إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثالث عشر

أنا القضية

مع ما توقعه المنجم ظل الجواب على مسألة من يكون ثالث رؤساء وزراء الهند غير معروف لعدة أيام. وربما لم تكن إنديرا نفسها — كما أبدت لروميش ثابار — قد حسمت قرارها بعد. لكن الحال لم تكن كذلك لموراجي ديساي. فبعدما خسر مقعد رئيس الوزراء عام ١٩٦٤ صمم هذه المرة على الفوز به. إلا أنه لم يكن وحده. ففي صباح اليوم التالي لأدائه قسم تولي منصب رئيس الوزراء المؤقت سعى جولزاري لال ناندا إلى كسب تأييد إنديرا له في الترشح لمنصب رئيس الوزراء. وفي مساء الثلاثاء ١١ يناير عام ١٩٦٦، أي قبل مرور أربع وعشرين ساعة على وفاة شاستري، ترشح وزير الدفاع واي بي تشافان لمنصب رئيس الوزراء. وبعد ذلك بيومين أصبح عدد المتنافسين على مقعد رئيس الوزراء سبعة: ديساي، وإنديرا، وناندا، وتشافان، وإس كيه باتيل، وسانجيفا ريدي، بخلاف كاماراج نفسه. لكن كاماراج، مع كونه سياسيًّا محنكًا، افتقر إلى التأييد القومي. فيذكر أنه قال لمن حاولوا إقناعه بالترشح لخلافة شاستري: «كيف وأنا لا أتحدث الإنجليزية ولا الهندية؟!»1

مهد رفض كاماراج الترشح لمنصب رئيس الوزراء الطريق أمام إنديرا، خاصة فيما يتعلق بالانتخابات العامة المزمع عقدها العام التالي، التي قُدِّر لها أن تصبح أول انتخابات عامة تعقد منذ وفاة نهرو. تمتعت إنديرا بالزعامة على المستوى القومي، وكانت تتحدث اللغتين الإنجليزية والهندية، ولم يُعرف عنها أنها تتعاطف مع طائفة بعينها أو منطقة محددة أو ديانة بذاتها أو فصيلة دون أخرى، وتمتعت بالشعبية بين المسلمين والهاريجان وغيرهم من الأقليات والفقراء. وفوق كل شيء فهي سليلة آل نهرو. لكل هذه الأسباب وقع عليها اختيار السينديكيت الذي اختار شاستري فيما مضى لمنصب رئيس الوزراء، وصار وقتئذٍ يفكر في إنديرا.

غير أن طموح ديساي وإصراره كانا من العوامل التي ضمنت استمرار المعركة بعدما انسحب بقية المتنافسين من السباق. قبل تسعة عشر شهرًا، أي بعد وفاة نهرو، حل شاستري محل نهرو في منصب رئيس وزراء الهند بعد حصوله على موافقة الحزب بالإجماع؛ موافقة نسقها بنجاح كاماراج رئيس الحزب. والآن، وبعد وفاة شاستري، بات من المحتم نشوب معركة علنية ومحتدمة بين أعضاء حزب المؤتمر الوطني في البرلمان سواء في مجلس النواب أو في مجلس الولايات. ما أعاب ديساي من منظور السينديكيت هو أنه رجل مستقل برأيه، يتشدد له ويستبد به، لقد اتصف ديساي بكل عيوب غاندي، وفي الوقت نفسه لم يمتلك أيًّا من فضائله. ولم تكن أفعاله سوى نتيجة لآرائه المتشددة وقناعاته السياسية؛ هو رجل محافظ من الناحية الشخصية والسياسية. وكان هندوسيًّا ونباتيًّا متزمتًا أيضًا، لا يقرب المسكرات، وأمسك عن ممارسة الجنس منذ السابعة والعشرين من عمره. رفض ديساي كل ما أتى به الغرب من علوم وطب وآثر طرق التغذية التقليدية، ومن بينها شرب كوب من بوله الخاص كل صباح.

امتلكت إنديرا كل المزايا وافتقر ديساي إليها كلها، رأى قادة حزب المؤتمر أن ضعف إنديرا هو أفضل مزاياها، أو — بالأحرى — اعتقادهم بأنها ضعيفة. وفي حقيقة الأمر كان اختيار إنديرا قائمًا على سلبياتها وليس إيجابياتها؛ فقد جرى اتخاذ القرار استنادًا على «غموضها وعدم وضوح اتجاهها» السياسي. أقنع كاماراج تابعيه أن إنديرا ستفعل كل ما يأمرونها به، وسيتحكمون في مسرح الأحداث كما لو كانوا يستخدمون جهاز تحكم عن بُعد. وبذلك يتاح لهم التمتع بأفضل أنواع النفوذ السياسي على الإطلاق؛ النفوذ الذي يعطي صاحبه «حق اتخاذ القرارات بدون عبء تحمل مسئوليتها».2 اعتقد قادة حزب المؤتمر أن ذلك ممكن، لا لأن إنديرا افتقرت إلى الخبرة الإدارية وحسب، بل لأنها أيضًا كانت امرأة. فالفكرة التي قام عليها اختيارها هي أن تشغل هذا المنصب على نحو صوري فحسب شأنها شأن سوشيتا كريبالاني رئيسة حكومة ولاية أوتار براديش، لقد افترض كاماراج والسينديكيت أن إنديرا ستكون «أداة طيعة ضعيفة … كقطعة من الصلصال تُشَكَّل حسب الحاجة».3 وفوق ذلك، ولأنها ابنة نهرو، ستكون مساعدتها ضرورية ليفوز حزب المؤتمر بانتخابات عام ١٩٦٧، وبعد تلك الانتخابات يمكن الإتيان ببديل مناسب ليخلفها. وعلى حد تعبير أحد أعضاء الحزب الذي سيشغل في المستقبل منصب رئيس وزراء الهند؛ ناراسيمها راو، لم تكن إنديرا إلا «أداة لجمع الأصوات». وبعد الانتخابات كان المخطط أن «تتراجع عن مكانتها أو يجبروها هم على التراجع … ليتولى قائد أكثر خبرة … إدارة شئون الدولة».4
لم تكن إنديرا خيار كاماراج وحسب، بل أيضًا خيار دي بي ميشرا رئيس حكومة ولاية مادهيا الذي لعب دورًا أساسيًّا في تحديد خليفة نهرو الثاني، وذلك لتأثيره على رؤساء حكومات الولايات الأخرى. في الواقع، في ١١ يناير، في الساعة الخامسة والنصف عصرًا، أي بعد وفاة شاستري ببضع ساعات فقط، هاتفت إنديرا ميشرا في مدينة بوبال وطلبت منه القدوم فورًا إلى دلهي؛ إذ كانت ترى أنه سيكون حليفًا قويًّا لها.5 وقد كانت محقة في ذلك؛ فقد استطاع ميشرا أن يقنع ثمانية من رؤساء حكومات الولايات الأخرى بتأييدها. وقد أصدر هؤلاء في ١٥ يناير الثاني بيانًا يؤيدون فيه إنديرا. وفي اليوم نفسه انضم إلى مؤيديها أربعة رؤساء حكومات آخرين، فصارت تحظى بتأييد اثني عشر رئيس حكومة من مجموع أربعة عشر. وفي مساء ذلك اليوم احتشدت جموع كبيرة خارج منزلها في سافدارجانج رود لتهنئتها.
كان من أهم حلفاء إنديرا أيضًا رئيس الهند آنذاك رادهاكريشنان سارفيبالي. بدا رادهاكريشنان ظاهريًّا طوال الصراع الدائر بين إنديرا وديساي أنه لا يهتم بما يدور على الساحة، ووقف منه موقف المحايد، غير أنه في حقيقة الأمر كان من مؤيدي إنديرا بل «دَرَّبها على كيفية المناورة». كان المفترض أن يكون رادهاكريشنان حياديًّا بحكم أنه الرئيس، لكنه أعلن براءته من تهمة التصرف على نحو غير لائق وبرر مؤازرته لإنديرا بأنها نابعة من صداقته القديمة لنهرو وبأنه «يجب أن يكون ناصحًا لتلك المرأة المترددة التي تعوزها الخبرة». لكن وفقًا لإس جوبال ابن رادهاكريشنان تعدى دور رادهاكريشنان إسداء النصح لإنديرا حول «توقيت اتخاذ الخطوات الحاسمة». كان الرئيس يتشاور سرًّا مع قادة المؤتمر البارزين ويبلغ إنديرا بمن يؤيدها أو يعارضها.6
بعد ذلك، بعد عملية تصفية للمرشحين، برزت إنديرا كمرشحة ائتلاف، لا لأنها مرشحة قوية، بل لأن منافسيها اتصفوا بكثير من السلبيات والعيوب، وأيضًا لحاجة السينديكيت ورؤساء وزراء حكومات الولايات لمرشح بإمكانه هزيمة ديساي.7 وعت إنديرا ذلك تمامًا. فقالت تحديدًا: «لم يكونوا مؤيدين لي بقدر ما كانوا معارضين لديساي.»8 غير أنها لم تعلن أنها تنوي الترشح قط. بل انتظرت «أن تدعى» إلى ذلك؛ فكانت مدينة بالفوز لكاماراج وميشرا ورادهاكريشنان لترشيحهم لها، ولوالدها لمنحه لها اسمها وتهيئتها لهذا المنصب، ولديساي لإصراره على إقامة اقتراع سري. لقد كانت — ببساطة شديدة — الشخص الوحيد الذي يملك فرصة أكيدة للفوز.9
سرت شائعات تفيد أن عمة إنديرا فيجايا لاكشيمي بانديت أيدت ديساي، لكن بعدما اتضح لها أن كفة إنديرا هي الراجحة أصدرت بيان تأييد لها، إلا أن هذا البيان حمل بين ثناياه بعض عيوب إنديرا. قالت: «لا شك أن إنديرا غاندي ستصبح رئيسة وزراء الهند المقبلة. نحن آل نهرو نفتخر بعائلتنا. وعندما يقع الاختيار على أحدنا ليكون رئيس وزراء ستعم البهجة. إن السيدة غاندي تمتلك مؤهلات المنصب، ما ينقصها الآن هو الخبرة. ومع بعض الخبرة ستصبح رئيسة وزراء جيدة … إن صحتها ضعيفة جدًّا، لكن بمساعدة زملائها ستتدبر أمرها.»10

•••

أشرق يوم ١٩ يناير من عام ١٩٦٦، اليوم السابق لانتخابات ممثلي حزب المؤتمر في البرلمان بطقس بارد وسماء ملبدة بالغيوم. استيقظت إنديرا في وقت مبكر جدًّا وانتقت ملابسها بعناية، فارتدت ساريًا أبيض من قماش الخادي (الساري نفسه الذي ارتدته عندما صارت رئيسة لحزب المؤتمر)، وشالًا كشميريًّا بلا أي زخارف، وعقودًا من اللون البني الغامق تعودت ارتداءها على أنها تمائم حظ في الأوقات الصعبة. أهدتها إياها واحدة من معلمي كامالا الروحيين تدعى أناندامايي، وهي «قديسة» بنغالية. قبل أن تستيقظ دلهي ركبت إنديرا سيارتها وجابت شوارع المدينة الخاوية قاصدة راجغات وشانتي فانا على ضفاف نهر يامونا، ووقفت في صمت أمام بقعتي حرق جثة المهاتما غاندي وجثة أبيها. وبعدها قصدت تين مورتي الذي كان قد صار متحفًا قوميًّا إكرامًا لأبيها، فسارت بين أروقته الصامتة، حتى وقفت أمام صورة أبيها.11
بعد تين مورتي اتجهت إنديرا إلى البرلمان برفقة جولزاري لال ناندا القائم بأعمال رئيس الوزراء، وعضو البرلمان سوبهادرا جوشي التي عملت قبل سنوات عديدة معها في معسكر دلهي للاجئين وقتما خضعت الهند للتقسيم. وعلى مدخل البرلمان أهدى أحد الأشخاص إنديرا باقة من الزهور. اقتطفت منها سوبهادرا زهرة وشبكتها بدبوس في شال إنديرا.12 وبتلك الزينة دلفت إنديرا إلى مجلس البرلمان كما كان أبوها يفعل دائمًا، فقد كان يضع في عروة معطفه الشيرواني زهرة ندية.

بدأ اجتماع لجنة الانتخابات بحزب المؤتمر الوطني الهندي في الحادية عشرة صباحًا، واستمر الاقتراع السري فيه لأربع ساعات ونصف الساعة. حضر الاجتماع خمسمائة وستة وعشرون عضوًا برلمانيًّا من حزب المؤتمر أدلوا بأصواتهم واحدًا بعد واحد في غرفة اقتراع سرية مغلقة. وبعدها جرى عد الأصوات، وهي مسألة استغرقت كثيرًا من الوقت والجهد. وخارج قاعة البرلمان الكبرى المستديرة اجتمع حشد كبير. فلما خرج مسئول تنظيم أنشطة الحزب إلى شرفة القاعة لإعلان نتيجة الاقتراع سأله أحد المحتشدين: «الفائز ذكر أم أنثى؟» أجاب: «أنثى»، فهلل الحشد. لقد تغلبت إنديرا على ديساي بثلاثمائة وخمسين صوتًا مقابل مائة وتسعة وستين صوتًا، (وكلاهما لم يدلِ بصوته في هذه الانتخابات).

داخل قاعة البرلمان الكبرى، عندما أعلن أحد مسئولي الحزب النتائج، سارت إنديرا إلى المنصة، ونطقت أولى كلماتها بعد أن أصبحت رئيسة للوزراء. تحدثت إنديرا باللغة الهندية قائلة: «إن السعادة تملأ قلبي، لا أعلم كيف أشكركم … وأنا أقف أمامكم الآن يحضرني قادتنا العظام: المهاتما غاندي الذي نشأت في ظله وتأثرت به، وأبي البانديت، ولال بهادر شاستري. هؤلاء القادة أضاءوا لنا الطريق، وأتمنى أن أسير على دربهم.»13 وقبل أن تغادر قاعة البرلمان الكبرى قامت ببادرة احترام أخرى؛ فاتجهت إلى حيث يجلس منافسها موراجي ديساي وسألته وهي تحييه بالطريقة الهندية التقليدية فضمت يديها ووضعتهما أمام صدرها.

«هل تبارك نجاحي؟»

أجابها باقتضاب: «لك مباركتي.»

ثم خرجت إنديرا من البرلمان لتجد في انتظارها حشدًا متهللًا استقبلها بالهتاف وأكاليل الزهور. ودوت الهتافات: «تحيا إنديرا غاندي»، و«تحيا الزهرة الحمراء». فمنذ اللحظات الأولى من تولي إنديرا رئاسة الوزراء كان ينظر إليها على أنها وريثة أبيها، بل على أن روحه تسكن جسدها.

بعدها بخمسة أيام، في ٢٤ يناير، أدت إنديرا قسم رئيس الوزراء. فرفعت يدها اليمنى ولتؤكد على صورتها العصرية والعلمانية أدت القسم قائلة: «أؤكد بكل صدق إنني سوف» بدلًا من أن تقول «أقسم بالله إنني سوف».

