المجتمعات الدينية في المدينة بزيارته وهو في فراشه وتعهدوا بإيقاف العنف. فكسر غاندي صيامه في ١٨ يناير، بعد صيام دام ستة أيام. وبعدها بيومين نجا بأعجوبة من الموت للمرة الثانية عندما فجر أحد القتلة قنبلة أثناء الاجتماع اليومي للصلاة.

وفي عصر يوم ٢٩ يناير عام ١٩٤٨ زارت إنديرا مع طفلها راجيف ونايانترا بانديت (التي كانت وقتها تقيم مع نهرو في المدة التي عملت فيها والدتها سفيرة للهند في موسكو) وكريشنا هاثيسينج وبادماجا نايدو غاندي في بيت بيرلا. وقبل أن تغادر إنديرا منزلها بوقت قصير أعطاها البستاني حزمة من الياسمين لتزين بها شعرها ولكنها قررت أن تأخذها لتهديها لغاندي. وفي بيت بيرلا جلس زوار غاندي في الحديقة وهو يأخذ حمامًا شمسيًّا ويتناول الفاكهة المهروسة ولبن الماعز مرتديًا قبعة من القش ومئزرًا. طارد الصغير راجيف الفراشات في الحديقة كلها ثم جلس عند قدمي غاندي وبدأ يدس أزهار الياسمين بين أصابع قدم الرجل العجوز. فجذب غاندي أذني راجيف وأخبره ألا يفعل ذلك قائلًا: «توضع الزهور عند أقدام الموتى فقط.»60

وفي ظهيرة اليوم التالي كانت إنديرا ونايانترا تتناولان الشاي في منزل يورك رود عندما دق جرس الهاتف. فأجابت عليه إنديرا لتتلقى رسالة عاجلة: تعرض غاندي لتوه لإطلاق الرصاص أثناء سيره إلى مكان الصلاة اليومية. فقفزت إنديرا ونايانترا على التو إلى السيارة وذهبتا إلى منزل بيرلا لتجدا غاندي فاقد الوعي بين حشد من الأهل والأتباع. ثم توفي دون أن يستعيد وعيه.

حينما شاع خبر وفاة غاندي في الهند أولًا، ثم في العالم أجمع، قوبل بعدم تصديق تحول بعدها إلى أسًى، ثم إلى خوف. تساءل الناس عن القاتل. إن كان مسلمًا، فقد كان العنف الطائفي سيندلع حتمًا من جديد ويخرج عن السيطرة أكثر فأكثر، لكن سرعان ما ثبت أن القاتل هندوسي برهمي متعصب من بونا، أغضبه صيام غاندي من أجل المسلمين وألقى باللائمة عليه لتقسيم الهند. في تمام الخامسة وثلاث دقائق عصرًا في ٣٠ يناير خرج غاندي من منزل بيرلا للذهاب لاجتماع صلاة بعد الظهيرة في حديقة منزله الفسيحة. كان حشد من ثلاثمائة شخص قد ملئوا الحديقة، وما إن رأوا العجوز غاندي حتى اندفعوا نحوه لتحيته. وفي مقدمة الحشد ناثورام جودسي، وهو رجل قصير وبدين في الثلاثينيات من عمره. اقترب ناثورام من غاندي وانحنى له احترامًا، وهو ممسك بمسدس بيريتا عيار ٩مم. وبعدها أطلق ثلاث طلقات عن قرب في صدر العجوز غاندي البارزة عظامه.

للحظة تسمر الكل في أماكنهم. لم يبدُ صوت الطلقات كما لو أنه صادر عن مسدس، بل كصوت المفرقعات النارية الصينية التي قد يطلقها طفل. ثم اندفع شاب أمريكي من الحشد إلى الأمام، وانتزع المسدس من يد جودسي. فأفاق الناس واندفع آخرون وتغلبوا على القاتل. وبعدها حُمل غاندي إلى داخل البيت في حين علا صوت عويل رهيب من الحشد بالخارج. مات غاندي بعدها بنصف ساعة.

