إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثاني عشر

نحو ثلاثية

خططت إنديرا للقيام بجولة مطولة لمدة شهرين في خريف عام ١٩٦٠ تزور فيها أفريقيا وأمريكا الجنوبية والمكسيك والولايات المتحدة. لكن بعد وفاة فيروز في أوائل سبتمبر ألغت على عجل جولتها إلى كل تلك المناطق فيما عدا جولتها غير الرسمية إلى المكسيك وأمريكا. وفي نهاية سبتمبر كتبت إلى دوروثي نورمان عن شعورها بعد وفاة فيروز: «لقد أفقدتني الصدمة … الشعور بما حولي، ومع أنني أكاد لا أحتمل هذا الحزن الثقيل … فالآن أشعر أن ثقله لا يكف عن الزيادة.» وذكرت أنها تشعر «بالفراغ والخواء»، كما شعرت «بضغط هائل يطحنها». لذا تتساءل في خطابها لدوروثي قائلة: «هل سأتحرر يومًا من هذا العبء، أو أتمكن من لمس ورؤية الأشياء بدون أن أرى الحقيقة المؤلمة فيها وألمسها؟»1
وكما توقعت إنديرا زادت تعاستها ولم تنقص مع مضي الأسابيع. فعندما وصلت إلى المكسيك في أواخر أكتوبر كانت لا تنفك تقريبًا عن البكاء، لقد بكت حتى عندما زارت أطلال حضارة المايا.2 فالحزن بدا على حد تعبيرها وكأنه «حجاب يحيطني ويغطيني من كل جانب».3 لم تقدر على الاستمتاع بمشاهدة معالم المكسيك؛ فمواصلة الحياة كانت تتطلب منها مجهودًا هائلًا.
بعدما زارت إنديرا المكسيك التقت بدوروثي نورمان في دالاس بولاية تكساس، وسافرتا معًا إلى ولايتي أريزونا ونيومكسيكو، آنذاك كانت إنديرا لا تزال تشعر — على حد تعبيرها — كما لو أن «غيمة من الحزن القاتم تكتنفها».4 وبعد أريزونا ونيومكسيكو مضت إنديرا مع دوروثي إلى نيويورك. كان جون إف كينيدي قد فاز لتوه على منافسه نيكسون في انتخابات الرئاسة الأمريكية بفارق ضئيل، وفي اليوم التالي على انتهاء الانتخابات كتبت إنديرا إلى نهرو عن ليلة الانتخابات تقول: «لقد مررنا بليلة عصيبة حفلت بلحظات النصر والهزيمة والإحصائيات المتضاربة، لكن أخيرًا فاز كينيدي. إنه أفضل من نيكسون للهند وآسيا، غير أن أغلب الأصوات التي أُدلي بها في الانتخابات كانت معارضة لنيكسون وليس تأييدًا لكينيدي.»5

لكن عندما وصلت إنديرا إلى الساحل الشرقي من الولايات المتحدة كان التعب قد أعياها، فقد كتبت لنهرو تقول: «لا أقوى حتى على الوقوف»، إلا أنها استطاعت المضي إلى جامعة ييل في مدينة نيو هيفن بولاية كونيتيكت لإلقاء محاضرة هناك وإهداء الجامعة صورة لإليهو ييل المتبرع الأكبر للجامعة، الذي عمل لدى شركة الهند الشرقية البريطانية، وعُين حاكمًا على مدراس. أما في واشنطن فقد مكثت إنديرا بضعة أيام لدى ابن عمها بريج كومار نهرو، الذي كان وقتها سفيرًا للهند في الولايات المتحدة. وقد أخذت وزوجته فوري نهرو «تحاضر» إنديرا بشأن حالتها النفسية البائسة، لكن إنديرا تمكنت من السيطرة على حزنها قبل أن تستقل الطائرة متجهة إلى باريس لحضور مؤتمر لمنظمة اليونسكو قالت عنه فيما بعد لدوروثي إنه «ممل إلى درجة قاتلة».

بعدها عادت إلى الهند في يناير عام ١٩٦١، حيث بدا ظاهريًّا أن حياتها عادت إلى إيقاعها الطبيعي.

بعد أن انتهت فترة الحداد الرسمي على فيروز عادت إلى الحياة السياسية بنشاط من جديد. فأعيد انتخابها لعضوية لجنة عمل حزب المؤتمر، وصارت عضوًا في لجنة الانتخابات المركزية التي تألفت لاختيار المرشحين لخوض الانتخابات العامة عام ١٩٦٢. وفي الواقع وافقت هي ولال بهادر شاستري ونهرو على جميع المرشحين. لكن الحزن ظل إلى وقتها يأبى مفارقتها. في ذلك كتبت إلى دوروثي نورمان في صيف عام ١٩٦١ تقول: «لقد ترددت في الكتابة إليك، فقد كنت أرجئ هذا لوقت أشعر فيه بأنني أفضل حالًا. لكن الآن لا أدري إن كان هذا الوقت سيأتي أبدًا. لطالما كنت أنظر إلى شخصيتي على أنها إيجابية. أما الآن فأشعر أنني في منتهى السلبية. أنا لست مريضة. ومع هذا لست أيضًا بحال جيدة. كل ما في الأمر هو أنني لا أشعر أني على قيد الحياة. ولا يبدو أن أحدًا يدرك الفارق.» ظل الحزن يعتصرها إلى وقت سفرها جوًّا إلى لندن في ١٧ من أكتوبر، عندها قالت إن كل ما تأمله هو أن تصبح «أكثر إقبالًا على الحياة، وأكثر انفتاحًا عليها عندما أصل إلى الولايات المتحدة».6

في نوفمبر قامت إنديرا ونهرو معًا بزيارتهما الرسمية الثانية إلى الولايات المتحدة لعقد قمة مع الرئيس الأمريكي جون إف كينيدي، بعد اثني عشر عامًا من رحلتهما الأولى إلى أمريكا. كان الكل — ربما عدا نهرو وإنديرا — يعلق آمالًا عريضة على هذه القمة استبشارًا بالحكومة الأمريكية الجديدة المنتمية للحزب الديمقراطي التي يرأسها رئيس شاب مفعم بالحيوية. التقى نهرو كينيدي من قبل في الهند عندما كان الأخير عضوًا شابًّا في مجلس النواب الأمريكي، لكن نهرو لم ينبهر بشخصيته، غير أن بريج كومار نهرو كان واثقًا من أن نهرو سيدرك جدارة كينيدي هذه المرة. كذا توقع جون كينيث جالبريث سفير الولايات المتحدة إلى الهند أن يقنع كينيدي نهرو بجدارته.

سافرت إنديرا ونهرو إلى نيويورك على متن رحلة طيران منتظمة تابعة لشركة الخطوط الجوية الهندية، ووصل نهرو إلى هناك متعبًا. لكنه فور ما ترجل من الطائرة تقريبًا اضطر وهو مرهق للغاية من طول الرحلة ومن تأثير اضطرابات فروق التوقيت إلى الظهور في برنامج أمريكي خاص بالقضايا الجارية يدعى «واجه الصحافة». في هذا البرنامج تعرض لاستجواب مرهق، رد فيه على الأسئلة بإجابات مملة تتخللها فترات طويلة من الصمت ولحظات التردد. بعدها ذهب هو وإنديرا إلى «رود أيلاند» للقاء آل كينيدي في مزرعتهم. وأثناء مرورهم بقصور أصحاب الثراء الفاحش الضخمة في «نيو بورت» قال كينيدي لنهرو مازحًا إنه يريده أن يرى كيف يعيش فقراء الأمريكيين. لكن هذه المزحة لم تنجح في رسم ابتسامة على شفتي نهرو. وعلى مائدة الغداء ظل جامد الوجه، صامتًا. وحتى إنديرا عجزت عن دفعه للحوار، ألح كينيدي على نهرو لإسدائه نصيحة فيما يتعلق بفيتنام، لكن نهرو «لم ينبس ببنت شفة».7 مما أحرج إنديرا وبريج كومار نهرو وجالبريث، لكن لم يكن بيديهم ما يفعلونه. فالشخص الوحيد الذي بدا نهرو مستعدًّا للتحاور معه هو جاكلين كينيدي.
بعد تناول الغداء استقلوا طائرة إلى واشنطن، فجلس نهرو وحده يحدق من نافذة الطائرة، في حين أخذت إنديرا تقرأ نسخة من مجلة فوج، أما جاكلين كينيدي فأخذت تقرأ رواية للأديب الفرنسي مالرو.8 ولم تتحسن الأجواء بين كينيدي ونهرو في العاصمة واشنطن. فأثناء المحادثات التي جرت بينهما هناك، التي حضرها جالبريث وبريج كومار نهرو، «ببساطة لم يكن نهرو يرد». فكان يجيب السؤال تلو الآخر بمقطع، أو جملة أو اثنتين على الأكثر. تناولت هذه المحادثات عدة قضايا منها برلين، وفيتنام، والاختبارات النووية والعلاقات الهندية الباكستانية، لكن آخر هذه المواضيع فقط هو الذي استفز ردة فعل جادة من نهرو.9 وبعدها عُقد اجتماع خاص بين نهرو وكينيدي، لكن لم يتحدث أي منهما عما جرى أثناءه، والأرجح أنه لم يحدث الكثير، فقد قال كينيدي فيما بعد في وصفه لزيارة نهرو له عام ١٩٦١: «إنها أثقل زيارة استقبلتها لأحد رؤساء الدول» وشبه الكلام إلى نهرو بأنه «كمحاولة الإمساك بشيء واكتشاف أنه لم يكن إلا سرابًا.»10
وجد بريج كومار نهرو الذي صحب نهرو وإنديرا طوال زيارتهما للولايات المتحدة نهرو «فاقد العزم، وفاتر الهمة، وغير مبالٍ بما حوله، وصموتًا، على غير عادته تمامًا»، وعزا تصرفاته تلك لتأثيرات إرهاق السفر عبر مناطق مختلفة التوقيت، وشك في أنه قد يكون معتل الصحة جسديًّا. أما جالبريث فلم يرَ أنه يعاني خطبًا ما صحيًّا. كان الفتور الذي تصرف به نهرو إزاء كينيدي — الذي وصل إلى حد العداء الواضح — يعكس رأيه في الأخير. لقد وافق رأي بريج كومار نهرو وجالبريث في كينيدي الآراء السائدة بشأن الأخير التي تقول إنه «ذكي وفصيح ومتمرس». أما نهرو فلم يقتنع بهذه الآراء. فقد ارتاب في جاذبية كينيدي، وخامره الشك في رؤيته السياسية. وأما إنديرا فلم تنبهر هي الأخرى بجاذبية جاكلين كينيدي.11

بعد واشنطن استقلت إنديرا ونهرو طائرة إلى لوس أنجليس، وهناك ارتفعت معنوياتهما شيئًا ما قبل أن يعودا إلى الهند بعدما زارا مدينة ديزني لاند، وأحد استوديوهات تصوير الأفلام، والتقيا بالممثل الأمريكي مارلون براندو، والكاتب ألدوس هوكسلي، والمؤرخ ويل ديورانت. في الواقع كانت النتيجة الوحيدة الملموسة لزيارة إنديرا ونهرو للولايات المتحدة عام ١٩٦١هي الزيارة الناجحة والشهيرة التي قامت بها جاكلين كينيدي إلى الهند في مارس ١٩٦٢ ردًّا على زيارتهما.

