إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الرابع عشر

العالم باللون الأحمر

كانت جميع أحزاب جبهة المعارضة لإنديرا، أو ما يعرف باسم «التحالف العظيم» — الذي تكون من حزب المؤتمر (أو)، وحزب جان سانج، وحزب السواتانترا، وحزب الساميوكتا الاشتراكي — تعلم أن إنديرا هي القضية التي ستدور حولها انتخابات عام ١٩٧١، ووقعت هذه الجبهة في خطأ فادح يتمثل في شخصنة شعار حملتها الانتخابية؛ إذ اتخذت شعارًا لها يقول: «تخلصوا من إنديرا». ردت إنديرا على ذلك الشعار بأن أطلقت شعارًا بسيطًا وفعالًا هو: «تخلصوا من الفقر.» جاء شعار «تخلصوا من الفقر» ليكون نداءً للهنود يطالبهم باجتثاث أسوأ الشرور التي تواجهها الهند. وأثبت في الوقت نفسه نجاحه في كسب أصوات الناخبين. كان هذا الشعار «كالصاعقة … كالرؤيا … كالثورة». وكان «مفعوله مباشرًا وأثره قويًّا».1 إذ رأى الفقراء الذين يمثلون أغلبية الشعب الهندي في إنديرا الخلاص.

أدارت إنديرا حملتها الانتخابية طوال شهري يناير، وفبراير بعزم ومثابرة أشد مما فعلت عام ١٩٦٧. ولما لم يكن هناك تنظيم حزبي يذكر أو قادة آخرون بمكانتها، كانت هي نجم الحملات الانتخابية و«قضيتها». هذا فضلًا على أنها كانت بدعوتها إلى عقد اقتراع مبكر في منتصف فترة ولايتها قد فصلت بين انتخابات المجالس التشريعية وانتخابات المجلس البرلماني (التي كان من المقرر أن تعقد في موعدها العام التالي)، بحيث يتركز الاهتمام مباشرة على القضايا الوطنية وانتخابات الحكومة المركزية في نيودلهي.

كانت تلك الانتخابات بمنزلة استفتاء حول إنديرا غاندي نفسها. فيما بعد قصت راج ثابار زوجة روميش ثابار مستشار إنديرا موقفًا من المواقف التي صودفت بكثرة آنذاك ودلت على تفوق إنديرا في انتخابات عام ١٩٧١. تحكي راج أنها ذات يوم عندما كانت تركب سيارة أجرة في دلهي سألت سائق السيارة عمن ينوي منحه صوته:

فأجابها على الفور: «آه، نحن معشر سائقي الأجرة قررنا التصويت لإنديرا.»

سألته راج: «أتعني أنكم ستصوتون لحزب المؤتمر؟»

رد السائق قائلًا: «بالطبع لا. نحن لا ننوي التصويت للمؤتمر. نحن ننوي التصويت لها هي.»

عندئذٍ سألته راج: «لماذا لإنديرا تحديدًا؟» أجابها سائق سيارة الأجرة بأن إنديرا قد «أثبتت شجاعتها» بتأميمها للبنوك. فلما أشارت راج إلى أنه لا يملك بالتأكيد ما يكفي من المال ليفتح حسابًا مصرفيًّا، عندئذٍ رد عليها السائق بحدة قائلًا: «أنت لا تفهمين المسألة. صحيح أنني لا أملك ما يكفي من المال. لكنها أثبتت أنها على استعداد لتأديب أصحاب الغنى الفاحش. وهذا يدل على شجاعتها. ومعناه كذلك أنها … ستفعل شيئًا من أجلنا جميعًا.»2
طوال حملة إنديرا الانتخابية التي استغرقت ثمانية أسابيع بذلت إنديرا أقصى طاقاتها، إلا أن الكلل لم يصبها؛ كانت تستيقظ قبيل الفجر ولا تخلد للنوم قبل الواحدة أو الثانية صباحًا إلا نادرًا. ومن أوائل يناير حتى الانتخابات في أوائل مارس سافرت مسافة ثلاثين ألف ميل جوًّا ومسافة ثلاثة آلاف ميل بسيارتها والسكك الحديدية. وخطبت في ٤١٠ اجتماعات انتخابية حضرها ٢٠ مليون شخص، الكثير منهم قطع رحلة طويلة ومضنية لرؤيتها وسماعها. وقد تحدثت إنديرا لأحد الصحفيين عن تلك الحملة الانتخابية الشاقة وعن الإعجاب الذي حازته فيها والذي فاق حتى ما حازه نهرو من قبلُ. قالت إنديرا للصحفي عن الحملة إنها: «مثيرة … وكأنها حركة؛ حركة شعبية. أحب حقًّا التواجد بين أفراد الشعب. فالتعب يذهب عني عندما أكون معهم … أنا لا أنظر إليهم ككتلة، وإنما أراهم أفرادًا كثيرين … وكل منهم يشعر حقًّا أنني أتواصل معه.»3

