إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الحادي عشر

تحول

في ١١ أكتوبر عام ١٩٤٩ سافرت إنديرا ونهرو إلى عاصمة الولايات المتحدة واشنطن على متن الطائرة الخاصة بالرئيس الأمريكي هاري ترومان المعروفة باسم سيكريد كاو، التي أرسلها إلى لندن لنقلهما لواشنطن في المرحلة الأخيرة من رحلتهما. قبلًا كانا قد سافرا جوًّا من دلهي إلى لندن على متن رحلة عادية من رحلات الطيران المنتظم، وقد تولى نهرو دفع تكاليف تذكرة إنديرا، مع أن وزير المالية الهندي وافق على دفع تكاليف تذكرتها، وعلى منحها مبلغًا يوميًّا تنفقه أثناء إقامتها خارج البلاد.1 لأنها كانت مع أبيها وهي تحمل صفة دبلوماسية شبه رسمية. على مدى العقد التالي ستصحب إنديرا أباها في أربع وعشرين رحلة إلى الخارج. فقد كانت آنذاك على أعتاب مرحلة جديدة — وانتقالية لا رجعة فيها — من حياتها.

قبل عدة شهور من رحلة إنديرا ونهرو إلى أمريكا كان نهرو قد نصب أخته نان بانديت سفيرة للهند لدى الولايات المتحدة، وكانت هي من أعد برنامج رحلتهما التي بدأت باستقبال حفي في العاصمة. غير أن العداوة القديمة بين نان بانديت وإنديرا كانت على أشدها. فقد استثنت بانديت إنديرا من كل المناسبات الرسمية وتعمدت أن تسلبها دورها أثناء الرحلة التي دامت ثلاثة أسابيع، وذلك بأن اصطحبت نهرو إلى كل مكان، وفي ذلك «برينستون» التي التقى فيها نهرو بأينشتاين، مما أزعج إنديرا.

إلا أن إنديرا حضرت فعليًّا بعض المناسبات الاجتماعية غير الرسمية مع أبيها، خاصة عندما كانا في نيويورك. أول هذه المناسبات حفل استقبال أقيم في الفندق الذي أقاما فيه — فندق وولدروف استوريا — وقد استضافته الروائية بيرل إس باك التي كانا قد قرآ روايتها «الأرض الطيبة» لكامالا وقتما كانت في سويسرا. وكان بين ضيوف الحفل الكثيرين الذين دعتهم باك سيدة اسمها دوروثي نورمان ذات خمس وأربعين عامًا، وهي امرأة ثرية تعيسة في زواجها تعمل مصورة إضافة إلى كونها ناشطة سياسية يسارية، وراعية للفنون والآداب، تجمع وتشجع الكتاب والفنانين والمفكرين البارزين. وقد وجدت دوروثي — مثلها مثل العديد من النساء — نهرو جذابًا جدًّا. وقد نالت بدورها إعجابه، حتى إنه قبل هو وإنديرا دعوتها المفاجئة لحضور «حفل شاي للأدباء» في اليوم التالي.

كانت دوروثي نورمان تجيد جمع الأثرياء والمشاهير، وللقاء نهرو دعت دبليو إتش أودن ولويس مامفورد وأنايس نين وغيرهم من المشاهير إلى بيتها في شارع إيست سيفينتيث ستريت، الذي كان ممتلئًا بأعمال فنية حديثة وصور فوتوغرافية من إبداع ألفريد شتيجليتز (الذي جمعت بينه وبين دوروثي نورمان علاقة حب طويلة) وسجاد شرقي وستائر جدارية من إبداعات فنانين ينتمون لبلدان مختلفة، افتُتن نهرو بالمكان. وكذلك افتتنت به إنديرا التي شعرت بالانسجام على الفور مع دوروثي. دعا نهرو وإنديرا دوروثي للسفر معهما إلى بوسطن، وعندما عادا إلى نيويورك أمضت إنديرا الكثير من الوقت مع دوروثي في حين كان نهرو يحضر اجتماعات ومناسبات رسمية مع نان بانديت.

لقي نهرو وإنديرا ترحيبًا حارًّا في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنهما مرا بوقت عصيب هناك. كانت هذه هي المرة الأولى التي يحتكان فيها بذلك البلد، وقد صدما على أثرها. فكما قال نهرو فيما بعد معلقًا، لا يصح للمرء أن يذهب لأمريكا للمرة الأولى أبدًا. وقد صدم نهرو وإنديرا بوجه خاص من المادية الصريحة التي تتسم بها الحياة الأمريكية، ومن التحدث بلا حرج عن المال و«الصفقات». وأزعجت أصوات الأمريكيين العالية ولكنتهم المنفرة نهرو. بل وجد المناخ السياسي هناك بغيضًا، وهو المناخ الذي أنتج بعدها بوقت قصير السيناتور جوزيف مكارثي. علاوة على أن محادثات نهرو مع كل من ترومان ودين أكيسون وزير الخارجية الأمريكي — الذي شعر نهرو أنه يعامله باستعلاء — «قد فشلت في إقامة أي علاقة ودية أو أي تفاهم بينهم».2 كان من المستحيل على الأمريكيين أن يتفهموا سياسة الهند الخارجية الحيادية لأن هاجس الشيوعية بدا أنه يسيطر عليهم.
غير أن انطباع نهرو وإنديرا عن أمريكا تحسن بعدما غادرا واشنطن. ففي شيكاغو بالغ الحاكم أدلاي ستيفنسون في الترحيب بنهرو قائلًا: «بضعة رجال فقط نجحوا في التأثير على قوى زماننا التي لا تعرف السلام. وإلى تلك الفئة القليلة من الرجال الذين ثبتت عظمتهم ينتمي ضيفنا … بل إن البانديت جواهرلال نهرو ينتمي إلى فئة «أصغر» من الشخصيات التاريخية التي احتلت في حياتها مكانة مقدسة.» وفي مدينة سانت لويس كتبت صحفية في جريدة سانت لويس بوست ديسباتش: «غادرنا نهرو تاركًا خلفه حشدًا من النساء المغرورقة أعينهن بالدمع.»3 وبعد أن زار نهرو وإنديرا غرب أمريكا الأوسط سافرا في عطلة قصيرة إلى كندا، ثم عادا إلى نيويورك حيث قامت إنديرا بواحدة من زياراتها الرسمية القليلة مع والدها، فقد زارا إلينور روزفلت في هايد بارك، ووضعا إكليلًا من الزهر على قبر الرئيس الأمريكي الراحل فرانك روزفلت.

وفي نيويورك ذهبت إنديرا إلى معارض الفنون الراقية والمطاعم الفاخرة، وحضرت عروضًا مسرحية خارج منطقة برودواي، وتسوقت في متاجر ماسي مع صديقتها الجديدة دوروثي نورمان التي كانت — لأنها يهودية ويسارية — تنتمي إلى مجتمع ثقافي راقٍ أبهر إنديرا. كانت دوروثي أيضًا امرأة تولت زمام حياتها. كان لديها طفلان مثل إنديرا، لكنها تحاول أن تنتشل نفسها من زيجة متأزمة. تكتب بانتظام عمودًا صحفيًّا لجريدة نيويورك بوست، وهي ناشطة في اتحاد الحريات المدنية الأمريكي، وفي الاتحاد الأمريكي لتنظيم الأسرة وفي غير ذلك من قضايا الحريات المهمة. ولم تكن مجرد مضيفة حفلات بل شخصية رفيعة المقام، بلغت مكانتها بنفسها، لم تكن فنانة مبدعة ولا قائدة، لكنها صنعت لنفسها حياة خلاقة ذات شأن، لم تطغَ عليها حياة الآخرين.

وحينما عادت إنديرا إلى الهند بعد رحلتها إلى أمريكا بدأت في مراسلة دوروثي نورمان، وقد صارت مراسلاتهما — التي استمرت من آنٍ لآخر لثلاثة وأربعين عامًا — كالحبل الذي تستنجد به كلٌّ منهما بالأخرى. وتعد واحدة من النوافذ القلائل التي تسمح بالإطلال على حياة إنديرا غاندي الشخصية بعد عام ١٩٥٠. حين أخذت رسائلها إلى أبيها تقل تدريجيًّا، والدليل على ذلك أن إنديرا نفسها قالت في إحدى رسائلها إلى دوروثي: «تدهشني الطريقة التي أكتب بها لكِ عن نفسي، فلم أفعل ذلك مع أحد من قبل.»4
كان بين إنديرا ودوروثي الكثير من الصفات المشتركة، منها أن كلتيهما تعيستان في زيجتيهما. غير أن إنديرا شعرت بإمكانية البوح بمكنونات صدرها إلى دوروثي لأنهما تنتميان إلى ثقافتين مختلفتين، وفي مكانين متباعدين. فالبوح لدوروثي نورمان آمن أكثر من أي شخص في الهند؛ فدوروثي بمعزل عن عالم إنديرا اليومي وما راج به من إشاعات ونميمة. أخبرت إنديرا دوروثي بشعورها أنها لا تملك خيارًا إلا أن تضع حياتها في المرتبة الثانية بعد حياة أبيها، وتشرح إنديرا كيف أنه لم يكن أمامها خيار آخر فتقول: «بمعنى أنني «شعرت» بشدة بمدى وحدة أبي، وشعرت أيضًا أنني مهما بلغت من مراتب ومهما شعرت بالرضا من عملي الخاص، فكل هذا — من منظور أشمل — لن يكون نافعًا كما لو «لازمت أبي» [الأمر الذي حذرها هارولد لاسكي من القيام به قبل عدة أعوام]؛ إذ أزلل العقبات وأضطلع بالكثير من الأمور … لكن عليَّ … أن أقوم بأشياء أخرى أيضًا. هل أكتب؟ … لعل الكتابة تجلب النظام وتمهد الطريق نوعًا لحياتي الفكرية وأعمالي المستقبلية.»5
وكتبت إنديرا إلى دوروثي عن تعاستها مع فيروز، ولكن ليس بصراحة تامة. فلم تتمكن من الإتيان على ذكر خياناته لها، بالضبط كما لم تتمكن دوروثي من الحديث عن اضطراب زوجها النفسي وسلوكه العنيف. ومن بين الموضوعات التي تكررت في الخطابات إلى دوروثي شعور إنديرا بالوحدة بين الآخرين في دلهي. وهي قلقة من أنها لا تعنى بالقدر الكافي بغيرها من الناس، واعترفت بأنها صارت تنزعج منهم بسهولة شديدة، وفوق كل شيء تشعر بأنها «مختلفة» عنهم. فهي تقول: «إنهم يسلونني ويزعجونني، وأحيانًا ما أجد نفسي أراقبهم كما لو أنني لست من جنسهم على الإطلاق.» وحينما وصل دلهي فيلم «كل رجال الملك» المأخوذ عن رواية روبرت بين وارين، وجدته إنديرا رائعًا، لكنها شعرت أن بقية من شاهدوا الفيلم لم يدركوا مغزاه، وهو ما أزعجها إلى أقصى حد، وفي هذا تقول: «من السخيف أن أنزعج بشأن هذه التفاهات … ومع ذلك ألَّا يكون هناك من يشاركني نفس ميولي أمر يشعرني بالوحدة والعزلة، وهو شعور غير محبب على الإطلاق.»6
شاب علاقة إنديرا ودوروثي شيء من النرجسية. فقد ساندت كل منهما الأخرى في تصوير نفسها كامرأة فوق البشر صبرت كثيرًا على الأذى وتعرضت للإهمال. كانتا تريان نفسيهما على أنهما سيدتان مرهفتا المشاعر، تقدران الجمال، عالقتان في زيجتين غير سعيدتين مع رجلين يصعب إرضاؤهما، يخشيان ذكاء زوجتيهما واعتمادهما على ذاتيهما. واصطبغت خطاباتهما إحداهما للأخرى بالمديح. فعلى سبيل المثال كتبت دوروثي في أغسطس عام ١٩٥١إلى إنديرا تقول: «كثيرًا ما شعرت بمدى حاجتك للشعور بأنك محبوبة وبأنك قادرة على منح الحب بكل طاقتك. وإلى الصدق والصراحة عند الكلام عن أكثر الأمور حساسية. إن بك كثيرًا من صفات الفنان، التي تظهر في اهتمامك بالخطوط والأشكال والألوان، وانتقائك لملابسك، واستخدامك للزهو. كل شيء، وفي ذلك نظرتك إلى الأشياء.»7
كانت إنديرا تشعر بالارتياح مع النساء اللاتي يقدرن الجمال، وخاصة مع بوبول جاياكار أقرب صديقاتها الهنديات، ومساعدتها الشخصية يوشا بهاجات. أما دوروثي نورمان فقد رفعتها إنديرا إلى مرتبة «توأمها الروحي». ففي منتصف الخمسينيات كتبت إنديرا إلى دوروثي تقول: «أعتقد أنك تعرفينني حتى أكثر مما أعرف نفسي.»8 وكتبت دوروثي نورمان بعدها بعدة أعوام إلى إنديرا أنهما «أحبتا إحداهما الأخرى على الفور.»9 لكن صداقتهما لم تكن جسدية بأي حال من الأحوال. بل كانت علاقة روحية تمامًا تتلخص في الكلام عن الكتب والفن والوحدة. ومن المحتمل أن كلًّا منهما أحبت انعكاس صورتها في الأخرى أكثر مما أحبت الأخرى. ففي السنوات الأولى من صداقتهما شعرت إنديرا أن الشخصية التي أعجبت دوروثي حقًّا كانت شخصيتها «الأصلية» الحقيقية. لكن هذه الشخصية أخذت تتوارى مع انشغال إنديرا المتزايد بالمجال السياسي، وبعدما أصبحت إنديرا رئيسة وزراء الهند بقيت شخصية «إنديرا بعيني دوروثي نورمان» لكن بشكل مفكك وغير واضح المعالم. ربما استطاعت دوروثي نورمان أن تسبر أغوار النواحي العاطفية والفنية لدى إنديرا غير أن شخصية إنديرا السياسية كانت غامضة على دوروثي.10

•••

بعدما عادت إنديرا إلى الهند في منتصف نوفمبر عام ١٩٤٩ قصدت لكناو لقضاء بعض الوقت مع فيروز وولديها. وبعد نيويورك ودوروثي نورمان وصديقاتها محبات الجمال عادت لتتلقى صدمة قوية. فقد كانت «قذارة» و«فساد» الحياة السياسية في لكناو منفرين كما هو شأنهما دائمًا، ففي ديسمبر قصت إنديرا إلى نهرو في رسالة كيف أن أشخاص مثل جي بي بانت رئيس حكومة أوتار براديش حاولوا السيطرة على سياسة تحرير صحيفة «ناشيونال هيرالد». واختتمت إنديرا رسالتها إلى أبيها بتهديد قالت فيه: «إذا لم تأمر بانتجي بأن يعدل عن انتهاك الديمقراطية بتدخله … (بكامل قوى النظام الحكومي وأعضائه، وفي ذلك قضاة الولاية) في عمل الصحف، إذن رجاءً كف مستقبلًا عن الحديث عن الديمقراطية وحرية الصحافة في الهند. دعنا لا نضيف الزيف إلى علل هذا الوطن الكثيرة، إندو.» كانت هذه الرسالة واحدة من رسائلها القليلة إلى أبيها التي لم توقعها بعبارة «مع حبي.»