وبالطبع اضطلعت إنديرا بدور مهم في زيارة سيدة أمريكا الأولى جاكلين كينيدي للهند عام ١٩٦٢. لكن لأن جاكلين أجلت رحلتها إلى الهند مرتين استطاعت إنديرا أن تتملص منها فيما كانت هي وأختها لي رادزويل لا تزالان في الهند وفاءً لارتباط مسبق بجولة لإلقاء محاضرات في الولايات المتحدة. أثناء هذه الجولة بعثت إنديرا بخطاب إلى أبيها في الهند. كانت إنديرا مثل نهرو لا تنظر للأمريكيين بكثير من الاحترام، من ثَم كتبت لأبيها تشكو من «الدرجة العجيبة التي يؤيدون بها المذاهب اليمينية»، التي وصل إليها جهلهم. فتقول لأبيها عنهم في الرسالة: «الكلام إليهم ممل بسبب افتقارهم إلى المعرفة، فعلى المرء أن يكرر لهم الكلام لأكثر من مرة، وأن يقوله في كلمات من مقطع واحد.»12
في نيويورك التقت إنديرا بدوروثي نورمان، ثم أخذت تبعث لها بخطابات تمتلئ بالشكوى والتشاؤم أثناء تجوالها في أنحاء أمريكا. فعلى سبيل المثال، من العاصمة واشنطن كتبت لها في ٢٦ مارس أنها تشعر بالاكتئاب، والإنهاك الشديد ولا تدري «كيف سيمكن لها مواصلة هذه الجولة».13 كانت تحتاج إلى جرعات كبيرة من النوم كل ليلة لتتمكن من مواصلة جولتها هناك. وفي الواقع يبدو أنها أمضت أغلب تلك الجولة مفتقدة الحماس والطاقة، فقد ألقت خطابات هادئة غير مثيرة (قيل إن هناك من كتبها لها) تحدثت فيها عن قضايا سياسية وثقافية لا تثير جدلًا. وفي كاليفورنيا كتبت إلى دوروثي ثانية تقول: «لا ينقصني سوى نفسي، أنا فقط لا أدري أين ذهبت. الجسد موجود، ترتسم على شفتيه الابتسامات العريضة، ويتكلم، لكنه ليس إلا إناءً خاويًا. نفسي الحقيقية لم تعد موجودة. هل ماتت أم نامت؟ إنه لأمر محزن للغاية.» وأضافت أنها تشعر كما لو أنها «كالآلة الوترية التي تصدر نغمات نشازًا، ومجرد صوتها يزعج أذن سامعيها».14
شعرت أيضًا بما اشتبهت في أنه أعراض بداية سن اليأس تتدفق عليها.15 وقد كانت مصيبة في ذلك؛ فعندما توفي فيروز توقفت فجأة دورتها الشهرية تمامًا. وبعدها بنحو عام عاد إليها الطمث من جديد، ولكنه صار يأتي على نحو غير منتظم وغير ثابت. وقد أفضت إلى دوروثي نورمان بأن اضطراب «الطمث يقتلعني عن تركيزي … ويتسبب لي في اكتئاب حاد وإنهاك جسدي».16 لم تكن مريضة أو يائسة بل فقدت انسجامها مع جسدها والعالم من حولها. وأحيانًا ينتابها إحساس بعبثية الحياة كلها. ففي العام التالي بعثت إلى دوروثي بخطاب تعبر فيه بصراحة أكبر عن مشاعرها وتقول: «في مرحلة صعبة من حياتي … أشعر بإنهاك جسدي ونفسي هائل، وأقاوم اضطراب هرموناتي.»17 ورغم اضطراب هرموناتها هذا لم ينصحها الأطباء بالعلاج ببدائل الهرمونات التي كانت قد طرحت في الأسواق حديثًا آنذاك. بل كان عليها أن تستعيد حيويتها ومرونتها وهناءتها بمرور الوقت فقط.

في أبريل، أثناء جولة إنديرا في الولايات المتحدة، مرض نهرو — الذي كان آنذاك في الثالثة والسبعين من العمر — مرضًا شديدًا إثر إصابته بالتهاب كلوي. ولأنه عانى حمى شديدة وألمًا مبرحًا فقد اضطر إلى ملازمة الفراش. فتملك القلق كريشنا هاثيسينج، عمة إنديرا التي مكثت في تين مورتي أثناء غياب الأخيرة. وقبل أن تصل إنديرا إلى تين مورتي كانت حالة نهرو الصحية قد بدأت تتحسن.

في أوائل سبتمبر، عندما سافر نهرو مع إنديرا إلى لندن لحضور مؤتمر رؤساء وزراء دول الكومنولث بدا نهرو معافًى تمامًا من المرض. أما إنديرا فقد ظلت على غير طبيعتها. فعندما قابلتها دوروثي في لندن وجدت التعب والحزن باديين عليها، وذهبتا معًا لمشاهدة فيلم «لوليتا» الجديد المستوحى من رواية لفلاديمير نابكوف. وبعدها أمضت إنديرا «يومين في منتهى الروعة» في مدينة كامبريدج مع ابنها راجيف الذي كان قد التحق لتوه بكلية «ترينيتي» التي تخرج منها نهرو قديمًا. لكن حتى رؤية ابنها لم تفلح في إبهاجها. فراجيف صار في الثامنة عشرة من العمر، وأصبح لديه «أصدقاء جدد وعلاقات جديدة وأحباب جدد. قلبي يتألم».18

•••

إذا عدنا إلى الهند في خريف عام ١٩٦٢ نجد مشاكل خطيرة أوشكت على الاندلاع على حدود البلاد المشتركة مع الصين. فلقرون ظلت جبال الهيمالايا — التي يعني اسمها باللغة السنسكريتية (مقر الثلج) — بمنزلة حدود طبيعية تحمي شمال الهند من الغزو. ومع أنه كانت هناك علامات تنذر باحتمال شن الصين هجومًا على الهند من تلك الجبال البعيدة. فلم يتصور نهرو ذلك قط، فعام ١٩٥٤ — العام الذي زار فيه «تشو إن لاي» الهند، وزارت فيه إنديرا ونهرو الصين — بدأ التقارب بين الهند والصين تحت شعار «الهنود والصينيون إخوة»، ووُقعت في هذا العام معاهدة بين البلدين بنيت على المبادئ الخمس للتعايش السلمي وعدم الاعتداء، وصارت هذه المبادئ محل تركيز مؤتمر باندونج الذي عُقد عام ١٩٥٥.

لكن عام ١٩٥٦ بدأت الصين تشيد سرًّا طريقًا في منطقة «أكساي تشين» في ولاية لداخ بكشمير. وفي العام نفسه عززت سيطرتها على إقليم التبت. ففر الدالاي لاما القائد الروحي والسياسي لذلك الإقليم من الحكومة الصينية إلى الهند حيث منحه نهرو حق اللجوء السياسي، وهو ما أيدته إنديرا التي ساعدت في تأسيس لجنة إغاثة مركزية لآلاف اللاجئين التبتيين الذين تبعوا الدالاي ونفوا معه. من ثَم كانت النتيجة أن أدانت بكين الهند لإيوائها الدالاي لاما وأتباعه.

بعدئذٍ، في سبتمبر عام ١٩٦٢، أثناء زيارة إنديرا ونهرو لأوروبا، بدأت القوات الصينية تعبر خط مكماهون (الحدود الصينية-الهندية التي أسستها بريطانيا في الجبهة الشمالية الشرقية من البلاد وتعرف حاليًّا باسم ولاية أروناتشال براديش) حيث نقطة التقاء الهند وإقليم التبت وبوتان. واخترقت القوات أيضًا منطقة أكساي تشين في لداخ بكشمير التي تمتد لمسافة ١٦ ألف ميل مربع، حيث شيد الصينيون سرًّا طريقًا يمتد لمسافة ٧٥٠ ميلًا في عامي ١٩٥٦ و١٩٥٧. بعيدًا عن هذه الأحداث، في باريس، لم يلقِ نهرو بالًا لهذه الغارات ووصفها بأنها «بضع معارك تافهة نشأت بين خفر الحدود».

عادت إنديرا ونهرو إلى دلهي في أوائل أكتوبر. ثم ذهبا في ١٢ أكتوبر في زيارة رسمية إلى سيلان بعدما وافق نهرو على إرسال فرقتين إلى الشمال الشرقي قبل مغادرته بوقت قصير، وفي ٢٠ أكتوبر بعدما عاد نهرو مع إنديرا من زيارتهما شن الصينيون أول غزو شامل على الأراضي الهندية، استُخدمت فيه قذائف الهاون، والمدافع الجبلية، بل الدبابات في بعض المناطق. وعليه في ٢٢ من أكتوبر أعلنت الهند حالة الطوارئ وأرسلت إلى الولايات المتحدة وبريطانيا طلبًا عاجلًا بإمدادها بالمعدات الحربية.

إلى عشية غزو الصين للهند في أكتوبر عام ١٩٦٢ ظل وزير دفاع الهند كريشنا مينون يرفض النظر بجدية إلى تهديدات الصين، فكانت النتيجة أن الهند وجيشها كانا غير مستعدين على الإطلاق لغزو الصين. لذا لما وقع الغزو علت الأصوات في وقت واحد مطالبة برأسه. ففيما أخذ الصينيون يحشدون قواتهم ويشيدون طريق أكساي تشين عكف قطاع الدفاع في الهند بتكليف من مينون على إنتاج أواني الطهي بالضغط وأباريق القهوة.

وحتى قبل هذا الغزو لم يحظَ مينون بأي شعبية في الهند. ففي الأربعينيات عندما شغل منصب المندوب السامي للهند في لندن تورط في صفقة مشبوهة لشراء الآلاف من سيارات الجيب للهند ولم يتسلم منها سوى جزء ضئيل. وفي الخمسينيات عندما رأس الوفد الهندي في منظمة الأمم المتحدة خسر ود الأمريكيين بأكثر من طريقة، منها تسامحه مع غزو الاتحاد السوفييتي للمجر. أما للهنود فلم يحسن كريشنا القيام بشيء أثناء رئاسته للوفد الهندي في منظمة الأمم المتحدة إلا عندما ألقى خطبة تقريعية عنيفة لمدة تسع ساعات في مجلس أمن الأمم المتحدة التي دافع فيها عن سياسة الهند في كشمير. في عام ١٩٥٦ طلب نهرو من مينون أن يعود إلى الهند، وفي البداية نصبه وزيرًا بلا وزارة، ثم وزيرًا للدفاع الهند. وقتها كان مينون قد أمضى الجزء الأكبر من اثنين وثلاثين عامًا من حياته خارج الهند مسقط رأسه، فلما عاد إليها عاد غريبًا عنها، لا يستطيع التحدث بأي لغة من لغاتها سوى الإنجليزية (فقد نسي لغته الأم لغة المالايالام، ولم يتعلم اللغة الهندية قط)؛ وحتى جهازه الهضمي صار غير قادر على احتمال الأطعمة الهندية كثيرة التوابل، وتعود جسده الطويل النحيف ارتداء سترات مصنوعة من قماش التويد الصوفي الخشن، والسراويل المصنوعة من قماش الفلانيل الصوفي الخفيف بدلًا من لباس الدهوتي والأنجافاسترام اللذين يرتديهما الناس في الهند.