في غضون دقائق من الاغتيال تدفق الآلاف من الناس على منزل بيرلا، وفيهم نهرو وآل ماونتباتن؛ إذ وصلوا ودخلوا إلى الغرفة المزدحمة التي استلقى فيها غاندي على مرتبة على الأرض. وحضر أيضًا فيروز غاندي (الذي كان وقتها في زيارة لزوجته وأطفاله في دلهي) وأخذ بسرعة يبحث عن إنديرا بين الحشد. على عتبة الغرفة التي مُدد فيها جسد غاندي كان هناك عدد كبير من الأحذية والصنادل (لأن النعال لا تُلبس في حضرة الموتى). تعبق هواء الغرفة برائحة البخور النفاذة، وخيم الصمت. فما كان هناك إلا صوت نحيب النساء وترنيمهن للصلوات. ثم دلفت المصورة الأمريكية مارجريت بورك وايت إلى الغرفة، بحذائها ذي الكعب العالي، وهي تتهادي في مشيتها، وكاميراها تتدلى من رقبتها. عبرت الغرفة وهي تقرع الأرضية بحذائها، وانحنت تلتقط صورًا لجثة غاندي الهامدة. عندما سُمع صوت الكاميرا نهض فيروز غاندي بسرعة وجذب الكاميرا من رقبتها، وانتزع الفيلم منها، ثم قادها إلى خارج الغرفة.61
قال برنارد شو عن اغتيال غاندي: «يحدث هذا عندما تكون طيبًا أكثر من اللازم.»62 في حين قال نهرو للشعب الهندي عبر المذياع: «انطفأ النور من حياتنا، وعم الظلام كل مكان. لا أدري ماذا يسعني أن أقول ولا كيف أقوله. قائدنا الحبيب، بابو كما كنا ندعوه، أبو الأمة، لم يعد بيننا.»63 كانت جنازة غاندي الأولى في سلسلة جنازات شهدتها الهند المستقلة بنفس الصورة: عربة محملة بالزهور تحمل الجثمان الواهن الذي اخترقه الرصاص، اصطفاف الآلاف على ضفاف نهر يامونا بطول الطريق من دلهي إلى راج جات، محرقة الجثمان المنصوبة من خشب الصندل، وابن الفقيد الذي يشعل النار فيها، والكهنة المترنمون، والحزن العارم إزاء ميتة قاسية عنيفة.

بعد اغتيال غاندي صار أمن نهرو مسألة في غاية الأهمية. فمن العجيب أنه لم يكن لدى رئيس الوزراء في الهند حراس شخصيون، ولا أي تجهيزات أمنية لحمايته. فكان بإمكان أي شخص أن يدلف إلى شقته في يورك رود أو إلى مكاتبه في مبنى البرلمان بلا مساءلة ودون أن يعترضه أحد. وبعد جنازة غاندي مباشرة أحاطت شرطة دلهي بنهرو من كل جانب، مما أقلقه. فقد صار بيته وأرضه في يورك رود يبدوان كمعسكر مسلح يحيط به الكثير من خيام الشرطة. وتمركز الحراس على باب البيت وفي داخله أيضًا.

لكن لم يكن بيت نهرو الصغير ذو الطابق الواحد يتسع بيسر لكل أفراد شرطة الحماية، وقد اشتكى ضباط الشرطة أنفسهم من أن المنزل به الكثير من المخارج والمداخل، وأنه قريب جدًّا من الشارع، وبحاجة إلى أن يحيطه جدار مرتفع، وإلى أن يجاوره مركز شرطة في نهاية الطريق الخاصة المؤدية إليه. لكن نهرو رفض كل هذه الإجراءات. وفي نهاية الأمر أخبر ماونتباتن نهرو بأن عليه الانتقال إلى بيت رئيس أركان الحرب الذي يضم عشرين غرفة، والذي يتميز بالكثير من الأراضي المغلقة وبوابة دخول حصينة. لكن نهرو رفض. فآخر ما كان يريده هو أن يعيش في أبهة القادة الوطنيين. فأقنعه وزير الداخلية ساردار باتل بالانتقال للعيش هناك. كان ساردار بصحبة غاندي قبل أن يخر قتيلًا بدقائق، وقد ساعد في حمل جثمانه الذي ينزف من موقع الاغتيال. أخبر باتل نهرو أن فكرة مقتل غاندي سيطرت على تفكيره وطاردته في منامه. وبوصفه زميل نهرو منذ زمن طويل في حزب المؤتمر، ويشغل منصب وزير داخليته، لم يكن مستعدًّا للقبول باحتمال تعرضه لميتة مماثلة، ورفض تحمل مسئولية أمن نهرو في منزل يورك رود. فوافق نهرو على مضض شديد على الانتقال إلى بيت رئيس أركان الحرب، غير أنه استطاع أن يؤجل الأمر سبعة شهور.