كانت إنديرا هي المرشح الذي وقع عليه اختيار السينديكيت. لذا دانت له بالفضل، ونتيجة لذلك استطاع كاماراج أن يغلب رأيه في الإبقاء على أغلب أعضاء مجلس وزراء شاستري. وفوق ذلك أُجبرت إنديرا على الإبقاء على وزير الداخلية جولزاري لال ناندا — الذي شغل مرتين منصب القائم بأعمال رئيس الوزراء — رغم رغبتها في التخلص منه. أما الوزراء الجدد الذين استطاعت إنديرا أن تضمهم إلى وزارتها فهم: المثقف الاشتراكي أسوكا ميهتا وتقلد منصب وزير التخطيط، وجي إس باثاك الذي شغل منصب وزير العدل، وفخر الدين علي أحمد — من ولاية آسام — الذي اضطلع بإدارة وزارة الري والطاقة، والزعيم جاجيفان رام — وهو من طائفة الهاريجان— الذي مُنح وزارة العمل. أما ديساي، فطبعًا — كما اعترف في سيرته الذاتية — لم يُدْع إلى الانضمام إلى مجلس الوزراء، إلا أنه قال: «وحتى لو دعيت، لم أكن لأقبل بذلك.»14

•••

في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد خمسة أيام من أداء إنديرا لليمين، ظهرت صورتها على الغلاف الملون لمجلة «تايم» الذي حمل عنوانًا يقول: «الهند المضطربة بين يدي امرأة»، وقد بدت في تلك الصورة امرأة بلغت حد الكمال وقد خط الشيب شعرها ووضعت وردة حمراء في فستانها. في تلك الأثناء حزمت المؤلفة بيتي فرايدان — التي تصدَّر كتابها «الغموض الأنثوي» قائمة أفضل الكتب مبيعًا — حقائبها مسافرة إلى الهند لكتابة مقال طويل عن شخصية إنديرا لحساب مجلة «لاديز هوم جورنال». شرحت فرايدان في مقالها كيف استطاعت «السيدة غاندي أن تحطم الغموض الأنثوي». أما في لندن فقد كتب جون جريج في صحيفة جارديان يقول: «على الأرجح أنه على مر التاريخ لم يسبق لامرأة أن حملت عبئًا أكبر، ومما لا شك فيه لم يسبق لدولة بأهمية الهند أن أوكلت كل تلك السلطة إلى امرأة بناءً على ديمقراطية … إذا نجحت إنديرا في إدارة منصبها فستصيب المفاهيم السائدة عن سيادة الرجل في مقتل.»15

تزامن صعود إنديرا إلى منصب رئيس الوزراء مع نمو الحركة النسائية في الغرب، ومع أن إنديرا نفت أنها من أنصار تلك الحركة، وكانت تنزعج لدى سؤالها عن دورها باعتبارها امرأة تخوض مجال السياسة، فقد سلطت الحركة النسائية الضوء عليها. كان دعاة مساواة المرأة بالرجل أمثال فرايدان يأملون أن تصبح المكانة القيادية القوية التي بلغتها إنديرا وضعًا طبيعيًّا للمرأة، وليس خرقًا للمألوف إلى الأبد. ومع أن إنديرا داومت على نفي انتمائها إلى تلك الحركة فإنها كانت صريحة ومعبرة للغاية عندما تتحدث إلى الكاتبات أمثال فرايدان، والصحفية أوريانا فالاسي، والكاتبة السابقة لسيرتها أوما فاسوديف، والباحثة الأمريكية ماري كاراس.

أما داخل الهند فلم يُنظر إلى إنديرا على أنها رائدة للحركة النسائية. بل كان جنسها بوجه عام يضعها في موقف ضعف، وهذا مما يعكس دافع السينديكيت من تنصيبها رئيسة للوزراء. فبعد وقت قصير من انتخاب حزب المؤتمر الوطني لإنديرا رئيسة للوزراء كتبت جريدة «إيكونوميك آند بوليتيكال ويكلي» التي تصدر في بومباي — ما ينم عن بصيرة جديرة بالاعتبار— «إن المرأة التي تتولى مقاليد الحكم تظل تحت وطأة القيود الاجتماعية إلى أن توطد قدميها في منصبها. ففي أول فترة حكمها يود قادة مختلف الجماعات أن يوجهوها ويسيطروا عليها، لذا تنشأ بين هؤلاء صراعات فصائلية. وفي تلك الحالة إما أن تقنع الحاكمة الكل بأنها غير منحازة إلى جانب دون الآخر — كما فعلت الملكة إليزابيث الأولى— فتنعم بكرسي الحكم لفترة طويلة، وإما أن تفشل في تجاوز تلك الفترة المضطربة من الحكم».16
في الشهور الأولى لإنديرا رئيسة للوزراء استحوذ على الأذهان وترسخ فيها فكرة وجود سيطرة ذكورية خفية على الحكم. وكان دينيش سينج بالأخص، الأمير السابق لضيعة كالاكانكار، الوسيم الكَيِّس هو من رسخ في الأذهان أنه القائم بهذا الدور. ففي مجلس وزراء إنديرا الأول شغل منصب وزير دولة، ومنذ الأشهر الأولى لإنديرا في منصبها اعتمدت عليه اعتمادًا كبيرًا. ولم يكن نفوذه خافيًا على الأنظار. فقد ورد في أحد القرارات الرئاسية ما يعني أن لإنديرا أن تمنح سينج «ما ترى من الصلاحيات»، وفوق ذلك، في فبراير، بعد شهر من تولي إنديرا رئاسة الوزراء، اتُّهمت في البرلمان بأنها جعلت سينج رئيسًا شبه فعلي للوزراء.17 ويذكر أيضًا أن المؤرخ في إن داتا عندما أخبر كريشنا مينون أنه أهدى رئيس الوزراء نسخة من كتابه عن سيد محمود، قال له كريشنا: «آه، أتعني دينيش سينج؟» ووفقًا للصحفي كولديب نايار فإن «كل ورقة مهمة تتسلمها أو ترسلها السيدة غاندي تمر على دينيش سينج» حتى عام ١٩٦٧.18

كانت إنديرا تعتمد على سينج وتتشاور معه في كل الأوقات. فدارت بطبيعة الحال شائعات تقول إنه عشيقها، وتلك شائعات أزكاها سينج بنفسه. فلما علمت إنديرا أن سينج يستغل علاقته الوثيقة بها لمصلحته الشخصية وتأكد لها ذلك أبعدته؛ في البداية همَّشت دوره بلباقة ثم همشت دوره كثيرًا بعد ذلك. وعندئذٍ حل سكرتير إنديرا بي إن هاكسار، الذي كانت تثق به تمام الثقة، محل سينج وصار مستشارها الأول. ثم هدد سينج بالاستقالة من مجلس الوزراء عام ١٩٦٩، لكن إنديرا قطعت الطريق عليه فنقلته إلى وزارة الشئون الخارجية خلافًا لرغبته.

•••

في يناير عام ١٩٦٦ تردت الهند إلى حال أسوأ مما كانت عليه في أي وقت إبان حكم نهرو أو شاستري. عانت البلاد جفافًا شديدًا أدى إلى نقص الغذاء وحدوث المجاعات في أجزاء كبيرة منها. وتسبب ذلك في حدوث قلاقل، خاصة في كيرالا التي وقعت فيها أعمال شغب احتجاجًا على نقص الأرز. تردت حالة الاقتصاد الهندي بسبب استفحال مشكلة التضخم وعدم كفاية النقد الأجنبي. وظهرت في البنجاب دعوات تطالب بإقامة ولاية بنجابية مستقلة تتحدث اللغة البنجابية. وهددت قبيلة ناجا في شمال شرق الهند بالاستقلال عن البلاد. والأسوأ من ذلك — على الصعيد الدولي — أن العلاقات توترت بين الولايات المتحدة والهند بسبب إمداد الولايات المتحدة باكستان بالأسلحة عام ١٩٦٥ وتأزمت العلاقات أكثر بعد دخول الولايات المتحدة الحرب مع فيتنام.

بعد شهر فقط من تولي إنديرا رئاسة الوزراء وجهت خطابًا للجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في اجتماع عُقد في جايبور. وكانت أزمة الغذاء هي الأكثر إلحاحًا آنذاك. أعلنت إنديرا في الاجتماع بطريقة دراماتيكية أنها ستمتنع عن أكل الأرز حتى تتوفر كميات كافية منه في كيرالا. طالب أعضاء الحزب بإلغاء قرار تقسيم مناطق الغذاء (الذي يقضي بعدم نقل المواد الغذائية من منطقة لأخرى دون موافقة حكومية صريحة) حتى يمكن نقل الأغذية من المناطق التي تمتلك فائضًا غذائيًّا إلى المناطق التي ضربتها المجاعات، غير أن إنديرا تعاملت مع ذلك المطلب بطريقة تنم عن نقص الخبرة، والأدهى أنها في غمرة الجلبة التي سادت الاجتماع طالبت بسحب التعديل الذي يقترح إلغاء قرار تقسيم مناطق الغذاء. وتعهدت بمراجعة سياسة الحكومة الغذائية، فاضطر كاماراج إلى تولي مهمة السيطرة وإعادة النظام إلى الاجتماع.

في دلهي ندى جبين إنديرا خجلًا من أدائها المزري في جايبور. و«في ألم ومرارة» أخبرت صديقتها بوبول جاياكار كيف أن عمتها فيجايا لاكشيمي بانديت زعزعت ثقتها بنفسها في طفولتها عندما نعتتها بأنها غبية وقبيحة. فقد قالت لبوبول في ذلك: «لقد حطم ذلك شيئًا داخلي، فمهما كانت درجة استعدادي ينعقد لساني وأتقهقر إذا هاجمني أحد.» واعترفت بأنها تخشى جلسة البرلمان القادمة.19

وقد اتضح أنها محقة في خوفها؛ فقد بدت في حال يرثى لها عندما اعتلت المنصة في البرلمان. فباستثناء الجولة التي قامت بها إلى الولايات المتحدة لإلقاء محاضرات (والتي بدا فيها أن المحاضرات التي ألقتها ليست من كتابتها)، تكوَّنت خبرة إنديرا في الخطابة في المقام الأول من القيام بالحملات الانتخابية. أما في البرلمانات فقد ثبت أن أداءها ضعيف؛ إذ كانت لحظات الصمت تتخلل كلامها، وافتقرت إلى سرعة البديهة في الرد. فقد قاطعها معارضوها بالتعليقات الساخرة، وحاول زملاؤها إنقاذًا للموقف أن يمرروا لها قصاصات صغيرة من الورق، إلا أنها كانت مع ذلك تتلعثم في الرد. فلقبها الاشتراكي رام مانوهار لوهيا بلقب «الدمية الخرساء»، وقد لازمها ذلك اللقب حتى بعد أن بدأت تكتسب الجرأة على الحديث. وقد أثارت تلك البداية السيئة خوفها من البرلمان وأيضًا ازدراءها له، وبمرور الوقت بات حضورها لجلسات البرلمان يتناقص شيئًا فشيئًا. وأخذت تلغي دوره وتتحاشاه أكثر فأكثر.

أما فيما يتعلق بمنطقة البنجاب فقد أيدت إنديرا تقسيمها كما فعلت قبل خمسة أعوام في بومباي، لكن هذه المرة كانت منطقة البنجاب ستنقسم إلى ولاية هارايانا، وهيماشال براديش، وولاية تدعى البنجاب أصغر بكثير من منطقة البنجاب. غير أن ذلك التقسيم لم يكن عائدًا إلى اللغة إلا في جزء منه. فولايتا هاريانا وهيماشال براديش يسكنهما عدد ضئيل من السكان السيخ (عام ١٩٦٠ لم يزد عدد السيخ في الولايتين عن ٥٪ و٢٪ من مجموع السكان على الترتيب)، في حين نسبة السيخ في ولاية البنجاب الجديدة ستكون ٥٢٪. ومع أن تقسيم البنجاب إلى ثلاث ولايات يمكن أن يكون له ما يبرره وهو أنه قائم على أساس اللغة، فإنه كان يهدد مسألة أخرى ذات طبيعة سياسية وطائفية حساسة بدرجة أكبر بكثير، ستكون لها فيما بعد عواقب كارثية.

•••

في أواخر مارس عام ١٩٦٦ زارت إنديرا الولايات المتحدة، كانت هذه أول زيارة خارجية لها وهي رئيسة وزراء. وقد أكدت أن رحلتها تلك ليست إلا زيارة ودية، لا تسعى بها إلى استدرار عطف الولايات المتحدة. غير أنها أخبرت الصحفي إندر مالهوترا سرًّا أن مهمتها الرئيسية هي «الحصول على الغذاء والنقد الأجنبي من دون أن يبدو أنها تطلبهما».20 كانت الولايات المتحدة قد أوقفت معوناتها إلى الهند (وباكستان أيضًا) إبان الحرب الهندية الباكستانية عام ١٩٦٥، وكانت آنذاك تضع شروطًا لإعادة المعونات إليها. وكذا فعل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي اللذين اشترطا أن تنخفض قيمة الروبية. فأوكلت إنديرا مهمة دراسة تلك المسألة إلى إحدى اللجان. ضمت اللجنة وزير المالية ساشين شودهوري ووزير التخطيط أسوكا ميهتا ووزير الغذاء سي سوبرامانيام، وأيد الوزراء الثلاثة جميعًا خفض قيمة الروبية. وشاركهم هذا التأييد أيضًا بريج كومار نهرو ابن عم إنديرا الذي كان سفير الهند في الولايات المتحدة. وقبل أن تتجه إنديرا إلى الولايات المتحدة أصدرت تلك اللجنة تقريرًا لصندوق النقد الدولي يشير إلى نية الهند تخفيض قيمة الروبية، إلا أنها لم تحدد جدولًا زمنيًّا أو تضع إطارًا لذلك. لكن هذا التقرير لم يُعلَن عنه.21
نُظر إلى زيارة إنديرا إلى الولايات المتحدة آنذاك على أنها سجلت نجاحًا كبيرًا، وتعود وجهة النظر هذه بصورة كبيرة إلى أن الرئيس الأمريكي ليندون جونسون وهو رجل ضخم وقوي البنية من تكساس رأى أن إنديرا امرأة جذابة بدرجة لا تقاوم. لقد أيقظت سحرها الدفين وبدت يومها متألقة، صففت شعرها عاليًا في شكل مستدير، وزينت وجهها بأنواع الماكياج، وارتدت الحلي. (بعكس الشعر الأشعث والساري القطني الخالي من الزخارف اللذين كانتا تظهر بهما في الهند.) وافتتن جونسون بها جدًّا حتى إنه بعد اجتماعه الخاص معها في منزل بريج كومار نهرو مكث هناك لوقت طويل يشرب كأسًا تلو أخرى من ويسكي البوربون المذاب فيه مكعبات الثلج إلى أن وصل المدعوون على مائدة العشاء. ولأنه لم يكن ممكنًا تأجيل بدء العشاء أكثر من ذلك عرضت عليه فوري نهرو وإنديرا بأدب أن ينضم إليهما وغض الطرف عما يقتضيه البروتوكول، فوافق جونسون، مع أن المفترض أن نائب الرئيس هوبرت هامفري كان هو ضيف الشرف.22
لم تكن أغلب الخطب التي ألقتها إنديرا في رحلتها بالولايات المتحدة مبهرة أو فريدة من نوعها؛ إذ كانت في غالبها سيلًا من العبارات المحفوظة. أما الخطبة التي ألقتها في نادي الصحافة الوطني في واشنطن فلم تكن ذات أهمية إخبارية إلا لأنها صممت فيها على السماح للمرأة باقتحام المجالات التي يسيطر عليها الرجل. هذا في حين أنها في نيويورك تناولت قضية كشمير الشائكة ورفضت رفضًا باتًّا فكرة إجراء استفتاء بشأن مصيرها. قالت عن ذلك: «لقد فات الآن أوان التناقش بشأن إجراء استفتاء. إن الغزو الثاني الذي شنته باكستان على كشمير الخريف الماضي قد دمر أي قيمة هامشية أو شكلية للقرار السابق للأمم المتحدة، إلى جانب أن كشمير صارت ضرورية لصد الصين عن الهند في لداخ. فأي استفتاء الآن سيؤدي حتمًا إلى التشكيك في وحدة الهند. وهذا من شأنه أن يثير قضية استقلال بعض الولايات، وهي قضية خاضت الولايات المتحدة من أجلها حربًا أهلية … ونحن لن نقبل بتقسيم الهند مجددًا على أساس الدين.»23 ومع أن إنديرا ادعت أنها لن تطلب مساعدات مالية أثناء زيارتها للولايات المتحدة فإنها وافقت على الشروط الأساسية التي وضعها الأمريكيون لمنح تلك المساعدة؛ فوافقت على خفض قيمة الروبية وعلى إنشاء مؤسسة تعليمية هندية أمريكية. وهكذا فإن الكم الضخم من العملة الهندية، الذي حصلت عليه الولايات المتحدة من الهند مقابل تصدير القمح لها بكميات هائلة، أعيد استخدامه في الهند أيضًا من خلال دعم التعليم والبحث. ووصف بريج كومار نهرو ما حدث بقوله إن موافقة إنديرا على المطالب الأمريكية كانت في حقيقتها «حيلة» لدفع الكونجرس الأمريكي إلى إمداد الهند بالكميات الهائلة التي تحتاجها من القمح.24 كذلك أصدرت إنديرا بيانًا تعلن فيه أن الهند «تتفهم معاناة الولايات المتحدة في حرب فيتنام». كان الشيء الوحيد الذي رفضت إنديرا القيام به في الولايات المتحدة هو مراقصة الرئيس الأمريكي في مأدبة أقيمت في البيت الأبيض، وفسرت ذلك لجونسون بأن ذلك سيذهب بشعبيتها في الهند. فقال جونسون من جانبه إنه سيحرص على ألا «يلحق أي مكروه بهذه الفتاة (إنديرا)»، ووعد بأن يقدم معونة إلى الهند حجمها ثلاثة ملايين طن من الأغذية وتسعة ملايين دولار.