مع أن مينون كان صديقًا قديمًا لإنديرا ومعلمًا لها فقد كانت هي من بين من طالبوا باستقالته من وزارة الدفاع في أواخر أكتوبر عام ١٩٦٢، لا لأنها رأت أنه المسئول عن غزو الصين الكارثي، بل لأنها أرادت أن تنأى بأبيها عن اللوم على ذلك. يُذكر أنها قالت ذات مرة لأحد الأصدقاء: «من لا يؤدي عمله، أيًّا كان، يجب أن يسرح منه. ولا يوجد من لا يمكن الاستغناء عنه»؛ تلك مقولة تثبت أنها «أكثر صرامة بكثير من أبيها».19 أو بعبارة أخرى أنها «لا تتقيد بالعلاقات العاطفية بقدره»، الأمر الذي أشار إليه خصومها فيما بعد على أنه قسوة. أما نهرو، فبعكس إنديرا، كان آخر ما يرغب فيه هو أن يجعل من مينون كبش فداء، لكن وسط صدور إشاعات عن احتمال قيام انقلاب عسكري خضع للضغط الشعبي وأعفى في ٣١ من أكتوبر مينون من رئاسة وزارة الدفاع. وكانت هذه فعليًّا هي نهاية مشوار مينون السياسي، وأقسى ضربة تلقاها في حياته.

في ١٩ من نوفمبر، في عيد مولد إنديرا الخامس والأربعين. عندما حضرت عمة إنديرا كريشنا هاثيسينج — التي أقامت آنذاك في تين مورتي — الإفطار، وجدت المناخ فيه فاترًا للغاية. كانت أنباء قد وصلت للتو بأن الصينيين نجحوا في اجتياز «ممر سيلا باس» الذي اعتُقد أنه منيع. وبعد هذا الممر تقع ولاية آسام وسائر الهند. في الواقع لقد تدفق الصينيون «في سيل بشري» على جبال الهيمالايا في شمال شرق الهند، وحاصروا القوات الهندية التي تقل عن قواتهم عددًا وعتادًا.

أضحت أهم مدن ولاية آسام — مدينة تيزبور التي تبعد بثلاثين ميلًا فقط عن الحدود الصينية — مهددة، فقررت إنديرا قبل أن ينتصف نهار يوم ١٩ نوفمبر أن تذهب إلى هناك. فسافرت على متن طائرة محملة بإمدادات طبية من منظمة الصليب الأحمر إلى المدينة. كان الصينيون بحلول هذا الوقت قد احتلوا نحو ٥٠ ألف ميل مربع من الأراضي التابعة للهند. عادت إنديرا إلى دلهي وقضت بها ثماني ساعات بالضبط، وهي «تشع ثقة لأن سكان تيزبور القبليين رفضوا الرحيل عنها». ثم أعلنت رسالة قصيرة عبر الراديو، وأمرت بتعبئة الطائرة التي سبق أن أقلتها إلى تيزبور بالإمدادات الطبية من جديد، وعادت إلى ولاية آسام لتمكث فيها لأربع وعشرين ساعة أخرى.

وقع غزو الصين للهند عام ١٩٦٢ فجأة وانتهى أيضًا فجأة. ففي ٢١ نوفمبر أعلن الصينيون فجأة وقف إطلاق النار من جانبهم، وانسحبوا في القطاع الشرقي إلى موقع يبعد خمسة عشر ميلًا عن خط مكماهون، إلى حيث يقع «خط السيطرة الفعلية» في القطاعات الأخرى. وبذا انتهت الحرب. تعرضت الهند للإذلال التام. وتحطم نهرو.

أما إنديرا فالفترة التي أعقبت الحرب مع الصين كانت فترة اضطراب لها على المستوى الشخصي. صار نهرو عندئذٍ يواجه ضغوطًا سياسية، وشاخ جسديًّا، وتحطم نفسيًّا. فصار أكثر اعتمادًا على ابنته أكثر من أي وقت مضى. ولأول مرة بدأت إنديرا تستاء من اعتماده عليها. فشعرت برغبة طاغية في تحطيم قيود الواجب والمسئولية التي طالما قيدتها. وخططت سرًّا لترك أبيها والهند وصنع حياة جديدة ومستقلة لنفسها بالخارج.

في ١٣ أكتوبر عام ١٩٦٣ كتبت إلى دوروثي نورمان تقول: «حاجتي إلى الخصوصية والابتعاد عن الشهرة أخذت تتزايد بانتظام على مدى الثلاثة الأعوام الأخيرة حتى صرت أشعر أنني لا أقدر على تجاهلها بدون أن أعرض نفسي لنوع من القتل. لكن تمتعي بالخصوصية لسوء الحظ مستحيل، حتى وأنا في أقصى أطراف شبه القارة الهندية. لقد وجدت الناس يقدمون لي بطاقات تعريفهم ويعرضون عليَّ مشاكلهم، حتى وأنا على سفح جبل كولاهوي الجليدي (الذي يصل ارتفاعه إلى ١٦ ألف قدم)! ليس ما يسوءُني هو أنني ألتقي بالناس، وإنما هو أنهم يأتونني فقط لمجرد الحصول مني على شيء أو طلب أمر ما. فلا يُترك لي ولو حتى بضع دقائق للتدبر أو الاسترخاء أو التصرف على سجيتي وحسب.»

أخبرت إنديرا دوروثي أنها أغرمت ببيت صغير رأته معروضًا للبيع في لندن ربيع العام الماضي. كانت تملك القليل جدًّا من المال، ولم يكن لديها أي عملة أجنبية، لكنها مع ذلك أمضت «الكثير من الوقت في التفكير في طرق ووسائل» لشراء البيت. فقد كانت تأمل في جمع مال يؤهلها للحصول على قرض عقاري، ثم شراء المنزل، ثم السكن في جزء صغير منه وعرض بقية غرفه للإيجار. وكانت متأكدة أن بمقدورها أن تعيش وحدها عيشة مقتصدة في لندن، ولم ترَ أن الانتقال من العيش كابنة رئيس الوزراء إلى العيش كصاحبة نزل أمر لا يليق بها. لكنها بعدئذٍ سمعت أن المنزل اشتراه شخص آخر فشعرت «كما لو أن أحدًا صفق بابًا في وجهي». رغبت إنديرا في العيش خارج الهند إلى حد ما لتكون على مقربة من راجيف وأيضًا من سانجاي الذي اعتزم أيضًا السفر عما قريب إلى إنجلترا. لكنها، فوق كل شيء، أرادت من أن تكون وحدها. أرادت أن تكون «حرة لأعمل أو أستريح. لا يبدو هذا مطلبًا يصعب أن تجود به الحياة، ومع هذا فهو يبدو بعيدًا عن متناولي.»

آنذاك أكدت إنديرا أنها لم ترد أن تهرب من أحد أو شيء ما. وقالت في ذلك: «يجوز لي أن أقول إنني أديت واجبي نحو وطني وأسرتي خلال هذه السنوات الطويلة. ولا يساورني الندم على ذلك ولو للحظة، لأن هذه الأعوام هي التي شكلت ما أنا عليه الآن. لكنني الآن أرغب في حياة أخرى. قد لا تسير على نحو جيد. وقد لا أُعجب بها أو أفلح فيها، لكنها تستحق التجربة. فثمة رغبة طاغية بداخلي تدفعني باستمرار بعيدًا عن حياتي القديمة.»20

في السادسة والأربعين من العمر مرت إنديرا بأزمة، لكن هذه الأزمة في حقيقة الأمر كانت أقرب إلى أزمة مرحلة المراهقة منها إلى أزمة منتصف العمر. آنذاك كانت تتساءل عن نوع الحياة الذي عليها أن تختار، وهل لها أن تختار؟ وماذا عن شعور الحرية؟ لم تتسنَّ لها فرصة حقيقية لسؤال تلك الأسئلة من قبل. فبادئ ذي بدء كانت ابنة لجواهرلال نهرو، ثم صارت زوجة لفيروز غاندي وبعد ذلك أمًّا لراجيف وسانجاي غاندي. فلم تبدأ التفكير والسعي لاكتشاف ما بإمكانها أن تكونه إلا بعدما مات فيروز، وصار ابناها مراهقين، وأصبح والدها رجلًا مسنًّا.

وقد أظهرت دوروثي نورمان رغبة صادقة في مساعدتها في ذلك. كانت إنديرا تحتاج إلى مصدر دخل إن أقامت خارج البلاد. وفي العام الماضي أثناء قيامها بجولة لإلقاء محاضرات في الولايات المتحدة تقدمت إليها اثنتان من دور النشر الأمريكية — هما سيمون آند شوستر، ودابلداي — باقتراح لتأليف كتاب. لكنها آنذاك — على حد قولها لدوروثي نورمان — لم تدرِ «متى سيسنح الوقت لكتابة أي شيء». لكن بعدما اقتربت نهاية مشوار والدها السياسي استحوذت فكرة تأليف الكتاب على أفكارها، فتوسطت لها دوروثي نورمان لعقد اتفاق مع إحدى دور النشر الأخرى بنيويورك هي دار مورو، التي تقدمت لإنديرا — على حد وصفها — «بعرض ذي شروط جذابة».21 لكن لم يتضح بالضبط موضوع الكتاب، على الأرجح أنه كان سيتناول قصة حياة والدها ودورها فيها. وقد رأت إنديرا — التي برعت في الكتابة — أن فرصة تأليف الكتاب مغرية، والأكثر منها إغراءً الأموال التي كانت ستجنيها منها، والتي يمكن أن تستخدمها تذكرة لخروجها من الهند. إلا أن الاتفاق بشأن هذا «الكتاب» لم يتعدَّ مرحلة التشاور قط، ولم يتحول عقد دار نشر مورو إلى حقيقة.

المفارقة في أحلام إنديرا السرية وخططها في خريف عام ١٩٦٣، أحلام الهروب، لا من السياسة فقط وإنما أيضًا من الهند، وقبل هذا وذلك أحلام «العثور على الذات»، هي أنها أذكتها في الوقت الذي ظن فيه الكثيرون أنها تناور لتتولى السلطة بعد والدها. ففي صيف عام ١٩٦٣ خسر حزب المؤتمر ثلاثة انتخابات فرعية في غاية الأهمية. وبعد غزو الصين المخزي العام السابق تضاءل نفوذ نهرو ومكانته. وصارت أيامه في منصبه معدودة. وبدأت التساؤلات بشأن من سيخلفه تخرج إلى ساحة العلن بعد أن ظلت لوقت طويل في طي الكتمان.