كما كانت الحال في كشمير العام السابق، كانت إنديرا مقتنعة تمامًا بموقفها تجاه أحد القضايا السياسية وتحاول التأثير على أبيها. لكن هذه المرة لم تثمر محاولتها إلا القليل — إن كانت قد أثمرت — إذ بعث إليها نهرو بإجابة ملتوية قال فيها إنه واثق من أن الأمر «لن يفضي إلى شيء خطير». ثم أضاف: «علينا ألا نعطي المسائل أكبر من حجمها». لكن إنديرا رفضت أن تهدأ. فبعثت إليه برسالة غاضبة أخرى تدين فيها الفساد في لكناو، وفي تلك الرسالة أيضًا لم توقع إلا باسمها. لكن بنهاية ديسمبر كانت قد هدأت. وقبل ليلة عيد الميلاد بيومين كتبت إلى نهرو تقول: «عزيزي، أحيانًا أحيد عن الصواب، فتبدو صغائر الأمور لي … ضخمة، وأشعر بالاكتئاب والإحباط.» وفي أوائل يناير فرت إنديرا من «قذارة» و«فساد» سياسة لكناو وأوتار براديش، وعادت هي وفيروز وولداها إلى بيت تين مورتي للمشاركة في احتفاليات يوم ٢٦ يناير عام ١٩٥٠؛ اليوم الذي صارت فيه الهند رسميًّا جمهورية.11
قدمت دوروثي نورمان إلى دلهي للمشاركة في الاحتفاليات، ومكثت لستة أسابيع في تين مورتي في آخر الرواق الذي تقع فيه غرفة إنديرا. لم يعجب فيروز دوروثي إذ رأت أنه «فج»، ولم تحاول جديًّا أن تخفي انطباعها عن إنديرا أو فيروز نفسه، الذي لم تعجبه دوروثي بقدر ما لم يعجبها هو. كان هناك قدر لا بأس به من التوتر بين دوروثي وفيروز، استمر إلى أن عاد إلى لكناو في أوائل فبراير.12

حينما غادرت دوروثي تين مورتي في مارس ظلت إنديرا وطفلاها هناك. كانوا أحيانًا يذهبون لزيارة فيروز في لكناو في العطلات الأسبوعية، غير أن محل إقامتهم الثابت وبيتهم الحقيقي صار مقر إقامة رئيس الوزراء في دلهي. وفي مايو ذهبوا إلى كشمير من دون فيروز، وعادوا إلى دلهي في يوليو. وبذا ظل الوضع على ما هو عليه — إنديرا والأطفال في دلهي وفيروز في لكناو — إلى أن انتُخب فيروز عضوًا في البرلمان العام التالي.

•••

حينما أجريت الانتخابات العامة الأولى للهند من أكتوبر عام ١٩٥١ إلى مايو عام ١٩٥٢ حث أعضاء حزب المؤتمر إنديرا على الترشح لعضوية البرلمان، لكن إنديرا رفضت لأن طفليها لا يزالان صغيرين. غير أنه كان لرفضها سبب آخر وهو أن فيروز قد ترشح لتمثيل دائرة راي باريلي، وهي دائرة انتخابية تقع في الوسط بين الله آباد ولكناو بأوتار براديش. أدركت إنديرا أن زواجها المضطرب لن يحتمل أن تشتغل هي وفيروز معًا بالسياسة. لذا بدلًا من الترشح لعضوية البرلمان عملت إنديرا بكد، وطافت الدوائر الانتخابية التماسًا لأصوات الناخبين لكل من أبيها وفيروز. في الواقع كانت راي باريلي دائرة انتخابية كبيرة جدًّا، حتى إن إنديرا وفيروز قسماها إلى جزأين، وسعى كل منهما إلى اجتذاب الناخبين كلٌّ في جزئه. وفي فالبور — دائرة نهرو الانتخابية — كانت إنديرا هي فعليًّا من أدار حملة والدها. وعكفت على ذلك بلا كلل في دلهي. ففي يناير عام ١٩٥٢ كتب نهرو إلى إدوينا ماونتباتن يقول: «كانت إحدى مفاجآت هذه الانتخابات … الأعمال الرائعة التي اضطلعت بها إنديرا. لقد بذلت مجهودًا هائلًا. ففي دلهي كانت تخرج منذ الثامنة صباحًا وتعود في قرابة الحادية عشرة مساء تخطب أمام الكثير من الاجتماعات الصغيرة والجماعات. ويقال إنها خطيبة مفوهة لديها شعبية كبيرة.»13 وقال نهرو لصديق آخر متباهيًا بابنته: «لقد قامت إنديرا بعمل الرجال إبان هذين الشهرين الماضيين، بل إنها فاقت عملهم حقيقة. وهي إلى الآن تطوف [تدير الحملات] في قرى الله آباد وأحياء راي باريلي.»14 في جميع أنحاء البلاد فاز حزب المؤتمر باكتساح؛ حيث حصد ٣٦٤ مقعدًا في البرلمان من مجموع ٤٩٩، وانتصر في اثنتين وعشرين ولاية من مجموع ست وعشرين ولاية.
بعد أن فاز فيروز بمقعد في البرلمان انتقل من لكناو إلى دلهي. وبالإضافة إلى أنه صار عضوًا في البرلمان نصب مديرًا عامًّا لطبعة نيو دلهي من صحيفة «إنديان إكسبريس»، التي أسست بالفعل طبعتين شهيرتين في بومباي ومدراس. ومثل كل أعضاء البرلمان خُصص لفيروز بيت حكومي من طابق واحد، غير أنه استخدمه في البداية في عقد الاجتماعات واستقبال الأصدقاء والزملاء. وظل تين مورتي المكان الذي يتناول فيه وجباته وينام، مشاركًا إنديرا غرفتها القاتمة التي تشبه غرف الفنادق، الواقعة في الجناح الغربي من البيت في الغرفة المجاورة لحجرة نوم الطفلين. لكن سرعان ما وجد فيروز المناخ في تين مورتي خانقًا. فيذكر أن شانتا غاندي — صديقة إنديرا وفيروز القديمة من أيام دراستها في لندن — حضرت في أحد الأيام لتناول الغداء معهما في تين مورتي، وقد أخبرها فيروز على انفراد «وصوته يحمل نبرة ساخرة»: «إن هذه البلدة كلها [دلهي] ستتحول إلى بلدة مؤامرات.» وعلى مائدة الغداء قالت شانتا غاندي لإنديرا وفيروز: «كيف تتمكنان من العيش في هذا المكان [تين مورتي]؟ إنه متحف وليس منزلًا يمكن العيش فيه.» فردت إنديرا — التي عملت بكد لإضفاء طابع إنساني على ذلك البيت الذي كان في السابق محل إقامة رئيس أركان الحرب البريطاني — بحدة قائلة: «ليس الكل محظوظًا بقدرك. علينا تقبل الأمور كما هي.»15 بدا واضحًا لشانتا غاندي أن علاقة إنديرا وفيروز الزوجية كانت متوترة جدًّا.

لم يكن زواج إنديرا وفيروز يتجه إلا للأسوأ مع الوقت. فسرعان ما وجد فيروز أن وضعه في تين مورتي وهو في المرتبة التالية لوالد زوجته وضع يستحيل القبول به. فإنديرا رهن إشارة نهرو، ومضيفة بيته في جميع المآدب الرسمية، التي أحيانًا لا يدعى فيروز إليها، أو التي وجد نفسه إن دُعي إليها في مرتبة أقل من زوجته بكثير. فمثلًا فيما كان رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي نيكولاي بولجانين والسكرتير الأول في ذلك الوقت للحزب الشيوعي السوفييتي نيكيتا خروشوف يلقيان خطبة في اجتماع عام أثناء زيارتهما الرسمية للهند، وقفت إنديرا ونهرو على المنصة، في حين منع ضباط الأمن فيروز وبعضًا من أعضاء البرلمان الآخرين من الدخول. وهذا أثار ثائرة فيروز ودفعه إلى إثارة المسألة في البرلمان، واضطر نهرو إلى الاعتذار له. وفي أحد اجتماعات لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند ذكَّر نهرو أعضاء الحزب بأن عائلاتهم لم تكن مدعوة، وعاتب الأعضاء الذين جلبوا زوجاتهم وأطفالهم معهم، فقاطعه فيروز قائلًا: «لم أكن أنا من جلب زوجتي إلى هنا»، مشيرًا بذلك إلى وقوف إنديرا إلى جانب نهرو على المنصة. بعدها أخذ فيروز يزيد من الوقت الذي يمضيه في بيته في شارع كوين فيكتوريا، غير أنه كان ينام أغلب الليالي في تين مورتي.

قابلت إنديرا ثورات فيروز وغيابه عن المنزل بفتور. لم تكن بحاجة لتعقيدات أخرى بالإضافة للعناية بوالدها وطفليها وإدارة منزل تين مورتي. ففي أوائل الخمسينيات التحق راجيف وسانجاي بمدرسة خاصة راقية هي شيف نيكيتان (بيت شيفا) تديرها ألمانية متزوجة من هندي تدعى إليزابيث جاوبا. (وفيما بعد ستصبح إحدى مدرسات تلك المدرسة واسمها يوشا بهاجات المساعدة الشخصية لإنديرا، وهي شابة جذابة ومولعة بالفن من لاهور.) إضافة إلى ذلك كان أمام نهرو جدول شاق من المهام، فهو يعمل يوميًّا بصفة روتينية من السابعة صباحًا إلى الثانية صباحًا ولا يحظى إلا باستراحات قصيرة لتناول الوجبات أو ممارسة اليوجا. ومن عام ١٩٥١ إلى عام ١٩٥٤ صار نهرو إلى جانب كونه رئيسًا للوزراء وزيرًا للخارجية ورئيسًا للجنة التخطيط وحزب المؤتمر. فيلقي الخطب كل يوم تقريبًا، ويقوم بجولات واسعة في أرجاء الهند، ويسافر إلى خارج البلاد بصفة دورية. ففي أوائل الخمسينيات كان يسافر إلى الولايات المتحدة وكندا وإندونيسيا وبورما وأوروبا وبريطانيا كل عام تقريبًا.

ومع أن إنديرا أخضعت حياتها بالكامل لحياة أبيها فقد كانت تجد الوقت للاضطلاع بدور حيوي في مجال الرعاية الاجتماعية والأعمال الثقافية. فقد أسست مركز بال بهافان وهو مركز للعناية بالأطفال الفقراء في دلهي ومركز بال ساهايوج الذي يئوي أطفال الشوارع المشردين ويعلمهم مهارة أو حرفة. وفوق ذلك تولت إنديرا منصب نائب الرئيس لكل من مجلس الرعاية الاجتماعية والمجلس الدولي لرعاية الطفولة، وصارت رئيسة للمجلس الهندي لرعاية الطفولة. وشاركت في العديد من جمعيات الفن التراثي والحرف ونظمت عروضًا للرقص القبلي في الاحتفاليات السنوية لقيام الجمهورية. وكانت أيضًا ناشطة بين أعضاء حزب المؤتمر من النساء، فتجوب جميع أنحاء الهند، وتتواصل مع عامة موظفي الحزب.

كانت حياة إنديرا آنذاك مزدحمة بالأنشطة، تسير على وتيرة محمومة. لكنها روتينية، لا تثير الكثير من الاهتمام، وقد أحبطت مشاركات إنديرا البسيطة في الشئون العامة البعض ممن عرفوها أيام نشاطها السياسي في لندن وشعروا أنها خيبت توقعاتهم. فدور إنديرا في تلك السنوات الأولى حقيقة — مع عملها لمصلحة نساء حزب المؤتمر، ومع الموقع الذي كانت تحتله في بيت رئيس الوزراء — كان إلى حد بعيد غير سياسي.

•••

في أبريل عام ١٩٥٣ أبحرت إنديرا مع طفليها إلى إنجلترا لحضور حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية. كان نهرو ينوي الانضمام إليهم فيما بعد، أما فيروز فلم يذهب إلى هناك مطلقًا؛ كان يبدو أن معارضته لمغادرة البلاد تزداد كلما سافرت زوجته إلى خارجها. وقد وصلت تلك المعارضة في نهاية الأمر إلى حد الرهاب.

في لندن مكثت إنديرا وراجيف ذو التسعة الأعوام وسانجاي ذو السبعة الأعوام وجدهما نهرو في فندق كلاريدج في منطقة مايفير. التقوا كثيرًا بكريشنا مينون. والتقت إنديرا ببي إن هاكسار صديق فيروز وإنديرا القديم منذ إقامتهما في لندن، الذي أصبح مسئولًا في السلك الدبلوماسي الهندي وسفارة الهند في إنجلترا.