لم يتركز الاهتمام على مرشح واحد بهذه الدرجة من قبل. لقد رُسمت صورة إنديرا بألوان زاهية على لوحات ضخمة وُضعت وسط شوارع المدينة. وكان القرويون — حتى في المناطق النائية — يشبكون شارات تحمل وجهها إلى زيهم الداهوتي والساري، ولا سيما إلى الساري لأن إنديرا حازت تقريبًا كل أصوات السيدات. أما مرشحو المؤتمر الآخرين — وكثير منهم اصطفته إنديرا — فقد حجبت إنديرا عنهم الأضواء وهي تجيء وتذهب في البلاد حاملة رسالتها الراديكالية إلى الناس؛ رسالة «تخلصوا من الفقر».

آنذاك كانت إنديرا قد صارت خطيبة تتمتع بالقدرة على الإقناع والتأثير، لم تعد تستند إلى تاريخها في حزب المؤتمر ولا إلى تراث أبيها أو المهاتما غاندي كما اعتادت أن تفعل كثيرًا في الماضي. يعبر أحد الصحفيين عن ذلك فيقول: «بدلًا من اللعثمة بصوت رفيع، في موضوعات مختلفة بلا رابط، صرنا أمام خطيبة مباشرة ومؤثرة. تثير الحماسة في جمهورها.» أهم الموضوعات التي ركزت عليها إنديرا لإثارة حماسة الجمهور هي حملتها البطولية على «القوى الداعية إلى التخلف … وإخلاصها المجرد من المصلحة الشخصية لقضية محاربة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية». غير أنها وعدت في الوقت نفسه الطبقات المتوسطة ميسورة الحال بأن تكفل لها الاستقرار والانتعاش الاقتصادي. دعا بيان الأهداف الغامض الخاص بإنديرا إلى «دعم الاشتراكية مع إفساح مجال للقطاع الخاص ليلعب الدور المناسب له في الاقتصاد». لقد أكدت إنديرا أن المستقبل يدخر للكل نصيبه، فاستطاعت — على حد تعبير أحد كتَّاب سيرتها — أن تستميل الأغنياء والفقراء، وأقنعت كل جانب أنها ستحميه من الآخر.4
تعد انتخابات عام ١٩٧١ الاقتراع الديمقراطي الأكبر في التاريخ؛ شارك في التصويت في ذلك الاقتراع ١٥٠ مليون شخص من ٥٢٠ دائرة انتخابية. وكانت نتيجته فوزًا ساحقًا لحزب المؤتمر، وتفويضًا شعبيًّا هائلًا لإنديرا. فاز حزب المؤتمر (آر) التابع لها بثلثي مقاعد المجلس الأدنى من البرلمان، بمجموع ٣٢٥ مقعدًا؛ أي بأكثر مما فاز به حزب المؤتمر قبل الانفصال عام ١٩٦٧ بسبعين مقعدًا. كانت إنديرا في كلكتا في اليوم الأخير من الانتخابات عندما هاتفها بي إن هاكسار يزف إليها خبر انتصارها الوشيك. أما عقب عودتها إلى دلهي فقد ذهبت إليها راج ثابار وبوبول جاياكار لتهنئتها في منزلها حيث وجدتا حشدًا من المبايعين يحيط بها ويثني عليها ويتلمس قدميها. أومأت إنديرا إلى ثابار وبوبول بالمجيء ووجهها تعلوه ابتسامة عريضة. كانت راج تغلبها المشاعر وأخذت تهنئ إنديرا بتمتمة غير مفهومة. فقاطعتها إنديرا قائلة: «ألن تبدي حرارة أكثر قليلًا من ذلك؟» فاحتضنتها راج بقوة. بعد عدة أعوام كتبت راج عن ذلك في سيرتها الذاتية: «لقد غلبتنا لحظة السعادة بالاقتراب من الهدف، وتحققت كل أحلامنا … حتى إننا تناسينا التسلط الذي جمعنا.»5