في الواقع، ذلك العام أصدر صحفي أمريكي في الثالثة والثلاثين من العمر يدعى ويليس هانجن، عمل مديرًا لمكتب شبكة «إن بي سي» في الهند كتابًا بعنوان (من يخلف نهرو؟) وقد تألف الكتاب من سرد لمقابلات صحفية أجراها ويليس مع من يطمحون ويحتمل (أو لا يحتمل بالنسبة لبعضهم) أن يخلفوا نهرو في رئاسة وزراء الهند، وهم: موراجي ديساي، وكريشنا مينون، ولال بهادور شاستري، وواي بي شافان، وجايابراكاش نارايان، وإس كيه باتيل، وبريج موهان كاول، وإنديرا غاندي؛ المرأة الوحيدة التي أجرى معها ويليس مقابلة صحفية. أثار ذلك الكتاب عاصفة من الجدل في الهند، حتى في منزل تين مورتي حيث سأل نهرو إنديرا «في حدة» عن السبب الذي جعلها تسمح لهانجن أن يستجوبها، و«يجرها» إلى كتابه.22

لكن الإعلان عن مبادرة جديدة لحزب المؤتمر تدعى خطة كاماراج سرعان ما غطى على الجدل الذي أثاره هانجن. في ظاهر الأمر وضع هذه الخطة كوماراسامي كاماراج رئيس حكومة مدراس من أجل تطهير الحكومة، وإعادة الحياة إلى حزب المؤتمر المحتضَر. ناقش كاماراج أولًا الخطة مع نهرو في أوائل أغسطس عام ١٩٦٣، قامت الخطة على استقالة المسئولين رفيعي المستوى بالحزب — سواء من أعضاء المجلس الوزاري أو رؤساء الحكومات المحلية — من مناصبهم ليتفرغوا للاضطلاع بأعمال تنظيمية للحزب. وكان كل أصحاب المناصب الحكومية عرضة لأن تنطبق عليهم خطة كاماراج (أي عرضة لأن يسرحوا من مناصبهم) عدا رئيس الوزراء. ومع أن الدافع من وراء هذه الخطة كان إعادة النشاط إلى الحزب فإن تأثيرها المباشر هو أنها تسببت في إحداث عملية تصفية على مستوى أعلى قيادات الحزب في الفترة التي تسبق انتخابات خلافة نهرو في منصب رئيس الوزراء. فتخلصت بحنكة من بعض المرشحين «غير المرغوب فيهم» مثل ديساي، العضو ذي الاتجاهات اليمينية، وفي الوقت نفسه أخفت تلك الممارسات بإبعاد المرشحين الأكثر جاذبية ولفتًا للانتباه مثل شاستري عن دائرة الضوء.

غير أن تلك هي الخطة من وجهة نظر ديساي الناقمة. رأى ديساي أن الخطة لم تكن من وضع كاماراج على الإطلاق، وإنما كانت مؤامرة دبرها نهرو لينصب إنديرا غاندي لخلافته.23 فرد نهرو على ذلك الاتهام بأن وصفه بأنه يكشف عن «محاولة مبتكرة للغاية للبحث عن دوافعه»، وأضاف: «إنه اتهام مستقًى مما يبدو أنه مبدأ توريث الحكم … وهو مبدأ غريب تمامًا على الديمقراطيات البرلمانية … فضلًا عن كونه مبدأً بغيضًا في رأيي.»24 وإنديرا نفسها أوضحت أنه لو كان والدها يريدها أن تخلفه في رئاسة الوزراء لأراد لها قطعًا أن تنتخب لعضوية البرلمان، غير أن نهرو وإنديرا في فترة الإعداد لانتخابات عام ١٩٦٢ العامة وقبل ذلك اتفقا على ألا تترشح إنديرا لعضوية البرلمان.25

صارت خطة كاماراج موضع التنفيذ في ٢٤ أغسطس عام ١٩٦٣ ولاقت استحسانًا كبيرًا. اختار نهرو للاستقالة ستة من أعضاء المجلس الوزاري (من بينهم ديساي وشاستري، وكلاهما كان مرشحًا بارزًا لخلافة نهرو في منصب رئيس الوزراء)، وستة من رؤساء حكومات الولايات (من بينهم كاماراج نفسه الذي صار بعدها بوقت قصير رئيسًا لحزب المؤتمر). نال كاماراج الثناء على اقتراحه الخطة، لكنه تحالف مع جمعية سرية صغيرة من المتآمرين من قادة حزب المؤتمر، عُرفت هذه العصبة باسم «السينديكيت». ضمت تلك العصبة، بالإضافة إلى كاماراج نفسه، أتوليا غوش من غرب البنغال، وإس كيه باتيل من بومباي، وسانجيفا ريدي من ولاية أندرا براديش، وإس نيجالينجابا رئيس حكومة ولاية كارناتاكا. والتقى هؤلاء في أكتوبر عام ١٩٦٣ في معبد تيروباتي في جنوب الهند وقرروا أن تخلف نهرو قيادة جماعية يتزعمها لال بهادور شاستري في منصب رئيس الوزراء وأن موراجي ديساي اليميني المتشدد المستبد بآرائه لا بد من أن يمنع من ذلك المنصب.

•••

في نوفمبر عام ١٩٦٣ أخبرت ماري سيتون — وهي ناقدة سينمائية بريطانية وكاتبة بدأت معرفتها بنهرو وإنديرا عن طريق كريشنا مينون — نهرو أنها تريد أن تؤلف كتابًا عنه، لكنها قالت إنها ستمتنع عن ذلك إن كانت لديه اعتراضات. فأخبرها بأن تتناقش في أمر الكتاب مع إنديرا، قائلًا لها: «عليك أنت وإندو أن تتفاهما في هذه المسألة.» فوعدته ماري بأن تقوم بذلك، غير أنها طلبت منه أن يخبر إنديرا بعدم اعتراضه على تأليف الكتاب.

رد نهرو: «إن أمكن لي تذكر القيام بذلك فسأفعل. فنادرًا ما أراها لأجد فرصة للحديث معها هذه الأيام. فهي شديدة الانشغال.»26 في الواقع آنذاك، كان من المقرر أن تسافر إنديرا بعد وقت قصير إلى شرق أفريقيا في زيارة رسمية مدتها ثلاثة وعشرون يومًا لحضور احتفاليات الاستقلال في كينيا، وزيارة زامبيا وأوغندا وإثيوبيا وتنزانيا، وتلك كانت ستصبح أول زيارة رسمية تقوم بها بمفردها إلى خارج البلاد. مع ذلك أجرت هي وماري مناقشة قصيرة في أمر الكتاب في أواخر نوفمبر (في اليوم السابق على اغتيال كينيدي)، حيث لم تسأل ماري إنديرا عن نهرو وحسب، بل سألتها أيضًا عن طموحاتها وموقفها من كتاب ويليس هانجن. وردت إنديرا على سؤال ماري عما إذا كانت تود أن تخلف والدها في منصبه بأن قالت: «سيقتلونني قبل أن تظهر أي بادرة تشير لاحتمال حدوث لذلك.» صعقت ماري من هذا الرد، لكنها فسرته بأنه اعتقاد من إنديرا بأن معارضيها سيدمرونها تدميرًا سياسيًّا، وليس بالمعنى الحرفي. لكن كيفما فسر المرء رد إنديرا ذاك، فإنه يعكس شعورها الدائم بأن الآخرين يتحينون الفرصة «للنيل منها».27
في الفترة التي عكفت فيها ماري سيتون على تأليف كتابها عن نهرو؛ الذي حمل اسم «البانديت»، أمضت أسابيع، وشهورًا متعاقبة في تين مورتي، وصارت أمينة سر إنديرا، لكن إنديرا ظلت في الوقت نفسه تركن إلى دوروثي نورمان. ففي ٤ يناير عام ١٩٦٤، بعد وقت قصير من عودتها من أفريقيا، كاتبت دوروثي تعيد عليها رغبتها في الهروب، التي تحولت آنذاك إلى موضوع معتاد في خطاباتها، فتقول في رسالتها: «كم أتمنى أن أنفض يدي تمامًا عن السياسة الهندية وأي شئون سياسية غيرها، سأحاول بالتأكيد القيام بذلك.»28 لكنها بعد يومين حضرت المؤتمر السنوي لحزب المؤتمر المنعقد في بهوبانيشوار في ولاية أوريسا بشرقي الهند. وكذا فعلت سيتون التي ظلت تتابع نهرو طوال الشهور الأخيرة من حياته. في صباح الثامن من يناير نهض نهرو ليلقي كلمة، لكن عندها هوى جسده فجأة إلى الأمام. فهبت إنديرا من منصتها واندفعت أمامًا إليه وتأبطت ذراعه قبل أن يصل رجال الأمن والإسعاف إلى المنصة. لقد أصيب نهرو بسكتة دماغية.

كانت تلك إصابة خطيرة، يصعب التكهن بما إن كان الشفاء منها ممكنًا. لقد عانى نهرو شللًا جزئيًّا في الجانب الأيسر من جسمه، وأصبح واهنًا جدًّا. ومع أنها لم تكن قط من أعضاء مجلس الوزراء ولم تشغل أيضًا أي منصب بالانتخاب في الحكومة فقد حثها قادة حزب المؤتمر أمثال بيجو باتنايك على أن تخلف أباها في منصبه فورًا كنائبة لرئيس الوزراء. لكن إنديرا قابلت هذا الطلب بالرفض.

وبعدها ظلت لبضعة أيام تتنقل جيئة وذهابًا بين جلسات حزب المؤتمر، وفراش مرض أبيها في راج بهافان (مقر حاكم الولاية)، تحسَّنت صحة نهرو، لكن ليس بالدرجة التي تسمح له بالظهور العلني من جديد في اجتماعات حزب المؤتمر. وقد أخبرت إنديرا سيتون أنها حاولت أن تقنعه باختيار خليفة له — فهي نفسها تتعرض لضغط من المرشحين لخلافته بشأن ذلك — لكنه رفض. و«ظل يجادل طوال هذه الأيام!» بعدها صحبت إنديرا سيتون معها إلى غرفتها وأرتها ثياب ساري جميلة بألوان تنبض بالحياة من ولاية أوريسا، كانت قد اشترتها قبل أن يصاب نهرو فجأة بمرضه. في ذلك قالت إنديرا: «أشعر بأنني أرغب في ارتداء الملابس الملونة. فالآن فقط، بعد ثلاثة أعوام، أشعر بأنني توقفت عن الحداد حزنًا على موت فيروز.»29

في ١٢ يناير عادت إنديرا ونهرو إلى دلهي حيث واصل نهرو تماثله للشفاء. وانخفضت ساعات عمله اليومية من سبع عشرة ساعة إلى اثنتي عشرة ساعة، وأُرغم على أن يحصل على قسط قصير من النوم عصر كل يوم. ولم لم يُعلم الشعب الهندي بأن مرضه خطير، أو بأن حالته الصحية لا تزال حرجة جدًّا. بنهاية يناير كان نهرو قد تعافى بالدرجة التي تسمح له بالخروج علنًا في موكب عيد الجمهورية في ٢٦ يناير، وحضر افتتاح دورة البرلمان في فبراير، ولو أنه اضطر إلى إلقاء خطابه جالسًا.

رُوجت شائعات بأن إنديرا ستنضم قريبًا إلى مجلس الوزراء كوزيرة للشئون الخارجية، وعندما لم يتحقق منها شيء خمدت. غير أن دوائر النميمة في دلهي ظلت تردد أن إنديرا أصبحت تلعب دور المحرك الخفي من وراء الكواليس، كما فعلت زوجة الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في أوائل القرن العشرين. لكن لما ذهب الصحفي إندر مالهوترا الذي كان صديقًا مقربًا لفيروز للقائها، أخبرته بأنه من «السخيف» مقارنتها بالسيدة ويلسون. من الواضح أنها كانت آنذاك تساعد والدها أكثر من أي وقت مضى، لكنها لم تكن مطلقًا المسيطرة على شئون الحكومة.

صدق مالهوترا إنديرا، لكنه شعر أيضًا بأنها لم تكن سعيدة بأن يفهم عنها أنها «القوة المسيطرة على الحكم».30 في الواقع كان وزير الداخلية «جولزاري لال ناندا» ومعه وزير المالية تي تي كيه هما اللذان يعنيان بأعمال رئيس الوزراء اليومية. لكن بعدئذٍ، في ٢٢ يناير، عاد لال بهادور شاستري من غياهب النسيان التي سقط فيها من طُبقت عليهم خطة كاماراج لينضم إلى مجلس الوزراء كوزير بلا وزارة واضطلع بمسئوليات كبرى.