لما كانت إنديرا راضية عن نتيجة زيارتها إلى الولايات المتحدة توقفت في طريق عودتها إلى الهند في الاتحاد السوفييتي لإجراء محادثات مع أليكساي كوسيجين، وزارت بريطانيا زيارة قصيرة تشاورت فيها مع رئيس وزرائها هارولد ويلسون. لكن رضاها عن رحلتها إلى الولايات المتحدة سرعان ما تلاشى؛ فبعد عودتها بوقت قصير إلى الهند قوبلت صفقاتها مع جونسون بالهجوم. فقد أُدينت لمجرد التباحث في مسألة تخفيض قيمة الروبية، ولموافقتها على إنشاء مؤسسة تعليمية هندية أمريكية (قال نقادها إنها ستسمح لأمريكا بممارسة تأثير كبير جدًّا على التعليم العالي الهندي)، ولموقفها المتخاذل إزاء دخول الولايات المتحدة الحرب مع فيتنام. كان كريشنا مينون صديق إنديرا القديم — الذي كره الولايات المتحدة حتى النخاع — بالأخص غاضبًا من ذلك، فقاد حملة الهجوم على إنديرا. وبسبب ذلك انقلبت إنديرا عليه واتهمته بأنه يقدم «وصفًا خاطئًا تمامًا ويلوي عنق الحقيقة».

ومع أن ردة الفعل السلبية تلك أزعجت إنديرا فإنها مضت قدمًا في قرارها وخفضت قيمة الروبية بنسبة هائلة تبلغ ٥٧٪. وأعلن رسميًّا عن ذلك التخفيض في الحادية عشرة من مساء السادس من يونيو، بعد الحصول على موافقة صندوق النقد الدولي. وفي ١٢ يونيو أذاعت إنديرا من محطة راديو عموم الهند بيانًا قالت فيه:
«اسمحوا لي أن أكون صريحة معكم. لم يكن اتخاذ قرار تخفيض الروبية سهلًا … لكن تمر أوقات في تاريخ كل أمة توضع فيها إرادتها محل الاختبار، ويصبح مستقبلها فيها وقفًا على قدرتها على تبني الإجراءات الحاسمة، واتخاذ القرارات الجريئة. والوقت الذي تمر به الهند الآن من تلك الأوقات … لقد أبطأت مجموعة من العوامل — التي زادت الحرب والجفاف من حدتها — النمو الاقتصادي على نحو مؤقت وكادت أن تصل به إلى طريق مسدود. وهناك شح في الموارد. وعطلت أزمة ميزان المدفوعات الإنتاج الصناعي وجعلت خفض النفقات إجباريًّا. وتعرضت الصناعات الصغيرة بالأخص لضربة قوية. وتوقفت الصادرات. وارتفعت الأسعار ارتفاعًا حادًّا. ثمة إحباط وضيق واضطراب. وفوق كل شيء يعاني الناس ضائقة مالية. لقد جربنا مختلف الحلول الأولية، لكنها لم تثبت فعاليتها. فكان من الضروري تبني علاج أكثر فاعلية لإنعاش اقتصاد الأمة.»25

لم تستشر إنديرا كاماراج، رئيس حزب المؤتمر، بشأن «العلاج الفعَّال» المتمثل في تخفيض قيمة الروبية لأنها كانت تعلم أنه شديد المعارضة له. وقد شاركه عدد من أعضاء مجلس الوزراء موقفه ذلك عندما أثيرت المسألة في ٦ يوليو في أحد اجتماعات المجلس. قالت إنديرا دفاعًا عن تخفيض قيمة الروبية إن الحصول على معونات أجنبية لن يكون ممكنًا بدونه. وقد كشف إصرارها على موقفها ذلك — أمام تلك المعارضة الشديدة — عن جانبين مهمين من شخصيتها السياسية في مبادئها: أنها قادرة على اتخاذ القرارات التي لا تحظى بالتأييد، وأنها لا تشعر بأنها تدين بالجميل لأي شخص.

لقد هوجم تخفيض العملة في جميع ربوع البلاد؛ فهاجمه اليمينيون واليساريون، وفي الصحف، وبين العامة، وبين زملاء إنديرا في حزب المؤتمر. فأصدرت لجنة عمل الحزب قرارًا يدينه، وزُعم أن كاماراج — الذي حرص يومًا ما على أن تصير إنديرا رئيسة الوزراء وفضلها على موراجي ديساي — قال متحسرًا إن إنديرا: «ابنة رجل عظيم، وخطيئة رجل بسيط.» لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد فقد تسبب تأخر وصول المعونات الأمريكية في المزيد من الحرج لإنديرا، ولما قدمت وصلت شحنات الغذاء على نحو غير منتظم.

صارت إنديرا في غضون أشهر من توليها منصب رئيس الوزراء أقل شعبية بكثير من شاستري في أي وقت تأثرت فيه شعبيته. فحثها أقرب مستشاريها أو «مطبخ الحكومة» — ويتكون من: دينيش سينغ، وإندر جوجرال، ونانديني ساتاباثي (وهي عضو برلمان شابة من ولاية أوريسا)، وعمر شانكار ديكشيت ودي بي ميشرا رئيس حكومة ولاية مادهيا براديش ذي النفوذ، وسي سوبرامانيام، وأسوكا ميهتا، وفخر الدين علي محمد — على انتهاج أيديولوجية يسارية، وإنكار صداقتها للولايات المتحدة. غير أن ذلك التحول في السياسة كان من شأنه خلق عداء بين إنديرا وزعماء الحرس القديم في السينديكيت.

تحركت إنديرا سريعًا. بادئ ذي بدء أصدرت بيانًا في الأول من يوليو عام ١٩٦٦ تشجب فيه قذف الولايات المتحدة القنابل على هانوي وهايفونج، وبعدها في زيارة لها إلى الاتحاد السوفييتي وقعت مع كوسيجين بيانًا مشتركًا تدين فيه «الاعتداءات الإمبريالية» على فيتنام. فثارت ثائرة ليندون جونسون وأمر بتأخير شحنات الغذاء المتجهة إلى الهند عمدًا. في ذلك يذكر أن تشيستر بولز سفير الولايات المتحدة إلى الهند أشار لليندون جونسون أن السكرتير العام للأمم المتحدة يو ثانت وبابا الفاتيكان أدانا هما الاثنان سياسة الولايات المتحدة في فيتنام، رد عليه جونسون في حدة: «إن البابا ويو ثانت ليسا بحاجة إلى قمحنا».26 غير أن إنديرا لم تتزعزع، وظلت تشجب غزو الولايات المتحدة لفيتنام. ووافقت على إلغاء إنشاء المؤسسة التعليمية الهندية الأمريكية. فاضطربت علاقتها الطيبة بليندون جونسون.

الحقيقة المؤلمة هي أنه كانت هناك المزيد من المشاكل في انتظار إنديرا. ففي نوفمبر عام ١٩٦٦ تظاهر أمام البرلمان حشد من آلاف النساك العراة الذين يدعون بالسادهاسيون حاملين رماحًا ومطالبين بإيقاف ذبح الأبقار. كانت الهند دولة علمانية ديمقراطية، واللحم البقري يعد مصدرًا رخيصًا للبروتين لغير الهندوس. مع هذا طالب الهندوس المتعصبون بحظر ذبح الأبقار في جميع أنحاء البلاد. بل إن تظاهراتهم تطورت بعد ذلك سريعًا إلى أعمال نهب وعنف. فقُتل ستة أشخاص جراء إطلاق الشرطة النيران على الحشود، وتعرضت المحال للسرقة، وأضرمت النيران في السيارات والمباني. فصرحت إنديرا لصحيفة «تايمز أوف إندي» إنها لن ترضخ لترويع «منقذي الأبقار». واحتفظت برباطة جأشها. بل إنها استخدمت تلك القلاقل بحنكة لتتخلص من وزير الداخلية جولزاري لال ناندا — «أحد منقذي الأبقار الذين يؤمنون بالخرافات» — الذي شغل مرتين منصب القائم بأعمال رئيس الوزراء، وكان بالأخص كالشوكة في جانبها، فأمرت بتسريحه فورًا من مجلس الوزراء.

بعدما بدأت إنديرا تميل إلى اليسار من جديد فكريًّا تجهزت لمحاربة السنديكيت الذي دانت له بالفضل على حصولها على منصب رئيس الوزراء. كانت علاقتها بكاماراج قد تأزمت منذ تخفيض قيمة الروبية. وقد أدرك كاماراج وبقية أعضاء السينديكيت مدى قدرتها على استخدام نفوذها في فترة الإعداد للانتخابات العامة القادمة لعام ١٩٦٧.

في يوم رأس السنة عام ١٩٦٦ أذاعت إنديرا على الصحافة بيانًا في غاية الأهمية. قالت فيه إشارة إلى كاماراج وديساي، اللذين أراد كل منهما أن يطيح بها، ولكن لم يتحدا بعد: «إن المسألة هنا تتعلق بمن يريده الحزب، ومن يريده الناس. إن مكانتي بين الناس مفروغ منها.»27 ربما كان ذلك التصريح أول إشارة صريحة إلى الاستراتيجية التي ستنتهجها فيما يلي من أعوام، كانت هنا تؤكد على علاقتها المباشرة بالناخبين واستئثارها بهم، وهو ما يسمو فوق تنظيم الحزب، وقواعده ومعاييره.

•••

كان عام ١٩٦٧ — الذي شهد الذكرى العشرين للاستقلال الهندي — هو أيضًا العام الذي بلغت فيه إنديرا الخمسين من عمرها. في العام السابق على ذلك شعرت إنديرا بالغضب عندما أشارت عمتها فيجايا لاكشمي بانديت علنًا إلى «صحتها الضعيفة». وقالت بعدئذٍ بوقت قصير، عندما سألها الكاتب فيد ميهتا عن صحتها في مقابلة صحفية: «هنا [في الهند] إن لم تبدُ عليك التغذية الجيدة يحسبك الناس مريضًا. قبل وقت قصير تمكنت بكثير من الجهد من زيادة وزني شيئًا ما، لكنه تناقص ثانية. فأخذ الكل يقول: «إندو تبدين مريضة. ما بك؟» أنا بصحة جيدة جدًّا. وأحافظ على صحتي باتباع نظام غذائي يومي. فأول ما أقوم به صباحًا هو ممارسة تمارين اليوجا في الخامسة لمدة خمس عشرة أو عشرين دقيقة.»28

تتقدم السن بدرجة كبيرة فجأة بأغلب رؤساء الوزراء والرؤساء في فترة ولايتهم، أما إنديرا فقد صارت حقيقة أكثر شبابًا. فعام ١٩٦٧ بدت بصحة أفضل من أي وقت مضى. لقد صارت الطفلة التي يبدو عليها الضعف والمرض دائمًا امرأة ناضجة قوية تتمتع بقدرة مذهلة على الاحتمال. فقد تخلصت تمامًا من السل قبل عشر سنوات، وآخر الأمراض الخطيرة التي أصيبت بها كان حصاة في الكلى تخلصت منها بإجراء جراحة عام ١٩٥٩. أما أعراض سن اليأس فقد أخذت تتلاشى حتى اختفت تمامًا في أواخر أربعينياتها. لقد اجتازت تلك «التغيرات» بسلام، وصارت تشعر بإحساس غير مسبوق بالصحة والسعادة والنشاط. فتعودت تناول الأطعمة الصحية والاعتدال في المأكل، والمحافظة على صحتها الجسدية بممارسة اليوجا. وكانت الأقراص الوحيدة التي تناولتها هي أقراص الفيتامينات. وظلت تمسك عن شرب الخمر (فوفقًا لبريج كومار نهرو، كانت في المآدب، عندما تشرب نخب شيء تشرب مياهًا ملونة خالية من المواد الضارة). لم يكن يتسنى لها النوم لأكثر من خمس أو ست ساعات إلا نادرًا — وفي أغلب الوقت كانت تنام أقل من ذلك — لكن كانت لديها القدرة على أن تنام فور أن تغمض عينيها في أي لحظة، وتغفو أثناء ركوبها الطائرات أو السيارات.

وبالإضافة إلى اتباعها أسلوب حياة عملي وصحي طورت إنديرا مقدرتها على الركون إلى ذاتها نفسيًّا. فتعمدت أن تدرب نفسها على عدم الشعور بالأسى والاستغراق في التفكير الكئيب. فقد سألت أحد الصحفيين في لقاء ذات مرة إن كان قد قرأ في الصحف عن اكتشاف العلماء قبل وقت قصير لفراغات شاسعة في الكون، وقالت معللة لسؤالها: «لطالما شعرت أن داخلي أو داخل المرء مثل هذه الفراغات، وأن بإمكان المرء أن يركن إلى تلك الفراغات بدون أن يوقع نفسه في المشاكل. ففيها يمكن للمرء أن يفعل أي شيء. قد تكون وسط محادثة أو بين حشد. ومع ذلك تستطيع الركون إلى ذاتك متى أردت ذلك، وعندها يمكنك أن تفعل ما تشاء تقريبًا … ولهذا السبب لا يمكن أن تشعر بالتعب لأنك تهدئ من نفسك تلقائيًّا.»29 وشرود إنديرا عن الآخرين الذي كان كثيرًا ما يلاحظ هو دليل على استراتيجية الركون إلى الذات تلك.

غير أنها استخدمت تلك الاستراتيجية في مواقف معينة فقط. أما بين الحشود الكبيرة، أثناء إلقاء الخطب وإدارة الحملات الانتخابية، فهي حاضرة الذهن بوضوح، وبين الجماعات الصغيرة، كأفراد عائلتها، والدوائر الصغيرة من الأصدقاء المقربين فكانت نادرًا ما تشرد أو تنفصل عما حولها. إنما كانت تنتزع نفسها مما حولها بين الجماعات متوسطة الحجم خاصة بين المسئولين وجماعات السياسيين. وفي تلك المواقف كانت إنديرا تظل على حذرها ويقظتها، وتحتفظ برباطة جأشها. وبالتالي أمكن أن تبدو للعيان جامدة الملامح، أو لا مبالية، أو باردة أو فاترة المشاعر. وكانت أيضًا مخيفة ومتغطرسة؛ ومن هنا جاء لقبها «إمبراطورة الهند»، وهو لقب بدأ يظهر في أعمدة الصحف أول ما بدأ شكها في جدارتها كرئيسة وزراء يزول عنها.