في ١٧ من مارس أعيد انتخاب إنديرا رئيسة لأعضاء حزب المؤتمر في البرلمان بلا منافسة. وقضت الانتخابات العامة تقريبًا على المحافظين وأعضاء المؤتمر (أو). كان من بينهم راج ناراين خصم إنديرا في ولاية راي باريللي، وهو سياسي غريب الأطوار أخرق، يبدو أنه جذب الانتباه عام ١٩٧١ لمجرد أنه ابتكر شعار «تخلصوا من إنديرا» الذي انتهى بالفشل.

•••

بعد الانتخابات مباشرة بدا أنه لا سبيل إلى هزيمة إنديرا. لقد صارت أقوى رئيس وزراء للهند منذ استقلالها، وتغير نظام الهند السياسي تغيرًا جذريًّا. كانت إنديرا وحدها — لا حزبها — وراء النصر في انتخابات عام ١٩٧١. لذا اتسعت قدرات وسلطات رئيسة الوزراء بدرجة كبيرة. وصارت قيادة إنديرا للحزب ضرورة، فقد كانت الشخصية الوحيدة في الهند التي تتمتع بتأييد شخصي يسمو فوق الانتماءات للمناطق والطوائف … وكانت منزلتها الرفيعة تلك تنبع من التأييد الشعبي الهائل الذي تتمتع به لا من قوة حزب المؤتمر أو قادة الحزب في الولايات.6
في مارس عام ١٩٧١ وعى القليلون فقط الخطر الذي يكمن في تركز السلطة في يد أصحاب المناصب العليا. وصفت صحيفة لينك اليسارية الهندية «موجة إنديرا» التي قامت في الانتخابات بأنها «تفويض بالقيام بإصلاحات راديكالية … سيصبح به الآن تمرير الإصلاحات الدستورية في مجلس النواب — مع الحرب على القوى الداعية إلى التخلف — سهلًا.7» لقد عكفت حكومة إنديرا على وضع برنامج إصلاحي عقب الانتخابات، إلا أن ذلك البرنامج كان إصلاحيًّا في أجزاء منه فقط؛ على سبيل المثال في تأميم قطاع التأمين وصناعة الفحم. وإصدار ستة وعشرين تعديلًا دستوريًّا يقضي بحرمان حكام الإمارات من مخصصاتهم الملكية وامتيازاتهم للأبد. لكن في أجزاء أخرى، كقرار الحفاظ على الأمن الداخلي الذي أجاز اعتقال الأفراد واحتجازهم بلا محاكمة لمدة عام، كانت الإصلاحات قمعية بدرجة صارخة.
وفوق كل شيء، في شهري أغسطس وديسمبر عام ١٩٧١، صدر التعديلان الدستوريان الرابع والعشرون والخامس والعشرون. هذان التعديلان مكنا الحكومة من إدخال تعديلات على الحقوق الأساسية التي يحفظ الدستور الهندي لها قدسيتها من ناحية وأجازا حماية تلك التعديلات من المراجعة القضائية من ناحية أخرى. في العام السابق على ذلك كانت المحكمة العليا قد أحبطت محاولة الحكومة الاستيلاء على مخصصات الأمراء الملكية وسلطاتهم، أما الآن فقد صار الطريق ممهدًا لتقييد حرية السلطة القضائية. كان المنطق الأساسي الذي قامت عليه تلك التعديلات حسبما قالت إنديرا لمجلس النواب هو أن الدستور ليس قدس الأقداس ولا ناموسًا ثابتًا، وأن البرلمان لا الدستور يجب أن يمتلك السلطة لتحديد الحقوق الأساسية. قالت إنديرا: «في ظل الكثير من الارتباك على الساحة التشريعية تغير الدستور في الدول الأخرى، كما تغير في دولتنا، وإن لزم تغييره من أجل مصلحة الشعب فعلينا قطعًا أن نقوم بذلك … هذا من الواضح؛ يجب أن تعني الديمقراطية أحقية الأغلبية من الشعب.»8 وصفت إنديرا التعديلين الدستوريين الرابع والعشرين والخامس والعشرين بأنهما «نقطة بارزة في تطور الديمقراطية»، في حين زعم نقادها ومعارضوها أنهما «حوَّلا الدستور إلى أسمال بالية».9