كان نهرو آنذاك في الرابعة والسبعين من العمر، وقد ظلت علامات الاستفهام الكبيرة التي طرحتها مسألة خلافته قائمة، مع أن الإشاعات نُفيت وأُعلن كذبًا أنه شفي تمامًا. وأظهر استطلاع أجرته إحدى معاهد استطلاع الرأي العام الهندية آنذاك حول مسألة «من يخلف نهرو؟» أن لال بهادور شاستري هو المرشح الأول لخلافته، والثاني هو كاماراج، والثالث هو إنديرا، والرابع هو موراجي ديساي.

•••

في مطلع أبريل أصيبت إنديرا بانزلاق غضروفي واضطرت إلى ارتداء «رقبة بلاستيكية قبيحة غير مريحة إلى حد لا يطاق، تسبب الشعور بالحر».31 كان مرض والدها وما أشعله من اضطرابات وفتن في دلهي قد ألقى عليها بضغط نفسي هائل. ففي قرابة ذلك الوقت تحدث إليها الصحفي اليساري روميش ثابار فوجدها «منهكة القوى تكافح للإبقاء على والدها البانديت، تحاول أن تبقيه متماسكًا، لكنه ظل يتداعى، حتى انهارت وبكت».32
مع أن إنديرا كانت مصابة بانزلاق غضروفي، وتعاني حالة نفسية ضعيفة، فقد سافرت جوًّا إلى مدينة نيويورك في ١٥ أبريل لتحضر افتتاح المعرض العالمي. احتشد لدى مغادرتها المدينة في مطار بالام جمع كبير من المتملقين المتطفلين الذين يجتمعون عادة لمشاهدة رئيس الوزراء وهو يغادر، وهذا دليل واضح على أن الشائعات التي دارت عن خلافتها لأبيها، كانت واسعة الانتشار. لكن من الغريب أن تاركيشواري سينها، عشيقة فيروز السابقة، وواحدة من أتباع موراجي ديساي كانت من بين الجمع. لقد استطاعت سينها — شأنها شأن الكثيرين — أن تحزر من سيملك مفتاح السلطة مستقبلًا، لذا لجأت إلى إنديرا في المطار لتساعدها في منع المدعي العام من التحقيق في أوراق مشكوك في صحتها تتصل بحيازتها لعقارات قيمة. وقد شاهدت ماري سيتون كلا المرأتين؛ بدت إنديرا رابطة الجأش تمامًا، لا يظهر عليها أي تأثر فيما أخذت سينها تتوسل إليها بلا فائدة.33

•••

سافرت إنديرا إلى نيويورك جوًّا عبر هونج كونج حيث أخبرت المراسلين الصحفيين في استراحة قصيرة من الرحلة أنها لا تنوي أن تخلف والدها، وأنها وقفت في وجه كل المناورات التي تسعى إلى ضمها إلى مجلس الوزراء كوزيرة خارجية. ولما وصلت إلى أمريكا ظهرت في برنامج «واجه الصحافة» حيث سُئلت السؤال: «هل تودين أن تكوني رئيسة وزراء الهند؟» أجابت بلا تردد: «لا أود.» لكن فريق المذيعين والمحللين بالبرنامج ظل يلح في استجوابها.

  • س: هل سترفضين الترشح لرئاسة الوزراء إن رُشحت وانتُخبت لذلك، هل سترفضين الاضطلاع بهذا المنصب؟
  • ج: في الواقع أنا لست عضوًا في البرلمان الهندي، وفي الهند لا يمكنك أن تشغل منصبًا في الحكومة إن لم تكن عضوًا في البرلمان.
  • س: وإن كانت إرادة الشعب الهندي تتمنى ذلك للدرجة التي تجعلك الخيار الواضح لدى الأغلبية، هل ستضطلعين بمنصب رئيسة الوزراء؟
  • ج: أجد صعوبة شديدة في تصديق أنه ستكون هناك مثل تلك المطالبة العارمة.
  • س: لكنك لا تجزمين بأنك سترفضين الاضطلاع بذلك المنصب.
  • ج: حسنًا، بإمكاني أن أجزم بنسبة ٩٠٪ بأنني سأرفض ذلك.34

بعدئذٍ سلمت إنديرا في واشنطن الرئيس جونسون خطابًا من نهرو حول مسألة كشمير وأبلغته بأن نهرو ينوي عقد محادثات في دلهي مع الشيخ عبد الله (الذي أُطلق سراحه في الثامن من أبريل في عام ١٩٦٣بعد فترة سجن طويلة) ورئيس باكستان أيوب خان.

ثم عادت إلى نيويورك في الخامسة والأربعين دقيقة صباحًا في ٢٩ أبريل، وقد وصل إلى دلهي في نفس اليوم الشيخ عبد الله الذي أُطلق سراحه حديثًا وأتى بدعوة من نهرو. فعادت إنديرا عصر ذلك اليوم إلى مطار بالام لاستقبال الشيخ. وفي تين مورتي عانق الشيخ إنديرا ونهرو اللذين لم يكن قد رآهما منذ أحد عشر عامًا. صدم الشيخ عبد الله من الحالة الصحية التي بدا بها نهرو، وكان اجتماع شملهما اجتماعًا حارًّا. إلا أنه لم يسفر عن نتيجة حاسمة، مع أن نهرو حث الشيخ عبد الله على زيارة باكستان، ومع أنه نفسه وافق على لقاء الرئيس الباكستاني أيوب خان إن قدم إلى دلهي. كان واضحًا للشيخ عبد الله أن حالة نهرو لم تكن جيدة بالدرجة التي تسمح له هو نفسه بالذهاب إلى باكستان. لكن لأول مرة منذ الاستقلال ظهر أمل حقيقي في اندمال الجرح الذي تسببت فيه مسألة كشمير.35
أفادت رحلة إنديرا إلى أمريكا في التنفيس عنها لوقت قصير. لكن لما عادت إلى دلهي، في أوائل مايو، اشتد مرض والدها، ووصلت التساؤلات المستمرة حول مسألة «من يخلف نهرو» إلى نقطة صارت معها من جديد في أمس الحاجة للهروب. فكتبت لدوروثي نورمان في ٨ مايو تقول: «مسألة التفكير في مستقبلي برمتها تضايقني. وأشعر بأن عليَّ أن أستقر خارج الهند لعام على الأقل أو نحو ذلك، وهذا يستلزم توفير دخل، خاصة من النقد الأجنبي … لم أعد قادرة على الإطلاق على مقاومة رغبتي في الخروج من الهند، واحتمال الضغينة والغيرة والحسد المحدقين بي. هذا فضلًا عن أنه لا يوجد من يمكنني التحدث إليه أو طلب النصح منه.»36
في ١٣ مايو سافرت إنديرا ونهرو إلى بومباي لحضور اجتماع لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند. وفي ١٨ من ذلك الشهر بُثت على شاشات التليفزيون في نيويورك مقابلة صحفية أُجريت في دلهي معهما قال فيها نهرو إنه من المستبعد جدًّا أن تخلفه إنديرا في منصبه، ولما سُئلت إنديرا عن احتمال أن تُضطر إلى ذلك المنصب قالت: «لا يمكن أن أُضطر إليه إن كنت غير راغبة فيه.»37 أما في ٢٢ من الشهر نفسه فقد عقد نهرو أول مؤتمر صحفي له منذ سبعة شهور، حضره ما يزيد عن مائتي مراسل صحفي واستمر لأربعين دقيقة. وأثيرت فيه مسألة «من يخلف نهرو» بأكثر من طريقة مرارًا، حتى قال نهرو ثائرًا في آخر الأمر: «لن تنتهي حياتي في وقت قريب جدًّا إلى ذلك الحد!»، وقد أثار رد فعله ذلك تصفيقًا طويلًا وحارًّا.

في اليوم التالي، في ٢٣ مايو، سافرت إنديرا ووالدها على متن طائرة هليكوبتر إلى ديهرا دون في عطلة لمدة ثلاثة أيام، ثم عادا إلى تين مورتي في عصر ٢٦ من ذلك الشهر. وخلد نهرو للنوم مبكرًا مساء ذلك اليوم. لكنه استيقظ ليلًا عدة مرات، فأعطاه خادمه ناثو رام، الذي نام على كرسي إلى جانب سريره، عقارًا مهدئًا.

بعدئذٍ، قبل فجر ٢٧ مايو، استيقظ نهرو ثانية متوجعًا. لكنه ظل كذلك لساعتين دون أن يوقظ ناثو رام. في السادسة والنصف صباحًا أرسل الخادم أحد رجال الأمن ليرسل في طلب إنديرا وطبيب نهرو الدكتور بيدي، الذي أقام في البيت منذ إصابة نهرو بالسكتة الدماغية لأول مرة في يناير. فلما وصلت إنديرا والطبيب بيدي إلى غرفة نهرو بدا نهرو غير مدرك لما حوله، وسأل: «ما الأمر؟» وبعدها بلحظات أغشي عليه من جديد. فقام الطبيب بيدي بمعاينته، وتبين أن شريانه الأورطي قد انفجر. كانت فصيلة دم إنديرا هي نفس فصيلة والدها، فقام الدكتور بيدي على الفور بسحب عينة من دمها ليجري لنهرو نقل دم، لكن لم يجد ذلك شيئًا، وراح نهرو في غيبوبة.

ظل نهرو غائبًا عن الوعي طوال الصباح، وفيما هو كذلك بعثت إنديرا ببرقية إلى إنجلترا لراجيف، وبرسائل إلى كشمير لسانجاي الذي كان يقضي عطلة هناك. ثم هاتفت عمتيها اللتين كانتا في بومباي. ولم تهاتف أحدًا آخر سوى كريشنا مينون الذي قدم على الفور من بيته في الشارع المقابل لتين مورتي.

توفي نهرو في الواحدة وأربعين دقيقة عصرًا، يوم الأربعاء ٢٧ مايو عام ١٩٦٤، بدون أن يفيق مطلقًا من غيبوبته. كانت إنديرا وكريشنا معه آنذاك. فطوال عصر ذلك اليوم الطويل الحار، وإلى بداية المساء، ظلا إلى جانب جثمانه جالسين على الأرض لا يتحركان، أما مينون فبدت الكآبة على وجهه الضئيل، وكانت إنديرا «شاحبة الوجه».38

لكنهما لم يظلا وحدهما لوقت طويل. فبعد دقائق من وفاة نهرو امتلأت أروقة وغرف ودرجات سلم تين مورتي بالناس. أولًا وصل تي تي كيه، وجافيجان رام وهما يبكيان. ثم تبعهما غيرهما من الوزراء، وانعقدت لجنة طارئة لمجلس الوزراء في غرفة بطابق سفلي في المنزل من الساعة الثانية إلى الثالثة بعد الظهر، وقررت اللجنة ترشيح وزير الداخلية جولزاري لال ناندا الذي شغل المنصب الثاني بعد نهرو في مجلس الوزراء لتولي منصب رئيس الوزراء مؤقتًا. كان الكل يتيه في أرجاء المنزل مصدومًا، فيما عدا اثنين بدوَا كما لو أنهما يراقبان الوضع أكثر مما يتحسران عليه، وهما كاماراج وموارجي ديساي، اللذان وقفا متجاورين. لكن لم يقفا معًا على الإطلاق، فكلاهما وقف على مدخل غرفة نهرو لساعات، فيما جال المعزون حولهما. وكان ديساي في الواقع يبدي ترحابه لمن يصعدون الدرج لوداع نهرو كما لو أنه «مضيف في حفل استقبال دبلوماسي.»