بالركون إلى ذاتها استطاعت إنديرا أن تنمي طاقتها وقدرتها المذهلة على الاحتمال، ووظفتهما في الأوقات الحاسمة، مثل فترة الإعداد للانتخابات العامة لعام ١٩٦٧ التي أثبتت فيها أنها أكثر القادة شعبية منذ غاندي. كانت حملتها الانتخابية ذلك العام هي التي أظهرت تعلق الشعب الهندي القوي والغريب بها. ففي أول شهرين من ذلك العام أدارت الحملات الانتخابية بلا كلل، فقطعت خمسة عشر ألف ميل وخطبت في المئات من الاجتماعات العامة. وفي جميع أنحاء البلاد، اجتذبت حشودًا ضخمة، أكبر حتى من تلك التي كانت تجتمع لاستقبال نهرو. وكان شأنها شأن العديد ممن سبقها من القادة المؤثرين تزعم أنها — على حد تعبير أحد المحللين السياسيين — تعتزم «إعطاء من جُرِّدوا من أملاكهم وظلموا مساحة للتعبير عن إحباطهم، وتقويض … الأنظمة القائمة التي تتمتع بالسيطرة والحصانة.»30 غير أن أسلوبها السياسي كان متأثرًا بتقاليد عائلتها الأرستقراطية؛ فهي سليلة أسرة نهرو، وفي الوقت نفسه «واحدة من الشعب»؛ تتحدث إلى القرويين مستخدمة الأمثال الشعبية المألوفة لديهم، وتخاطبهم كأنهم أفراد أسرتها، واستخدمت أسلوب ولغة عامة الشعب، وتحدثت اللغات المحلية، وارتدت الساري كما تفعل النساء في المدن المحلية، وتناولت طعام أهل تلك المدن بأصابعها. ولكن في الوقت نفسه بدا عليها النبل والهيبة؛ فقد ارتدت الكثير من أكاليل الزهور وبدت في غاية الأناقة وسط عاصفة الغبار التي تثيرها سيارة رئيسة الوزراء وهي تتوقف بهدير أمام حشد كبير. كان هذا مزيجًا لا يُضاهى.
إلا أنها لم تحظَ بالإكبار دائمًا. ففي جايبور حاول أتباع زوجة مهراجا جايبور من الجناح اليميني لحزب السواتانترا أن يفضوا أحد اجتماعاتها العامة، فتحولت للهجوم عليهم بكلمات القصد منها تأليب مستمعيها عليهم، فقالت:
«لن أرضخ للترويع. أنا أعلم مَن وراء تلك المظاهرات (زوجة المهراجا)، وأعلم كيف أجعل صوتي مسموعًا للناس. سأتحدث بصراحة اليوم. اذهبوا واسألوا المهراجات كم بئرًا حفروا للناس في ولاياتهم لما تولى (الأمراء) حكمهم، كم شارعًا شقوه، أو ماذا فعلوا لمحاربة استعباد البريطانيين للهنود. فستجدون، لو نظرتم في سجل إنجازاتهم قبل الاستقلال، أنه خاوٍ تمامًا.»31

في ذلك الوقت من حياتها، عام ١٩٦٧، ترشحت إنديرا لعضوية البرلمان لأول مرة. لكنها لم تترشح عن دائرة أبيها دائرة فالبور (مع أن عمتها فيجايا لاكشمي بانديت قالت إنها لا تزال على استعداد للتنازل لها عن مقعدها في البرلمان عن تلك الدائرة)، وإنما ترشحت عن دائرة فيروز غاندي السابقة دائرة راي باريلي. وقد قررت الترشح لمقعد زوجها السابق في البرلمان لأسباب عاطفية وعملية وسياسية. كانت راي باريللي ستعيد لها شيئًا من روح فيروز، وكانت واثقة من أنها ستتمكن من استكمال أعمال فيروز هناك. هذا بالإضافة إلى أن راي باريلي امتلأت بذكريات زواجهما، وبالأخص حملتهما الانتخابية الأولى عام ١٩٥٢، عندما عملا معًا بكد ليفوز فيروز. وطافت إنديرا بجد تلتمس الأصوات لزوجها، آنذاك تمتع فيروز بشعبية واسعة، وكانت هي مشهورة ومحبوبة في تلك الدائرة. فضلًا عن ذلك سترث إنديرا أيضًا بتَسَلُّم الراية التي رفعها فيروز صورته كمحارب للفساد وإصلاحي متشدد.

إلا أنها كانت أكثر من ابنة نهرو وزوجة فيروز غاندي. لقد احتاجت إلى تأسيس علاقة خاصة ومميزة بينها وبين الناخبين الهنود، وقد عبرت عن ذلك في خطبة فياضة بالمشاعر في راي باريلي في أوائل عام ١٩٦٧. كان أغلب الناس إلى ذلك الوقت قد اعتبروا جنسها نقطة ضعف. فمثلًا أراد ليندون جونسون أن يتولى إنديرا «الفتاة» بالحماية، في حين لقبها البرلمان ﺑ «الدمية الخرساء». وأشار إليها خصمها موارجي ديساي ذات مرة ﺑ «الفتاة الصغيرة». هذا فيما أسمتها الصحف ﺑ «المرأة الصغيرة». وقال الناس إنه صار بإمكانهم على الأقل أن يتطلعوا في الصفحة الأولى من الصحيفة إلى وجه حسن. لكنها قلبت تلك الآراء التي استخفت بها رأسًا على عقب، وغيَّرت وجه أنوثتها إلى مصدر يمنحها القوة والحنان فتقول:
«إن عائلتي لا تقتصر على عدد محدود من الأفراد. إنها تتكون من عشرات الملايين. إن أعباءكم بالمقارنة بأعبائي بسيطة؛ لأن عائلاتكم أصغر وأقدر على العيش. أما العبء الذي أحمله فله عدة أوجه؛ فكثير من أفراد عائلتي يعانون الفقر المدقع، وعليَّ أن أعتني بهم. ولأنهم ينتمون إلى طوائف مختلفة ويدينون بعقائد متعددة أحيانًا ما يتصارعون، وعليَّ أن أتدخل بينهم، خاصة لأعتني بالضعفاء من عائلتي لئلا يستغلهم الأقوياء.»32

ومن هنا جاء رمز «الأم إنديرا». فبعد أسبوعين صارت تنادى بذلك في حملتها الانتخابية في كوتشين التي تقع على مسافة ألفي ميل من راي باريلي.

غير أن المهم هو أن إنديرا في حملة عام ١٩٦٧ الانتخابية فشلت في تبني موقف فكري قائم على قضية. لقد عرفت نفسها للناس على أنها المعيلة الكبرى والمصلحة؛ فصارت العلاقة التي تجمعها بهم وثيقة ولكن أبوية — علاقة أمومة وأبوة معًا — لا دخل لها بالتنظيم السياسي. وفي تلك العلاقة ليس للأبناء أن يعترضوا على آبائهم، والآباء سواء الصالحون منهم أو الطالحون يملكون سلطة طبيعية على أبنائهم. ترى إلى أي مدى كانت إنديرا تعي طبيعة استراتيجيتها ومعناها؟ لا شك أنها رأت أنها وسيلة تحافظ بها على بقائها سياسيًّا، لكن من المستبعد أنها كانت آنذاك على وعي تام بما لها من دلالة هدامة وديكتاتورية.

في حملتها الانتخابية المرهقة عام ١٩٦٧ تعرضت إنديرا لاعتداءات في مدينة بهوبانيشاور في ولاية أوريسا التي تعد إحدى الولايات شديدة الولاء لحزب السواتانترا اليميني. فبعدما بدأت مخاطبة الحشد هناك بوقت قصير أخذ مشاغبون يقذفون أحجارًا تجاه المنصة. وأصيب أحد الحراس في جبهته، وصحفي في ساقه. فوقف حارسان شخصيان على جانبي إنديرا لأنها رفضت — مع توسلاتهما إليها — إنهاء خطابها. وتواصل قذف الأحجار في الهواء. لكن إنديرا تجاهلتها حتى وصلت أخيرًا إلى نهاية خطابها وجلست. عندئذٍ نهض مرشح حزب المؤتمر المحلي ليلقي كلمته والقذف مستمر. فانتفضت إنديرا من مجلسها، وعادت إلى المنصة، ثم انتزعت الميكروفون وصاحت بغضب في الحشد: ما هذه الوقاحة! هل ستبنون البلد بهذه الطريقة؟ … هل ستصوتون إلى مثل هؤلاء (مشيرة إلى المشاغبين ومن يلقون الحجارة)؟ فألقيت عدة أحجار في الحال وأصابتها إحداها في وجهها مباشرة. فاحتملت إنديرا الضربة بصمت، لكنها انحنت مغطية وجهها بيديها لتكف نزيف أنفها. كان الحجر قد كسر أنفها.33

كان الهجوم الذي تعرضت له إنديرا في بهوبانيشاور غير مسبوق، وتصدر في اليوم التالي عناوين الصحف في جميع أنحاء البلاد. لقد أحدثت إنديرا منذ البداية كراهية شديدة لها بين أوساط معارضيها. غير أنها حظيت بالإعجاب بالقدر نفسه على شجاعتها، خاصة عندما واصلت إدارة حملتها الانتخابية في جميع أنحاء البلاد وهي تغطي أنفها والنصف الأعلى من وجهها بضمادات بيضاء جعلتها تبدو — كما قالت مازحة — كالرجل الوطواط ولكن في قناع أبيض.

لما عادت إنديرا إلى دلهي خضعت لجراحة بدون تخدير لإعادة أنفها إلى وضعه الطبيعي. وقد كتبت لصديقتها القديمة دوروثي نورمان أنها حاولت استغلال تلك الجراحة «لعمل شيء» حيال أنفها البارز، وهو ما اعترفت بأنها أرادت أن تفعله منذ أن عرفت بوجود جراحات التجميل. كانت قد ادخرت بعض المال لإجراء جراحة التجميل، ورأت أن «الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تتحقق بها، بدون إثارة ضجة كما يحدث عادة هي الإصابة في حادث بسيط.»34 غير أن أطباء دلهي الذين أصلحوا لها كسر أنفها لم يكونوا مدربين على إجراء جراحات التجميل، فاضطرت إنديرا إلى التخلي عن حلمها بالحصول على أنف جديد دقيق.

عُقدت انتخابات الهند العامة الرابعة عام ١٩٦٧، ومع أن حزب المؤتمر ظل في السلطة فقد كانت النتائج التي حصل عليها مخيبة. فلقد خسر ٩٥ مقعدًا، في حين فاز فقط بعدد ٢٨٢ مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان البالغ عددها ٥٢٠ مقعدًا، وخرج منها منتصرًا بأغلبية تبلغ إجمالًا ٤٤ مقعدًا لا تكفي لتنأى به عن الخطر. وخسر الأغلبية التي تمتع بها في سبع ولايات هي: كيرالا، وتاميل نادو، وأوريسا، وبنغال الغربية، وبيهار، وأوتار براديش، وراجاستان، فكان عنوان صحيفة «تايمز» في لندن: «بعد الأنف المكسور صفعة على الوجه.»

خسر كاماراج مقعده في البرلمان أمام زعيم طلابي في السادسة والعشرين من عمره من حزب درافيدا مونيترا كازاغام المحلي في مدراس. لكن هزيمته دلت على أن هزائم حزب المؤتمر قد تتكشف عن فوز لإنديرا، فهو لم يكن عضو السينديكيت الوحيد الذي هُزم. فإس كيه باتيل في بومباي، وأتوليا غوش في البنغال وبيجو باتنايك في أوريسا جميعهم فقدوا مقاعدهم البرلمانية. بالنسبة لإنديرا كانت هذه الهزائم «محببة للنفس»؛ كانت هي قد ضمنت تمثيل دائرة راي باريلي في البرلمان بأغلبية كبيرة. لذا في اجتماع أعضاء الحزب في البرلمان الذي عُقد في ٢٧ فبراير نوهت — مما أزعج القيادات العليا — بأن «الشباب ينتصر على الشيوخ».35 كانت نتيجة ذلك الانتصار هي أن أولئك الذين راهنوا على الوقت الذي منحوه لإنديرا حتى انتهاء الانتخابات ليتخلصوا منها قد تركوا الساحة ولم يعودوا موجودين لينفذوا خططهم السابقة.

غير أن عدو إنديرا اللدود موراجي ديساي عاد على نحو مثير للإعجاب، وظل عازمًا على تولي رئاسة الوزراء. فبدا أن حربًا جديدة بين الاثنين على زعامة أعضاء الحزب في البرلمان واقعة لا محالة. أما كاماراج الذي ظل — مع خروجه من البرلمان — رئيسًا لحزب المؤتمر، فقد عزم على تفادي هذه الحرب. وبدأ في أوائل مارس يخوض مفاوضات ملتوية مع إنديرا وديساي. ظل يطرح عليهما فيها العديد من خطط التسوية لعدة أيام، لكن إنديرا وديساي رفضاها كلها.

في يوم الجمعة العاشر من مارس التقى الخصمان إنديرا وديساي مرتين، إحداهما صباحًا، والثانية في وقت متأخر من فترة بعد الظهيرة. ظهيرة ذلك اليوم أعلن ديساي أنه ينوي التنافس على قيادة الحزب، وأن «الأمر بيد الله».36 القرار كان بين يدي كاماراج، وليس بغيره. من ثَم زاد كاماراج ومعه دي بي ميشرا، وسي بي جوبتا عضو البرلمان عن دائرة أوتار براديش من مفاوضاتهم تعقيدًا. في نهاية الأمر أشار ديساي إلى أنه سيمتنع عن التنافس إن نُصب وزيرًا للداخلية ونائبًا لرئيس الوزراء وهو منصب اختفى منذ وفاة ساردار باتيل عام ١٩٥٠. فرفضت إنديرا أن تجعل ديساي نائبًا لرئيس الوزراء، ورفضت إعفاء تشافان من وزارة الداخلية كي تمنح ديساي منصبه، إلا أنها كانت مستعدة لأن تجعل ديساي الرجل الثاني في مجلس الوزراء.
ومع أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود فإنها بعد حلول فترة بعد الظهيرة بلغت مرحلة مثيرة؛ راحت السيارات الهندية الصغيرة — التي تدعى استحقاقًا «بالسفيرات» — تقل كاماراج ومبعوثيه جيئة وذهابًا في نيودلهي. إنها حتى قد ذرعت الطريق بين بيت إنديرا وبيت ديساي ذرعًا. ثم في السبت ١١ من مارس تواجه ديساي وإنديرا للمرة الأخيرة. أخبر ديساي إنديرا بأنه لن يكون «مفيدًا» لها إلا في منصب نائب رئيس الوزراء، وبغطرسته المعهودة قال يحذرها إنهما قد صارا خصمين قويين جدًّا، وأن البرلمانيين يجيدون المجادلة جدًّا. وأضاف زعمًا: «وبما أنني أكثر خبرة (منك)، يمكنني أن أدحض جدلهم. أنت لا تملكين الكثير من الخبرة (كعضو برلماني) … أما أنا فبإمكاني أكثر منك أن أرد عليهم كما ينبغي.»37
ومع عدم كياسة ديساي تلك وافقت إنديرا على مضض أن تجعله نائب رئيس الوزراء، لكن مع تولي وزارة المالية وليس وزارة الداخلية التي طمع في وزارتها. قبل ذلك الحين، عندما عرض كاماراج العرض نفسه على ديساي، رفض ديساي، لكنه لم يرفض هذه المرة. غير أن إنديرا شعرت أنها ارتكبت خطأً فادحًا، وحاولت أن تسحب عرضها له. لكن كاماراج وميشرا أكدا لها أن الأوان قد فات، وصارت «مقيدة بوعدها» لديساي.38
بذا بعد انتخابات عام ١٩٦٧ العامة ظلت إنديرا ممسكة برئاسة الوزراء، لكن مع وجود ديساي الطموح كالشوكة في جانبها في منصب نائب رئيس الوزراء. فاختارت أعضاء مجلس الوزراء بدون استشارة كاماراج أو ديساي لتؤكد على سلطتها، وتبين أنها ستظل «مطلقة». ومنحت مؤيديها وحلفاءها المناصب المهمة؛ فولت واي بي تشافان وزارة الداخلية، والقائد الهاريجاني جاججيفان رام وزارة الأغذية والزارعة، وفخر الدين علي أحمد وزارة التنمية الصناعية، ودينيش سينغ وزارة التجارة. وأعلنت أن منصب نائب رئيس الوزراء لا يعني «ازدواجية السلطة بأي حال من الأحوال»، وأن ديساي تعهد بتقديم دعمه الكامل غير المشروط لها.39 وبذا تخلصت من الترتيب الوزاري، وصارت تعتمد منذ تلك اللحظة على ترتيب هجائي بسيط يجعل المناصب الوزارية — مثل مؤشر على تسلسل القوة مستقبلًا — مناصب لا معنى فعليًّا لها.40
ربما كان ديساي نائبًا لإنديرا، لكن بالنسبة له ولها كان بقاؤه في هذا المنصب — باعتباره شخصًا يفوقها سنًّا وخبرة في المجال السياسي — مستحيلًا. وكما نوه دي بي ميشرا ظل ديساي ينظر إلى إنديرا — وهي امرأة في الخمسين من العمر، تحتل منصب رئيسة الوزراء — على أنها «فتاة صغيرة». حتى إنه قال يشكو منها لميشرا: «تلك الفتاة لا تصغي إلى شيء.»41 واختلف ديساي وإنديرا على سلسلة من القضايا، منها على سبيل المثال بقاء اللغة الإنجليزية اللغة الرسمية للهند، لكن القضية التي قامت حولها أكبر نزاعاتهما هي تأميم البنوك التجارية، عارض ذلك ديساي بقوة، وأيده أتباع إنديرا اليساريون. وقد أغضب استبداد ديساي برأيه وتشدده إنديرا بقدر ما أغضبها تعامله معها بازدراء. فعلى سبيل المثال، في اجتماع للجنة التخطيط في مايو عام ١٩٦٧ قاطعها قائلًا: «إنديرا يا أختاه! أنت لا تفهمين المسألة. دعيني أتولاها». كانت إنديرا «مستشيطة غضبًا، إلا أنها تركته يدلي بدلوه.»42