تولى الدفاع عن برنامج الإصلاح الدستوري الذي وضعته إنديرا موهان كومارامانجالام، وهو صديق ماركسي قديم لفيروز غاندي وبي إن هاكسار من أيامهما بلندن في الثلاثينيات. ففي عام ١٩٦٦ انشق كومارامانجالام عن الحزب الشيوعي وانضم إلى حزب المؤتمر، وبعدها عينته إنديرا بعد انتصارها في انتخابات عام ١٩٧١ وزيرًا للصلب والهندسة الثقيلة. فصار سريعًا واحدًا من أهم واضعي سياستها ومتحدثًا بارزًا باسم جماعة يسارية داخل حزب المؤتمر تعرف بمنتدى المؤتمر للعمل الاشتراكي. كان من أهم أهداف هذا المنتدى تعديل الدستور الهندي «بحيث تتبدل العلاقة بين الحقوق الأساسية للأفراد والمبادئ التوجيهية التي تتبناها سياسة الدولة، وتصبح المصلحة الاجتماعية العامة فوق مصلحة الفرد … (لأنه) لا يوجد ما يبرر اعتبار حقوق الأفراد حقوقًا أهم من حقوق المجتمع».10 نادى كومارامانجالام أيضًا بتأسيس «سلطة قضائية موالية»؛ شأنه بالضبط شأن هاكسار في دفاعه عن فكرة تأسيس بيروقراطية موالية.
في تقرير بعنوان «التعديلات الدستورية والسبب وراءها» ذكر كومارامانجالام أن «الهدف الواضح» للتعديلات هو إخضاع حقوق الأفراد كما يعبر عنها (في أحكام الدستور) الخاصة بالحقوق الأساسية … للغايات المجتمعية الطارئة.»11 أو بعبارة أخرى جعل تبرير الوسيلة ممكنًا بالغاية. كان كل شيء سيكون جيدًا، يسير على ما يرام ما دام من يحددون الغايات من أصحاب المبادئ ككومارامانجالام، وبي إن هاكسار. إلا أن هذين الرجلين ومعهما إنديرا كانوا — مع حسن نواياهم — يعبثون بآليات العمل الحكومية. ماذا كان سيحدث لو احتل أفراد أقل تشبثًا بالمبادئ أو أقل إيمانًا ﺑ «التقدمية» المناصب التي يحق لها تحديد الحالات التي يجب فيها إخضاع حقوق الأفراد لمصلحة المجتمع، وفيها فضلًا عن حق التملك (الذي كان الهدف الأساسي من تعديلات عام ١٩٧١ الدستورية) حق المساواة أمام القانون وحرية التعبير والاجتماع وتكوين النقابات والدعوة للحركات؟
لكن التعديلات الدستورية — وتبعاتها — لم تبدُ أكثر القضايا إلحاحًا في ربيع عام ١٩٧١. كان ما أسر انتباه إنديرا والهند عقب الانتخابات العامة هو محنة شرق باكستان. إبان تقسيم الهند بدت دولة باكستان — بمفهومها كدولة تتكون من جناحين يفصل بينهما امتداد شاسع من الأراضي الهندية طوله ١٢٠٠ ميل — دولة واهية، وحينذاك؛ أي بعد التقسيم بأربعة وعشرين عامًا كانت تلك الدولة، موطن محمد علي جناح، تقف على شفا التدمير الذاتي. ضم شرق باكستان البنغالي أغلب السكان (نحو ٦٠٪) لكنه من الناحية الجغرافية أصغر من غربها الذي امتلك السيطرة السياسية والاقتصادية على الشرق منذ عام ١٩٤٧. في ذلك كتبت بينظير بوتو، إحدى السيدات التي ستشغل منصب رئيسة وزراء باكستان بعدئذٍ، تعترف بأنه في دولة باكستان المنقسمة إلى شعبين «بصفة أساسية، عاملت الأقلية في الجناح الغربي الجناح الشرقي الذي ضم غالبية السكان على أنه مستعمرة. فمن عائدات صادرات الجناح الشرقي التي تبلغ قيمتها ٣١ مليار روبية شيدت الأقلية في الجناح الغربي الطرق والمدارس والجامعات والمستشفيات لها، ولم تبنِ إلا القليل للجناح الشرقي. وكان الجيش الذي يعد الموظِّف الأكبر في دولتنا التي تعاني فقرًا شديدًا يستقي ٩٠٪ من قواته من الجناح الغربي، الذي شغل سكانه ٨٠٪ من الوظائف الحكومية».12 كان هناك أيضًا صراع عنصري ثقافي. لم يكن من الصعب تمييز سكان الجناح الشرقي الذين يتحدثون البنغالية ويتسمون بوجه عام بصغر أحجامهم ودكنة بشرتهم عن «أبناء جلدتهم» من الجناح الغربي الذين يتحدثون الأردية والبنجابية والسيندية. لقد صارت اللغة في الواقع سببًا رئيسيًّا من أسباب النزاع بين كلا الجناحين عندما صارت اللغة الأردية وليس البنغالية أو حتى اللغتان معًا اللغة الرسمية الوحيدة لباكستان.