بعدما خيم الليل وضع جثمان نهرو في نعش في بهو تين مورتي، وبجواره زهور السوسن والأدريون والورود ومغطى بالعلم الهندي، حتى يتسنى للناس إلقاء النظرة الأخيرة عليه طوال الليل. كان الجو لا يزال حارًّا جدًّا وقد تسبب معجبو نهرو الملتاعون في تساقط قطع الثلج الكبيرة التي وضعت لمنع جسده من التحلل إذ أخذت سيول المعزين التي لا حصر لها تصطف مرورًا بها. أما إنديرا فظلت على مقربة من النعش مع عمتها فيجايا لاكشيمي بانديت التي قدمت من بومباي مع أختها كريشنا هاثيسينج، وبادماجا نايدو التي أتت من كلكتا. ولم ينَم أحد، وظلت أبواب تين مورتي مفتوحة للزائرين طوال الليل فيما عدا ساعة واحدة، بين الثالثة والنصف والرابعة والنصف صباحًا.

وصل سانجاي غاندي من كشمير في صبيحة ٢٨ مايو، يوم الجنازة. أشرفت إنديرا على كل ترتيبات الجنازة ومنها مظهر الخدم. كان الخدم قد تفطرت قلوبهم حزنًا، فلم يأكلوا أو يستحموا منذ وفاة نهرو. فطلبت منهم إنديرا في رقة أن يعودوا إلى بيوتهم ويغتسلوا ويحلقوا ذقونهم، ويغيروا ملابسهم. عن هذا قالت: «والدي كان دومًا يحب الأناقة والنظافة، لذا لن يكون حوله اليوم أي مظهر من مظاهر القذارة.»39

حُمل جثمان نهرو على عربة مدفع غادرت تين مورتي عند الظهيرة، وشقت طريقها رويدًا رويدًا في جو حار عبر الشوارع المتربة التي اصطفت فيها الحشود في نيو دلهي ومدينة دلهي القديمة إلى أن وصلت إلى نهر يامونا. وتبعتها إنديرا وسانجاي (راجيف لم يكن قد وصل بعد من إنجلترا) في سيارة مكشوفة وكلاهما يرتدي ثوبًا من الخادي الأبيض، ويتصبب عرقًا بغزارة تحت الشمس الحارقة. استغرقت المسافة إلى النهر — التي يبلغ طولها خمسة أميال — أكثر من ثلاث ساعات، واصطف على طولها ما بين مليونين وثلاثة ملايين شخص، يقفون في صفوف يتراوح طولها بين عشرة أشخاص وعشرين شخصًا. وعند النهر كان هناك المزيد من الجموع، ضمت ملوكًا ورؤساء دول وشخصيات رفيعة المقام من جميع أنحاء العالم احتشدت عند الموقع الذي سيشهد حرق جثمان نهرو، واندفعت أمامًا لإلقاء نظرة أخيرة على زعيمها. وأشرف على حفظ النظام أكثر من ثمانية آلاف جندي من القوات الخاصة، وستة آلاف جندي من القوات المسلحة.

مع أن نهرو نهى بوضوح عن إقامة مراسم دينية له في وصيته، فإن جنازته أقيمت وفقًا لمراسم حرق الموتى الهندوسية. كان ذلك هو القرار الذي توصلت إليه إنديرا، وقد سبَّب لها ألمًا عظيمًا، (وانتقادات هائلة) لأنها كانت تعلم أنها تخالف رغبة أبيها، ودافعها من ذلك القرار غامض، إلا أنها تعرضت لضغط هائل من زعماء الدين وبعض الساسة فور وفاة أبيها، ومن المحتمل أن هؤلاء أقنعوها بأن الشعب الهندي لن يقبل بجنازة علمانية. وُضع جثمان نهرو على محرقة من خشب الصندل، ورتل رجال الدين الصلوات الفيدية، وأطلق حرس الشرف ثلاث طلقات ثم عُزفت موسيقى جنائزية. وأشعل سانجاي الذي كان آنذاك في السابعة عشرة من العمر نيران المحرقة.

وبعد مراسم حرق جثمان نهرو بثلاثة عشر يومًا، قطعت إنديرا مسافة خمسمائة ميل سفرًا بالقطار إلى الله آباد وهي تحمل جرة مملوءة برماد أبيها. اصطف على طول خط القطار الذي توقف في كل بلدة وقرية جموع كبيرة من الناس، فاستغرقت الرحلة خمسًا وعشرين ساعة والتي تستغرق عادة عشر ساعات. في الله آباد أُلقي جزء صغير من رماد نهرو في نهر سانجام، مع بعض من رماد كامالا الذي جلبه الأخير معه من سويسرا قبل ثلاثة عقود واحتفظ به إلى جانب سريره على مر الأعوام إلى ذلك الوقت (سواء في الزنزانات التي سُجن بها، أو في آناند بهافان، أو في منزله في يورك رود، أو في تين مورتي.) ذكر نهرو تحديدًا في وصيته أنه يرغب في أن ينثر رماده في الهواء في جميع ولايات الهند. لكن إنديرا احتفظت لنفسها برماده المخصص لكشمير. فذهبت إلى سارينجار، واستقلت طائرة صغيرة ونثرت رماد أبيها على الأرض التي نبت منها وعشقها.

بعدما مات نهرو غاصت إنديرا في اكتئاب شديد — اكتئاب أقل في حدته عن ذلك الذي عانته لدى وفاة فيروز — إلا أن السيطرة عليه وفهمه كان أصعب. فمع السن التي توفي فيها أبوها، بدت لها فكرة رحيله إلى حد ما صعبة التصديق. غير أن ما شعرت به آنذاك كان شعورًا أعقد بكثير من الحزن. مشاعرها تجاه أبيها كانت قوية، لكن متناقضة، فقد مرت علاقتهما بلحظات اغتراب وتقارب. في الحقيقة كان أحدهما أقرب إلى الآخر في السنوات الأولى من علاقتهما عندما عاشا مفترقين؛ وقتما كانت إنديرا في المدرسة ونهرو في السجن أو عندما أقامت في أوروبا وعاش نهرو في الهند. فمع ابتعادهما أمكن لهما التواصل بتبادل الرسائل الطويلة التي تفضي بمكنوناتهما.

أما في خمسينيات القرن العشرين فقد تغير كل ذلك. ازدحمت حياتهما جدًّا، وصارت منهكة للغاية. ولما اجتمعا في تين مورتي صعب عليهما التحاور معًا بحرية وصراحة حتى لو تسنى الوقت لذلك — وتلك لم تكن الحال — وحتى لو أصبحا وحدهما (الأمر الذي لم يتحقق إلا نادرًا). لهذا، في الأوقات الحاسمة، كالوقت الذي شعرت فيه إنديرا بأن على والدها التمسك بقراره بالاستقالة، أو الوقت الذي قررت فيه ألا تترشح لرئاسة حزب المؤتمر من جديد، عادت إلى ما تعودته قديمًا من الكتابة إليه، مع أنهما كانا تحت سقف واحد آنذاك.

في السنوات الأخيرة من حياة نهرو كرست إنديرا حياتها له. لكن لم تربطها به علاقة عاطفية وثيقة، وفي الشهور الأخيرة من حياته خططت حقيقة لتركه هو والهند. فكانت النتيجة أن اختلط حزنها بشعور بالذنب والغضب، وفوق ذلك شعور بالألم. وربما شعرت بعد وفاته بأنها خذلته تمامًا. لقد كان بالقطع فخورًا بها على مر السنين التي عاشتها معه في تين مورتي. ومما لا شك فيه اعتمد عليها اعتمادًا كبيرًا. لكن، لا مجال لإنكار أنها لم تكن على قدر التوقعات التي تخيلها لها وأفضى بها إليها قبل زمن بعيد، على فرض أنها «وليدة عالم من المصاعب والمشكلات»، وابنة ثورة جديدة.

مات شيء ما في علاقتهما عندما أصرت على قرارها بالزواج من فيروز غاندي، ذلك القرار الذي سبب لها ولوالدها الآلام. فسر نهرو زواجها على أنه هروب من التحديات والمسئوليات الكبرى التي تنتظرها. وفي أواخر الأربعينيات بدا أنه بدأ ينظر إلى ابنته بمزيد من الواقعية وتوصل إلى أنها تفتقر إلى الذكاء والبصيرة اللازمين للاضطلاع بدور مهم في مستقبل الهند. ولا شك أنها فطنت إلى رأي والدها فيها. وبعد تأخير — بعدما مات والدها — بدأت تتمرد عليه.