لكن إنديرا استطاعت أن تفرض رغبتها على ديساي فيما يتعلق باختيار رئيس الهند الجديد، وذلك عندما انتخب مرشحها للرئاسة ذاكر حسين. وأظهرت أنها أكثر دراية وخبرة بالشئون الخارجية منه. في الواقع، لقد شغلت — شأنها شأن أبيها — منصب رئيس الوزراء ووزير الخارجية معًا في الفترة من سبتمبر عام ١٩٦٧ حتى يناير عام ١٩٦٩.

أنهت بين سبتمبر ونوفمبر عام ١٩٦٧ جولة مرهقة من الزيارات الرسمية إلى: سيلان، والاتحاد السوفييتي، وبولندا، ويوغوسلافيا، وبلغاريا، ورومانيا، والجمهورية العربية المتحدة. ثم قامت في مايو العام التالي بجولة إلى: سنغافورة، وماليزيا، وأستراليا، ونيوزيلندا. وسافرت في سبتمبر عام ١٩٦٨ إلى أمريكا اللاتينية وزارت البرازيل والأرجنتين، وتشيلي، وفنزويلا، وأوروجواي، وكولومبيا، وترينيداد، وجيانا. وألقت خطابًا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. ثم توقفت كالعادة في طريق عودتها إلى وطنها في الاتحاد السوفييتي. ثم زارت عام ١٩٦٩ بورما، وأفغانستان، واليابان، وإندونيسيا.

صارت إنديرا بفضل صولاتها، ومنصبها الفريد كرئيسة وزراء وشخصيتها الجذابة الساحرة واحدة من أشهر وأبرز الشخصيات السياسية في العالم. فلم تكن تجيد التواصل مع القادة والحشود فحسب، بل كانت تجيده أيضًا مع الصحفيين والمفكرين. وكانت لغتها الإنجليزية والفرنسية غير مشوبتين. فتبدو للأجانب كأنها من بلد آخر، لكن مع ذلك عصرية وتقدمية.

في الهند عكس تواصل العداء بين إنديرا وديساي الشقاق المتسع بلا آخر بين الأجنحة الراديكالية والمحافظة لحزب المؤتمر. كان من الواضح أن ديساي — الذي لم يكن مشجعه الرئيسي سوى تاركيشواري سينها عشيقة فيروز السابقة — هو زعيم المحافظين. وكان أحيانًا يتم الربط خطأً بين الراديكاليين أو التقدميين وإنديرا التي كانت فكريًّا أقل إخلاصًا للراديكالية من هؤلاء.

في مايو عام ١٩٦٧ أعلنت إنديرا استكمالًا لصورتها كيسارية برنامجًا من عشر نقاط يتضمن فرض رقابة اجتماعية على الأنشطة المصرفية، ومنع الاحتكار، وتأميم قطاع التأمين العام، ووضع قيود على التملك، ومراقبة الدولة لحركة الصادرات والحبوب الغذائية، وإلغاء المزايا التي تمتع بها الأمراء سابقًا، ومنع المخصصات الملكية عن ولايات الأمراء.

فوق ذلك كانت الإصلاحات الزراعية التي بدأت في الخمسينيات بموجب قانون «الثورة الخضراء» قد بدأت تؤتي ثمارها. ففي أواخر فترة حكم نهرو الأخيرة وفترة حكم شاستري القصيرة تحول الإصلاح الزراعي من إصلاح مؤسسي وهيكلي لاستغلال الأراضي وحقوق تملكها إلى إدخال للعديد من التطورات التكنولوجية إلى الزراعة. وكان من أهمها إدخال أنواع متعددة من البذور المهجنة عالية الإنتاجية لإنتاج القمح والأرز، والتي زادت الإنتاج زيادة هائلة خاصة في البنجاب، وهارايانا وأوتار براديش. لقد جعلت إنديرا الثورة الخضراء من أهم أولويات الحكومة، فبالإضافة إلى زراعة البذور المهجنة بدأت إصدار دعم حكومي للزراعة، ووفرت الكهرباء والمياه والأسمدة والقروض للفلاحين. لم يخضع الإنتاج الزراعي للضرائب. فكانت النتيجة أن صارت الهند تتمتع بالاكتفاء الذاتي غذائيًّا، وهو ما هدفت إنديرا إليه بصدق بعدما وصلت شحنات معونة الرئيس ليندون جونسون الغذائية المشروطة على مراحل متقطعة. بالإضافة إلى ذلك استطاعت الهند أن تكون مخزونًا من الحبوب الاحتياطية يكفي لتجاوز أكثر من موسم جفاف، بل صارت تصدر الغذاء بكميات معقولة. كانت الثورة الخضراء تسير على نمط بقية برنامج إنديرا الراديكالي الذي اتُّبع في منتصف وأواخر الستينيات.43

في أوائل عام ١٩٦٨ أراد ديساي وكاماراج (اللذان عادا بعد أن فازا في إحدى الانتخابات الفرعية إلى البرلمان كشبح مهدد لمطاردة إنديرا) أن يطيحا بإنديرا من السلطة، لكن كان عليهما أولًا أن يقنعا نيجالينجابا الذي خلف كاماراج في رئاسة حزب المؤتمر بأن ينضم إليهما. لقد جمع العداء لإنديرا بين السينديكيت — الذي كان كاماراج لا يزال رئيسًا له — وديساي في تحالف. عظم أعداء إنديرا من مسألة عزل الحكومات غير التابعة لحزب المؤتمر في ولاية بنغال الغربية وأوتار براديش وبهار والبنجاب وفرض الحكم المركزي في تلك الولايات سيرًا على ما انتُهج في كيرالا عام ١٩٥٩.

•••

في غمرة الشقاق بين فصيلتي حزب المؤتمر انشغلت إنديرا لوقت قصير بزفاف ابنها راجيف إلى امرأة إيطالية جميلة تدعى سونيا ماينو الذي أقيم يوم ٢٥ فبراير عام ١٩٦٨. التقى راجيف وسونيا في جامعة كامبريدج قبل ثلاثة أعوام، آنذاك كان راجيف لا يزال يجتهد في الدراسة سعيًا للتخرج من كلية ترينيتي، وكانت سونيا تدرس اللغة الإنجليزية في إحدى مدارس اللغات للطلاب الأجانب. التقيا أول مرة في مطعم محلي يدعى فارسيتي. وفور أن رمقتها عينا راجيف انجذب إليها على الفور، فهي شابة رشيقة ذات شعر ذهبي طويل وعينين سوداويين، سأل صديقًا مشتركًا لهما أن يعرفه بها. وكانت حالة نموذجية من الحب من أول نظرة لكليهما. كان راجيف مطمئنًّا جدًّا إلى علاقته بسونيا حتى إنه كتب يقول لإنديرا بعد أسابيع من لقائه بسونيا: «دائمًا ما تسألينني عن الفتيات، عما إذا كانت هناك فتاة تحتل مكانة خاصة بقلبي، وما إلى ذلك. حسنًا، لقد التقيت بواحدة. لم أطلب يدها للزواج بعد، لكنها الفتاة التي أود أن أتزوج.»44
كانت سونيا ماينو ابنة في الثامنة عشرة من العمر لمعماري ثري من تورينو يدعى ستيفانو ماينو، كان من مؤيدي موسوليني إبان الحرب العالمية الثانية، وقد ظل إلى ذلك الوقت يتعاطف مع الفاشيين. كان آل ماينو من كاثوليك روما المتشددين، وسونيا ابنة مطيعة وبارة بأبيها. لم تسافر إلى خارج إيطاليا قبل الدراسة في كامبريدج من قبلُ. ووقتما قابلت راجيف لم تكن تعرف شيئًا عن الهند — على حد قولها — سوى أنه بلد «موجود في مكان ما في العالم توجد به أفاعٍ وأفيال وأدغال.» وأضافت: «أما فيما يخص موقع الهند الجغرافي بالضبط، وفيما يخص جوهره الحقيقي، فلم أكن متأكدة أنني أعرف ذلك.»45

لم يتأثر راجيف وسونيا بالحركات الطلابية والنسائية التي قامت في كامبريدج ولندن إبان الستينيات، ولم يخرجا عن التقاليد، سواء آنذاك أو فيما بعد. كل ما هنالك أن أحدهما أحب الآخر، وكلاهما ليس من البلد نفسه. كان ذلك غير مقبول لوالد سونيا الذي أراد أن تتزوج بناته الثلاث جميعًا من رجال كاثوليك إيطاليين. وراجيف لم يكن غير كاثوليكي وحسب، بل كان هنديًّا، ولم يكن السيد ستيفانو مانيو يعبأ بمن تكون والدته أو جده.

لم تكن إنديرا متعصبة لرأيها، إلا أنها شعرت — مع احتفاظها بهدوء طباعها — بعدم الارتياح إلى فكرة زواج ابنها بأجنبية. غير أن أغلب تحفظاتها تبخرت عندما قابلت سونيا أول مرة في لندن أوائل عام ١٩٦٦. كانت سونيا تشعر بالرهبة من لقاء إنديرا التي كانت آنذاك لا تزال وزيرة في حكومة شاستري، لكن عندما تحدثت إنديرا معها بلا كلفة باللغة الفرنسية (التي كانت سونيا تتحدثها بطلاقة أكثر من الإنجليزية)، وهدأت من روعها بأن قالت «إنها نفسها كانت شابة خجولة جدًّا تعشق، وإنها تتفهم» شعور سونيا تمامًا.46
ظل السيد ماينو على رفضه العنيد لعلاقة راجيف وسونيا، وكان راجيف يجد صعوبة في تفسير عدم قدرة سونيا على الوقوف في وجه أبيها. فقد كتب إلى إنديرا يقول: «يبدو أن سونيا لا تستطيع مناقشة والديها … إنها تفعل ما يأمر به أبوها وحسب.»47 وعام ١٩٦٦ عاد راجيف إلى الهند بعد إمضاء فترة بلا طائل في كلية إمبريال كوليدج في لندن دون أن يتخرج، وأخذ يتدرب للعمل طيارًا تجاريًّا في حيدر آباد. عادت سونيا إلى تورينو امتثالًا لأوامر والدها. إلا أنها ظلت مصممة على الزواج من راجيف برغم احتفاظها بهدوء طباعها. فانتظرت في إيطاليا عامًا تتحين الفرصة المناسبة لذلك إلى أن بلغت الواحد والعشرين من العمر؛ سن الرشد القانونية.

وفي يناير عام ١٩٦٨ بعد ثلاثة أعوام بالضبط من أول لقاء لسونيا براجيف سافرت على متن طائرة إلى الهند للزواج منه. فرتبت إنديرا لأن تمكث سونيا في منزل لأصدقاء قدامى لعائلتها هم آل باتشان (الذين كان ابنهم «أميتاب باتشان» نجمًا سينمائيًّا صاعدًا آنذاك). حرصت سونيا على التأقلم على نمط الحياة الهندية — أو على الأقل — على النموذج الغربي الأسهل لها الذي ستتبعه في حياتها مع راجيف، فاستطاعت ذلك سريعًا. وفي ٢٥ فبراير، بعد شهر من وصولها إلى الهند، تزوجت براجيف زواجًا مدنيًّا، وانتقلت إلى منزل حماتها في العقار رقم ١ في شارع سافدارجانج رود حيث ستعيش هي وراجيف طوال الستة عشر عامًا التالية.

لم يكن من شيم إنديرا تكوين الروابط العاطفية الوثيقة بسرعة أو بيسر. فلم يكن لديها وهي في الواحدة والخمسين من العمر سوى ثلاث صديقات مقربات هن: دوروثي نورمان، وماري سيتون (اللتان لم تقابلهما إلا نادرًا) وبوبول جاياكار. إلا أنها في فترة قصيرة إلى حد مثير للدهشة صارت مولعة بزوجة ابنها سونيا. يعود ذلك إلى حد ما إلى أن سونيا بدت سهلة الانقياد ولينة العريكة وحنونة، وهادئة الطباع. وكانت شديدة الاهتمام بتدبير شئون المنزل، وبرعت في الطهي. كانت إنديرا بدورها كذلك، إلا أنها لم تكن تجد الوقت لهذا، فظلت مساعدتها يوشا بهاجات تدير شئون المنزل لعدة سنوات. لكن بعدئذٍ اضطلعت سونيا بتلك المهمة. وأدركت ما تحبه إنديرا وتفضله. فصارت في نهاية الأمر تشتري لحماتها أثواب الساري وتعنى بخزانة ثيابها. غير أن المجال الوحيد الذي لم تشارك فيه سونيا إنديرا اهتمامها هو المجال السياسي الذي لم تحاول سونيا أن تفهمه أو توليه اهتمامًا. إلا أنها بدأت تزدري ذلك المجال وتنظر إليه على أنه عدو سعادتها هي وراجيف فيما بعد فقط.

حينما تزوجت سونيا وراجيف كان سانجاي قد عاد إلى الهند وأقام في منزل إنديرا. لقد كان المنزل الكائن في العقار رقم ١ في شارع سافدارجانج رود، فصار منزل إنديرا يعج بالساكنين حتى إن بعضًا من عمال مكتبها أجبروا على العمل في سقيفات في حديقته. وقرابة ذلك الوقت تردد أن إنديرا تخطط للعودة إلى تين مورتي وإعادة تأسيسه ليكون مقر إقامتها الرسمي. وافق مجلس الوزراء على ذلك، لكن العديد من أعضاء مؤسسة نهرو اعترضوا، فقررت إنديرا بعد الكثير من المناقشات أن تمكث في منزلها المزدحم في العقار رقم ١ سافدارجانج رود. وبعدها بوقت قصير خصصت الحكومة المسكن رقم ١ المجاور لها في شارع أكبر رود لتتم فيه أعمالها المكتبية.