في يونيو بعد حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية سافرت إنديرا للمرة الأولى إلى الاتحاد السوفييتي ومكثت فيه حتى آخر يوليو، وقد أمضت تلك الفترة في زيارة موسكو ولينينجراد وطشقند وسمرقند وجورجيا. كانت تلك أيضًا أول رحلة تقوم بها بمفردها كابنة رئيس الوزراء الهندي. وقد انبهرت جدًّا بذلك البلد، وبصفة خاصة بالتكنولوجيا السوفييتية والانضباط الذي تتسم به الحياة هناك. وقد فُتن الروسيون أيضًا بإنديرا. فقد كتبت تقول في ذلك: «الروسيون جميعهم في غاية اللطف معي … فأنا أُعامل هنا كما لو أنني ابنة الجميع الوحيدة، بموعد رحيلي سيكونون قد أسرفوا في تدليلي.»16 وقد قالت إنديرا عن الإجازة التي قضتها على البحر الأسود حيث سبحت واستحمت بالشمس: «لا أعتقد أنني قد حظيت بإجازة مماثلة منذ سنوات»،17 والبحر الأسود — على حد وصف إنديرا — «مثل البحر المتوسط»، ولم تكترث إنديرا للحصى الذي يملأ شواطئه، ولا لحروق الشمس التي أصابتها. أما لينينجراد فقد قالت عنها إنديرا في رسالتها إلى أبيها: «إنها مدينة جميلة حقًّا.» وافتُتنت بمتحف الأرمتياج، وأعجبها الجناح الخاص بها في الفندق الذي نزلت فيه. فقد قالت عنه: «غرف نوم وحمام وغرفة جلوس وحجرة طعام ومكتب. أنا أتقلب في النعيم.»18 غير أنها أكدت لنهرو أنها ستظل زيارة خاصة، وأنها لا تنوي الإدلاء بأي تصريحات رسمية.
حينما كانت إنديرا لا تزال في الاتحاد السوفييتي كتب نهرو إليها بعدما عاد إلى الهند في الأول من يوليو عام ١٩٥٣ عن الاضطرابات المتفاقمة في كشمير. يقول في خطابه إن كشمير صارت «مثل قِدر يغلي بالهوجائية والمكائد». وبعدها بشهر وصف لها «الوضع الإشكالي» في كشمير حيث «تقلب الشيخ صاحب في آرائه مرارًا، وناصب الهند وإياي العداء. الوضع هناك … متفجر.»19 على مدى الستة الأعوام السابقة اعتمد نهرو في سياسته تجاه كشمير على الشيخ عبد الله رئيس وزراء كشمير، وركن إلى إخلاص الشيخ عبد الله للهند والعلمانية. لكن كانت هناك نذر بأن الشيخ عبد الله يتمنى في قرارة نفسه أن تستقل كشمير، أو هكذا خشي نهرو والكثير من الهنود، وما كان مزعجًا بحق هو سعي الشيخ عبد الله الواضح لنيل حظوة الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال كان الشيخ عبد الله قد اجتمع بأدلاي ستيفنسون الذي صرح فيما بعد لجريدة «مانشيستر جارديان» بأن كشمير ليست بحاجة إلى الانضمام إلى أي من الهند أو باكستان. واهتم الشيخ عبد الله أيضًا بفرض نظام دكتاتوري في كشمير.
وصلت الأزمة في كشمير إلى ذروتها حينما عزل رئيسها كاران سينج الشيخ عبد الله من منصبه واعتقله في الثامن من أغسطس. ويقول إس جوبال كاتب سيرة نهرو إن عزل الشيخ عبد الله تم «في جنح الليل» وأن نهرو «لم يوافق أو تطلب منه الموافقة على الاعتقال». غير أنه فيما يلي من أعوام ظل إحساس نهرو «بالمسئولية النهائية عن اعتقال الشيخ عبد الله يتصارع مع إحساسه بالقيم العامة» — وبالتأكيد — مع الولاء الذي تقتضيه صداقتهما الشخصية.20
في هذه الأثناء غادرت إنديرا روسيا قاصدة النرويج والدنمرك، وبعدهما سويسرا حيث انضمت إلى راجيف وسانجاي اللذين قضيا أغلب فصل الصيف في مدرسة تجريبية سويسرية تدعى مدرسة إيكول دي هيومانيتي، أدارها العالم التربوي الشهير باولوس جاهيب. وفي ١٠ أغسطس عام ١٩٥٣ كانت إنديرا في زيورخ عندما قرأت في الصحف السويسرية أن الشيخ عبد الله عُزل من منصب رئاسة وزراء كشمير واعتُقل قبل يومين. فكتبت إلى أبيها على الفور تقول: «لقد تغلغل إلى أعماق قلبي حزن شديد وملكه. أظن أنه على المرء أن يضحي ببعض الأشياء من أجل المصلحة العامة، لكن هذا أشبه بالتضحية بأحد أعضاء الجسد.»21 كان الشيخ عبد الله هو من استضاف إنديرا وفيروز في شهر عسلهما عام ١٩٤٢، ومن أشرف بعدها بثلاثة أعوام على حفل تسمية راجيف. كان أيضًا صديقًا شخصيًّا مقربًا لإنديرا — يكاد يكون فردًا من أسرتها — بالإضافة إلى أنه زميل أبيها في المجال السياسي. كان مجرد التفكير في خيانة الشيخ عبد الله يشعرها بأن معاييرها الأخلاقية قد تزعزعت — هذا إن كان خائنًا بالفعل — فقد علمت جيدًا أن له عدة خصوم متلهفين للنكاية به زورًا لدى الحكومة المركزية. وقد أفجعها تصوره موصومًا بالعار ومعتقلًا بنفس قدر التفكير في خيانته. وإزاء تلقيها هذه الأنباء من كشمير أرادت إنديرا العودة فورًا إلى الهند، وقد قالت معللة رغبتها تلك: «أشعر بالتعاسة بكل ما في الكلمة من معنى، ولست في حالة مزاجية تسمح بالتحدث إلى الناس»، لكن نهرو أصر على أن تسافر إلى لندن من جديد لإجراء فحص طبي شامل قبل أن تعود إلى الهند.22
وهكذا سافرت إنديرا جوًّا من زيوريخ إلى لندن في ١١ من أغسطس، وبعدها بيومين قصدت المستشفى لإجراء فحص طبي شامل يتضمن «كل أنواع الاختبارات الطبية البغيضة».23 كانت الاختبارات بلا شك ستحدد حالة رئتيها واحتمالية إصابتها بمرض السل مجددًا. ونظرًا لأنها كانت مستلقية في الفراش طوال اليوم، توفر لها متسع من الوقت للتفكير؛ فقررت — كما كتبت لأبيها — أنها تريد لدى عودتها إلى الهند أن «أعيد تنظيم حياتي، وأنسحب من كل المنظمات السخيفة التي أشترك فيها. لقد سئمت من هؤلاء الذين يضطلعون بأعمال الشئون الاجتماعية كوسيلة للترقي السياسي والاجتماعي، وسئمت بالقدر نفسه من مفاهيم الخير الغامضة لهؤلاء المدعوين بأتباع غاندي».24 لم يمضِ على إنديرا سوى خمسة شهور خارج الهند حين بدأت تعيد التفكير في التزاماتها؛ كيف كانت وكيف أرادتها أن تكون؛ إذ كانت قد سئمت الأنشطة الشكلية والثانوية.
مع عزم إنديرا على إعادة تنظيم حياتها أدركت حينما عادت إلى دلهي أنه ليس بمقدورها أن تفعل الكثير لتتحايل على وضعها القديم. فمع أن برنامجها الأسري الروتيني اليومي صار أبسط مع تسجل راجيف وسانجاي في مدرسة دون الراقية في ديهرا دون25 — التي تعد في الهند بمنزلة مدرسة إيتون في إنجلترا — فقد ازدحم وقتها أكثر بالأنشطة الحكومية والسياسية. ففي يونيو عام ١٩٥٤ وصل رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي وحاشيته إلى دلهي. وبعدها في أكتوبر صحبت إنديرا نهرو إلى الصين. وقد كتبت إلى دوروثي نورمان في الليلة السابقة على مغادرتها هي ونهرو للصين قائلة: «أنهض بكم هائل من الأعمال هذه الأيام، لكنني لم أكتشف ما يثير شغفي بعد. لذا ما زلت أبحث عن شيء أكرس له كل جهدي، وأشعر فيه «بلذة التعب الشديد والسلام النفسي اللذين يتولدان من التفاني في بث الحياة في شيء».»26 لكن سرعان ما أتى التعب وحده، دون سلام أو شغف. فقد كانت جولة إنديرا ونهرو في الصين مرهقة منذ اللحظة التي حطت فيها طائرتهما في بكين؛ إذ أقبل لتحيتهما الملايين الذين اصطفوا بطول الاثني عشر ميلًا التي قطعاها من المطار. وفيما يلي ذلك من شهور وسنوات قامت إنديرا مع نهرو بسلسلة من الجولات إلى إندونيسيا والولايات المتحدة وكندا واسكندنافيا واليابان والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وأوروبا.

وفي هذه الأثناء بدأ نجم فيروز يسطع في البرلمان بعد تأخير. فحتى أكثر من عامين بعد انتخابه ممثلًا لدائرة راي باريلي ظل فيروز نائب برلمان عاديًّا، لا يتمتع بالحضور. لكن أوائل عام ١٩٥٥ تغيرت صورته تغيرًا جذريًّا عندما ألقى أول خطبة له في لوك سابها — مجلس النواب — حين تعرض بالهجوم للعلاقة التي تربط بين مجتمع رجال الأعمال وشركات التأمين. وفضح صفقات شركة بهارات للتأمين المشبوهة، وهي شركة أدارها رجل أعمال هندي ثري يدعى رام كريشنا دالميا. وبناءً على ذلك تألفت لجنة تحقيق وأدين دالميا، وفي نهاية الأمر أدت حملات فيروز على شركات التأمين إلى تأميم قطاع التأمين على الحياة في الهند. وبذا ترسخت سمعة فيروز بأنه إصلاحي وعدو للفساد، وقد تعززت هذه السمعة في العام التالي عندما دافع عن قرار البرلمان لعام ١٩٥٦ الذي منح الصحافة الهندية حق نشر وقائع جلسة البرلمان الهندي دون التعرض للملاحقة القضائية أو الاعتقال بتهمة ازدراء البرلمان، وهو حق حُرمت منه الصحافة الهندية آنذاك.

وفي العام نفسه صارت إنديرا فجأة عضوًا في لجنة عمل حزب المؤتمر، أعلى الجهات التي تضع سياسات الحزب.27 لم تكن إنديرا راغبة في تلك العضوية، لكنها انتهت إليها بدعوة من يو إن دهيبار رئيس حزب المؤتمر ولال بهادور شاستري. إذ رأى الكثير من زملاء نهرو أن إنديرا ستخدم كحلقة وصل بين حزب المؤتمر ورئيس الوزراء، وكأداة قد تفيدهم. ولقد حاول الحرس القديم لحزب المؤتمر استخدام إنديرا كشخصية سياسية صورية، أو بعبارة أخرى كشخصية ذات مكانة ومنصب لكن بلا نفوذ حقيقي خاص بها. على أي حال لم تكن إنديرا على دراية بمخططهم ذلك على الأغلب. فمع أنها كانت متواضعة لا تميل إلى جذب الانتباه إلى نفسها ولا تزال إلى ذلك الوقت مزعزعة الثقة بنفسها، فإنها بالتأكيد لا ترى نفسها شخصًا تافهًا. كان بإمكان إنديرا أن تصير عضوًا في لجنة عمل حزب المؤتمر، سواءً بتعيين رئيس الحزب أو بانتخاب أعضائه لها. فمن الجدير بالملاحظة أنها كانت مصممة على أن تتأهل للمنصب بالانتخاب. ذلك لأنها أرادت أن تحظى بتفويض الشعب الهندي ودعمه السياسي.
كان انتخاب إنديرا لعضوية لجنة عمل حزب المؤتمر — كما نوه أحد أصدقائها فيما بعد — «نقطة تحول جذرية في حياتها. فقبل ذلك … كان لا ينظر إليها إلا على أنها … مضيفة أبيها … «أو فتاة لطيفة» … لكن مع إعلان عضويتها في لجنة عمل حزب المؤتمر تغيرت النظرة إليها بين عشية وضحاها. فسرعان ما أعيد تصنيفها على نحو مختلف … وخضعت للدراسة كشخصية سياسية.»28 كتبت إنديرا عن دورها الجديد إلى دوروثي نورمان تقول: «يا لهذه الحياة التي صنعتها لنفسي! كثيرًا ما يبدو لي كما لو أنني أقف خارج جسدي أتأمل نفسي وأتساءل: هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟ … لا شك أنني نضجت كثيرًا منذ آخر مرة رأيتني فيها. فقد صرت أثق بنفسي، إلا أنني ما زلت أشعر ببساطتي لدرجة شعوري بالإحراج الشديد عندما يأتيني كبار الشخصيات على اختلافها طلبًا للنصيحة … لم أعتد بعد أني عضو في لجنة عمل حزب المؤتمر … هل بإمكانك أن تتخيليني «مخضرمة سياسية»؟»29
اضطلعت إنديرا بالمسئوليات السياسية والمناصب القيادية في تلك المرحلة من حياتها لعدة أسباب. من الناحية العملية صار جدول أعمالها أكثر مرونة برحيل ولديها للدراسة في مدرسة داخلية بعيدة. كذلك نظرًا لأنها كانت في السابعة والثلاثين من العمر شعرت بأن الوقت قد حان لأن تثبت جدارتها بنفسها، غير أنها كانت في الوقت نفسه تعي أنه ما دام والدها على قيد الحياة سيكون عليها أن تكرس جهدها وحياتها لحياته. هذا بالإضافة إلى أن فيروز وقتها — مع أنه صار شخصية سياسية ذات نفوذ فيجب أن يعمل لها حسابًا — لم يكن يحتاجها إلى جانبه، بعكس نهرو. أيضًا قد تكون مكانة فيروز المتنامية قد أثارت نزعتها التنافسية. أما السبب الأهم فهو أن زواجهما قد وصل إلى نقطة اللاعودة. فقد كتبت إلى دوروثي نورمان في ذلك التوقيت تقريبًا تقول: «لقد كنت وما زلت في غاية التعاسة في حياتي الأسرية. لكنني لم أعد أكترث كثيرًا للألم وتعكر الأجواء. غير أنني أشعر بالأسى لأنني فوت أروع ما في الحياة، وهو مشاركة علاقة مثالية مع إنسان آخر، فبرأيي بهذا فقط يكمل تطور الشخصية ونموها.»30

في أبريل عام ١٩٥٥ صاحبت إنديرا أباها إلى باندونج في إندونيسيا، وكانت تلك أول رحلة لها خارج البلاد منذ انضمامها إلى عضوية لجنة عمل حزب المؤتمر. وقد ذهبا إلى هناك بمناسبة عقد مؤتمر باندونج الذي اجتمع فيه ممثلو الدول الآسيوية والأفريقية لأول مرة ليشهدوا ميلاد حركة عدم الانحياز، التي ضمت الدول التي حازت استقلالها حديثًا ورفضت التحالف مع قوتي ذلك الزمان العظيميين؛ سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي. وقبل ذلك سافر نهرو وإنديرا وابن عمها بريج كومار نهرو (الذي كان آنذاك سكرتيرًا في وزارة المالية) إلى رانجون على متن طائرة مؤجرة تابعة لشركة طيران الهند. وهناك التقوا بالرئيس المصري جمال عبد الناصر وتشو إن لاي. كان الأخير قد سافر إلى بورما سرًّا لأن المخابرات الصينية اشتمت محاولة لاغتياله. وفي اليوم التالي سافر نهرو وإنديرا وعبد الناصر وتشو إن لاي معًا إلى باندونج.

وأثناء رحلتهم بالطائرة من رانجون إلى جاكارتا علموا أن طائرة تشو إن لاي التمويهية قد فجرت بعدما وقفت للتزود بالوقود في هونج كونج، وإزاء ذلك الخبر سلم نهرو على الفور بصحة حدسه — الذي لا يؤيده دليل — بأن المخابرات البريطانية كانت وراء الانفجار، «فكتب برقية شديدة اللهجة إلى رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن، وبتهوره المعتاد نهض من مقعده ليعطيها للطيار ليرسلها باللاسلكي فورًا … غير أن إنديرا … التي كانت تجلس بقربه استوقفته، وألقت نظرة على البرقية … ثم نصحته بالتحلي بالصبر. قالت له إنه تسرع في افتراض تورط الحكومة البريطانية. وأخبرته أنه من الأفضل أن ينتظر إلى أن يظهر إثبات أو دليل قوي آخر.» فهدأ نهرو ولم يرسل البرقية.31
ومع أن مؤتمر باندونج كان حدثًا تاريخيًّا مهمًّا فقد كان إلى حد ما محبطًا. فكما أشار بي كي نهرو، «لم تكمن أهميته فيما حققه، وإنما كان المهم فيه هو أنه انعقد على أي حال».32 فمثله مثل العديد من المؤتمرات كان مملًّا، يسير على وتيرة بطيئة. مما أزعج نهرو، فكان «لا ينفك يحاول بلا طائل الإسراع من وتيرة أحداثه»، لكن «الوفود المختلفة لم تكف عن إلقاء تصريحاتها الطويلة المملة الفارغة» مع كل محاولاته.33 وعندما قام رئيس وزراء سيلان السير جون إل كوتيلاوالا — الذي كان على صلة وثيقة بالولايات المتحدة — بطرح قرار لإدانة «الإمبريالية الحديثة التي تتبعها التكتلات الشيوعية»، انفجر نهرو غاضبًا وهدد بمغادرة المؤتمر. لكن إنديرا تدخلت ثانية وأنبته بشدة قائلة: «تمالك نفسك يا أبي»، وعندها هدأ نهرو.