•••

وأثناء هذه الشهور السبعة كانت إنديرا تتنقل ذهابًا وإيابًا بين دلهي ولكناو، ثم في مايو اصطحبت هي وفيروز ابنيهما إلى كشمير في محاولة للتمتع بعطلة أسرية وشهر عسل ثانٍ. لكنهما تغيرا وكشمير أيضًا قد تغيرت. فهناك سارينجار والمناطق المحيطة بها قد امتلأت باللاجئين الذين تدفقوا على المدينة بعدما غزاها الباكستانيون العام السابق، فباشرت إنديرا أعمال الإغاثة لهؤلاء اللاجئين. ومع أن الشيخ عبد الله قام بإصلاحات في كشمير فإن حالتها الاقتصادية قد تدهورت. فلم يكن في سارينجار سوى القليل من السياح، حتى في ذروة «الموسم السياحي» لأن الناس شعروا بأنها لم تعد آمنة بعد الغزو الباكستاني. فكانت النتيجة أن صار أصحاب الفنادق والمتاجر ومراكب السكنى والحرفيون والعمال يعانون ماديًّا. كان الشيخ عبد الله نفسه محبوبًا، أما حكومته الجديدة فلم تكن كذلك. ذلك لأن الصحف الباكستانية كانت — كما كتبت إنديرا إلى أبيها — «ركزت على نشر أكاذيب خسيسة.» وقالت إنديرا أيضًا: «إن الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يحفظ كشمير للهند وللكشميريين هو تدفق السياح هذا الصيف على سارينجار … أنا متأكدة أنه لو توافرت دعاية كافية فسيتدفق الناس على سارينجار. لذا على كل من الحكومة الكشميرية والهندية أن تبذلا قصارى جهدهما لطمأنة الناس أن سارينجار «آمنة».»64
وفي منتصف مايو ذهب نهرو نفسه في زيارة قصيرة إلى سارينجار. وبعدما غادرها كتبت إنديرا إليه ثانية عن الوضع السياسي المشتعل في كشمير، فتقول له:
«يبدو أن هناك حالة يرثى لها من الافتقار إلى الدعاية السياسية الكافية للحكومة الكشميرية. فإذاعة «أزاد كشمير» تبث أفظع الأكاذيب ليلًا ونهارًا، دون أن يتصدى لها أحد … على الشيخ [عبد الله] أن ينشئ إذاعة قوية هنا … فكل يوم تُروَّج مجموعة جديدة من الشائعات … الإذاعة وحدها هي القادرة على الوصول إلى مجاهل سارينجار وبث الأنباء الصادقة وتكذيب القصص السخيفة التي تروِّجها إذاعة «أزاد كشمير». أتعلم أنه في اليوم الذي غادرت فيه سارينجار أذاعت «أزاد كشمير» أنه لدى وصولك إلى سارينجار استقبلك مائة ألف شخص بالأعلام السوداء وهم يصيحون: «عد من حيث أتيت!»»65
غادرت إنديرا سارينجار في منتصف يونيو إلى دلهي لحضور عدد من الحفلات التي أُقيمت لآل ماونتباتن لدى رحيلهم عن الهند في ٢١ يونيو وللقيام كذلك بالاستعدادات اللازمة للانتقال إلى بيت رئيس أركان الحرب (بمساعدة بادماجا نايدو). وأخيرًا انتقل نهرو وإنديرا وولديها إلى محل إقامة نهرو الجديد بصفته رئيسًا للوزراء، الذي سُمِّي منذ ٢ أغسطس عام ١٩٤٨ باسم تين مورتي. (يعني اسم تين مورتي «ثلاثة تماثيل»، وقد سمي البيت على اسم ثلاثة تماثيل لجنود تحيط بنصب عند مدخل القصر.) انتقلوا إلى البيت في وقت مبكر من الصباح، وهذا يعود إلى حد ما إلى أن إنديرا أرادت اللحاق بطائرة مبكرة إلى لكناو. هذا إلى جانب سبب آخر يشرحه نهرو في خطابه إلى أخته فيقول:
«إندو انتابتها رغبة مفاجئة في الانتقال إلى البيت في لحظة مواتية. إذ أشار رجل دين من أوتار كاشي، واضح أنه مهتم بمستقبلي، إلى تلك اللحظة. فرأت إندو أنه ليس من الحكمة أن نتحدى علامات القدر. وعليه وصلنا إلى هنا في السابعة إلا ربعًا صباحًا … لنجد سروجيني وليلاماني [نايدو] تحملان في أيديهما جوزة هند كبيرة. وقد أرسل حكيم أوتار كاشي … موجزًا قصيرًا لما سيحدث لي مستقبلًا. قال إنه ستقع لي عدة مشاكل، ستصل في بعض الأحيان إلى حد الخطر، إلا أنني سأنجو منها وأترقى. وعام ١٩٥٢ … سأعتزل السياسة … وأتولى أمر قضية عالمية. ها قد صرت الآن تعلمين كل شيء عن مستقبلي.»66