على عكس الهند التي صمدت فيها الديمقراطية أمام القلاقل السياسية والمجاعات والحروب وغير ذلك من تقلبات الأحوال، انهارت الديمقراطية في باكستان بعد ما يزيد قليلًا عن عقد من استقلالها عن الهند، وتسلم الجيش زمام السلطة. وعام ١٩٧١ كان قد مر على باكستان نحو ثلاثين عامًا تحت الحكم العسكري. ونشأ في شرقها في أواخر الستينيات حركة تقرير مصير ديمقراطية تزعمها قائد ذو شخصية مؤثرة كالشيخ عبد الله في كشمير يدعى بالشيخ مجيب الرحمن، وهو رجل ستجمع بينه وبين إنديرا فيما بعد علاقة تواؤم شخصي وسياسي استثنائية.

بدأت الكارثة التي أسفرت في نهايتها عن ميلاد دولة بنجلاديش في ديسمبر عام ١٩٧٠، عندما عقدت في باكستان الانتخابات العامة لأول مرة منذ عدة سنوات. أدار حزب الشيخ مجيب الرحمن حزب رابطة عوامي الحملات مطالبًا باستقلال الجناح الشرقي، فأحرز نجاحًا ساحقًا؛ إذ فاز بجميع مقاعد البرلمان في جناح باكستان الشرقي عدا اثنين، فحاز بذلك الأغلبية التي تحسم له الفوز في الجمعية الوطنية لباكستان (مجلس النواب). كان المفترض وفقًا لنتائج الانتخابات أن يتولى الشيخ مجيب الرحمن الرئاسة. لكن قائد باكستان العسكري الجنرال يحيى خان لم يتزحزح عن الرئاسة، واتحد مع ذي الفقار علي بوتو قائد حزب الشعب لغرب باكستان — الذي أحرز نصرًا أقل في الجناح الغربي من باكستان — لمنع الشيخ مجيب الرحمن من تسلم زمام السلطة. ردًّا على ذلك شن حزب رابطة عوامي حركة عصيان مدني قوية في الجناح الشرقي.