بعد شهرين بالضبط من عودة إنديرا ونهرو من باندونج قاما بجولة في الاتحاد السوفييتي. وكما حدث عام ١٩٥٣ انبهرت إنديرا بشدة بنظام الاتحاد السوفييتي الذي ألهم برنامج أبيها لتحويل الهند إلى بلد صناعي حديث على النمط السوفييتي. وقد بدأت هذه الجولة مرحلة تعاون طويلة ومهمة بين الاتحاد السوفييتي والهند. غير أنها ألبت الرأي العام ضد إنديرا في الهند بعدها مباشرة بسبب إهداء خروشوف معطفًا من فراء المنك لها. قبل بضعة أعوام انتقدت إنديرا نان بانديت لقبولها ذات الهدية حينما كانت سفيرة للهند في موسكو، غير أن إنديرا اختارت أن تقبل الهدية من خروشوف، بل ظلت ترتدي معطف المنك بسرور لعدة سنوات.

بعد عودة إنديرا من الاتحاد السوفييتي بوقت قصير كُسرت ذراع ابنها راجيف ذي الأحد عشر عامًا أثناء قيامه بزيارة دالهوسي مع فيروز في العطلة المدرسية. فكتبت له إنديرا من دلهي تقول: «يجب ألا يخشى المرء الإصابة بالألم. فالعالم مليء بمختلف أنواع الآلام، وبمواجهتها فقط يصبح المرء قويًّا وشجاعًا … تعلم مدى رغبتي في … أن تكون شجاعًا فكريًّا وجسديًّا. هناك الملايين من الناس في العالم لكن أكثرهم يسيرون إلى حيث تسير بهم الحياة، وهم خائفون من الموت، وأكثر خوفًا من الحياة.»34 تشبه نبرة إنديرا الوعظية في الخطاب نبرة نهرو في بعض خطاباته إلى إنديرا وهي طفلة، فهي نبرة تكشف عن أن إنديرا نفسها صارت أمًّا ومرشدة لولدها. غير أن الخطاب يبوح بأكثر من تلك النبرة بكثير؛ فإنديرا تنظر إلى أكثر الناس على أنهم «يسيرون إلى حيث تسير بهم الحياة وهم خائفون من الموت، وأكثر خوفًا من الحياة.» فمن الواضح أن رغبتها الدائمة في السيطرة على مسار حياتها بدلًا من مجرد السير إلى حيث تحملها الحياة لا تزال تطاردها.
ولربما كان تحول إنديرا إلى الصراحة مع أبيها في المسائل السياسية والشخصية عائدًا إلى ذلك، فعلى سبيل المثال شكت إلى سكرتير والدها إم أو ماثاي من أن نهرو لا يناقشها أبدًا في الأمور السياسية أثناء تناولهما الطعام معًا. وقد أفضت إلى بعض الأشخاص بأنها تتمنى لو كانت ثقة أبيها بها أكبر. وفي أبريل عام ١٩٥٦ حذرت نهرو من الإسراف في الاعتماد على رئيس حكومة بومباي المحلية موراجي ديساي، وعلى كاماراج زعيم حزب المؤتمر في جنوب الهند وعللت ذلك فقالت إنه: «يولد شعورًا بالاستياء لدى الكثيرين ويضر بعلاقتك مع كل من يحمل وجهة نظر مختلفة». ثم أضافت: «آسفة أن أثقلت عليك، لكن كان عليَّ أن أزيح ذلك عن صدري.»35

وصل الأمر إلى حد صار معه واضحًا أن إنديرا تريد أن تكون أكثر من مضيفة نهرو. فصارت تنوب عنه في جولاته، فعلى سبيل المثال نابت عنه في جولته إلى أوريسا بشرق الهند في يناير عام ١٩٥٦ وتباحثت معه في بعض المسائل التي استطلع رأيها فيها. كان نهرو قد اعتاد منذ زمن أن يرسل إنديرا لجمع المعلومات، وكثيرًا ما كان يطلب منها مقابلة من لا يملك الوقت أو الرغبة في لقائهم. غير أنه لم يكن يلجأ إليها طلبًا للنصح أو حتى يناقش أي مشكلات أو قضايا معها بعمق. وإنما كان يلجأ في ذلك إلى آخرين من أمثال ديساي وكاماراج. كان نهرو يعلم أن ابنته مثقفة وجديرة بالثقة، لكنه كان ينظر إليها على أنها مساعدة وليس أمينة سر أو مستشارة. وقد تزايد استياء إنديرا من هذا الدور الثانوي.

•••

في ديسمبر عام ١٩٥٦ عادت إنديرا وهي في غاية الإنهاك من رحلة استغرقت تسعة أيام إلى أمريكا مع والدها. وكتبت إلى بادماجا نايدو في أوائل يناير عام ١٩٥٧ تقول: «لا أشعر أنني في أفضل حال لكن … المطلوب ليس الراحة بقدر ما هو الخضوع إلى برنامج علاجي بالحقن … إنها ذات المشكلة القديمة.»36 ثم مضت في كلامها تشتكي من معاناتها من فقر الدم وانخفاض الضغط ونقص الكالسيوم. يحتمل أن هذا «البرنامج العلاجي» الذي لجأت إليه إنديرا وتلقته عام ١٩٥٧ كان في واقعه يهدف إلى القضاء على «مشكلتها القديمة»؛ مرض السل الرئوي الذي لطالما كانت مصابة به.
وقت ما كان مرض إنديرا في أشده في الثلاثينيات — حينما كانت تعالج في مصحة الطبيب رولييه السويسرية — لم يكن هناك «علاج» للسل، وإنما كانت الراحة و«الإكثار من تناول الطعام» واستنشاق الهواء النقي والتعرض لأشعة الشمس هي وسائل العلاج الوحيدة لذلك المرض، ولم يكن أي منها فعالًا بالدرجة الكافية. لكن بعدها بعقد اكتُشفت عقاقير قوية مثل الستربتومايسين، والبارامينوساليسيليك أسيد (باس)، والأيزونيازيد، التي بإمكانها مجتمعة أو منفصلة القضاء على بكتيريا السل العصوية. وصارت مع أوائل الخمسينيات مستخدمة استخدامًا واسعًا في أوروبا وأمريكا الشمالية. ثم وصلت تلك العقاقير إلى الهند عام ١٩٥٦، عندما افتتح مركز العلاج الكيميائي للسل في مدراس تحت رعاية منظمة الصحة العالمية. كان مرضى السل في مركز مدراس يعالجون بالحقن يوميًّا بعقار اﻟ (باس) والأيزونيازيد لمدة عام، وبعد خمسة أعوام من افتتاح المركز شُفي ٩٠٪ من المرضى الذين واظبوا على العلاج شفاءً تامًّا.37 فكان رئيس وزراء الهند — وابنته — سيعرفان حتمًا بعقار علاج السل المستخدم في مركز مدراس.

عام ١٩٥٧ حينما كانت انتخابات الهند العامة الثانية على الأبواب كانت حياة إنديرا قد أصبحت أكثر إرهاقًا وازدحامًا بالأنشطة السياسية من أي وقت مضى. فبالإضافة إلى عملها بلجنة عمل حزب المؤتمر انتخبت لتوها عضوًا في لجنة الحزب للانتخابات المركزية التي تبحث في طلبات الترشح لعضوية البرلمان. وشاع وقتها أنها ستنضم إلى مجلس برلمان الحزب، وبالفعل صارت عضوًا بحلول العام التالي. كانت كل هذه الأنشطة السياسية تتطلب قوة جسمانية وقدرة على الاحتمال، وفي ذلك الوقت تقريبًا كانت إنديرا قد بدأت تدريجيًّا تكتسب كلا الأمرين.

ومع أنها عانت فيما بعد مرضًا كلويًّا حادًّا فقد تحسنت صحتها تحسنًا جذريًّا. فامتلأ جسدها، وتحول لونها من الاصفرار والامتقاع إلى التورد، ولم تعد تتوارى عن الأنظار من حين لآخر بسبب نزلات البرد والسعال والإنفلونزا. تظهر الصور التي التقطت لها في أواخر عقد الخمسينيات هذا التحول الجذري. بدت في بداية العقد نحيفة وضعيفة وشاحبة بعينين غائرتين. لكن مع نهايته صار واضحًا أن وزنها قد ازداد أربعة عشر رطلًا كاملة أو يزيد، واختفت الهالات الداكنة أسفل عينيها، آنذاك كانت بشرتها صافية ونضرة، وعيناها تشعان بريقًا. فكانت تفيض إشراقًا وحيوية.

يؤكد هذا التحول الملحوظ صحة الاعتقادات القائلة إنها قد تناولت بالفعل عقارات لعلاج السل في الخمسينيات. فمنذ الطفولة كانت إنديرا تبدو مريضة. لكنها صارت منذ أن ناهزت سن الأربعين — الذي بلغته عام ١٩٥٧ — امرأة تتمتع بالصحة واللياقة على غير العادة، ولم يكن هذا خافيًا عن الأنظار. فقد كتبت إنديرا إلى دوروثي نورمان أن الآخرين قد أخبروها بأنها بدت «مبتهجة القلب» ومتجددة النشاط. ومع أن التغيير الذي طرأ عليها لم تكن لتخطئه العين فإنه لم يكن هناك ما يبرره تبريرًا مقنعًا. فهي لم تدخن أو تشرب الخمر قط، ودائمًا ما انتبهت لأكلها، وحرصت على ممارسة التمارين. كانت قد بدأت تنتظم في ممارسة اليوجا، لكن هذا كان التغيير الوحيد الذي طرأ على نمط حياتها. كانت الإصابة بالسل لا تزال بالطبع وصمة لصاحبها في الهند، فهو مرض معدٍ بدرجة كبيرة وشائع بين الفقراء. ومع أنه كان معروفًا لدى الكثيرين في الهند أن كامالا نهرو قد ماتت بذلك المرض فقد ظلت شئون أفراد عائلة نهرو الشخصية — وفي ذلك أحوالهم الصحية — بعد موت كامالا في الثلاثينيات طي الكتمان. لربما ظهرت بعض التخمينات حولها، لكنها لا تناقش قط على العلن؛ إذ كانت تعد مسألة تمس حياتهم الشخصية، وظلت الحال كذلك حتى بعدما أصيب نهرو بعدها ببضعة أعوام بسكتة دماغية أقعدته.38
ومع أن إنديرا صارت أكثر ضلوعًا في السياسة فلم تترشح لعضوية البرلمان في انتخابات عام ١٩٥٧ العامة، غير أنها أخبرت بادماجا نايدو أن رئيس حزب المؤتمر يو إن دهيبار «وغيره من مثيري المشاكل» قد عكفوا على نشر شائعات تفيد بأنهم استطاعوا إقناعها بقبول مقعد في البرلمان. فأكدت لبادماجا وغيرها أنها لا تعتزم الترشح لعضوية البرلمان.39 وهو ما لم تفعله وقتها على الأقل. وبدلًا من ذلك اجتهدت في الطواف ذلك العام التماسًا لأصوات الناخبين بجد أكثر حتى مما أبدته عام ١٩٥٢، لكنها هذه المرة كانت تلتمس الأصوات في المقام الأول لأبيها، لا لزوجها. في الواقع زارت إنديرا آنذاك اﻟ ١١٠٠ قرية تقريبًا الواقعة في دائرة نهرو الانتخابية — دائرة فولبور — وخطبت فيها مجتذبة حشودًا تضم ما يصل إلى عشرين ألف شخص. وأقامت الحملات الانتخابية لمرشحي حزب المؤتمر في جوجارات والبنجاب. وفي ١٧ فبراير كتبت إلى نهرو من الله آباد تحكي له كيف أنها تخرج يوميًّا منذ «بزوغ الفجر» وتعود في منتصف الليل. فتقول في رسالتها إليه: «كانت بنجاب مجهدة، ومع هذا فقد كانت مشوقة إلى أقصى درجة. ففي روهتاك اجتمع من أجلي أنا فقط مائة ألف شخص. أتتخيل هذا؟!»40 كانت هذه أول انتخابات عامة تشهدها الهند منذ انضمام إنديرا إلى عضوية لجنة عمل حزب المؤتمر، وفيها تألقت في إثبات مهارتها في التنظيم ومقدرتها على جذب الأصوات.

•••

وفي غمرة كل هذه الأنشطة السياسية التي تسير على وتيرة محمومة تداعى زواج إنديرا أكثر. فما كان مذلًّا لإنديرا ومحرجًا لأبيها أن فيروز صار يباهي علنًا بعلاقاته مع غيرها من النساء، ومن بينهن عضو البرلمان تاراكيشواري سينها التي كانت تعرف ﺑ «فاتنة البرلمان الهندي» وماهمونا سلطانة، وسوبهادرا جوشي (وهي سوبهادرا داتا — كما كانت تدعى قبل زواجها — التي عملت إلى جانب إنديرا في معسكر اللاجئين بدلهي أول ما صدر قرار تقسيم الهند). كان من بين من اشتهرت من عشيقات فيروز الأخريات امرأة نيبالية جميلة تعمل لدى إذاعة راديو كل الهند، وامرأة مطلقة من طائفة الكيرالا الهندوسية الرفيعة.41

لكن وقتها أيضًا راجت شائعة بأن إنديرا على علاقة غرامية بسكرتير أبيها الثخين المستدير الوجه إم أو ماثاي. لكن باعترافه كان هو نفسه من أطلق هذه الشائعات. إذ كان وقتها ولمدة سنين بعدها يباهي على العلن بعلاقته بإنديرا. لا شك أن إنديرا وماثاي كانا على علاقة وثيقة، وأن إنديرا كانت تستمتع بصحبته وتمضي الكثير من الوقت معه، وتعتز به، وتأمنه على أسرارها. فكانا يصطحبان كلاب نهرو معًا يوميًّا للخارج، وينزهان ابني إنديرا، ويتشاوران بشأن جدول أعمال نهرو وإدارة شئون قصر تين مورتي، وكانا بالطبع يسافران معًا بصحبة نهرو.