كان بيت تين مورتي الذي صممه المعماري «آر تي راسل» لرئيس أركان الحرب البريطاني وأتم بناءه عام ١٩٣٠ محل إقامة شبيه بالقصور، له أسقف شاهقة وأروقة طويلة يدوي فيها الصدى، وغرف فسيحة تضم قاعة رقص كبيرة وقاعة عشاء رسمية وصالات واسعة وغرف استقبال وأجنحة غرف النوم الرئيسية. وهناك لوحات زيتية لأبطال الإمبراطورية الإنجليزية على الحوائط، وستائر ثقيلة تحجب وراءها نوافذ طويلة ذات طراز فرنسي. وحول البيت كله امتدت حدائق ومروج مشذبة بعناية.

كان بيت تين مورتي ذا طابع رسمي فاتر وإنجليزي صرف، وقد تجنبت كل من إنديرا ونهرو العيش فيه. لذا قبل الانتقال إليه أمرت إنديرا بوضع لوحات الإمبراطورية الإنجليزية في صناديق وإرسالها إلى وزارة الدفاع. وأبدلت بها الأعمال الفنية الهندية، وأمرت بطلاء الحوائط بأبيض، لون قشر البيض، وأزالت الستائر الثقيلة ووضعت مكانها ستائر من الحرير الهندي الخالص. ونسقت أثاث غرفة نهرو تنسيقًا بسيطًا لكنه راقٍ، فوضعت فيها سريرًا يشبه أسرة القش وملأتها بكتبه المفضلة وصور العائلة. ومقابل البيت، في الجهة الأخرى لقاعة الرقص في الطابق الأول، اتخذت إنديرا لنفسها غرفة داكنة بنوافذ صغيرة في أعلاها بالقرب من السقف، وأثثتها بأثاث حكومي كئيب. فكانت غرفتها تشبه غرف الفنادق الموحشة التي لا يوجد ما يميزها والبعيدة كل البعد عن الفخامة. كانت غرفة نوم طفلي إنديرا مجاورة لغرفتها، ولمربية الطفلين الدنمركية، آنا أورنشولت، غرفة مجاورة إلى غرفتيهما.

كان يستحيل أن تدار شئون بيت تين مورتي بالعشوائية نفسها التي أديرت بها شئون بيت يورك رود. وأحد الأسباب أنه بحكم معايير ذلك الوقت هناك تدابير أمنية محكمة. فالحراس يتخذون مواقعهم على بوابة البيت الرئيسية، وموظف الاستقبال يسجل اسم كل زائر. فوجدت إنديرا أن عليها إدارة منشأة معقدة، والإشراف على عدد كبير من الموظفين والخدم. وفي الحقيقة خضع بيت تين مورتي لنظام إدارة مصغر من ذلك الذي خضع له منزل آناند بهافان أيام كان موتيلال نهرو مديرًا لشئونه، لكن إنديرا كانت بالكاد تذكر عهد الرخاء ذاك. وعليها هي ونهرو أن يستضيفا الكثير من الضيوف الرسميين، فاجتهدت في تحضير قوائم الطعام للضيوف وترتيب أماكن جلوسهم. ولأن نهرو كان يرفض أن يستغل الخمسمائة روبية المعفاة من الضرائب التي خُصصت له شهريًّا بصفته رئيسًا للوزراء لاستضافة الضيوف الرسميين. فكان أغلب الطعام الذي يُقدم للضيوف في بيت تين مورتي من الأطعمة الهندية البسيطة. ولم يكن الخمر يُقدم هناك. فيتولى نهرو الإنفاق على نفسه وعلى ضيوفه. ويرسل لفيروز غاندي فاتورة شهرية ليغطي تكاليف إعالة إنديرا وطفليها.