تباعًا فرض الجنرال يحيى خان في ٢٥ من مارس عام ١٩٧١ نظامًا قمعيًّا وحشيًّا لإخماد القلاقل السياسية في شرق باكستان. فزحف الجيش الباكستاني على شرق باكستان ونهب وأحرق المنازل والمنشآت التجارية واغتصب النساء وقتل الآلاف من الأبرياء. وطورد وذُبح كل من يشتبه في معارضته للنظام الحاكم وفي ذلك الطلاب ومحاضرو الجامعات والكتَّاب والصحفيون والمفكرون. وقُبض على مجيب الرحمن نفسه ونُقِل جوًّا إلى السجن في غرب باكستان. فتمردت الشرطة في الجناح البنغالي الشرقي ومعها قوات الجناح الشرقي وفوج الكتائب البنغالية الوحيد في الجيش الباكستاني. وأعلن شرق باكستان الذي صار يعرف ببنجلاديش استقلاله، وأسس قادة حزب رابطة عوامي الذين فروا إلى كلكتا حكومة في المنفى. وصلت المذابح التي يرتكبها الباكستانيون الغربيون فيما ظل يعرف بباكستان الشرقية إلى حد الإبادة الجماعية. حتى إنه قُتِلَ ما قُدِّرَ في نهاية العام بنحو ثلاثة ملايين شخص.

وقفت إنديرا في ٣١ من مارس في مجلس النواب بعد ستة أيام من إطلاق الجنرال خان عهده المرعب في باكستان الشرقية، وأعلنت قرارًا مؤثرًا، قالت فيه:
«يعرب هذا المجلس عن تعاطفه الشديد وتضامنه مع شعب شرق البنغال في كفاحه لنيل حياة ديمقراطية. وأخذًا في الاعتبار مصلحة الهند دائمًا في حلول السلام يطالب هذا المجلس انطلاقًا من التزامه بتأييد حقوق الإنسان والدفاع عنها بوقف العنف والمذابح التي تُرتكَب في حق الضعفاء. ويطالب جميع الأفراد والحكومات باتخاذ خطوات عاجلة وبناءة للضغط على حكومة باكستان لإنهاء عمليات القتل المنظمة التي تصل إلى حد القتل الجماعي فورًا. ويعرب عن إيمانه العميق بأن انتفاضة شعب شرق البنغال ذي الخمسة والسبعين مليون نسمة التاريخية ستنتصر. ويرغب في التأكيد له أن كفاحه وتضحياته ستحظى بكل التأييد والمؤازرة من الشعب الهندي.»13

بعدها مباشرة تدفق لاجئو باكستان الشرقية من حدود الهند إلى داخلها. وصل معدل تدفقهم في ذروته إلى مائة وخمسين ألف لاجئ يوميًّا ليصل العدد في غضون تسعة أشهر إلى عشرة ملايين لاجئ. جاءوا على الشاحنات والعربات التي تجرها الثيران وسيارات الريكشا وعلى الأقدام؛ طلبًا للجوء في معسكرات اللاجئين التي بنيت على عجل، وشابهت المعسكرات التي بنيت في دلهي إبان تقسيم الهند.