لكن الوحدة كانت هي أكثر ما أحزن إنديرا طوال صيف وخريف عام ١٩٦٤، فقد شعرت بأنها وحيدة أكثر من أي وقت مضى. وقد كان والدها هو صاحب الحضور والتأثير الأقوى في حياتها. فآنذاك لم تعد أرملة وحسب، بل صارت أيضًا يتيمة. بالطبع ظلت أمًّا، لكن ابنيها كانا في أواخر مرحلة المراهقة، والعلاقة بين الأم وأبنائها في تلك المرحلة نادرًا ما تكون وطيدة. ولم يعِش راجيف وسانجاي في البيت في العشرة الأعوام الأخيرة. واضطربت علاقة إنديرا بهما بعد وفاة فيروز. فوفقًا للكثير من الشخصيات المقربة لإنديرا، وفيهم صديقتها بوبول جاياكار، بعد وفاة فيروز اتهم سانجاي أمه بأنها أهملت أباه منوهًا بأنها السبب في وفاته في سن مبكرة.40
وبصرف النظر عن كل ذلك أقام راجيف وسانجاي في إنجلترا عام ١٩٦٤ بعيدًا عن إنديرا. كان راجيف من ناحية يجتهد في الدراسة بجامعة كامبريدج، أما سانجاي فقد بدأ في خريف ذلك العام ما يُفترض أن تكون فترة تدريب لمدة ثلاثة أعوام مع شركة رولز رويس. لكن حتى لو كانا على مسافة أقرب إلى إنديرا فلم تجمع بينها وبينهما آنذاك إلا القليل من القواسم المشتركة؛ فلم يهوَ أي منهما الكتب أو الفنون أو المسرح. وكان كلاهما طالبًا متوسط المستوى، ولم يعنيا قط — سواء وهما صبيان أو رجلان — بقراءة كتب جدهما.41 ولم يهتما بالشئون السياسية، وقد اعتزمت إنديرا في تلك الفترة أن تبقيهما بعيدًا عن عالم السياسة. على العكس من كل ذلك أُولع راجيف وسانجاي — شأنهما شأن فيروز — بالمعدات الميكانيكية، خاصة الطائرات والسيارات. فدرس راجيف الهندسة في جامعة كامبريدج، وجامعة إمبريال كوليدج. لكنه رسب في الامتحانات ولم ينجح في التخرج. أما سانجاي فلم يحاول الذهاب إلى جامعة قط، بل عكف بدلًا من ذلك على برنامج رولز رويس التدريبي في مدينة كرو، حيث تلقى أيضًا دروسًا ليلية في المعهد الفني المحلي.
بدأت معركة الخلافة لتحديد رئيس الوزراء الثاني للهند — كما ذكر كريشنا مينون فيما بعد في استياء — قبل أن يبرد جسد نهرو تقريبًا، واشتدت في الأيام التي أعقبت جنازته. ففي ٣٠ مايو، بعد ثلاثة أيام فقط من وفاته، عرج شاستري على إنديرا في تين مورتي يحثها على أن تضطلع بقيادة الهند. كانت الكلمات التي زُعم أنه استعملها لذلك بالضبط هي: «عليكِ الآن أن تكوني مسئولة عن الدولة.» لكن إنديرا رفضت بلا تردد معللة لذلك بأن حزنها يمنعها من التباري في الانتخابات أو الاضطلاع بالسلطة.42 اقترح قادة آخرون من حزب المؤتمر على إنديرا المثل، لكنها صممت على رفضها. غير أنه ثمة شك فيما إذا كانت هذه الاقتراحات جادة أم لا. كانت إنديرا قبل أي شيء ابنة نهرو. من ثَم وجبت استشارتها، ووجب أيضًا أن تتحدد مسألة ترشحها من عدمه قبل أن يبدأ الصراع الحقيقي على الخلافة بين لال بهادور شاستري وموراجي ديساي. لو أرادت إنديرا أن تخلف والدها آنذاك لاضطر قادة حزب المؤتمر إلى الإذعان لرغبتها، لكن لم يكن هناك شك لدى أحد تقريبًا في أنها في ذلك الوقت شعرت حقًّا بأنها غير قادرة على تولي السلطة.
أيد كاماراج رئيس حزب المؤتمر والسيندكيت شاستري، وبعد الكثير من المناورات السياسية انسحب ديساي على مضض من الانتخابات. ومع الأول من يونيو أجمع اختيار حزب المؤتمر على شاستري. مساء ذلك اليوم، بعد زيارة موقع حرق جثمان نهرو، عرج شاستري على إنديرا في تين مورتي، واقترح عليها من جديد أن تصبح رئيسة الوزراء. لكن هذا الاقتراح كان حقيقة بادرة لا معنى لها. فحتى إن لم ترفض إنديرا ثانية ذلك الاقتراح — الذي رفضته بالطبع — لم يملك شاستري أن يقدم منصب رئيس الوزراء لها. من ثَم صباح اليوم التالي في البرلمان تقدم رئيس الوزراء المؤقت ناندا باقتراح بانتخاب شاستري رئيسًا للحزب، وأيد ديساي الاقتراح، وجرى تنفيذه.43
لما وقف لال بهادور شاستري بقامته القصيرة (حيث يبلغ طوله بالكاد ١٥٢ سنتيمترًا) ليلقي كلمته في البرلمان أثنى على صمود إنديرا، وقال إنه يأمل أن «تواصل تعاونها معنا». فقد فطن إلى أن مجلس الوزراء يجب أن يضم فردًا من آل نهرو للحفاظ على الاستقرار، ولهذا عرض على إنديرا فعليًّا منصبًا في مجلس الوزراء مباشرة. فيما بعد زعمت إنديرا أن شاستري عرض عليها منصب وزيرة خارجية الهند لكنها رفضته لأنها فضلت أن تضطلع بمنصب وزاري بمهام أسهل.44 لكن ثمة من يشككون في زعمها ذاك.

عللت إنديرا رفضها منصب وزيرة الخارجية بأن الحزن سيطر عليها، وبأنها أرادت أن تكرس نفسها لإعداد نصب تذكاري لأبيها. إذ احتل هذا قطعًا أهمية لها، فقد أشار شاستري بالفعل إلى أنه لا يرغب في الانتقال للعيش في بيت تين مورتي، من ثَم تقرر أن يتحول ذلك البيت الذي كان سابقًا بيتًا للقائد الأعلى البريطاني إلى مكتبة ومتحف تذكاريين لنهرو. وتقرر أن تشرف إنديرا على كل نواحي إنشائهما، وتلك كانت مهمة جسيمة، لذا رفضت إنديرا — حسبما زعمت — أن تضطلع بمنصب وزيرة الخارجية الشاق (هذا إن كان قد عُرض عليها) وآثرت أن تضطلع بمنصب وزيرة الإعلام الذي يتطلب جهدًا أقل. غير أن المهم في الأمر هو أنها وافقت فعليًّا على الانضمام إلى حكومة شاستري.

ترى لماذا؟ قبل أقل من شهرين كتبت إلى دوروثي نورمان تصف كيف أنها صارت في أمس الحاجة للهروب من الهند والسياسة، وتمحورت رسائلها في العامين الماضيين فعليًّا حول هذا الموضوع. لماذا إذن قبلت عرض شاستري؟ مما لا شك فيه، نبع هذا إلى حد بعيد من إحساسها بأن واجبها هو استكمال عمل أبيها، من دافع إبداء العزم على مواصلة مسيرته. لكن ثمة حقيقة واضحة وراء ذلك، وهي أنها احتاجت إلى وظيفة. فعندما توفي نهرو لم يترك لها بخلاف منزل آناند بهافان — الذي استنزف في حد ذاته أموالًا كثيرة — إلا القليل من الأملاك. ولم يتخذ أي تدابير مالية احتياطية من أجل مستقبل ابنته. فإنديرا لم ترث منه باستثناء ممتلكاته ومنزل الأسرة إلا عائدات بيع مؤلفاته، التي لم تكن ثابتة، ولم تدر مالًا كثيرًا. فوق ذلك لم يعد لديها بيت في دلهي. ففي الواقع قبل قبل هذا الوقت تسلمت في وقت قصير رأت أنه ينم عن افتقار إلى الذوق إنذارًا بإخلاء بيت تين مورتي. لقد كان تولي منصب في مجلس شاستري الوزاري ليوفر لها راتبًا ويؤمن لها سكنًا في منزل حكومي من طابق واحد. وقد خُصص لها منزل حكومي تقليدي كائن في ١ شارع سافدارجونج رود حيث ستسكن فيه طوال العشرين عامًا القادمة من حياتها فيما عدا ثلاثة أعوام في أواخر سبعينيات القرن العشرين.

بالطبع كان على إنديرا أن تصبح أولًا عضوًا في البرلمان كي تصير عضوًا في مجلس الوزراء. كانت الخطوة الطبيعية لذلك هي الترشح في الانتخابات الفرعية القادمة عن دائرة والدها الانتخابية، دائرة فالبور، غير أن أخت نهرو السيدة فيجايا لاكشيمي بانديت طمعت في ذلك المنصب، ولو أنها أوضحت لإنديرا أنها ستتنحى عنه إن رغبت في ذلك. لكن إنديرا شعرت بأنها عاجزة عن مواجهة انتخابات فرعية لعضوية المجلس الأدنى للبرلمان، واختارت بدلًا من ذلك أن تصبح عضوًا في المجلس الأعلى له بتعيين من رئيس الهند.

جاء ترتيب إنديرا في مجلس شاستري الوزاري في المرتبة الرابعة بعد شاستري نفسه، ووزير الداخلية جولزاري لال ناندا، ووزير المالية تي تي كيه. غير أن هذا الترتيب لم يعكس الدور الذي اختارت في البداية أن تضطلع به، وذلك كان دورًا صغيرًا. فنادرًا ما تحدثت في اجتماعات البرلمان أو المجلس الوزاري. مع ذلك رأى شاستري أنها قد تكون ذات نفع. وأرسلها في أكتوبر عام ١٩٦٤ إلى لندن لتمثيل الهند في مؤتمر رؤساء وزراء دول الكومنولث. وفي اليوم الذي أُعلن فيه في الصحف أن شاستري عيَّن سواران سينغ ليكون وزيرًا للخارجية، زار إندر مالهوترا إنديرا. فوجدها ثائرة، ومع أنها أخبرت الأخير بأنها لا تود الاضطلاع بذلك المنصب، شعرت بأنه كان على شاستري استشارتها في تعيين سواران سينج.45 لقد شعرت بأن شاستري استخف بها، ومنذ تلك اللحظة بدأ استياؤها منه. عندها أدركت أنه أرادها في البرلمان، لكنه لم يرد أن تحتل منصبًا ذا نفوذ. ولتثبت جدارتها وتؤكد خبرتها الكبيرة في مجال الشئون الخارجية — وهي خبرة افتقر إليها كل من شاستري وسواران سينج بالمقارنة بها — سافرت من لندن إلى بلغراد حيث التقت تيتو، ثم قصدت موسكو حيث تباحثت مع رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي الجديد أليكسي كوسيجين. وكان يُقال إن محادثاتهما كانت «ودية جدًّا، وبناءة، وصريحة، تتسم بدفء المشاعر وصدقها».46 وفيما بعد زارت فرنسا والولايات المتحدة ويوغوسلافيا وكندا ومنغوليا وبورما والاتحاد السوفييتي مجددًا ممثلة الحكومة الهندية.

كانت فترة تولي إنديرا لمنصب وزيرة الإعلام مثمرة إلى حد ما، إلا أنها كانت بالكاد فترة مثيرة للإعجاب. لقد اعتبرت الإذاعة والتليفزيون وسائل تعليمية. وأطلقت إذاعة باللغة الأردية، وإذاعة موجهة للدول الأجنبية، وأطالت ساعات البث، وشجعت على إذاعة المزيد من الأمور المثيرة للجدل على الهواء. إلا أن تأثيرها كعضو في الحكومة الهندية كان أكبر في المجالات التي تقع خارج حيز اختصاص وزارتها.

ومثال على ذلك موقفها إزاء أعمال الشغب التي اندلعت بسبب اللغة في مدراس في مارس عام ١٩٦٥. كان ذلك هو العام الذي نص فيه الدستور الهندي أن تحل اللغة الهندية محل اللغة الإنجليزية كلغة رسمية للهند. وقد ثارت القلاقل في جنوب الهند الذي يتحدث التاميلية أيضًا، حيث بلغ الحد بمعارضي اللغة الهندية حرق أنفسهم علنًا. قرر شاستري وكاماراج في دلهي الانتظار إلى أن تنتهي الأزمة، أما إنديرا فقد استقلت على الفور طائرة إلى مدراس، وهناك طمأنت المعارضين للغة الهندية، وساعدت في إحلال السلام من جديد. لكن شاستري انزعج جدًّا من الطريقة التي تخطته بها. فناقش إندر مالهوترا معها الوضع فأخبرته بأنها لا تعتبر نفسها وزيرة الإعلام والإذاعة وحسب، وإنما أيضًا «واحدة من قادة الدولة»، وقالت بثقة: «هل تعتقد أن بإمكان تلك الحكومة أن تصمد إن استقلت اليوم؟ أقول لك إن هذا لن يحدث. نعم تخطيت رئيس الوزراء، وسأقوم بذلك ثانية إن دعت الحاجة لذلك.»47

كذا لعبت إنديرا دورًا محوريًّا في أزمة أخرى في كشمير في أغسطس عام ١٩٦٥. ففي ٨ أغسطس تظاهرت بالذهاب إلى سارينجار لقضاء إجازة، غير أنها فطنت إلى أن الوضع هناك مشتعل. وقد علمت فور ما حطت طائرتها هناك تقريبًا بأن القوات الباكستانية متخفية في زي متطوعين مدنيين تأهبت للاستيلاء على سارينجار، وإثارة انتفاضة مؤيدة لباكستان في كشمير. فنُصِحَت باستقلال أول رحلة جوية عائدة إلى دلهي، لكنها رفضت. ولم تمكث هناك وحسب بل اتجهت بطائرتها إلى جبهة القتال أثناء نشوب المعارك. فامتدحتها الصحافة بأنها «الرجل الوحيد في مجلس وزراء من نساء عجائز». وبعدئذٍ عادت إلى دلهي، ثم عادت مجددًا إلى كشمير لما بلغت الاعتداءات ذروتها في سبتمبر. وقالت لجمع كبير في سارينجار: «لن نفرط في شبر من أرضنا للمعتدين». وتفقدت المناطق الواقعة على حدود ولاية البنجاب، التي تضررت ضررًا بالغًا من القنابل، وزارت المستشفيات العسكرية في فيروزبور، ثم واصلت جولتها إلى أبوهار وفازيلكا وأمبالا وأمريتسار وجورداسبور، ووفقًا لتقارير المراسلين الصحفيين، «أينما ذهبت السيدة غاندي استقبلتها الحشود المتحمسة».