كانت علاقة ماثاي بإنديرا منذ بدايتها علاقة متناقضة، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى أنه قد سطا على بعض مسئولياتها، فعلى سبيل المثال اضطلع بتعاملات نهرو مع الناشرين. ولعل إنديرا اضطرت إلى مصادقة ماثاي حينما رأت الدور المهم الذي يلعبه في حياة أبيها. لكن كان هناك منافسة خفية بينهما، وشيء من الانجذاب لا شك فيه. ووفقًا لكاتب سيرة نهرو سارفيبالي جوبال «شجعته إنديرا غاندي على تجاوز حدوده.»42 ومع أن ماثاي كان لا يتحرج من التعبير عن كراهيته للنساء ويفتقر إلى الوسامة إلا أنه ذو شخصية جذابة وقوية. كان رجلًا متقد المشاعر ومتسلطًا، شأنه شأن فيروز غاندي. يقول ماثاي في سيرته الذاتية: «لم أتصف بالتواضع قط»، ويعترف بأنه «متعصب للذكورة»، ويضيف في سيرته فيقول: «أحد أكثر الأشياء التي أكرهها أن أذهب للتسوق مع امرأة. ولا أظن أنني أستطيع أبدًا أن أنام ليلًا في غرفة إن كان بها امرأة. ولا أطيق فكرة أن أتشارك دورة المياه مع امرأة.» غير أن هذه المشاعر لم تكن إلا «حاجزًا يمنعه من الزواج»،43 لكنها لم تمنعه من أن تجمعه بالنساء علاقات حميمية أو من أن يستخدمهن لخدمة أغراضه.
كان ماثاي وإنديرا يستمتعان بممازحة أحدهما الآخر، فمثلًا يحكي ماثاي أنه بعدما ماتت أمه ذهبت إنديرا ونهرو إلى غرفته لمواساته، وقد كان لدهشتهما هانئًا في النوم. وحينما عيرته إنديرا بذلك قال لها: «هذا يدل على أنني مرتاح الضمير.» فردت إنديرا عليه بحدة قائلة: «أو يدل على أنك معدوم الضمير.» فقابل ذلك بأن قال لها: «هذه هي المرة الأولى التي تتفوهين فيها بشيء ينم عن ذكاء.»44
ولكن هل كانت هناك علاقة غرامية بين إنديرا وماثاي؟ الحق أن جاذبية إنديرا نفسها كانت مثار الكثير من الخلاف والجدل. فقد كان الكثير من الرجال — ممن كانوا على علاقة وثيقة بها أو ممن عرفوها فحسب — يجدونها في غاية الأنوثة، بل جميلة ورقيقة وجذابة كذلك. في حين كانت النساء تجدنها باردة ومتحفظة، «تبدو مثل الراهبات»، حتى إنهن افترضن أن العلاقات الجنسية لا تستهويها.45
في السبعينيات حكى ماثاي في سيرته الذاتية عن علاقة زعم أنها جمعته بإنديرا غاندي لاثني عشر عامًا في فصل بعنوان «هي»، وهو فصل منع ماثاي نفسه نشره عندما كانت سيرته جاهزة للنشر، مع أن إنديرا لم تكن في السلطة وقتها. وقد ظن الكثيرون أن هناك من محا هذا الفصل، والبعض شكك في وجوده من الأساس، لكن في أوائل الثمانينيات بعد نحو خمسة أعوام من وفاة ماثاي برز هذا الفصل على الساحة بعدما وزعته مانيكا غاندي زوجة سانجاي ابن إنديرا على دائرة صغيرة من خصوم إنديرا. كان فصل «هي» يتضمن وصفًا مفصلًا لدقائق العلاقة الحميمية إلى درجة تستدعي الشك في قبول مسئولي نشر ماثاي مخاطر نشره والمضي قدمًا، حتى لو لم يعترض ماثاي. ففي هذا الفصل يصف ماثاي إنديرا بأنها كانت «ذات جاذبية جنسية كبيرة» وبالإضافة إلى التفاصيل الداعرة يزعم أن إنديرا حملت منه وخضعت لعملية إجهاض. وقتما كتب ماثاي هذا الفصل — بعد مرور وقت طويل على الأحداث التي يزعمها — كان قد تحرر من أوهامه، وصار متلهفًا لأن يكون هو من يقضي على إنديرا وزوجها وأبيها؛ فقد شعر أن كل هؤلاء أخطئوا في حقه، لذا كان لديه دافع قوي لأن يكذب. غير أن الكثيرين ممن عرفوا إنديرا وماثاي جيدًا — وفي ذلك بريج كومار نهرو، وهو رجل يمكن الأخذ بأقواله؛ إذ لم يكن عدوًّا لإنديرا ابنة عمته — رأوا أن فصل «هي» يحمل حقائق أكثر مما يحمل من الشائعات.46

ومن الواضح أن نهرو لم يشتبه أبدًا في وجود علاقة بين سكرتيره وابنته، في حين أن ماثاي يدعي في فصل «هي» أنه كان دائمًا متخوفًا من أن يفتح عدم انتباه إنديرا إلى تصرفاتها عيني نهرو على العلاقة بينهما. ولكن إن كان نهرو قد ظل غافلًا عن تلك العلاقة المزعومة فلم يظل على ذات الغفلة إلا عدد قليل من الأشخاص. أما سائر دلهي فكانت تتهامس بالشائعات. حدث ذات يوم في قاعة البرلمان أن ثارت ثائرة فيروز — الذي طالما عُرف ﺑ «صهر الأمة» — عندما أشار شخص إلى ماثاي بأنه «صهر رئيس الوزراء الحقيقي». ومن الجدير بالملاحظة أن إنديرا لم تفعل شيئًا لإخماد الشائعات التي ترددت بشأن هذه العلاقة المزعومة.

في الواقع قد تكون الشائعات في حد ذاتها هي كل ما هدفت له إنديرا من علاقتها بماثاي، سواءً كانت حقيقية أو كاذبة، فلسنين شعرت إنديرا بأن فيروز قد أهانها بخيانته المتكررة لها، خاصة منذ انتقاله قبل وقت قصير إلى دلهي ومباهاته على العلن بعلاقاته الغرامية. لقد صارت الخيانة السلاح الذي يستخدمه كل منهما في مواجهة الآخر. وكان هذا هو دور فيروز ليشعر بالمهانة، وقد شعر بها وبقوة. فعزم على تدمير ماثاي، واستعان بصديقه الصحفي نيخيل تشاكرافارتي.47
عام ١٩٥٨ توقف فيروز عن العيش في تين مورتي تمامًا، فنقل أغراضه من هناك إلى منزله في شارع كوين فيكتوريا، ولم يعد يذهب إلى مقر إقامة رئيس الوزراء إلا صباحًا فقط ليزور ولديه لدى عودتهما من مدرستهما الداخلية. ولم يحاول فيروز إخفاء انفصاله عن إنديرا. فقد أعلنه لصديقه الصحفي إندر مالهوترا ذات يوم؛ إذ قال له: «أنصت إليَّ قبل أن تستمع إلى قصة محرفة، دعني أؤكد لك أنني توقفت عن الذهاب إلى بيت رئيس الوزراء تمامًا.»48
وإلى جانب انتقال فيروز من تين مورتي فقد وجد طريقة لينتقم من إنديرا في نقطة ضعفها، وهي والدها. ففي فبراير ألقى في البرلمان واحدة من خطبه اللاذعة يفضح فيها هذه المرة صفقات احتيالية تمت بين مسئولين في شركة التأمين على الحياة التي تملكها الحكومة ورجل أعمال مستقل يدعى هاريداس موندهرا. كان موندهرا متبرعًا سخيًّا لحزب المؤتمر منذ زمن طويل، غير أنه عندما وقع في مشكلات مالية في أواخر الخمسينيات أقنع وزير المالية تي تي كريشناماتشاري وسكرتير أول الشئون المالية إتش إم باتل بأن «ينقذاه من مشاكله المالية» بإقناع شركة التأمين على الحياة بشراء أسهم قيمتها ١٥ مليون روبية بشركاته. زعم موندهرا أن سوق البورصة ستتعرض لضربة قوية إذا لم تتدخل الحكومة. كانت هذه الصفقة غير قانونية، والأهم من ذلك أن قيمة الأسهم انخفضت انخفاضًا حادًّا بعدما تمت الصفقة. فوقف فيروز غاندي في البرلمان يقول: «آمل أن أكون قد أثبت تواطؤ شركة الهند للتأمين على الحياة مع السيد موندهرا. وأثبت — كما آمل — وجود مؤامرة يساء فيها استخدام المال العام لتمويل مصالح شخص واحد على حساب المؤمن عليهم.»49 كانت شركة التأمين على الحياة تدخل ضمن نطاق مسئولية وزارة المالية، وبالتالي صار كريشناماتشاري — الذي كان معروفًا باسم تي تي كيه، وصديقًا وزميلًا مقربًا لنهرو — مسئولًا رسميًّا.
فاضطر نهرو إلى تأليف لجنة للتحقيق فيما صار سريعًا يعرف باسم «فضيحة موندهرا»، وحينما أصدرت اللجنة تقريرًا تذكر فيه أن وزير المالية كريشناماتشاري «مسئول … من الناحية الدستورية» عن صفقة شراء الأسهم أُجبر تي تي كيه على الاستقالة من منصبه، مع أن نهرو ظل مقتنعًا بأنه بريء من كل إثم.50 وحل مورارجي ديساي محل تي تي كيه كوزير للمالية.
ونتيجة لهذه الفضيحة تحولت سمعة فيروز من محارب للفساد إلى قاهر للعمالقة. فاكتسب مكانة قومية، واجتذب حوله دائرة من الأتباع والوصوليين. وصارت قاعة البرلمان الرئيسية التي كان أتباع فيروز يجتمعون فيها للقاء مثلهم الأعلى تعرف باسم «ركن فيروز». وفيها وفي صالون منزله في شارع كوين فيكتوريا كان فيروز المحمر الوجه الربيل، الذي يشبه السيد بيكويك من قصة تشارلز ديكنز «مغامرات مستر بيكويك» هو القائد. 51 وقد صار من الناحية الفعلية يمثل معارضة غير رسمية لنهرو.
وكما هو متوقع كتبت إنديرا إلى دوروثي نورمان آنذاك تشكو إليها من أنها تشعر بأنها «حائرة جدًّا». وتشعر بأنها حبيسة كذلك. فتقول في خطابها إلى دوروثي: «منذ أن كنت فتاة صغيرة وأنا أشعر كما لو كانت هناك قوة تحركني، كما لو أن هناك دَينًا عليَّ سداده. ولكنني فجأة صرت أشعر بأنني قد سددت هذا الدين؛ على أي حال تتملكني رغبة قوية في ترك كل شيء خلفي والهروب إلى مكان بعيد في أعالي الجبال. ذلك بدون أن آبه إن لم أقم بأدنى عمل ثانية.»52 إن «حلم الهروب» الذي تتحدث عنه إنديرا هنا سيلون خطاباتها إلى دوروثي نورمان على مدى الأعوام القليلة التالية.
أخبرت إنديرا دوروثي أيضًا أنها قد شرعت في تعلم اليوجا بجدية، فتقول لها: «أنهض مبكرًا هذه الأيام لأمارس مجموعة معينة من التمارين. إنه نظام … يوجا … يدرسه لنا معلم يوجا في غاية الوسامة. في الحقيقة كانت وسامته هذه — وخاصة بنيته الرائعة — هي ما اجتذب الكل إلى اتباع نظامه … غير أنه يستفز من يتكلم معه. فهو يكثر الكلام عن الخرافات.»53 كان دهيريندرا براهماتشاري معلم اليوجا لإنديرا سيضطلع مستقبلًا بدور مهم وغامض في حياتها. وصف ماثاي — الذي كان وصول براهماتشاري إلى تين مورتي وتنامي نفوذه هناك مدعاة للقلق بالنسبة إليه — هذا الأخير بأنه «سوامي ملتحٍ شبه أمي»، غير أن ماثاي أقر بأن براهماتشاري كان أيضًا «طويلًا وجذابًا». كانت بنية براهماتشاري الجسدية الرائعة التي يبرزها تخففه من الملابس حتى في البرد وشعره ولحيته السوداوان اللامعان وعيناه الثاقبتان تبهران الكل، رجالًا ونساءً على حد سواء.

عام ١٩٥٨ كان براهماتشاري — الذي يعني اسمه «المتبتل» — قد وصل لتوه إلى دلهي، وقيل إنه وصل مفلسًا لأنه طرد من كشمير لمغازلته طالبات اليوجا لديه. ووفقًا لماثاي بعدما خلب براهماتشاري لب إنديرا بوقت قصير بدأ نهرو أيضًا يتلقى دروس اليوجا من براهماتشاري. وسرعان ما صار ساسة بارزون آخرون تلاميذ لدى هذا السوامي، من بينهم لال بهادور شاستري وجايابراكاش نارايان ومورارجي ديساي والرئيس الهندي الدكتور راجيندرا براساد. وعام ١٩٥٩ أنشأ براهماتشاري أشرمه أشرم يوجا فيشواياتان وصندوقه الخاص بالترويج لليوجا في دلهي، الذي تولى نهرو افتتاحه. كانت وزارة التعليم تمد الأشرم بمنحة سنوية ضخمة، أما براهماتشاري نفسه فقد خصصت له الحكومة الهندية منزلًا في شارع جانتار مانتار القريب من وزارة الإسكان. وبذا بدأ صعود براهماتشاري الملحوظ في عالم سياسة القوة في دلهي.

•••

لم تكن إنديرا الوحيدة في تين مورتي التي تحلم بالهروب آنذاك. ففي أواخر أبريل عام ١٩٥٨ حاول نهرو جديًّا أن يستقيل من رئاسة الوزراء. كان قد حاول أن يترك هذا المنصب الثقيل ثلاث مرات؛ الأولى عام ١٩٥٤ والثانية عام ١٩٥٦ والثالثة عام ١٩٥٧، غير أن الخطبة التي ألقاها في المرة الرابعة — في ٢٩ من أبريل عام ١٩٥٨ — كانت أكثر جدية وصدقًا من كل المرات التي حاول فيها أن يتحرر من ذلك المنصب. كان يشعر بالتعب و«الهرم». فكتبت له إنديرا في الأول من مايو — بعدما أجرت معه محادثة خاصة طويلة — رسالة تحثه فيها على الاستقالة حسب ما تملي عليه رغبته وسلمتها له بنفسها. ومع أن كليهما آنذاك كان في بيتهما تين مورتي إلا أن إنديرا آثرت أن تكتب إلى نهرو كما كانت تفعل في الماضي، حينما تحاول أن تنصح والدها. كانت قد حذرته قبل وقت قصير قائلة: «ثمة أعمال بغيضة ترتكب من حولك مباشرة، نابعة بلا شك من الغيرة الحقودة التي عهدتها.»54 أما في خطابها هذا فتسأله بما أنه قد أثار مسألة استقالته علنًا «هل من الحكمة العودة من جديد إلى «الوضع الحالي»؟ … إن السياسة في بلدنا تنطوي على الكثير من القذارة، حتى إن الكل ينظر إلى الأمور من منظوره الطامع الضيق، ويعجز عن تقدير النبل والعظمة. لذا قد يظن البعض أنه لم يكن لديك نية للتنحي عن رئاسة الوزراء، وأنك كنت تتظاهر بذلك لا غير. دعهم يحاولون تدبر أمورهم بأنفسهم، وإلا أفسدوك بدنسهم. فقد يؤكد خروجك من السلطة على الأقل لعامة الشعب أنك غير مسئول عن كل ما يُقترَف من مفاسد.»55

تنم هذه الرسالة عن سذاجة غير أنها أيضًا كاشفة. ففي هذه المرحلة من حياة إنديرا السياسية كانت «قذارة» عالم السياسة موضوعًا حساسًا لها، حتى إنها كانت تشير إليها في الرسالة كما لو أنها متقززة من مجرد ذكرها. لم تكن تريد أن يلوث والدها الفساد الذي شعرت أنه يطبق على كليهما من كل جانب، حتى شعرت بأنه يجب حمايته منه. وفي هذا الصدد قللت إنديرا من شأن أبيها، فربما أخطأ نهرو الحكم على بعض الأشخاص أمثال إم أو ماثاي أو حتى كريشنا مينون، لكنه كان ثاقب النظر جدًّا من الناحية السياسية. هذا في حين كان الغرير من الناحية السياسية هو إنديرا نفسها. (غير أنها بالطبع ستصبح خبيرة مع الوقت، وأقدر على احتمال الفساد السياسي والتعامل معه من أبيها.) وتكشف تلك الرسالة أيضًا ميل إنديرا إلى الارتياب الذي يصل إلى حد جنون الشك؛ فهي تخشى هؤلاء الذين تراهم «أعداءً» لأبيها، أو بعبارة أخرى قوى الشر التي وقفت موقف العداء من «نبل» و«عظمة» أبيها. وتظن أن زمرة فاسدة — تشير إليها في الرسالة ﺑ «هم» — تترصد للإيقاع والإطاحة به، وأن على أبيها أن يعلن تبرؤه من «هم»، خاصة من وجهة نظر «عامة الشعب.»