بعد شهر من تدفق اللاجئين على بنغال الشرقية زارت إنديرا عددًا من المعسكرات المتناثرة في أرجاء كلكتا. لقد حسبت أنها مستعدة لما قد تجابهه هناك بعد تجربتها في معسكرات اللاجئين في دلهي قبل أربعة وعشرين عامًا. لكنها لم تكن كذلك. يقول بي إن دهار الذي صحب إنديرا في وصف المشهد: «ما رأيناه في المعسكرات يتحدى الوصف. كان الأدهى من القصص التي استمعنا إليها عما حدث لهم، هو حالتهم الجسدية والنفسية التي ألحت على ضمائرنا. لقد كنا في مكاتبنا منشغلين بأعدادهم والأضرار السياسية الناتجة عن وجودهم وحساب التكاليف المالية لإعالتهم.» في ضواحي كلكتا استمعت إنديرا ودهار إلى قصص الاغتصاب والتعذيب والقتل التي حكاها اللاجئون. واضطرا فوق ذلك إلى تحمل رائحة ومنظر المشردين الذين طردوا من ديارهم واعترتهم الصدمة والرعب. توقع دهار وغيره من مساعدي إنديرا أن تقول بعض كلمات العزاء والتأييد للاجئين لكن «التأثر بحجم تلك المأساة الإنسانية غلبها، ففقدت تقريبًا قدرتها على النطق».14

أثارت تدفقات اللاجئين البنغاليين على الهند بأعداد هائلة ردة فعل قوية فيها؛ حيث طالب الكثيرون باللجوء فورًا إلى استخدام القوة مع باكستان الغربية. تسبب اللاجئون للهند أيضًا في أعباء مالية ضخمة بلغت ٣٦٠٠ مليون روبية هندية في ديسمبر عام ١٩٧١، وهو مبلغ لم تكن الهند قادرة على تحمله. غير أن ثلثي اللاجئين تم إيواؤهم في معسكرات كان يوفر لهم فيها الطعام والمأوى والكساء والعناية الطبية. وساعدت الهند في تدريب جيش تحرير بنجلاديش؛ جيش موكتي باهيني.

•••

في غمرة تلك الأزمة المتفاقمة مع باكستان، وفي أواخر مايو، تحول اهتمام الهند لبعض الوقت إلى فضيحة غريبة ليست بالتمام بعيدة الصلة عن أزمتها مع باكستان. في صباح ذات يوم تلقى فيد براكيش مالهوترا أمين صندوق مصرف «ستيت أوف إنديا» اتصالًا هاتفيًّا من شخصية عرفت نفسها بأنها رئيسة وزراء الهند. أمر المتصل مالهوترا بسحب ستة ملايين روبية من فئة المائة روبية وتسليم ذلك المبلغ السري إلى «رجل محترم» من بنجلاديش سيلتقي مالهوترا في مكان محدد في دلهي. نفذ مالهوترا ما أُمر به؛ فالتقى «رجل بنجلاديش» — الذي اتضح أنه قائد جيش بارسي سابق كان يعمل في الاستخبارات الهندية في جناح البحث والاستخبارات، يدعى رستم سهراب ناجاروالا — وأعطاه النقود.

بعدها هرع مالهوترا إلى مكتب إنديرا ليخبر بي إن هاكسار بأنه نفذ ما طُلب منه. فأخبره هاكسار ذاهلًا أن إنديرا لم تأمر بمثل ذلك الإجراء وحثه على التوجه فورًا إلى الشرطة. قُبِضَ على ناجاروالا بعدها مباشرة تقريبًا، واعترف بانتحال شخصية رئيسة الوزراء على الهاتف للحصول على المال المطلوب لتمويل حركة التحرير في بنجلاديش.

غير أن اعتراف ناجاروالا لم يخمد الضجة التي تسببت فيها الحيلة التي قام بها. ولم تفلح محاكمته وإدانته وحبسه — وقد جروا جميعًا سريعًا في غضون ثلاثة أيام من اعتقاله — في ذلك. فقد أثيرت «قضية ناجاروالا» في البرلمان وشغلت اهتمام الصحافة. وفي السجن سحب ناجاروالا اعترافه وطلب إعادة محاكمته. لكنه توفي فيه في مارس عام ١٩٧٢ بما زعم أنه مرض في القلب. وتوفي أيضًا — في الوقت المناسب — الضابط الموكل بقضيته في حادث سيارة. فصل مالهوترا من مصرف ستيت بنك أوف إنديا. وبعدئذٍ أُغلقت القضية. ظل مالهوترا إلى النهاية يؤكد النسخة الرسمية لقضية ناجاروالا. إلا أنها كانت قضية يملؤها الغموض، لذا دارت الشائعات بأن إنديرا طلبت بالفعل في أول الأمر الستين مليون روبية، ثم دبرت لإخراس ناجاروالا. غير أنه ادُّعي بعدها بعدة أعوام أن ناجاروالا — بعكس الزعم القائل أنه تابع لإنديرا — أجير استخدمته المخابرات المركزية الأمريكية التي هدفت لتشويه صورة إنديرا.15