وكما حدث في مدراس سُرقت الأضواء من شاستري. لكنه لم يظل بعيدًا عنها لوقت طويل. فقد لحقت الهزيمة بالجيش الباكستاني، وفرضت الهند وقف إطلاق النار في ٢٣ سبتمبر. وظلت كشمير جزءًا من الهند، ومع إحلال السلام ضُمِن انتماء كشمير إلى الهند من جديد، وصار شاستري ذلك الرجل ضئيل الحجم بطلًا بين عشية وضحاها بعد أن كان أضحوكة ومحل سخرية. ووفقًا لإندر مالهوترا «استشاطت إنديرا غضبًا» إثر ذلك. ويزعم أن شاستري فاض به الكيل منها، فخطط للتخلص منها بإرسالها لبريطانيا كمندوبة سامية للهند.48
لكن آنذاك جذبت إنديرا حولها دائرة من الأصدقاء والمستشارين، كانت حقيقة جماعة حصرية تؤمن بأن إنديرا لا شاستري هي المستقبل. وقد ضمت تلك الدائرة دينيش سينغ، وهو أمير وسيم شغل منصب وزير الشئون الخارجية، وأسوكا مِهتا؛ نائب رئيس لجنة التخطيط، وإندر جوجرال؛ الذي بدأت معرفته الوثيقة بإنديرا من خلال أخيه الرسام ساتيش جوجرال الذي رسم إنديرا ونهرو، والصحفي روميش ثابار، وقد لعب دينيش وإندر دور «رأس الأفعى».49 لكن لا شك أن جميع أفراد تلك الجماعة حرضوا إنديرا وأذكوا عداءها لشاستري.
في الواقع لم تبدأ الشرارة الأولى لطموح إنديرا السياسي جديًّا إلا عند ذلك الحين (عام ١٩٦٤، و١٩٦٥)، ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى تأثير جماعتها عليها. فقبل أقل من عام كانت تحلم بأن تكون لها حياتها الخاصة في إنجلترا. أما آنذاك فقد صارت واثقة بأنها قائدة قومية، بإمكانها أن تتغلب على رئيس الوزراء متى أرادت، وأضحى ازدراؤها للحكومة (شاستري) واضحًا. فقد انتقدت شاستري صراحةً قائلة عنه للمراسل الصحفي كولديب نايار في مقابلة صحفية أجراها معها في نوفمبر عام ١٩٦٥ إن شاستري قد «حاد عن الطريق الصحيح»، وتناسى الاشتراكية وسياسة عدم الانحياز.50 لقد كانت إنديرا إبان حياة نهرو محط اهتمام سياسي دائمًا، تحظى بنفس الاعتبار والاحترام الذي يحظى به والدها، لكنها آنذاك شعرت بأنها صارت مهملة ومتجاهلة، لذا بدا كما لو أنها تسعى إلى تأكيد حقها في خلافة أبيها.

إلا أن ذلك التفسير لا يفي بالحقيقة. لقد عاشت إنديرا في دائرة الضوء طوال حياتها تقريبًا، وفي قلب السلطة السياسية لعشرين عامًا. لقد تمنت من وقت لآخر أن تحظى بحياة عادية خاصة بها، إلا أن هذا كان وهمًا نوعًا ما. لم تكن حينذاك أقرب إلى التمتع بحياة عادية خاصة بها، ولكنها ألقيت بعيدًا عن كرسي السلطة. وفوق ذلك رأت أن سياسات والدها وخططه أهملت. غير أن ما استحثها بقدر ذلك في صراعها مع شاستري هو كبرياؤها الذي جرح. فهي لم تكن لترضى بأن تقبع في الظل، في المرتبة الرابعة في مجلس الوزراء.

ومع هذا فقد ظلت إلى ديسمبر عام ١٩٦٥ تزعم أنه ليست لديها طموحات سياسية. فلما سمعت فيجايا لاكشيمي بانديت شائعات بأنها مع كل ذلك قررت بعد إنعام في التفكير أنها تريد تمثيل دائرة أبيها الانتخابية القديمة (دائرة فالبور)، وبأنها مستاءة من تمثيلها لها في البرلمان. كتبت إليها في السادس من ذلك الشهر تعرض عليها أن تتخلى لها عن منصبها. لكن إنديرا ردت عليها برسالة بريدية تجيبها فيها بحسم قائلة:
«لا أعلم مع من كنت تتحدثين، ولكن لا يوجد أي دليل إطلاقًا على أنني مستاءة من تمثيلك لفالبور … ربما كان اشتغال المرء بالسياسة بدون أن تكون لديه طموحات سياسية غريبًا، لكن أخشى أنني من ذلك النوع الغريب … لم أشأ أن أنضم إلى أي من البرلمان أو الحكومة. وإنما كانت هناك أسباب طاغية آنذاك اضطرتني لقبول تولي وزارتي. والآن ثمة أزمات كثيرة تتوالى واحدة تلو الأخرى حتى إن كل مرة أقدم فيها على الانسحاب يبدو التوقيت غير مناسب.»51
لا شك أن إنديرا لم تكن قط صريحة أو صادقة مع عمتها. لكنها بعدما كتبت لها أنها لا تحمل أي طموحات سياسية، ما لبثت أن أخبرت آخرين المثل تقريبًا، وفي ذلك مجموعة المستشارين التي أرادتها أن تحل محل شاستري. وفي ديسمبر عام ١٩٦٥ تناولت العشاء للمرة الأولى في منزل أحد المقربين منها وهو الصحفي اليساري روميش ثابار. كان ثابار وزوجته راج ناشطين مثقفين، وقد ظهر تحمس إنديرا لمصادقتهما عندما جاءت راج بسيارتها لبيت الأخيرة لتصحبها معها. عندها صاحت إنديرا تنادي سائقها الخاص الذي اختفى فجأة. فأشارت راج لها بأنها ليست بحاجة إلى السائق لأنها ستعيدها بنفسها إلى البيت، لكن إنديرا صممت على العثور على السائق قائلة لراج: «لا بد أن يعرف أين تقيمين، فهذه لن تكون آخر مرة.» استمتعت إنديرا بأمسيتها مع ثابار وراج وأمتعتهما بنوادر عن قادة حزب المؤتمر خاصة شاستري، وعبرت عن شعورها بالأسى على حال حزب المؤتمر، و«تحدثت جديًّا عن احتمال اعتزالها الحياة السياسية برمتها. لم ترَ أنها تملك فرصة للنجاح فيها … وقد بدت صادقة في عزمها على أن تعتزل، وتكون مواطنة عادية».52

•••

في ٣ يناير عام ١٩٦٦ سافر شاستري جوًّا إلى طشقند في آسيا الوسطى السوفييتية لعقد محادثات سلام مع رئيس باكستان أيوب خان توسط فيها أليكساي كوسيجين. وفي ١٠ يناير اتفق هؤلاء أخيرًا على عقد تسوية. وفي أولى ساعات ١١ يناير أصيب شاستري بأزمة قلبية توفي على أثرها. وكان آنذاك في الواحدة والستين من العمر، ولم يكن قد أمضى في منصب رئيس الوزراء سوى تسعة عشر شهرًا.

في اليوم نفسه في الواحدة والنصف صباحًا كانت إنديرا في منزلها عندما دق جرس الهاتف. كان المتصل هو سكرتيرها إن كيه سيشان، يتصل ليخبرها بأن شاستري مات في طشقند قبل نصف ساعة. أخبر سيشان إنديرا أيضًا بأن وزير الداخلية جولزاري لال ناندا اتجه مباشرة إلى بيت الرئيس بعدما أُبلغ بوفاة شاستري. فطلبت إنديرا سيارة وقصدت راشتراباتي بهافان مقر الرئيس. وهناك في الثالثة والربع صباحًا في حضورها هي ووزير المالية فقط، قَلَّد الرئيس الهندي ناندا منصبَ القائم بأعمال رئيس الوزراء محلفًا إياه اليمين.

لما عادت إنديرا من منزل الرئيس في الرابعة صباحًا هاتفت روميش ثابار، وطلبت منه القدوم في الحال. وجد ثابار إنديرا متوترة وهي تصف مراسم تقليد ناندا في راشتراباتي بهافان؛ حيث وقف الرئيس مرتديًا لباس الدهوتي في مواجهة ناندا مرتديًا الزي نفسه وحولهما الخدم وهم يرتدون بزات مزركشة باللون الذهبي والأحمر. وبعدما فرغت إنديرا من وصف المشهد تطرقت إلى «السؤال الأساسي» الذي أرادت أن تسأله لثابار. آنذاك كانت على اتصال ببعض من مستشاريها، وهؤلاء حثوها على «السعي لتولي السلطة». وقد أرادت من ثابار أن يدلي لها بدلوه في ذلك.

سألها ثابار: «ما الذي تودين القيام به؟»

أجابت: «لا شيء.»

غير أن استدعاءها لثابار إلى بيتها في منتصف الليل لمناقشة تلك المسألة قد عنى بلا شك أن إجابتها تلك — على أحسن تقدير — فاترة. كانت تحاول أن تتعرف على موقف ثابار، وهو رجل توليه ثقتها. أرادت منه أن يقنعها أو يثنيها عن ذلك المستقبل الذي صار يناديها. ولاح لها فجأة؛ لأن الضلع الثالث من مثلث القوة الذي وقف في طريقها — فيروز غاندي وجواهرلال نهرو ولال بهادر شاستري — مات فجأة. فهي لم تكن لتصعد إلى قمة السلطة أبدًا لو لم يختفِ هؤلاء الرجال من المشهد السياسي. لم تكن لتصعد بدلًا من فيروز لأنها كانت تولي زواجها وزوجها أهمية أكبر من مستقبلها السياسي، ولا بدلًا من نهرو لأنها ابنة بارة بأبيها، ولا بدلًا من شاستري لأن صناع القرار السياسيين والمؤثرين في الحكم في حزب المؤتمر آثروه.

في عصر ١١ يناير لما هبطت الطائرة التي تحمل جثمان شاستري وسط سحب الشتاء الكثيفة التي غطت دلهي استقبلها سيل من المعزين الذين ملئوا مطار بالام ومدرجاته. كان من بين المعزين الذين ينتظرون وصول رفات رئيس الوزراء منجم معروف يرتدي — مع برودة الجو الشديدة — ثوبًا من الخادي الأبيض وخف شابالس. كان رجل دين يستشار كثيرًا في الدوائر السياسية، فلما لمحه أحد كبار قادة حزب المؤتمر من بعيد هرع إليه وسأله: «ما الذي تنبأت به النجوم؟» أجاب: «ثلاثية.»

كان كل من نهرو وشاستري من الله آباد. والآن أنبأ المنجم أن رئيس وزراء الهند القادم سيكون كذلك من الله آباد.