في ٣ من مايو توفي فجأة الرئيس الهندي ذاكر حسين (الذي اختارته إنديرا لخلافة سارفيبالي رادهاكريشنان عام ١٩٦٧). يشبه منصب الرئيس الهندي منصب الملك في الملكية الدستورية البريطانية، فهو يتصرف بناءً على مشورة رئيس الوزراء. غير أنه يستطيع أن يكون قيدًا أو منقادًا له. لذا من الوارد أن تنشأ مشكلة عندما يكون هناك احتمال لأن تكون أفعال الرئيس مؤثرة، إن كان الحزب الحاكم — على سبيل المثال — ضعيفًا أو إن كانت هناك أزمة دستورية.48

أراد أعداء إنديرا داخل حزب المؤتمر أن يصير سانجيفا ريدي رئيس البرلمان هو الرئيس التالي للهند. وتخوفت إنديرا من ذلك لأنها كانت تعلم أن سانجيفا ريدي قد يزيحها عن رئاسة الوزراء. وينصب ديساي مكانها، لذا، حاولت أن تحيل الصراع من أجل البقاء السياسي إلى منافسة أيديولوجية شددت فيها على صورتها كيسارية حتى تؤمن موقفها. كان الاقتصاد أوضح مجال يسمح باستعراض أوراقها كيسارية، لذا في اجتماع لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في يوليو الذي كان من المعتزم أن يتحدد فيه رئيس الهند طلبت إنديرا — التي لم تحضر الاجتماع بدعوى أنها مريضة — من زميل مخلص لها من مجلس الوزراء أن يقرأ على الحضور «أفكارًا متناثرة» عن السياسة الاقتصادية. أبرزت تلك الأفكار البرنامج المكون من عشر نقاط الذي وضعته إنديرا في مايو عام ١٩٦٧، إلا أنها ركزت بالأخص على اقتراح تأميم البنوك الراديكالي الذي دعا له الراديكاليون التقدميون الذي لم يكن ديساي سيقبل به قط.

لا شك أن دافع إنديرا من عرض تلك «الأفكار المتناثرة» عن تأميم البنوك على لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند هو الحفاظ على بقائها كرئيسة وزراء. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنها «لم ترغب في تأميم البنوك» نفسه، أو أنها «استخدمت (قضيته) فقط لتؤمن موقفها عند المفاضلة» بينها وبين ديساي. من السهل لدى الرجوع إلى ذلك الموقف أن يجزم المرء بأن «الأيديولوجيا … كانت سلاح (إنديرا) وليس العكس». بعد ذلك لعدة أعوام سيظل رأي المحللين أن سياسات إنديرا اليسارية كانت إلى حد بعيد سياسات دفاعية، منبعها البراجماتية … لقد أدركت إنديرا أنها ستخسر أمام قوى اليسار ما لم تنضم إليه … لذا أكثرت من استخدام الشعارات اليسارية لتنقص من قدر معارضيها، وتحتوي أعداءها في الحزب بتصوير الصراع الدائر فيه على أنه صراع بين القوى الداعية إلى التقدم والقوى الداعية إلى الرجعية.49
في حياة إنديرا السياسية تختلط الاستراتيجيات الأيديولوجية كثيرًا باستراتيجيات الحفاظ على البقاء. وإن من يضطلع بكتابة سيرتها يجد أن سلوكها منذ لحظة تنصيبها رئيسة للوزراء يتزايد غموضًا تدريجيًّا على كل من الناحية السياسية والشخصية، ويحتمل الكثير من التفسيرات. وفهمها في بعض الأحيان يبدو مستحيلًا. أغلب الصور التي اتخذت لها في تلك الفترة تبدو خالية من الحياة، لا تبوح بشيء، متكلفة، ورسمية؛ صحيح أنها تعكس مظهرًا أنيقًا إلا أنها لا تسبر أعماق صاحبتها. فوق ذلك، بعد منتصف الستينيات، اختفت أغلب المصادر التي كانت تكشف بصراحة شديدة عن دخائلها. فرسائلها إلى أبيها انتهت لأنه توفي. وقلت رسائلها إلى دوروثي نورمان وغيرها من الأصدقاء. وصارت أقل صراحة لأن رسائلها الشخصية في تلك المرحلة كانت نادرًا ما تتمتع بالخصوصية فأغلبها — كمراسلاتها الرسمية — اضطلع بكتابته وطباعته لها سكرتاريتها. هذا بالإضافة إلى أنها لم تكتب أي تقييم لحياتها، فعلى سبيل المثال لم تكتب أي خواطر شخصية قط، وقد عللت ذلك لأحد الصحفيين في إحدى المقابلات الصحفية بقولها: «متى أكتبها؟ أنا أخلد للنوم متأخرًا. وأستيقظ مبكرًا … وإن تسنى لي القليل من وقت الفراغ فأنا لا أود حقيقة أن أنفقه على نفسي.»50
آنذاك، في يوليو عام ١٩٦٩، لم تكن الدوافع المحددة لتشدد إنديرا لليسارية واضحة على الإطلاق، وكثيرًا ما كانت تصريحاتها متناقضة. لقد أيدت التغيير الراديكالي في الوقت الذي تجشمت فيه العناء لطمأنة الطبقة المالكة إلى أن الإصلاح لن يهدد مصالحهم. هذا لأن الساسة كما — نوهت شخصية مقربة جدًّا من إنديرا — يرتدون الأقنعة.51 ويمثلون شخصيات ويلعبون أدوارًا. وهم أيضًا — على حد تعبير تي إس إليوت — «شخصيات مخادعة»، تتلون على الدوام بألوان مختلفة مع اجتماعها وافتراقها لا بفعلها وحسب بل أيضًا بتأثير المحيطين بها. فهم يرشدون وينصحون فيمتلئون بالأفكار كالوعاء. أو يتخلصون منها. وإنديرا. قبل حلول عام ١٩٦٧، كانت قد تحولت تمامًا إلى سياسية ماكرة.
آنذاك جمعت إنديرا حولها شخصيات تتسم بالدهاء والحنكة تتكون في المقام الأول من اليساريين، وفي جزء منها ممن يتشبثون بالقيم. تألف جميع هؤلاء من الرجال، وبعضهم كان من الكشميريين مثلها. وقد اختارت بعضهم والبعض الآخر اختارها. أغلبهم لم يكن كبير السن، انتمى إلى جيلها لا جيل أبيها أو جيل ديساي. وكانوا أتباعًا لنهرو نظروا إلى إنديرا على أنها خليفته. وأمدوها بالأفكار والقيم. لا استغلالًا لها كما فعل كاماراج ودهيبار اللذان حاولا استخدامها كأداة. كانت دائرة المقربين تلك على علم بنقاط ضعفها، وتدرك أنها ابنة نهرو لا تجسيده الحي. إلا أنهم رأوا فيها شابة مفعمة بالحيوية، ذات ميول يسارية، تشعر بالمسئولية تجاه مستقبل الهند. ومع ضعف خبرتها في العديد من المجالات فإنهم رأوا أنها — مع مساعدتهم — تملك بداخلها ما تتطلبه قيادة الهند.52

لم يكن أهم هؤلاء الرجال أو قائد ما صار يعرف ﺑ «مافيا إنديرا الكشميرية» وزيرًا أو صاحب منصب رسمي منتخب، بل كان مسئولًا حكوميًّا رفيع المستوى يرأس سكرتارية إنديرا، وقد كان هو من طرح «أفكار إنديرا المتناثرة» حول السياسات الاقتصادية، ومن اضطلع بصورة أساسية بوضع سياساتها. لم يكن ذلك الرجل سوى بارميشوار ناراين هاكسار الذي رأى قبل خمسين عامًا — وهو طفل في العاشرة من العمر — إنديرا في فناء في دلهي القديمة وهي جاثمة على كتف أحد الخدم، وقتما أخذ الكل يتودد للطفلة إنديرا ذات العينين الكبيرتين قائلًا: «المسكينة.»

في مايو عام ١٩٦٧، في الرابعة والخمسين من العمر، صار بي إن هاكسار السكرتير الأول والشخصي في سكرتارية إنديرا. في أواخر الثلاثينيات سافر هاكسار بعد تخرجه من جامعة الله آباد إلى إنجلترا حيث درس الأنثروبولوجيا في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية على يد برونيسلاف مالينوفسكي، وحصل على رخصة مزاولة المحاماة من هيئة لينكولن القانونية وصار صديقًا وجارًا لفيروز غاندي في هامبستيد، حيث طهى إبان الغارات على لندن الوجبات الكشميرية الشهية لإنديرا وفيروز. أما في الأربعينيات فقد زاول هاكسار المحاماة في الله آباد إلى أن أقنعه نهرو بعد الاستقلال بوقت قصير بالانضمام إلى وزارة الخارجية الهندية. عندها عمل هاكسار بداية مبعوثًا تحت رئاسة كريشنا مينون في السفارة الهندية بلندن، وبعدها صار سفير الهند الأول إلى نيجيريا، وأيضًا سفيرًا إلى النمسا، ثم صار في الستينيات قائمًا بأعمال سفير الهند في لندن، ومن هنا استدعته إنديرا ليكون ساعدها الأيمن وأيضًا ليضطلع بدور أكثر من ذلك.

في حقيقة الأمر تعمدت إنديرا أن تصطفي هاكسار ليحل محل إل كيه جها سكرتير شاستري الذي شعرت أنه متحفظ أكثر من اللازم. تمتع هاكسار كيساري بخبرات يسارية مثالية وطويلة، كانت إنديرا تعلم بها من علاقتها وعلاقة فيروز به. فعام ١٩٦٦ صحبها هاكسار إلى أمريكا عندما كان نائب السفير الهندي بلندن، وأسدى لها بنصائح تنم عن دهاء لما كانت بصدد إبرام اتفاقيات صعبة مع الرئيس ليندون جونسون. كان رأي هاكسار في إنديرا آنذاك أنها تتمتع بالذكاء لكنها تفتقر إلى الخبرة. لقد رأى أنها «بطبيعتها ليست شخصية سياسية، وأنها لا تفهم طبيعة المواقف السياسية المعقدة الإشكالية». باختصار كانت إنديرا بحاجة إلى الإرشاد، بيد أنها كانت تملك مقومات حقيقية. وأثمن قدراتها في رأي هاكسار هي قدرتها على تكوين علاقات مذهلة، رأى هاكسار دومًا أنها صادقة.53

في غضون وقت قصير من تعيين هاكسار السكرتير الأول والشخصي لإنديرا أصبح صانع السياسات الرئيسي للحكومة، وامتلك نفوذًا هائلًا. فلأنه اشتراكي مثقف ورجل لا يشك أحد في نزاهته وضع برنامج عام ١٩٦٧ الإصلاحي المكون من عشر نقاط، ودعا إلى تأميم البنوك وإلغاء المخصصات الملكية التي تمنح للأمراء. وفوق كل شيء كان هو من قاد إنديرا لتقسيم حزب المؤتمر عام ١٩٦٧. في الواقع، في أواخر الستينيات، هو من وجه أغلب السياسات الحكومية. ففي الوقت الذي اتُّهمت فيه إنديرا مرارًا إبان تلك الفترة بمناصرة العامة نفاقًا واعتناق الراديكالية صوريًّا، وعُزيت أفعالها فقط إلى دافع المصلحة الشخصية، والحفاظ على البقاء السياسي، لم يشكك إلا القليلون في دوافع بي إن هاكسار مستشارها الرئيسي وصانع سياساتها.

على المستوى الشخصي كان هاكسار رجلًا جذابًا؛ فهو وسيم وذكي، وواسع المعرفة والاطلاع على مختلف الثقافات، ولكنه — مثل نهرو — على وعي كبير بهويته الهندية. لقد اعتبر نهرو في صباه وشبابه مثله الأعلى وتشربت أغلب سياساته وأفكاره بمبادئ نهرو. إلا أنه كان كذلك تلميذًا لكريشنا مينون. أخلص هاكسار للهند وحكومتها إخلاصًا شديدًا، لكن مع ذلك لم يكن خافيًا على أحد أنه كان إلى حد بعيد المسئول عن تنامي نفوذ وتأثير سكرتارية رئيس الوزراء في أواخر الستينيات بدرجة هائلة، وأنه تباعًا السبب في ضعف نفوذ مجلس الوزراء وسكرتاريته. فكان على سبيل المثال وراء نقل السيطرة على شبكة المخابرات ومديرية استخبارات الداخل إلى سكرتارية رئيس الوزراء عام ١٩٦٩. في الواقع، آنذاك، استحوذت سكرتارية رئيس الوزراء تحت رئاسة هاكسار على السيطرة المباشرة وغير المباشرة على أغلب المنظمات الحكومية وبزغت باعتبارها المركز الرئيسي للنفوذ والسلطة.54
وثقت إنديرا في دهاء هاكسار وحكمته ثقة عمياء مطلقة. فمن عام ١٩٦٧ حتى عام ١٩٧٣ يكاد هاكسار أن يكون أكثر الشخصيات نفوذًا وقوة في الحكومة الهندية. وكان أيضًا — وليس سكرتارية مجلس الوزراء — أهم مسئول حكومي في الهند. كان هو من أوجد اﻟ «بيروقراطيات الموالية» المثيرة للجدل غير المسبوقة، وهي أجهزة حكومية توجهها أيديولوجيا الحزب الحاكم لا الحياد السياسي. لقد أكد هاكسار شفهيًّا وكتابة آنذاك وفيما بعد أن كلمة الموالية ليست كلمة مشينة وزعم أن مفهوم البيروقراطيات المحايدة مفهوم خيالي. لكن لا بد أنه كان مدركًا مع ذلك أنه بالتضحية بالحياد السياسي تصبح التضحية بالديمقراطية حتمية لتحقيق أهداف أيديولوجية معينة. وقد صار احتواء الموقف مستحيلًا حالما حدث ذلك؛ لقد اختل ميزان القوى بالكامل خللًا لا يمكن معالجته. وصارت سكرتارية رئيس الوزراء كيانًا يمتلك القوة الشاملة، لا تطغى مكانته على مكانة سكرتارية رئيسة الوزراء وحسب، بل تطغى أيضًا على مجلس الوزراء، والوزارات المستقلة والأجهزة الحكومية.55
لعب هاكسار دورًا حاسمًا أيضًا في أحداث صيف عام ١٩٦٩، عندما أثيرت مسألة تأميم البنوك في اجتماع لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في يوليو في بنغالور آنذاك. في ١٠ يوليو، حضرت إنديرا الاجتماع وقتما طرحت مسألة ترشيح رئيس للهند. واقترحت فيه أن يترشح جاغيفان رام القائد الهاريجاني للرئاسة مشيرة إلى حلم المهاتما غاندي بوصول أحد الهاريجانيين للمناصب الكبرى. لكن السينديكيت ظل يؤيد سانجيفا ريدي تأييدًا تامًّا، وكما هو متوقع، بعدها بيومين، في ١٢ من يوليو رشح أعضاء البرلمان من حزب المؤتمر ريدي رئيسًا بمجموع أربعة أصوات مقابل صوتين. عندئذٍ تأكد لإنديرا أن السينديكيت يريد تولية ريدي الرئاسة في المقام الأول لسبب منطقي، وهو إجبارها على ترك منصبها. وقد أغضبها ذلك. أعدت تاراكيشواري سينها عشيقة فيروز السابقة، وظهيرة ديساي المخلصة بيانًا قالت فيه: «إن كانت رئيسة الوزراء تجد قرار الحزب (بترشيح سانجيفا ريدي) مزعجًا … فبإمكانها أن تتخلى عن رئاسة الحزب في البرلمان»، لكنها تداركت القول في اللحظة الأخيرة فقالت: «يمكنها أن تطالب بإعادة النظر في القرار.»56 في تلك الأثناء أعلن نائب الرئيس في في جيري أنه أيضًا ينوي الترشح للرئاسة.

بعد اجتماع لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند، وبناءً على نصيحة هاكسار وغيره، تحركت إنديرا بسرعة وبحسم. ففي ١٦ من يوليو أعفت ديساي من رئاسة وزارة المالية، وتولت وزارتها بنفسها معللة لذلك بأن ديساي عارض تأميم البنوك. وأخبرت الصحافة تبيانًا لذلك أنه كان على ديساي أن يرحل عن منصبه لأنها لم تستطع تنفيذ برنامجها التقدمي في وجوده وزيرًا للمالية. وأزيح ديساي أيضًا عن منصبه نائبًا لرئيسة الوزراء ولكن ليس بصورة فعلية، لقد هدفت إنديرا إلى دفعه للاستقالة وكان هذا — كما هو متوقع — ما قام به.