في نهاية الأمر لم يستقل نهرو. لكنه كان بحاجة ماسة إلى الراحة، لذا فكر وخطط للحصول على إجازة طويلة، لكن حينما عادت إنديرا إلى دلهي في أغسطس من اجتماع الاتحاد الدولي لرعاية الطفولة الذي حضرته في بروكسل صيف عام ١٩٥٨ وجدت أن تلك الإجازة قد تحولت إلى مجرد عطلة قصيرة إلى مملكة بوتان. فأصرت على اصطحابه، وعليه في أوائل سبتمبر سافرا إلى بوتان الواقعة بين جبال الهيمالايا.

قطعت إنديرا ونهرو رحلة طويلة وشاقة على ظهور الجياد، وعلى الأقدام عبر ممرات وعرة مخصصة لراكبي الخيل في مناطق بلا شوارع أو وسائل اتصال، وعبرا ممرات جبلية على ارتفاع ١٥ ألف قدم، وفضلا قضاء الوقت ليلًا في أكياس نوم داخل خيام عن النوم في دور الضيافة الحكومية. كانا بعيدين تمامًا عن دلهي وعالم السياسة على نحو يستحيل تصوره لرئيس وزراء من عصر أجهزة الفاكس وهواتف الأقمار الصناعية. كان الأمر كالانتقال إلى عالم آخر. كانت جبال الهيمالايا — على حد قول نهرو — «لا تشعر المرء بجو من السلام النفسي فحسب، بل تشعره أيضًا بعالم من الخلود، عالم يسمو فوق حماقات البشر. في الميثولوجيا الهندوسية اتخذت الآلهة الجبال مسكنًا لها، وقد أحسنت الاختيار … فسلام بوذا لا يزال كائنًا سائدًا.»56

غير أن إنديرا ونهرو لم يستطيعا التنعم بسلام بوذا لوقت طويل، ففيما كانا يحاولان عبور ممر في جبال الهيمالايا العظمى في شمال بوتان أدركتهما أخيرًا رسالة تخبرهما بأن فيروز أصيب بأزمة قلبية حادة في دلهي، وأودع المستشفى. في الواقع كان فيروز قد أصيب بأزمتين متتابعتين؛ الأولى في ٢٢ سبتمبر، والثانية أعقبت الأولى سريعًا في ٢٤ من الشهر نفسه. فحينما سمعت إنديرا بذلك قصدت الهند على الفور، وكانت رحلة عودتها طويلة ومعقدة؛ فركبت الخيل وسيارات الجيب والطائرات. وحينما وصلت إلى مطار بالام بدلهي في ٢ أكتوبر اتجهت مباشرة إلى مستشفى ويلينجدون التي أودع فيها فيروز، وهناك كانت حالة فيروز قد جاوزت مرحلة الخطر.

في ١١ من سبتمبر سُمح لفيروز بمغادرة المستشفى، وبعدها شرع هو وإنديرا وولداهما في القيام برحلتهم الخاصة إلى كشمير، وأجرا في سريناجار مركبًا للسكنى. ومع ما نشأ بينهما من قطيعة في الأعوام الأخيرة تمكنا شيئًا ما من تناسي خلافاتهما الماضية، ومن أن يغفر كل منهما للآخر. فأزمة فيروز القلبية وشبح الموت الذي خيم معها قد نتجا عن مصالحة حقيقية بينهما.

ولكن سرعان ما تبددت هذه المصالحة، فقد أخذت علاقتهما تتداعى من جديد بمجرد عودتهما إلى صخب دلهي. وكان أحد الأسباب يرجع إلى انخراط دلهي في تناقل شائعات عن سقوط إم أو ماثاي الوشيك، وهو ما كان فيروز يخطط له منذ فترة. كان الصحفي نيخيل تشاكرافاتي صديق فيروز قد وقع على معلومات قد تضر بماثاي. ففي عام ١٩٥٢ كان ماثاي قد اشترى منزلًا فاخرًا وبستانًا كبيرًا في كولو من أختين اسكتلنديتين، ثم باعهما ليربح من ثمنهما، وهو يملك أيضًا منزلًا بالقرب من فندق كلاريدج في منطقة راقية بنيو دلهي، وأسس صندوق ائتمان مثير للشكوك تكريمًا لذكرى أمه. ادعى تشاكرافارتي أيضًا أن ماثاي يملك ثروة كبيرة مخبأة في حساباته لدى المصارف الأجنبية.57 من أين حصل سكرتير رئيس الوزراء على أموال لشراء كل هذه الممتلكات؟ أثيرت مسألة معاملات ماثاي المالية في البرلمان، وتألفت لجنة للتحقيق فيها. وبالطبع أصر ماثاي على براءته، وفي نهاية الأمر لم تعثر اللجنة على دليل قاطع يدينه. لكنه أُجبر على تقديم استقالته لنهرو الذي برأه على العلن. إلا أنه رأى هو الآخر أنه من الأفضل أن يستقيل ماثاي. لكن رحيل ماثاي لم يكن ليمر بلا عواقب. فقد غادر تين مورتي وصدره مشحون بالعداء تجاه نهرو وإنديرا وفيروز. ولن يحتمل الوطأة الكاملة لعدائه هذا سوى إنديرا.
وسرعان ما أبطلت فضيحة ماثاي — واستمرار فيروز في خيانته لإنديرا — مفعول السلام النفسي الذي وجدته إنديرا وفيروز في كشمير. فعندما جرى التحقيق في معاملات ماثاي المالية في البرلمان أدرك الكل أن الأمر جزء من محاولة فيروز للثأر شخصيًّا من ماثاي. وفي دلهي دارت الشائعات بأن زواج إنديرا وفيروز قد وصل أخيرًا إلى نهايته. إنديرا نفسها أخبرت صديقتها بوبول جاياكار بأنها تريد الطلاق. وذات يوم كتبت إنديرا لنفسها رسالة تذكيرية على عجل على قصاصة ورق أرَّختها واحتفظت بها في درج، وفي هذه الرسالة تقول: «لكن أفكارك لن تهدأ. فهي لا تنفك عن الرفرفة في رأسك كالوطاويط المضطربة في حركتها كالأشباح. فهي تدور وتدور في عقلك المتعب، وتحفر وتقرض كالفئران لتجد طريقًا إلى عقلك المثقل المتعب.»58 كانت هذه الرسالة القصيرة هي خاتمة عام ١٩٥٨.

•••

أما عام ١٩٥٩ فقد بدأ بانعقاد جلسة حزب المؤتمر السنوية في ناجبور. آنذاك كان من المتوقع أن يتقاعد يو إن دهيبار رئيس حزب المؤتمر من منصبه قبل نهاية مدة رئاسته للحزب التي تبلغ عامين، وكان هو وغيره من قادة الحزب يلحون على إنديرا لتخلفه في رئاسة الحزب. ووفقًا لإنديرا كان جي بي بانت — وزير الداخلية — هو أول من فتح هذا الموضوع. كانت ردة فعل إنديرا الفورية التلقائية على حد قولها لاحقًا: «رأيت أنه لا يمكنني تولي ذلك المنصب. لم يكن لديَّ شك في ذلك. لقد كنت متأكدة تمامًا أنني لن أستطيع أن أدير هذا المنصب.» غير أن جي بي بانت تجاهل رفضها قائلًا: «ليس المهم هو قرارك. لقد قررنا وعليك أن توافقي. إنه واجبك.»

عندئذٍ قالت إنديرا إنها يجب أن تستشير أباها في هذه المسألة. فكان رد بانت — الذي كان يعلم جيدًا أن نهرو يرفض أن تترقى ابنته لذلك المنصب — أن قال: «لا دخل لأبيك بالأمر. القرار لك أنت فقط.»

ومع هذا قصدت إنديرا نهرو طلبًا للمشورة. وعلمت فيما بعد أن بانت كان قد تحدث بالفعل إلى نهرو وأن نهرو حاول إثناءه عن الاستمرار في تشجيعها على تولي ذلك المنصب. إلا أن كل ما قاله نهرو لإنديرا هو: «لا بد أن يكون القرار قرارك. ولن أتدخل فيه.» لكنها شعرت أنه لم يكن يريدها أن تقبل بالمنصب.

كان من المحتمل أن يحسم رد نهرو الفاتر المسألة، لولا إصرار بانت ودهيبار الذي لا يتزعزع. فبعدما أثقل دهيبار وبانت الضغط على إنديرا استسلمت لرغبتهما ووافقت على أن تكون رئيسة حزب المؤتمر. لكنها عدلت عن رأيها بمجرد ما وافقت تقريبًا، واتصلت ببانت وقالت له: «لا يا بانتجي؛ لقد درست الأمر، لا يمكنني الاضطلاع بهذا المنصب.» وعندها استخدم بانت ورقته الرابحة. فقال لإنديرا إن خبر موافقتها قد أُعلن بالفعل للصحافة. وفي اليوم التالي نشرت الجرائد القومية سلسلة من المقالات والأعمدة الصحفية التي تؤكد عدم قدرة إنديرا على تولي ذلك المنصب. آلمت هذه المقالات إنديرا. ومع هذا ظلت تؤكد ليو إن دهيبار رفضها تولي المنصب، فقالت له: «لا يمكنني ببساطة توليه. فهذا ليس عدلًا لا لي ولا للحزب.» وسألها دهيبار وبانت في صوت واحد إن كانت مستعدة لأن تدع الصحافة «تفلت بفعلتها». فأدركت إنديرا أنها ستضطر إلى مواجهة العار إن رفضت تولي المنصب. فما كان جوابها لدهيبار وبانت سوى: «حسنًا.»59

وفي ٢ من فبراير انتُخبت إنديرا رسميًّا رئيسة لحزب المؤتمر الوطني الهندي. ولأن دهيبار تقاعد في منتصف مدة رئاسته للحزب صارت إنديرا رئيسة للحزب للأحد عشر شهرًا المتبقية، غير أنه كان بإمكانها أن تسعى إلى تجديد انتخابها إن أرادت. بعدها بستة أيام تسلمت إنديرا منصبها في حفل رسمي بسيط في المقر الرسمي للجنة كونجرس كل الهند في دلهي. كان الاحتفال الذي أقيم لها مختلفًا تمام الاختلاف عن موكب الفرسان الرئاسي العظيم الذي أقيم لجدها موتيلال نهرو في شوارع كالكوتا عام ١٩٢٨، وعن موكب أبيها الذي جاب شوارع لاهور ممتطيًا حصانًا أبيض عام ١٩٢٩. يعود ذلك إلى حد ما إلى أن مكانة حزب المؤتمر كمنظمة التف حولها الشعب قد ضعفت كثيرًا بعد الاستقلال، وبالتالي تغيرت مكانة رئيس حزب المؤتمر تغيرًا ملحوظًا. فبعد عام ١٩٤٧ صارت السلطة الحقيقية بيد رئيس الوزراء والجناح البرلماني للحزب، وليس لرئيسه أو جناحه التنظيمي، وصار الحزب الذي ينتمي إليه أعضاء الهيئة التشريعية هو الذي يضع سياسات الدولة.

لكن عندما صارت إنديرا رئيسة لحزب المؤتمر كانت أكثر من مجرد رئيسة صورية. فقد شغل نهرو نفسه منصبي رئيس الوزراء ورئيس حزب المؤتمر معًا من عام ١٩٥١ إلى عام ١٩٥٤. أضف إلى ذلك أن إنديرا برئاستها للحزب كانت تسير على خطى سيدات بارزات ترأسنه مثل آني بيسانت (١٩١٧) وسروجيني نايدو (١٩٢٥) ونيللي سينجوبتا (١٩٣٣). ومع أن إنديرا لم تقر علنًا بأنها مناصرة لحقوق المرأة فقد اختارت أن تستشهد في خطبة تقلد رئاسة الحزب بجزء من أغنية شهيرة من أحد الأفلام الهندية تقول:

«نحن نساء الهند
لا تحسبونا نساءً مرفهات رقيقات كالزهور
بل نحن متقدات حماسًا كشرر النار.»
في مقابلة صحفية بعد عدة أعوام سأل صحفي إنديرا هل تظن أن صعودها السياسي ربما كان سيصبح أسهل لو كانت ابن نهرو لا ابنته، فأجابته إنديرا بأنها ترى العكس من ذلك؛ فقالت: «أعتقد أنه حينها ربما أصبحت هناك صعوبات أكثر، لأنني … لم أكن حقيقة سأتمكن من المكوث مع أبي ومساعدته كما تسنى لي. سيكون عليَّ أن أسعى لكسب رزقي … وأعتقد أن عالم السياسة كان سيواجه الأمر بحساسية وتحفظ أكثر بكثير إن كنت ابنه.»60

وقد كانت هذه هي حقيقة الأمر عندما انضمت إنديرا إلى لجنة عمل حزب المؤتمر عام ١٩٥٥. فقد اعتقد قادة الحزب أن إنديرا ستكون أداة طيعة، أو بيدق شطرنج يتحرك متى أمر أبوها أو أمروا هم. ولم تكن إنديرا قد أثبتت خطأ معتقدهم هذا حتى ذلك الحين. فمع أنها كانت كفئًا ومجدة ومسئولة فإنها لم تظهر ما يجزم بأنها تمتلك عقلًا سياسيًّا أو إرادة خاصة بها.