بعد عدة أعوام قالت إنديرا في وصف أيامها الأولى في بيت تين مورتي:
«لم يكن الأمر باختياري حقيقة. طلب مني والدي القدوم وإعداد البيت لإقامته. لم يكن هناك من يمكنه القيام بذلك غيري. لذا أعددت المنزل، لكنني قاومت كل ما من شأنه أن يجعلني المضيفة فيه. كنت بكل بساطة مرعوبة من … الواجبات الاجتماعية. فمع أنني التقيت بكثير من الناس، فإنني لم أكن أجيد «التواصل مع الآخرين» والانخراط في المحادثات الخفيفة … لطالما كرهت الحفلات … كنت أمضي بعض الوقت في تين مورتي ثم أرحل. فيما بعد صار الرحيل أصعب أكثر فأكثر. كان زوجي … في لكناو وكنت أذهب إلى هناك. لكنني دائمًا كنت أتلقى برقية [من نهرو] تقول: «ضيوف مهمون قادمون، عودي فورًا» … كانت مشكلة حقيقية لأن فيروز كان طبعًا لا يقدر دائمًا رحيلي عنه. فكنت أمضي نصف الشهر تقريبًا في لكناو ونصفه في دلهي.»67
اعتاد رؤساء الحكومة الهندية الوافدون المكوث لعدة أيام في تين مورتي، ثم الذهاب إلى راشتراباتي بهافان محل إقامة الرئيس. فكان في تين مورتي سيل لا ينتهي من الضيوف على الإفطار والغداء وحفلات الشاي والاستقبال ومآدب العشاء، وفي هذا قالت إنديرا في مقابلة صحفية: «[لدينا] ضيوف على كل وجبة.» ومع أن إنديرا لم تكن ترتاح قط من استقبال الضيوف في تين مورتي فقد كانت مضيفة تتقن عملها ولا تتوانى في أدائه. وفي هذا تقول: «إن كان على المرء أن ينجز عملًا، فمن الأفضل أن يتقنه، لذا طورت من نفسي لأكون على قدر العمل.»68 فكانت تستوثق بنفسها من عمل كل لمبات المصابيح وكل صنابير المياه في الحمامات. وتحرص على أن يحظى الضيوف طوال القامة بمقاعد ذات مسند ظهر عالٍ وأن يحظى القصار منهم بمسند للقدمين. وتحرص على إعداد الطعام المناسب لكل من الهندوس الذين لا يأكلون اللحم، والمسلمين الذين لا يأكلون الخنزير، ومن يمتنعون عن أكل اللحم في أيام معينة في الأسبوع، والنباتيون ممن يتناولون البيض واللبن، وممن لا يتناولونهما.69
كان أفضل ما يميز بيت تين مورتي هو وجود مساحة كبيرة به لتربية الحيوانات. فكان لدى آل نهرو دومًا كلاب — كانت عادة من فصيلة جولدن ريتريفر — وقد أضافوا آنذاك إلى تلك الحيوانات النابية حيوان بندا الهيمالايا الأحمر وأسموه بهيمسا (انضمت إليه بعد ذلك أنثى سُميت باسم بيما، ورُزِقا بصغار) وثلاثة من صغار النمور. وكان لدى طفلي إنديرا مجموعة كاملة من البط والببغاوات والسلاحف والأسماك وغيرها من مختلف الحيوانات الصغيرة. ومع الوقت ضمت المرجة الخلفية لتين مورتي حديقة حيوانات صغيرة.70

•••

وبعد انتقال نهرو وإنديرا وطفليها بشهر إلى تين مورتي مات جناح متأثرًا بمرض السل الرئوي في كراتشي في ١١ من سبتمبر في عام ١٩٤٨. ومع أنه كان رجلًا شاحبًا وشديد النحول مصابًا بنوبات السعال المتكررة، فإنه أبقى مرضه سرًّا إلى النهاية. لربما اختلف سير التاريخ لو كان نهرو — الذي عهد شخصيًّا طبيعة ذلك المرض القاتلة — وماونتباتن قد عرفا بمرض جناح. فعندها كان يمكنهما أن يؤجلا الاستقلال بدلًا من أن يصرا عليه وينتظرا إلى أن يزاح جناح — الرجل الذي مثل العقبة الكبرى في وجه وحدة الهند — عن طريقهما.