بعد ذلك بأربعة أيام أممت إنديرا أربعة عشر بنكًا تجاريًّا بقرار رئاسي، مع أنه كان من المقرر أن ينعقد البرلمان بعد وقت قصير. أوضح تأميم البنوك بقرار رئاسي أنه إجراء اتخذته رئيسة الوزراء وحدها. قالت إنديرا لدى إذاعة نبأ ذلك الإجراء في إذاعة راديو عموم الهند مستشهدة بمثل هندي: «(قال رجل شكوت من أنني ليس لديَّ حذاء، إلى أن قابلت رجلًا ليست لديه أقدام.) علينا أن ننظر إلى المشكلات التي يعانيها بلدنا من هذه الزاوية. لا يود أحد أن يحرم أي شخص من حقوقه إلا إذا كانت تلك الحقوق تمس حقوقًا تفوقها أهمية وتخص أعدادًا أكبر بكثير من الناس.»57 كان تأميم البنوك خطوة تأييد لبسطاء الشعب استقبلوها بسعادة عارمة؛ فقد «رقص في الشوارع الموظفون محدودو الدخل من القطاع الحكومي وغيره وسائقو سيارات الأجرة … والعاطلون وغيرهم ممن لم يرَ البنوك … من الداخل من قبل»، واحتشدوا خارج منزل إنديرا في شارع سافدارجانج. وحببت تلك الخطوة الحزب الشيوعي الهندي في إنديرا.58

احتاج السينديكيت ورئيس حزب المؤتمر نيجالينجابا إلى حلفاء، لكنهم لما استعانوا بحزب جان سانج وحزب السواتانترا اليمينيين ارتكبوا خطأً اتضحت فداحته فيما بعد. وقعت إنديرا على أوراق ترشيح ريدي رئيسًا للهند وصار هذا الأخير مرشح الرئاسة الرسمي لحزب المؤتمر، إلا أنها لم تصدر أمرًا لأعضاء البرلمان من الحزب بالتصويت لريدي. لقد حثها مؤيدوها على الدعوة إلى إقامة تصويت حر لأنه من المحتمل أن يكون ريدي مؤيدًا من حزب جان سانج وحزب سواتانترا اليمينيين.

بعدئذٍ زاد نيجالينجابا من فداحة الخطأ التكتيكي الذي ارتكبه هو والسينديكيت عندما أكد لإنديرا أن حكومتها لن تتعرض للإطاحة إن صار ريدي رئيسًا، حينها ردت إنديرا عليه برفعة نفس ردًّا عذبًا قائلة: «أؤكد لك معارضتي الشديدة لمحاولة إقحام النفوذ في مسألة تتعلق بقضايا جوهرية. لست بحاجة لمن يطمئنني، وإنني لا أسعى إلى الاحتفاظ بمنصبي بأي ثمن.»59
في نهاية الأمر وفي ٢٠ أغسطس أعلنت نتائج الانتخابات الرئاسية. وبفارق ضئيل فاز في في جيري نائب الرئيس السابق بمنصب الرئيس وخسر ريدي، جاء هذا الفوز بمساعدة جماعات معارضة كثيرة مثل الشيوعيين والحزب السيخي المعروف باسم حزب أكالي دال وحزب ولاية تاميل نادو المحلي الذي يحمل اسم حزب درافيدا مونترا كاجاغام. وعلى حد قول أحد المراقبين فإن: «جيري قد فاز … لكن من الصعب الجزم بأن ريدي قد خسر.»60 لقد أوشك حزب المؤتمر الذي يبلغ عمره أربعة وثمانين عامًا — والذي قال عنه نهرو إنه مرآة الأمة لأنه يحتضن العديد من الأيديولوجيات والفرق — على الانقسام.
إبان فصل الخريف عُقدت «مباحثات الوحدة» واجتماعات بين فصيلي حزب المؤتمر المتنازعين: الحرس القديم للسينديكيت من ناحية وأتباع إنديرا من ناحية أخرى. إلا أن هذه المباحثات لم تسفر عن أي نتيجة تذكر. ففي ٢٨ أكتوبر كتب نيجالينجابا رئيس حزب المؤتمر إلى إنديرا خطابًا مفتوحًا يتهمها فيه بأنها ابتدعت نوعًا من «تأليه الذات» تسبب في تهديد سير الديمقراطية في الحزب، وأنهى الخطاب بتوبيخها على أنها جعلت الولاء الشخصي لها مقياسًا على الولاء لحزب المؤتمر والأمة.61 لكن رأيه ذلك لم يُنظر إليه باعتباره جرس إنذار وإنما اعْتُبِر حينها رأيًا وحيدًا رجعيًّا.
في الأول من نوفمبر عقد لأول مرة اجتماعان للجنة عمل المؤتمر في آن واحد ومكانين مختلفين في نيودلهي، الأول في مقر لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في جانتار مانتار رود، والثاني في منزل إنديرا في سافدارجانج رود. حضر كل اجتماع عشرة أعضاء. وبعد أسبوع أصدرت إنديرا «خطابًا لأعضاء حزب المؤتمر» قالت فيه بطريقة غير مقنعة:
«إن ما نشهده الآن … ليس مجرد صدام بين شخصيات، وبالتأكيد ليس نزاعًا على السلطة. وليس ببساطة صراعًا بين الجناحين البرلماني والتنظيمي، إنه صراع بين وجهتي نظر وموقفين فيما يتعلق بالأهداف والنظم التي يجب أن يعمل بها حزب المؤتمر نفسه. إنه صراع بين فئتين؛ الأولى تمثل أولئك الذين يؤيدون الاشتراكية والتغيير والديمقراطية التامة والحوار داخل الحزب، أما الفئة الثانية فتمثل أولئك الذين يؤيدون بقاء الأوضاع على حالها، ولا يؤيدون إجراء حوارات مفصلة داخل الحزب.»62

في ١٢ نوفمبر عقد السينديكيت تحقيقًا تم فيه محاكمة إنديرا «غيابيًّا» وقالت نتيجة التحقيق إن إنديرا ثبتت إدانتها بتهمتي العصيان وتحدي قيادة الحزب. بل أشارت نتيجة التحقيق أيضًا إلى أنها تعتزم بيع الهند إلى الاتحاد السوفييتي، وزعم أن بي إن هاكسار هو حلقة الوصل المباشرة بينها وبين السفارة السوفييتية وموسكو. ثم أعلن نيجاليجابا في اليوم التالي على ذلك الاجتماع طرد إنديرا من الحزب.

استشاطت إنديرا غضبًا وسخطًا، وطالبت بعقد اجتماع لمجلس الوزراء تعهد فيه أعضاء المجلس — باستثناء القليل منهم — بالولاء لها. وأصدرت أيضًا بيانًا قالت فيه: «إنه لمن التجرؤ والغطرسة أن تتخذ تلك الحفنة من الرجال إجراءً تأديبيًّا ضد قائدة انتخبها الشعب بطريقة ديمقراطية. فهل سنرضخ لهم (أي لقادة الحزب) أم نطهر الحزب من هذه الشخصيات الدكتاتورية الفاشية؟»

أعقب ذلك ضغط مشدد لتحديد الجانب الذي سيحتفظ بالأغلبية من حزب المؤتمر. فيما بعد قال ناراسيمها راو في وصف تلك الفترة: «كانت إنديرا غاندي خيارًا خطيرًا لأعضاء الحزب ومع ذلك فهي خيار واجب.»63 وكما هو متوقع انضم المزيد من أعضاء المؤتمر إلى جانب إنديرا عن قناعة قوية لا عن رهبة، وفازت إنديرا بمجموع ٢٩٧ عضوًا منهم ٢٢٠ عضوًا من مجلس النواب. وعليه تسمى حزب المؤتمر التابع لها بحزب المؤتمر (آر) اختصارًا للحرف الأول من كلمة [تعني المُطالب لأنه طالب بعقد جلسة خاصة للحزب] في حين تسمى السينديكيت باسم حزب المؤتمر (أو) اختصارًا للحرف الأول من كلمة [تعني المنظمة]، (ومع ذلك فإن حزب المؤتمر (آر) كان عادة ما يُنظر إليه على أنه يشير إلى حزب المؤتمر الحاكم ويُنظر إلى حزب المؤتمر (أو) على أنه يشير إلى حزب المؤتمر القديم).
كتبت ابنة عمة إنديرا نايانترا ساهجال التي كانت آنذاك صحفية في صحيفة «صانداي ستاندارد» عن انقسام الحزب قائلة: «لقد أصبح أداء الحكومة في السياسة أشبه بسلوك العصابات الكبرى … فقد أطلقت عهدًا جديدًا مجردًا من المبادئ في السياسة الهندية. واكتسبت كلمة «القائد» بُعدًا مخيفًا … فصارت مرادفة لحكم الفرد بكل ما ينطوي عليه من مخاطر.»64 أعربت والدة ساهجال فيجايا لاكشمي بانديت هي الأخرى — التي تظاهرت باعتزال السياسة العام السابق على ذلك — عن استيائها من الوضع. فقابلت إنديرا ذلك بأن وهبت منزل آناند بهافان للأمة في نهاية ذلك العام، متجاهلة شرطًا في وصية أبيها ينص على السماح لأختيه بدخول منزل العائلة دومًا، ورفضت أن تسمح لفيجايا لاكشمي بانديت بالمبيت في آناند بهافان في الليلة السابقة على مراسم تدشينه نصبًا تذكاريًّا.
نتيجة لانقسام حزب المؤتمر خسرت إنديرا الأغلبية في كلا مجلسي البرلمان، غير أن منصبها لم يكن بالضرورة مهددًا؛ فقد احتفظت بتأييد حزب الهند الشيوعي وبعض الأحزاب المستقلة والعديد من الأحزاب المحلية. وقد لاقى حزب المؤتمر (أو) عندما نادى بإقامة تصويت بحجب الثقة عنها هزيمة ساحقة. في اجتماع عُقد للجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في نهاية نوفمبر في نيودلهي تحركت عواطف إنديرا ودمعت عيناها وهي تتحدث عن إسهام عائلتها في الحزب وعن طرد السينديكيت لها منه. أوضحت إنديرا في الاجتماع أنها — ككل أعضاء الحزب — اضطرت إلى الانتظار إلى أن تبلغ الواحدة والعشرين من العمر كي تصبح رسميًّا عضوًا فيه. إلا أن عضويته كانت بمنزلة حق أساسي لها، وقد شعرت طوال سنين حياتها في آناند بهافان أنها ولدت عضوًا فيه، يستحيل أن تنتمي إلى غيره. من ثَم، وهي في الثانية والخمسين من العمر، كانت تقول على رءوس الأشهاد: «لا يمكن لأحد أن يطردني من الحزب. إنها ليست مسألة قانونية أو مسألة تتعلق بإصدار قرار بالطرد. إنها مسألة تتعلق بالفطرة التي وجد عليها قلبي وكياني.»65
لم تبدِ إنديرا ندمًا على انقسام حزب المؤتمر. فقبل ثلاثة أعوام قالت للكاتب فيد ميهتا في مقابلة صحفية: «لن أحجم عن القول إن حزب المؤتمر صار حزبًا محتضَرًا. إذ لا يوجد به تقريبًا قائد واحد يملك فكرًا معاصرًا … لم ينجح الحزب قط في الارتقاء بنفسه ليكون حزبًا سياسيًّا عصريًّا.» واستطردت تقول، وكأنها تتنبأ بما سيحدث في المستقبل: «أحيانًا أشعر أن نظامنا البرلماني يُحتضَر. فكل شيء يخضع للمناقشات مرارًا وتكرارًا ولا يتم إنجاز شيء. يجري استغلال كل شيء يصلح لأن يُستغَل لأغراض سياسية. وفوق كل ذلك فإن الجمود الذي تعانيه أجهزتنا الحكومية رهيب.»66
يعد «الانقسام الكبير» الذي وقع بالمؤتمر عام ١٩٦٩ نقطة بارزة في تطور مكانة إنديرا وأيضًا في تاريخ السياسة الهندية. أثبتت إنديرا جدارتها؛ فهي كما كتبت عنها صحيفة «نيويورك تايمز» «أثبتت أنها سياسية شجاعة، وصلبة، ومناورة بارعة للغاية، إنها رئيسة وزراء عن استحقاق، وليست مجرد شخصية اضطلعت برئاسة الوزراء لبعض الوقت بالاعتماد على إرثها كابنة لنهرو.»67 ونتيجة لما اكتسبته إنديرا من استقلالية ونفوذ أجرت بعد ستة شهور من انقسام حزب المؤتمر تغييرًا وزاريًّا؛ فأبعدت تشافان (الذي أيد سانجيفا ريدي إبان الصراع الذي قام حول مسألة رئيس الهند) وتولت وزارة الداخلية بنفسها. وقد مكنتها تلك الخطوة من إعادة تنظيم إدارة الاستخبارات التي كانت إلى ذلك الوقت مسئولة عن الاستخبارات الداخلية والخارجية. قسمت إنديرا الإدارة إلى جناحين؛ خصصت جناحًا ليكون مسئولًا عن الاستخبارات الداخلية ومكافحة التجسس، أما فيما يخص الاستخبارات الخارجية فقد أنشأت لها جناحًا جديدًا سمته جناح البحث والتحليل، وأخضعت الجناحين لسلطة رئيس الوزراء المباشرة.
تبدلت أحوال الحزب جراء الانقسام الكبير، وصار تغييرها مستحيلًا. أشار هذا الانقسام إلى حدوث نهاية مفاجئة لعقود من الوحدة والائتلاف، فصار الحزب «منظمة مفككة تضم جماعات تتراوح أيديولوجياتها بين اليمينية المتطرفة والراديكالية المعتدلة».68 وقبل هذا الانقسام كان الحزب، في أغلب الأحوال، يستوعب قوى المعارضة. أما الآن فإن هذه القوى باتت تُطرد خارجه. وفوق ذلك أشار ذلك الانقسام إلى تحقيق جناح الحزب البرلماني نصرًا على جناحه التنظيمي الذي ستبدأ قوته ابتداءً من تلك اللحظة في التضاؤل. احتاجت إنديرا إلى دعم نفوذها كي تحمي منصبها وسلطتها من التعرض للخطر ثانية، ولم تسعَ إلى السيطرة على الرئيس وحسب، بل على مجلس الوزراء، ورئيس حزب المؤتمر، ولجنة عمل الحزب، ومجلسه البرلماني، ولجنته للانتخابات المركزية أيضًا.

احتاجت إنديرا أيضًا إلى بسط سيطرتها على غير نيودلهي من الولايات. لذا قامت على مدى السنوات التالية، وبطريقة تكتيكية، بدفع زعماء الولايات الذين لم يؤيدوها في نزاعها مع السينديكيت إلى ترك مناصبهم؛ ضمت قائمة هؤلاء الزعماء آنذاك رؤساء حكومات ولاية راجستان، وأندرا براديش، ومادهيا براديش، وماهاراشترا. بعدئذٍ أحلت إنديرا محلهم أتباعها عن طريق «ترشيح» لهم لشغل منصب رؤساء حكومات الولايات، ثم حصل هؤلاء الأتباع على المنصب بعد موافقة نواب حزب المؤتمر المهيمنين على البرلمان. وقد حرصت إنديرا على أن يكون هؤلاء المرشحون رجالًا يخلصون لها شخصيًّا، لكن يفتقرون إلى القوة والدعم السياسيين.