كان نهرو معارضًا بعض الشيء لرئاسة ابنته لحزب المؤتمر. فقد نظر إليها على أنها مساعدة له، وليس شخصية سياسية مستقلة، كان مصيبًا في أن إنديرا لا تعبأ بالبروتوكولات البرلمانية أو مبادئ النظام التشريعي، لكنه من ناحية أخرى قلل من شأن ذكائها. كان متخوفًا أيضًا من الانطباع الذي قد يتولد لدى صعود إنديرا لذلك المنصب. ففي ذلك قال: «لا أريد أن أبدو كما لو أنني أشجع تأسيس نظام حكم وراثي، فهذا لن يكون ديمقراطيًّا على الإطلاق. وسيعد عملًا بغيضًا»، وأصر على أنه «لن يعدَّها لأي منصب».61 وبالفعل كان نهرو دائمًا حريصًا كل الحرص على ألا يبدر منه أي تصرف قد يفسر على أنه محاباة للأقارب. فعندما حثه تي تي كيه على أن يعين نان بانديت أو إنديرا عضوًا في مجلس الوزراء رد عليه في حدة بأنه لن تصبح أي منهما عضوًا في مجلس الوزراء ما دام يشغل منصب رئيس الوزراء.
إن كان نهرو غير متحمس لأن تكون ابنته رئيسة حزب المؤتمر فقد كان فيروز معاديًا لذلك بكل تأكيد. كان ينظر إلى رئاسة إنديرا للحزب على أنها «ضربة أصابت علاقتهما في مقتل.»62 كتبت إنديرا بعدما انتُخبت رئيسة للحزب إلى دوروثي نورمان تقول: «إن عاصفة حقيقية من المشاكل تحيط بي من كل جانب. فعلى الصعيد الأسري فيروز … الذي طالما كره وجودي في حد ذاته صار منذ أن أصبحت رئيسة للحزب يناصبني عداءً شديدًا حتى صار المناخ بيننا يبدو مسممًا. ولمجرد تعقيد الأمور لي أخذ يميل أكثر فأكثر تجاه الشيوعيين، ويدمر جهودي لتقوية الحزب. ولسوء الحظ هو وأصدقاؤه على علاقة طيبة ببعض وزرائنا، مما يضعني في موقف في غاية الصعوبة.»63

في الواقع شعرت إنديرا أن فيروز قد صار عدوها السياسي الأول. غير أن مفهومها عن التحالف والجهات التي يجب أن تلتزم الولاء تجاهها قد بدأ يشوبه الاختلاط. كانت قد أذعنت لضغط الحرس القديم بحزب المؤتمر، وصارت رئيسة للحزب. لكنها في الوقت نفسه انحازت في يناير عام ١٩٥٩ إلى المنتدى الاشتراكي للحزب، وهو جماعة ضغط راديكالية معارضة لقيادات الحزب، ولتهاون نهرو مع هذه القيادات. كان فيروز عضوًا بارزًا في ذلك المنتدى، ومع أن علاقته بزوجته كانت وقتها متأزمة فمن الواضح أنه أقنعها بالتوقيع على بيان للجماعة يهاجم سياسة الحزب لانحرافها عن المبادئ والسياسات الاشتراكية. فيما بعد ستظل إنديرا تعتبر نفسها لعدة أعوام — وسينظر إليها بوصفها — يسارية. إلا أنها في غضون شهور من انتخابها رئيسة لحزب المؤتمر انحازت إلى الجناح اليميني والقوى الشيوعية بولاية كيرالا.

كانت كيرالا التي تقع في أقصى الطرف الجنوبي الغربي للهند ولاية هندية فريدة — ولا تزال — نظرًا لارتفاع نسبة المتعلمين، وتكافؤ عدد المسيحيين والمسلمين والهندوس بها (وهو ما يعني بدوره تمتع المسيحيين والمسلمين وطوائف النير والإزهافا بالقوة هناك). ويوجد بهذه الولاية حزب شيوعي كبير، انتُخب لحكم الولاية عام ١٩٥٧. وقد أخذت حكومة ذلك الحزب بقيادة رئيسها إي إم إس نامبوديريباد تصدر تشريعات راديكالية بإمكانها أن تخل بالاستقرار، منها مشروع قانون خاص بالإصلاح الزراعي لإدخال المزيد من الإصلاحات إلى حقوق تملك الأراضي وحماية حقوق الفلاحين المستأجِرين، ومشروع قانون آخر في مجال التعليم لوضع قيود على التعليم الخاص. لما كانت مشاريع القوانين تلك تهدد مصالح الكنائس، وحزب الرابطة الإسلامية، ومجتمع خدمات النير الزراعية ومدارسهم الخاصة، فقد انضم هؤلاء إلى حزب المؤتمر بكيرالا لإثارة الرأي العام ضد حكومة ولايتهم.

زارت إنديرا ولاية كيرالا في أبريل عام ١٩٥٩ في منصبها الجديد كرئيسة حزب المؤتمر. كانت تعلم حتى قبل أن تزورها أن حزب المؤتمر هناك قد تحالف مع قوًى دينية منها عدوه القديم حزب الرابطة الإسلامي. وقد اختارت مع ادعائها تأييد اليسار أن تدير ظهرها إلى هذه التحالفات. فوجهت انتقادات لاذعة إلى حكومة كيرالا الشيوعية، بل اتهمتها بأنها عميلة للصين.

في الشهور التي تلت زيارة إنديرا اشتدت حركات العصيان المدني. وأعلنت إنديرا في حديثها لأحد المراسلين الصحفيين في يونيو: «بصفتي رئيسة حزب المؤتمر أعلن عزمي على محاربتهم [الشيوعيين] والإطاحة بهم.»64
وفي دلهي وطوال مدة موجة الغضب التي تفجرت بسبب كيرالا — التي حظيت بتغطية صحفية واسعة — أدان فيروز الذي ثارت ثائرته بسبب الوضع في كيرالا علنًا وبعنف قيادات حزب المؤتمر الوطنية — التي كان يتزعمها بالطبع زوجته — لانضمامها إلى قوى الجناح اليميني. ففي اجتماع لحزب المؤتمر قال متسائلًا: «أين ذهبت مبادئ حزب المؤتمر؟ … هل انحط المؤتمر … إلى الدرجة التي تدفعه إلى تلقي الأوامر من العناصر الطائفية، من قادة الطوائف الدينية؟ … لقد جلبتم الدمار على أنفسكم في كيرالا.»65

في يوليو عام ١٩٥٩ عزل نهرو حكومة ولاية كيرالا الشيوعية المنتخبة ديمقراطيًّا، وأخضعت الولاية لحكم دلهي المباشر. وقد رأى فيروز وآخرون أن لإنديرا يدًا خفية في هذا، فاتهموها بالضغط على نهرو للقيام بذلك.

لكن هذه الاتهامات ناقضت سلسلة أكثر غموضًا من الأحداث. ففي يناير عام ١٩٥٨ — قبل عام من تولي إنديرا لرئاسة حزب المؤتمر — ذكر مستشار نهرو الأمين كريشنا مينون أن «تيارات خطيرة» آخذة في التكون في كيرالا وأن الأوضاع هناك قد تسوء. وفي مايو عام ١٩٥٨ قال نهرو في مقابلة صحفية لجريدة «دايلي تليجراف» البريطانية: «في رأيي يحتاج الشيوعيون إلى الكثير من الحظ ليتمكنوا من البقاء في السلطة لوقت أطول في كيرالا.»66 آنذاك كان ابتعاد نهرو عن الشيوعية والاتحاد السوفييتي قد بدأ يتزايد، خاصة في أعقاب السياسات الشيوعية التي اتُّبعت في المجر ويوغوسلافيا. وكان نهرو — مثله مثل إنديرا — قد بدأ يشعر أن كيرالا تحت سيطرة الشيوعيين تتجه نحو حالة من العنف والفوضى. في سبتمبر عام ١٩٥٨ جاب كريشنا مينون ولاية كيرالا للمرة الثانية وقدم تقريرًا يبعث على التشاؤم ويؤكد مخاوف نهرو. فطلب نهرو إلى وزير داخليته في أكتوبر عام ١٩٥٨ الحصول على المزيد من المعلومات من المصادر الداخلية بهذه الولاية وأخذ يفكر فيما إذا كان عليه أن يرسل الجيش الهندي إلى هناك لإعادة النظام.
في ٢٢ من يونيو عام ١٩٥٩ قصد نهرو تريفاندروم عاصمة ولاية كيرالا، وصدم مما رآه هناك. فحتى ما حكته إنديرا عن زيارتها في شهر أبريل لم يعده للمناخ «شبه الهستيري» الذي وجده هناك، حيث «يفصل بين الطوائف حاجز سميك من الكراهية».67 حث نهرو رئيس حكومة كيرالا نامبوديريباد على الدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة بدعوى اختبار مدى صحة زعم معارضي الحكومة بأن الحكومة قد فقدت تأييدها الشعبي. لكن نامبوديريباد رفض ذلك. فأمر نهرو في ٣١ من يوليو عام ١٩٥٩ بعزل حكومة كيرالا الشيوعية.

كانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ الهند المستقلة التي تُحل فيها الحكومة الفيدرالية لإحدى الولايات، وكانت تلك سابقة خطيرة. ففي العام التالي عندما عُقدت انتخابات ولاية كيرالا الجديدة صعد حزب المؤتمر في الولاية إلى السلطة على كتف التحالف الانتهازي الذي عقده مع حزب الرابطة الإسلامية وغيره من قوى الجناح اليميني.

يشير نقاد إنديرا إلى حادث عزل حكومة كيرالا — عند النظر إليه لاحقًا — بأنه يتنبأ بالكثير؛ فهو أول دليل على «قسوة» إنديرا وميولها الاستبدادية وعدم اكتراثها بالمبادئ الديمقراطية. لكن مع أن إنديرا أيدت بلا شك — وربما عجلت من — عزل أبيها لحكومة كيرالا فهي لم تدبر له.68

إن الجدير بالملاحظة فيما يتعلق باستجابة إنديرا للقلاقل التي وقعت في كيرالا هو أنها مست وترًا حساسًا لدى إنديرا، وهو خوفها من الفوضى وفقدان السيطرة. فالأحرى أن رد فعلها المبالغ فيه إزاء قلاقل كيرالا — وليس استبداديتها الكامنة — هي ما يجعل من أحداث كيرالا فصلًا كاشفًا في قصة تطورها سياسيًّا. لم تكن إنديرا تؤمن مثل نهرو بأن الأنظمة الديمقراطية قادرة على الصمود في وجه الظروف غير المستقرة. لذا في وجه الصراعات والاضطرابات كانت إنديرا غريزيًّا تختار فرض النظام على اتباع الديمقراطية.

ومع أن إنديرا شعرت بأنها كانت محقة في الطريقة التي تصرفت بها إزاء أزمة كيرالا وفي تدخلها — مهما كان متأخرًا — لعزل حكومة تلك الولاية فقد أنهك الأمر قواها. فبعد عشرة شهور فقط من رئاستها للحزب قررت أنها لا تود أن ترأسه مجددًا لعامين هي فترة كاملة أخرى. وقد عللت ذلك في خطابها إلى دوروثي نورمان، فكتبت تقول: «تشعر جميع أطياف الشعب الهندي باستثناء الشيوعيين بأنني أديت عملًا جيدًا، حتى إنني تحت إلحاح شديد لأن أستكمل رئاستي للحزب لفترة أخرى. لكن الفترة الأولى كانت صعبة — وفي بعض الأحيان — منهكة … لقد اكتسبت الكثير من الثقة بالنفس. لكنني لا أود استكمال رئاستي للحزب لعدة أسباب. فالجانب الروتيني من المنصب يستغرق الكثير من الوقت ويقيد حركتي جدًّا. حتى إنني شعرت كما لو أنني طائر في قفص صغير جدًّا.»69

في ليل ٣٠ من أكتوبر لم تستطع إنديرا النوم. وظلت تتقلب في فراشها لساعات، وفي نهاية الأمر نهضت من فراشها في الرابعة إلا ربعًا، وشرعت في كتابة خطاب إلى نهرو، مع أنه كان نائمًا في غرفته في الجناح المقابل من البيت. قالت في الخطاب إنها تشعر بالضيق، وبأن عليها أن تخبر نهرو ﺑ «السبب الحقيقي» الذي يشعرها بأنها لا تقبل على رئاسة حزب المؤتمر لفترة ثانية.

«لقد أحطت منذ طفولتي بشخصيات فريدة، وشاركت في العديد من الأحداث الفريدة … لكن الظروف التي مررت بها في شبابي — على الصعيدين الشخصي والعام — لم تكن سهلة. فالعالم مكان قاسٍ على أفضلنا، وخاصة على من يملكون شعورًا مرهفًا.»

شعرت إنديرا دومًا بأن عليها «دينًا» و«عبأً»، فتقول لنهرو: «في هذه السنوات الثمانية الأخيرة تقريبًا عملت بجد أكبر ولوقت أطول … وكنت دائمًا أشعر بأن ما أفعله لن يكفي». لكنها الآن صارت تشعر بأنها

«قد سددته … كنت أشعر كما لو أنني طائر حبيس في قفص صغير جدًّا، يضرب جناحيه بقضبان قفصه أينما تحرك. لكن حان الوقت لأحيا حياتي الخاصة. تُرى كيف ستكون؟ ليست لديَّ أدنى فكرة. لكن في الوقت الحاضر أريد أن أكون حرة وحسب … وأن أكتشف طريقي الخاصة. كانت تجربة رئاسة حزب المؤتمر مبهجة في بعض الأحيان، ومقبضة في أحيان أخرى، لكنها كانت بلا شك تجربة تستحق العناء. إلا أنني … سأصبح شخصًا غريبًا وتعيسًا إن اضطررت للاستمرار فيها.»70

كان ذلك اعترافًا حاسمًا في منتصف الليل، لم تكن إنديرا ستقدر على النطق به في مواجهة أبيها نهارًا. ومع أنها لم توجه أي اتهامات في خطابها فقد أوضحت أن «الدَّين» أو «العبء» اللذين طالما حملتهما — والخيارات التي أقدمت عليها — لم تكن أبدًا بيديها. فحياتها لم تكن من اختيارها قط. منذ البداية كانت أسرتها والأحداث التاريخية قد حددت مصيرها. «كانت» طبعًا قد اختارت زوجها وتمسكت به في وجه معارضة عنيدة، لكن هذا الاختيار كان محاولة منها لنيل حريتها، وإن كانت هذه المحاولة قد فشلت. فهي لم تعد تعيش مع زوجها، وطفلاها يكبران بعيدًا عنها في مدرستهما الداخلية. كانت آنذاك في منتصف العمر تناهز الثانية والأربعين. وعليها — إن كان لها أن تصنع حياة خاصة بها — أن تبدأ فورًا قبل فوات الأوان.

وعليه أعلنت إنديرا على الملأ أنها ستتنحى عن رئاسة حزب المؤتمر، مما كان مخيبًا لآمال قادة الحزب. توقعت إنديرا أن تشعر بالحرية فور اتخاذ هذا القرار. فقد كانت تواجه معارضة لا بأس بها وهي بصدد التحرر من قفصها. لكن بدلًا من ذلك دخلت في حالة من الاكتئاب الشديد. فكتبت لدوروثي نورمان تقول: «فضلًا عن ضعف معنوياتي عانيت ضعفًا بدنيًّا. فقد خسرت الكثير من الوزن، وقدماي صارتا ترتعشان بعض الشيء، وأغشي عليَّ بضع مرات.» وشكرت دوروثي على أسطوانات الفونوغراف التي أرسلتها إليها، تقول إنديرا في الخطاب: «لم يخفف من معاناتي في هذا الوقت المظلم من حياتي إلا الشعر والموسيقى.»71 بعدها بشهر كتبت إلى دوروثي من جديد تقول: «لست بحال جيدة على الإطلاق.» لكن هذه المرة لم يكن السل «مشكلتها القديمة» هو السبب. فقد نجح علاج السل الذي كانت تتلقاه. بل كانت هذه المرة مصابة بحصى كلوية تؤلمها وتمنعها من النوم ليلًا. فكتبت إلى دوروثي نورمان تبث خوفها وتقول: «لا أبدو مشرقة حاليًّا على الإطلاق.»72

ومع أنها أعلنت استقالتها من رئاسة الحزب لم تنتهِ فترة رئاستها إلا في يناير عام ١٩٦٠، لذا اضطرت إلى مواصلة واجباتها نحو الحزب في الوقت الذي تعاني فيه الاكتئاب والمرض حتى نهاية عام ١٩٥٩. في نوفمبر وقتما اندلعت في بومباي فتنة طائفية خطيرة زارت الولاية وقامت بجولة فيها. قبل ثلاثة أعوام كان نظام ولايات الهند القديم قد تعدل وأعيد ترسيم حدود الولايات على أساس لغتها السائدة. لكن ولايتين قد سقطتا من هذا التصنيف الجديد، وهما ولاية بومباي (التي كانت تعرف إبان الحكم البريطاني برئاسة بومباي) وولاية البنجاب اللتان كانتا ثنائيتا اللغة. أراد نهرو أن تنجو هاتان الولايتان، لكن ظلت هناك دعوات منذ انتخابات عام ١٩٥٧ تطالب بتقسيم بومباي إلى ولايتين هما ماهارشترا وجوجارات. كانت القلاقل التي تنتظر إنديرا هذه المرة ترتكز حول مصير مدينة بومباي والولاية التي ستنضم إليها إن قسمت بومباي إلى ولاية ماراثية وولاية جوجاراتية.