وفي أكتوبر عام ١٩٤٨ قصد نهرو إنجلترا لحضور أول اجتماع لدول الكومنولث، وهناك زار آل ماونتباتن في لندن وأمضى عطلتي نهاية أسبوع لديهما في بيت برودلاندز بيتهم الريفي بهامبشاير. أما في دلهي فقد كانت إنديرا وطفلاها طريحي الفراش من أثر الإصابة بالسعال الديكي. كان فيروز في لكناو. وفي يناير عام ١٩٤٩ انشغلت إنديرا بالإعداد لحفل زواج نايانترا بانديت من جاوتام ساهجال في آناند بهافان، وهذا أول زفاف يقام هناك منذ زواج إنديرا وفيروز في مارس عام ١٩٤٢. وبعد الزواج بثلاثة أشهر تزوجت ابنة نان بانديت الأخرى شاندراليكها من أشوك ميهتا الذي كان مبعوثًا خارجيًّا شابًّا في تين مورتي. وفي فبراير عام ١٩٤٩ زارت إدوينا وباميلا ماونتباتن الهند ومكثتا في بيت تين مورتي، وبعد تلك الزيارة واظبتا على زيارة الهند سنويًّا.

ومضت الحياة في طريقها. فبدأ ولدا إنديرا الذهاب إلى روضة الأطفال. وكان فيروز يزور إنديرا والولدين بصفة دورية لأنه صار من الصعب عليها أكثر فأكثر أن تتملص من مسئولياتها بصفتها مضيفة بيت نهرو. فظلت علاقتها الزوجية تتفسخ. غير أنه في أواخر ربيع عام ١٩٤٩ حبلت إنديرا.

وفي أغسطس وسبتمبر كانت إنديرا منشغلة بالتخطيط لرحلة قريبة إلى أمريكا مع أبيها، وستكون أول زيارة رسمية لها إلى الخارج بوصفها ابنة رئيس الوزراء. وفي إحدى العطلات الأسبوعية في سبتمبر ذهبت إنديرا إلى الله آباد وسقط حملها أثناء إقامتها هناك. وقتها كان نهرو في دلهي وفيروز في لكناو. فأسرع فيروز بالذهاب إلى الله آباد وأعاد إنديرا إلى دلهي.71 استردت إنديرا بعضًا من عافيتها سريعًا وواصلت استعداداتها لزيارة أمريكا. لكن أطباء دلهي نصحوها بإلغاء هذه الزيارة لأنها لا تزال ضعيفة، لكن إنديرا أصرت على أنها بصحة جيدة وعلى أنها ذاهبة إلى هناك لا محالة. وفي نهاية الأمر، كما كانت الحال معها دائمًا، ظفرت بما أرادت. وخسر فيروز.

سجل فقدان إنديرا لحملها وإصرارها على الذهاب مع أبيها إلى الخارج نهاية مرحلة مضطربة وعصيبة في زواجها، ومثل نقطة تحول في حياتها. كان هذا هو آخر حمل لها. ومن المحتمل — أو على الأقل من الممكن — لو ولد هذا الطفل أن تقضي المزيد من الوقت مع فيروز في لكناو، وبعدها في دلهي حينما انتقل إلى هناك بعدما انتُخب عضوًا في البرلمان. فلربما «أنقذ» طفل آخر زواجهما، لهذا يتمني العديد من المتزوجين طفلًا آخر، ولعل هذه الأمنية كانت فعلًا الدافع وراء سعي إنديرا لأن تحمل بصرف النظر عن أن فيروز رغب في طفلين فقط.

وآنذاك كان ترتيب التزامات إنديرا الشخصية من الأهم إلى الأقل أهمية على الأرجح كالآتي: نهرو في المركز الأول، يليه الولدان، ثم فيروز، ثم نفسها في المركز الأخير. كان ترتيب المسئوليات بهذه الطريقة يبدو لأغلب النساء في ظروف إنديرا سيرًا على قوانين الطبيعة وليس خيارًا شخصيًّا. وربما — لو لم تفقد إنديرا حملها الأخير — لانتزع أطفالها وزوجها المركز الأول في أولوياتها من نهرو، وانتهي بذلك صراع الولاء في قلبها. وهو بكل بساطة صراع بين احتياجات والدها من ناحية واحتياجات زوجها من ناحية أخرى. لكن إنديرا فقدت الطفل، وبطريقة ما فقدت زواجها أيضًا.

وفي أكتوبر عام ١٩٤٩ استقلت إنديرا طائرة متجهة إلى أمريكا، وودعت ما كان من المحتمل أن يحدث.