وقد سرت آثار الانقسام تلك من دلهي — المركز — إلى أصحاب المراكز السياسية الأدنى على مستوى المقاطعات والمناطق، فقضت على تيارات المحسوبية وبنوك الأصوات التي كان هؤلاء يتحكمون بها. فكانت النتيجة — على حد تعبير صونيل خيلناني — هي أن «حزب المؤتمر … انحط إلى مستوى أصبح فيه شركة غير خاضعة للرقابة اختصاصها هو كسب الانتخابات». وأضاف خيلياني أن الحزب صار «آلية لجمع الأموال، وتوزيع «البطاقات الانتخابية»، ومنح الترشيحات لمقاعد البرلمان، وإدارة الحملات الانتخابية».69
كانت دوافع إنديرا في ذلك الوقت غامضة. هل بإمكاننا أن نعزو تفكيكها لحزب المؤتمر والانحلال الذي أصاب الديمقراطية الهندية فقط من منطلق «الرغبة في البقاء السياسي»؟70 إلى حد بعيد كان المستشارون الشخصيون المحنكون الذين أحاطوا بإنديرا — وخاصة بي إن هاكسار — هم من وضعوا استراتيجيتها. وكان كل من هاكسار، ودي بي دهار، وآي كيه جوجرال، وغيرهم من المقربين إليها يتحركون وفقًا إلى أيديولوجية بعينها. إلا أنهم — مثل إنديرا — في سعيهم لتحقيق غاياتهم الأيديولوجية لم يكونوا كنهرو فيما يخص الحرص على عدم التدخل في النظام الديمقراطي والهيكل الحكومي. في تلك المرحلة لم تتمتع إنديرا بالدهاء السياسي الذي كانت كثيرًا ما توصف به، إلا أنها في السنوات الثلاثة الأولى المضطربة من فترة رئاستها للوزراء اكتسبت بلا شك قدرًا كبيرًا منه. الخطر الحقيقي الذي أضمرته أعماق نفس إنديرا غاندي وهدد الهند في أواخر الستينيات لم يكن القسوة أو النفاق أو التظاهر بالراديكالية أو التأييد الصوري للعامة، بل كان بالأحرى إيمانها المتزايد بأنها وحدها القادرة على قيادة البلاد. وقد أتى ذلك الإيمان من وعيها بتراثها الشخصي. كانت «أعباء» الماضي — على حد تعبير نهرو — وماضي أسرتها هي بالفعل منبعه. فقد نشأ عن الدور الذي اضطلعت به أسرتها في تاريخ الهند، الذي حاول والدها جاهدًا أن يغرسه في ذهنها. فإنديرا كانت كما أخبرها والدها على مدى الأعوام الماضية في كتابه «لمحات من تاريخ العالم» وليدة «عالم من المصاعب والمشكلات».

لم تكن إنديرا مثقلة بأعباء الماضي وحسب، بل كانت تشعر أيضًا بأنها مسئولة عن حاضر ومستقبل الهند. إلا أنها أساءت تفسير تلك الواجبات والمسئوليات وظنت أنهما ضرورة لا غنى عنها. والأدهى أنها لم تبالِ بطبيعة الوسائل التي تستخدمها في تأدية واجباتها. لقد كشف انقسام حزب المؤتمر عام ١٩٦٩ عن جهل إنديرا بقدرة الديمقراطية على الصمود في وجه المشكلات. ولأنها لم تفهم النظام الديمقراطي جيدًا أو حتى تثق به، فلم تكن مؤمنة بأنه والهند سيتمكنان من البقاء من دونها.

على أي حال آنذاك لم تضع إنديرا نصب عينيها سوى الاستمرار في منصبها. لم يكن قد خطر ببالها بَعْدُ تأسيسُ أسرة حاكمة. وفي حقيقة الأمر فإنها صرحت مرارًا في المقابلات الصحفية التي أجريت معها أن السياسة لا تثير اهتمام ابنيها، وأنها ستبذل كل ما بوسعها لتضمن بقاءهما بعيدًا عن عالم السياسة. لم تكن ترغب في توريث «أعباء» أسرتها إليهما. لم تدعُ إنديرا أصدقاءها يشاطرونها تلك الأعباء. ولم تخلط — كما ذكر آي كيه جوجرال — بين الأمور الشخصية والسياسية قط؛ فكانت تضع حاجزًا وقائيًّا يفصل بين الاثنين. فمن ناحيةٍ زملاؤها من عالم السياسة لم يكونوا أصدقاء لها. ومن ناحية أخرى لم تكن تسمح لأصدقائها — مثل دوروثي نورمان، وماري سيتون، وبوبول جاياكار — بالاطلاع على حياتها السياسية إلا نادرًا.

•••

غير أن الحدود التي رسمتها إنديرا للفصل بين الشئون العائلية وشئون الدولة، بين ما هو خاص وما هو عام، أخذت في الانهيار اعتبارًا من ١٣ نوفمبر عام ١٩٦٨؛ ففي هذا اليوم أُعلن في مجلس النواب أن ابنها سانجاي غاندي ذا الاثنين وعشرين عامًا تقدم بطلب للحصول على ترخيص بإنتاج سيارة هندية محلية صغيرة تعمل بكفاءة. وقال وزير الدولة الهندي للتنمية الصناعية إن هذه السيارة سوف تباع بمبلغ ستة آلاف روبية، وستبلغ سرعتها القصوى ٥٣ ميلًا في الساعة، ومعدل استهلاكها للوقود هو جالون لكل ٥٦ ميلًا. كانت فكرة إنتاج سيارة هندية تشبه سيارة الفولكس فاجن، تتكلف مبلغًا زهيدًا وتصنع بالجملة وتصبح «سيارة الشعب» قد بُحثت في اللجان الحكومية لأكثر من عقد، لكن لم يتم اتخاذ قرار أن ينتج القطاع الخاص هذه السيارة إلا عام ١٩٦٨. كان هناك أربعة عشر طلبًا للحصول على ترخيص إنتاج تلك السيارة بخلاف طلب سانجاي، من بينها طلبات من شركات مشهورة في صناعة السيارات مثل رينو وسيتروين وتويوتا ومازدا وموريس.71

من الواضح أن سانجاي، الذي لم يكمل تدريبه في شركة رولز رويس، لم يكن من رجال صناعة السيارات أو رجال الأعمال، إلا أنه اشتهر بسلوكه الجامح. ففي سنوات مراهقته كان هو وصديق له يدعى عادل شاريار (كان ابن صديق لعائلة نهرو يدعى محمد يونس) يسرقان السيارات ويتنزهان بها ثم يتركانها في دلهي. وكان لسانجاي سجل من المآزق والمواقف المحرجة في إنجلترا؛ فأثناء إقامته خارج الهند تسبب في المشاكل باستمرار للسفارة الهندية؛ إذ قبض عليه مرارًا بسبب تجاوزه السرعة القانونية أثناء قيادته سيارته الجاجوار. وفوق كل ذلك قُبِضَ عليه في ديسمبر عام ١٩٦٦، وقتما كان لا يزال في إنجلترا، بتهمة قيادة السيارة بدون رخصة قيادة سارية.

عندما عاد سانجاي للهند عام ١٩٦٧ ظهرت منه بوادر تفيد أنه يود أن يحظى بمكانة رفيعة في الهند كتلك التي يحظى بها هنري فورد في الولايات المتحدة. فافتتح مع صديقه آرجون داس ورشة سيارات في منطقة جولابي باغ بشمال دلهي. وفي هذه الورشة التي اكتظت بالقطع المعدنية الصغيرة المعوجة وقطع الغيار الصدئة، التي «تحيطها مقالب النفايات وبالوعات المجاري التي تطفح بما فيها»، ولد حلم سانجاي بصناعة سيارة هندية تدعى ماروتي على اسم ابن إله الريح في الديانة الهندوسية.72
وفي نوفمبر عام ١٩٧٠، بعد مناقشة في مجلس الوزراء تولت إنديرا بالطبع رئاستها. تسلم سانجاي — مع عدم خبرته — خطاب نوايا من وزير الصناعة دينيش سينغ. حصل سانجاي على ترخيص لإنتاج ٥٠ ألف سيارة «زهيدة الثمن» سنويًّا مصنعة بالكامل من مكونات محلية. وبدأ إطلاق صناعة سيارة الماروتي، سيارة الأمة. لكن، كما هو متوقع، قوبل منح سانجاي ترخيص الإنتاج باحتجاج عام عنيف. فعلى سبيل المثال اتهم عضو برلماني من الحزب الاشتراكي يدعى جورج فرنانديز إنديرا في الصحف بـتهمة «ممارسة أسوأ أنواع محاباة الأقارب». في حين وصف عضو برلماني آخر يدعى راج ناراين مسألة منح سانجاي ترخيص الإنتاج بأنه عار على «الديمقراطية والاشتراكية». وتحدث عضو البرلمان أتال بيهاري فاجبايي (الذي سيصبح رئيسًا لوزراء الهند في المستقبل) عن «الفساد المطلق»، في حين استنكر جيوتي باسو عضو البرلمان (المنتمي للحزب الشيوعي البنغالي) ما رأى أنه ينم عن «فساد إنديرا ومحاباتها لأقاربها». ردت إنديرا على عاصفة الانتقادات تلك ردًّا واهيًا، قائلة: «لقد أظهر ابني إقدامًا … إن لم أشجعه، كيف لي أن أطلب من غيره من الشباب أن يقدموا على المخاطر؟»73

من الصعب التأكد مما شعرت به إنديرا إزاء تسلم سانجاي عقد إنتاج سيارة الماروتي. لكن الأرجح أنها شعرت بالحيرة. لم يملك سانجاي أي مؤهلات، ولو كان ابنًا لأي شخص غير رئيسة الوزراء لأظلم مستقبله. وهكذا جاءت سيارة الماروتي لتكون فرصة ذهبية لسانجاي لإثبات ذاته. لكن، في الوقت نفسه، كان على إنديرا أن تدرك أن تلك الفرصة ستؤدي به إلى دخول الحياة العامة. غير أن سانجاي كان شرسًا في سعيه إلى الفوز بالعقد. وقد امتلك منذ موت فيروز تأثيرًا نفسيًّا عجيبًا على والدته، لذا من المتوقع أنه حينذاك ضغط عليها بقوة لتسهل منحه ترخيص إنتاج السيارة. وقد كان لإذعانها له في مسألة ترخيص إنتاج الماروتي عواقب وخيمة، مع أن تلك لم تكن المرة الأولى التي يتضح فيها أن إنديرا لا تقوى على رفض طلب لسانجاي. لقد ظلت تصر على أنها لا ترغب في دخول أي من ابنيها عالم السياسة، لكن عقد إنتاج سيارة الماروتي فتح الباب أمام سانجاي للنفاذ إلى ذلك العالم.

•••

في ربيع عام ١٩٧٠ مرت إنديرا بمرحلة مهمة من حياتها على المستوى الشخصي؛ فقد صارت جدة. في العام الماضي أجهضت سونيا غاندي حملها، لكنها في أبريل عام ١٩٧٠ ولدت طفلًا معافًى اسمه راهول. وكتبت إنديرا إلى دوروثي نورمان في أغسطس تقول: «إن حفيدي راهول تقر له العين. لقد اختفت التجاعيد من جلده، لكنه احتفظ بلغده.»74

أحبت إنديرا الطفل حبًّا شديدًا، لكن نادرًا ما تسنى لها وقت لتمضيه معه. فيما بعد لما تعلم أحفادها المشي صاروا يصاحبونها في بعض الأحيان عند ذهابها إلى الدارشان (مجلس استقبال الزوار) في الصباح لتحيي حشود المعجبين وملتمسي البركات الذين كانوا يحتشدون خارج حديقة منزلها للتحدث إليها قبل ذهابها إلى مكتبها. وتوجد صور لإنديرا وهي جالسة تتحدث إلى حشود الصحفيين على عشب حديقتها وفي خلفية الصورة يظهر راهول أو أحد أحفادها الآخرين وهو يلعب. وفيما بعد عندما كان أحفادها في الثالثة أو الرابعة من العمر أو أكبر من ذلك، كانت كثيرًا ما تطلب أن يناموا في غرفتها ليلًا. كان يتسنى لها حينئذٍ على الأقل بعض الوقت لتكون معهم، وإن كانوا حينها نيامًا.

لم تكن أنشطة إنديرا الرئيسية عام ١٩٧٠ كأنشطة أغلب الجدات ممن هن في مثل عمرها. آنذاك عكفت — بتأثير هاكسار ومستشاريها الآخرين — على تطبيق سلسلة من الإجراءات الراديكالية أبرزها وأكثرها إثارة للجدل هو اقتراح إلغاء المخصصات الملكية التي كفلها الدستور الهندي للأمراء الهنود عند الاستقلال. فعام ١٩٧٠ كان في الهند ٢٧٨ أميرًا يتقاضون سنويًّا من الحكومة الهندية مبلغًا من المال يتراوح بين ثلاثمائة وخمسين ألف دولار و٢٥ دولارًا فقط، المبلغ الأول كان يحصل عليه الأمير الأعظم (سواء من حيث عظم حجم الإمارة التي امتلكها أو — في هذه الحالة — من حيث عظم حجم جسد الأمير نفسه) مهراجا ولاية موسوري الذي اشتهر بين الناس في الأوساط غير الرسمية بلقب «صاحب الضخامة». أما المبلغ الثاني فكان يحصل عليه المسئول عن جمع الضرائب المستحقة عن قرية كاتوديا وتوريدها للحكومة، وقد كانت كل مخصصات الأمراء معفاة من الضرائب. لذا وضعت إنديرا تعديلًا دستوريًّا لإلغاء المخصصات الملكية وعرضته على البرلمان في سبتمبر عام ١٩٧٠. وافق مجلس النواب على ذلك التعديل بأغلبية ٣٣٩ صوتًا مقابل ١٥٤ صوتًا. لكنه لم يحصل على الأغلبية في مجلس الولايات (الراجا سابها) فالفارق كان صوتًا واحدًا. عندئذٍ استصدرت إنديرا من الرئيس في في جيري — الذي كان يميل لمساعدتها — إعلانًا رئاسيًّا يقضي «بعدم الاعتراف» بالأمراء وتجريدهم ليس فقط من امتيازاتهم ومخصصاتهم الملكية بل من ألقابهم أيضًا. وبذلك أُضيف إلى الخزانة العامة للدولة ما يزيد عن ستة ملايين دولار، وكما كانت الحال لدى تأميم البنوك لاقي إلغاء مخصصات الأمراء استحسانًا شعبيًّا هائلًا.

•••

وبرغم الشعبية التي حظيت بها السياسات اليسارية المعتدلة التي تبنتها إنديرا آنذاك، فإن حكومتها كانت حكومة أقلية، ومن ثَم حكومة ضعيفة. ألغت المحكمة العليا تشريع تأميم البنوك، وأصدرت في أوائل ديسمبر عام ١٩٧٠ قرارًا ببطلان الإعلان الذي يقضي بإلغاء المخصصات الملكية التي تُمنح للأمراء. وفي ذلك الحين علت في الأوساط البارزة والمؤثرة في الحكومة أصوات التهامس الدائر حول الحاجة إلى تأسيس «نظام قضائي وبيروقراطي مواليين» من أجل تحقيق «العدالة الاجتماعية». كانت إنديرا بحاجة إلى مصادقة شعبية لتؤسس ذلك، فحثها هاكسار على المطالبة بإجراء انتخابات في منتصف فترة ولايتها تكون بمنزلة استفتاء حول سياساتها. وعليه أعلنت إنديرا على الأمة أن الانتخابات ستعقد قبل موعدها بعام في فبراير عام ١٩٧١. قالت إنديرا في إعلانها ذاك: «الزمن لن ينتظرنا. الملايين المحتاجون إلى الغذاء والمأوى والعمل يلحون لاتخاذ إجراء. إن السلطة في البلدان الديمقراطية بين يدي الشعب. لهذا قررنا اللجوء إلى الشعب والسعي إلى الحصول على تفويض من الشعب نفسه.»75
بعد إعلانها ذلك بوقت قصير سألها صحفي من مجلة نيوزويك عن القضايا التي ستدور حولها الانتخابات القادمة. فأجابته بلا تردد: «أنا القضية.»76