لم تمضِ إنديرا سوى القليل من الوقت في بومباي قبل أن تقتنع بأن المدينة — على عكس ما يعتقده والدها — لا بد أن تخضع للتقسيم. وكان قرارها بتقسيم بومباي فضلًا عن كونه نابعًا عن اقتناع بآراء الداعين إلى التقسيم كان أيضًا نابعًا مما رأت أنه موقف يستدعي فرض «النظام والسيطرة»، وهو ما رأته في كيرالا كذلك. فقد شعرت أنه ما لم يُستَجب لدعاة إقامة ولاية جوجارات وولاية ماهارشترا فلن تكون هناك نهاية قريبة للاضطرابات والقلاقل التي تحيط ببومباي. وفي الشهر الأخير من رئاستها لحزب المؤتمر ألفت إنديرا لجنة لتقصي الأوضاع. وفي ٤ من ديسمبر أوصت اللجنة بتقسيم ولاية بومباي وإلحاق مدينة بومباي بولاية ماهاراشترا. وعندما كان الوقت مناسبًا انقسمت حكومة بومباي إلى حكومتين وصارت ولايتا جوجارات وماهاراشترا جزءًا من الاتحاد الهندي.

طوال جولة إنديرا في بومباي كانت تعاني آلامًا حادة في معدتها وظهرها بسبب مرضها الكلوي، وحين عادت إلى دلهي استشارت طبيبًا متخصصًا أخبرها بأن عليها أن تخضع لجراحة لإزالة حصى كليتها. عندما سمع فيروز بأنها على وشك الخضوع لجراحة جاء فورًا لزيارتها في تين مورتي. ومن جديد تصالحا، بالضبط كما فعلا بعد أزمة فيروز القلبية في العام السابق. كان المرض واحتمال الموت الذي ينطوي عليه ضمنيًّا هو الشيء الوحيد الذي كان بإمكانه حتى ذلك الوقت الجمع بينهما. وفي ١٧ من فبراير بعد وقت قصير من انتهاء فترة رئاسة إنديرا لحزب المؤتمر أُجريت لها جراحة إزالة حصى الكلى. وكان فيروز معها في المستشفى، وقد انتقل للعيش معها مجددًا في تين مورتي بعدما سُمح لها بالخروج لرعايتها وهي في مرحلة النقاهة.

في يونيو عام ١٩٦٠ بعدما شفيت إنديرا من مرضها الكلوي تمامًا عادت هي وفيروز وطفلاهما إلى كشمير لقضاء عطلة، وهناك مكثا في مركب للسكنى على بحيرة ناجين في سارينجار. ومارس فيروز والأطفال السباحة وقاموا بنزهة على أحد الزوارق، والتقطوا الصور. أما إنديرا فتولت التدريس للأطفال باللغة الإنجليزية، وحاولت — دونما نجاح كبير — أن تتعلم الإسبانية. كانت طيور الرفراف شبه الأليفة وطيور السمامة تحلق على مقربة من مركب السكنى، مما أسعد الأطفال، وطار أحد هذه الطيور إلى داخل المركب ووقف على كتف راجيف. ثم ذهبوا لقضاء عدة أيام في داكسن، وهو مكان مليء بأشجار الصنوبر وغابات شجر التنوب والجداول التي تجري بسمك التروتة. وهناك تمشوا واصطادوا الأسماك. وقبل ذلك عندما كانوا في سريناجار تعلم سانجاي وراجيف التزلج على الماء. وأخبر فيروز إنديرا بأنه كان قد اشترى مؤخرًا قطعة أرض في مهراولي بالقرب من دلهي، وتناقشا في إنشاء منزل هناك لأنفسهم، ليكون هو — لا بيت تين مورتي أو منزل فيروز الحكومي — منزلهم «الخاص.»

كانا قد عانيا الكثير في علاقتهما التي امتلأت بالكثير جدًّا من الشجارات والخيانة والإذلال، وكثير منها كان محط فضول الشعب الهندي وموضوع الشائعات. لكن في ظلال جبال الهيمالايا الشاهقة استطاعا أن يهربا من جراح الماضي. وخططا لمستقبلهما معًا، ووجد كلٌّ منهما السعادة مع الآخر من جديد، ونعما لمدة قصيرة لكن غالية على نفس كل منهما «بسلام بوذا.»

بعدها بأعوام أفضت إنديرا لأحد كتاب سيرتها بأنها قررت أثناء هذه المدة التي قضتها في كشمير أن تكرس نفسها بعد وفاة والدها لمستقبل فيروز السياسي، أي أن «تنقطع له تمامًا.»73

•••

بعدها بشهرين فقط، وفي مساء يوم ٧ سبتمبر كانت إنديرا عائدة إلى دلهي على متن إحدى الطائرات التابعة للخطوط الجوية الهندية من تريفاندرام في كيرالا حيث كانت تلقي خطبة في مؤتمر للنساء من أعضاء حزب المؤتمر. حينما حطت طائرتها في مطار بالام بدلهي بعد منتصف الليل بوقت طويل بلغها أن فيروز أصيب بأزمة قلبية أخرى. وكما فعلت قبلها بعامين توجهت مباشرة من المطار إلى مستشفى ويلينجدون لتكون إلى جانبه في مرضه. وهناك وجدت مساعدتها يوشا بهاجات وآخرين. أخبرتها يوشا بأن فيروز ظل طوال الليل يفقد الوعي ويستعيده، ويسأل من آنٍ لآخر: «أين إندو؟»74

قبل ذلك بأسبوع كان فيروز قد بدأ يشعر بآلام صدرية حادة. وفي عصر ٧ سبتمبر هاتف صديقه الطبيب «إتش إل خوسلا» الذي طلب منه القدوم إلى المستشفى على الفور. فقاد فيروز سيارته إلى هناك وأغشي عليه أثناء فحص خوسلا له. وفي الرابعة والنصف من صباح الثامن من سبتمبر فتح عينيه. وجد إنديرا جالسة إلى جانبه. لم تكن قد نامت أو أكلت طوال الليل، وحينما رأى فيروز وجهها الشاحب النحيل طلب منها أن تذهب لتناول الإفطار. ورفضت. وفقد هو الوعي ثانية. وفي الثامنة إلا ربعًا صباحًا كفت أنفاسه وإنديرا إلى جانبه. كان ذلك قبل أربعة أيام من عيد مولده الثامن والأربعين.

ركبت إنديرا في العربة التي حملت جثمان فيروز من المستشفى إلى تين مورتي. وأصرت على أن تتولى هي غسل جثمانه وإعداده قبل الذهاب للمحرقة. ورفضت السماح لأحد بمساعدتها في ذلك أو حتى التواجد أثناء قيامها بذلك. أمرت بإزالة كل قطع الأثاث من غرف الطابق الأرضي بتين مورتي، ووضع ملاءات بيضاء نظيفة فوق السجاجيد. وبعد ذلك وصلت حشود من مئات المعزين إلى تين مورتي لوداع الفقيد. في الجنازة جلس سانجاي وراجيف متربعين ووجههما خالٍ من التعبيرات إلى جانب جثة أبيهما على الأرضية التي اكتست بملاءات بيضاء. أما نهرو فقد وجده نايانترا ساهجال جالسًا وحده في غرفته في حالة صدمة. كان مذهولًا من عدد المعزين الذين تدفقوا فجأة على بيته، وقال مرارًا وتكرارًا إنه لم يتوقع أن يموت فيروز في هذه السن الصغيرة. أما إنديرا فكانت شبه متماسكة إلى حد غريب، غير أن وجهها كان شاحبًا وعيناها يملؤهما الألم.75

في اليوم التالي وضع جثمان فيروز مكسوًّا بعلم الهند ثلاثي الألوان في شاحنة مكشوفة إلى جانب إنديرا وراجيف وسانجاي وأخت فيروز تيهمينا، وسارت الشاحنة ببطء مسافة ميلين اصطفت على طولهما حشود المعزين وصولًا إلى «نيجامبود غات» على نهر يامونا، وهناك أشعل راجيف الذي كان وقتها في السادسة عشرة من العمر نار المحرقة. أُحرق جثمان فيروز وفقًا للطقوس الهندوسية. إذ كان قد أخبر أصدقاءه بعد أزمته القلبية الأولى أن تلك هي رغبته لأنه كره فكرة أن يُترك جسده لتأكله النسور في أحد أبراج الصمت حسبما تقتضي الديانة البارسية. غير أن إنديرا حرصت على أن تقام الطقوس البارسية على جثمان زوجها قبل أن يؤخذ إلى المحرقة. وبعدها بيومين حملت الجرة التي تحتوي على رفات جسد فيروز على متن قطار إلى الله آباد، وهناك أُلقي بجزء من الرماد في نهر سانغام، أما الجزء المتبقي فدفن في مقبرة الله آباد البارسية.

ظلت إنديرا رابطة الجأش ومتمالكة طوال المدة التي أعقبت وفاة فيروز مباشرة. لكن عندما عاد ولداها إلى مدرستهما في دهرا دان ومضت الحياة في طريقها وعادت إلى روتينها القديم انهارت. آنذاك بعثت بخطاب إلى ابنها راجيف ذي الستة عشر عامًا في مدرسة «دون» تقول:
«في الأيام الأولى … أفقدتني الصدمة الشعور تمامًا، ومع أن عينيَّ كانتا تؤلماني وتحرقاني لم أكن حقيقة قادرة على البكاء، لكنني الآن بدأت أبكي. ويبدو أنني لن أتمكن من الكف. لم أشعر قط بالوحشة والحزن إلى هذه الدرجة. أنظر إلى الأشياء والأشخاص من حولي لكنني لا أراهم. كل شيء من حولي يبدو مظلمًا. ماذا سأفعل؟ لقد حدث هذا الأمر المروع في الوقت الذي شعرت فيه بأن كل شيء يسير كما ينبغي، وأننا قد نستطيع جميعًا العيش كأسرة من جديد. على كل حال أنت شاب شجاع وتمتلك العديد من الصفات الأخرى التي نفخر بها، والحياة تنتظرك، فلا أود أن أثقل عليك بأحزاني. فمهما بلغ حب الابن لأبيه فهو لا يضاهي تلك العلاقة الحميمية التي تجمع بين الزوج والزوجة. شيء واحد أود أن أحذرك منه. عدم البوح أبدًا بما يجول حقيقة في خاطرك. كانت هذه هي الخصلة نفسها التي سببت لأبيك الكثير من المعاناة النفسية ومنعتني من القيام بالكثير من الأشياء لمساعدته. فإذا لم تتكلم كيف سيمكنني مساعدتك؟ هذه الخصلة هي التي تؤدي إلى الوحدة.»76
آلمت وفاة فيروز إنديرا جسديًّا ونفسيًّا. فبعد وفاته شعرت بالسقم والأسى، وانقطع عنها الطمث.77 وقد وصفت فيما بعد حالها آنذاك، فقالت: «تغيرت حياتي النفسية والجسدية فجأة، وتغيرت وظائف جسدي … اعتل جسدي. تسبب ذلك الحادث في اضطراب حياتي لسنين … فهو لم يكن صدمة نفسية وحسب بل كان كما لو أن أحدًا شقني إلى نصفين.»78

أثناء حرق جثمان فيروز ارتدت إنديرا الساري الأبيض على عادة الأرامل الهندوسيات؛ إذ إن اللون الأبيض هو لون الحداد في الهند. وامتنعت عن التقيد ببقية التقاليد الهندوسية القاسية التي تقضي بحلق الأرملة شعر رأسها، وتحطيم أساورها، ونومها على الأرض، وأكلها الأطعمة غير المتبلة. فلم يكن يتقيد بهذه التقاليد القاسية سوى القليل من النساء من مرتبة إنديرا الاجتماعية وممن حظين بنفس النشأة.

في النهاية خفت حدة «سقم» وحزن إنديرا، ولكنها ظلت إلى وقت طويل بعد وفاة فيروز ملتزمة بتقليد واحد، وهو قصر ألوان ملابسها على اللون الأبيض فحسب. ولم تفعل ذلك التزامًا بالتقاليد المفروضة عليها كأرملة، بل — كما أوضحت فيما بعد — لأنه بوفاة فيروز اختفت الألوان من حياتها.79
fig15
فيروز وإنديرا على متن سفينة في رحلة عودتهما من إنجلترا إلى الهند أوائل عام ١٩٤١.
fig16
العروس الجميلة إنديرا يوم زفافها.
fig17
صورة لإنديرا التقطها فيروز غاندي أثناء فترة توددهما.
fig18
صورة من زفاف إنديرا نهرو إلى فيروز غاندي، ويقف جواهرلال نهرو في أقصى اليسار وساروجيني نايدو في أقصى اليمين.
fig19
إنديرا مع ابنها سانجاي غاندي البالغ عامًا واحدًا عام ١٩٤٨.
fig20
إنديرا ونهرو بعد وقت قصير من استقلال الهند.
fig21
إنديرا ونهرو أثناء رحلتهما في بوتان في سبتمبر ١٩٥٨.
fig22
إنديرا ونهرو والرئيس جون كينيدي وسيدة أمريكا الأولى جاكلين كينيدي في واشنطن العاصمة في نوفمبر عام ١٩٦١. عندما سافرت إنديرا إلى خارج البلاد تأنقت بدرجة كبيرة. وهي ترتدي هنا فراء المنك وساريًا حريريًّا وبعض الحلي، وتضع زينة الوجه كاملة، ويبدو شعرها مصففًا للأعلى بعناية.
fig23
إنديرا تدلي بخطاب قبولها كرئيسة لحزب المؤتمر في ١٣ فبراير ١٩٥٩.
fig24
إنديرا إلى جانب جثمان نهرو مسجى على نعش مكشوف في مايو ١٩٦٤.
fig25
إنديرا في لقاء مع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون في أول زيارة لها إلى الولايات المتحدة وهي رئيسة وزراء إبان أزمة الغذاء التي عانتها الهند عام ١٩٦٦. وسرعان ما تآلف القائدان.
fig26
إنديرا مع ولديها راجيف وسانجاي غاندي في بيتهما رقم واحد في شارع سافدارجانج رود عام ١٩٦٧.
fig27
صورة لغلاف مجلة «تايم» تحمل عنوان «الهند المضطرب بين يدي امرأة» بعد انتخاب إنديرا رئيسة وزراء الهند في يناير عام ١٩٦٦.
fig28
إنديرا تضع ضمادة على أنفها وتبدو — على حد قولها — كالرجل الوطواط بعدما قُذفت بالحجارة في ولاية أوريسا أثناء حملتها الانتخابية لعام ١٩٦٧. وهنا يقف الرئيس الهندي رادهاكريشنان إلى جانبها.