بحلول الوقت الذي أخذت فيه فضيحة ناجاروالا تتلاشى من عناوين الصحف، كان العداء بين الهند وباكستان قد اشتد أكثر. لكن إنديرا ظلت محتفظة برباطة جأشها كعهدها دائمًا في الأزمات. فمع أنها أحيطت بجلبة سياسية شبه هستيرية، فإنها لم تتصرف بتهور أو اندفاع. إلى حد بعيد، كان بي إن هاكسار الأمين فيما تلا من أشهر هو من يحدد ويوجه أفعالها التي اتضح مع الوقت أنها عين الصواب تقريبًا، وأنها تتم على نحو موقت بدقة. نقلت إنديرا الصراع بين باكستان الغربية والشرقية إلى ساحة المجتمع الدولي، وبذلت قصارى جهدها لتجعل الإرهاب الذي تمارسه حكومة باكستان الغربية في باكستان الشرقية قضية عالمية ترتكز على حقوق الإنسان بما فيها الحريات الديمقراطية الأساسية وحق تقرير المصير. لقد أملت أن يسفر ضغط المجتمع الدولي عن تسوية سلمية، فهي لم تكن عازمة على شن حرب إلا إذا اضطرت لذلك، مع أن الاستعدادات العسكرية في الهند بدأت في مرحلة مبكرة من تلك الأزمة.

غير أنه كان هناك سبب آخر استراتيجي يمنع من الإسراع في خوض نزاع مسلح ضد باكستان. كان رئيس أركان القوات المسلحة الهندية جنرال بارسي خفيف الظل يدعى سام مانيكشاو، يملك أنفًا أطول حتى من أنف رئيسة الوزراء (كما قال مازحًا). في وقت سابق أخبر إنديرا أنه من الطيش التورط في نزاع عسكري قبل انتهاء موسم الأمطار. غير أن مانيكشاو كان أيضًا متخوفًا من احتمال أن تهب الصين لنجدة باكستان الغربية. أما إن أمكن للهند تلافي الدخول في قتال حتى الشتاء فسيكون من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — على الجيش الصيني أن يتجاوز الممرات الجليدية في جبال الهيمالايا.

في ٧ من يوليو وصل هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى دلهي للقيام بزيارة قصيرة إلى الهند في إطار جولته الطويلة في آسيا. في الواقع كان كيسنجر متجهًا إلى الصين في مهمة اشتهر بها نيكسون تاريخيًّا، هي انفراج العلاقات الدولية مع تلك الدولة التي لم تكن الولايات المتحدة تعترف بها. لكن وجهته الأساسية كانت سرًّا حرص على أن يظل في طي الكتمان. حتى إن هاكسار، بعدها فقط، انتبه إلى مدى ما كانت المأدبة الصينية الفخمة التي أقامتها الحكومة الهندية في فندق آشوك تكريمًا لكيسنجر موائمة للموقف.

قبل مغادرة دلهي أوضح كيسنجر لإنديرا وهاكسار أن الولايات المتحدة ليست على استعداد لمساندة الهند إن شنت على باكستان حربًا بسبب بنجلاديش.16 وبعدها سافر جوًّا إلى باكستان حيث أُعلن أنه مرض بسبب الحر وأصيب بنوبة من «الإسهال» أُجبر على إثرها على الالتجاء إلى أحد المنتجعات الصحية الجبلية النائية ليتعافى. وحقيقة الأمر هي أن الباكستانيين ذهبوا به في طائرة عسكرية في منتصف الليل إلى الصين حيث التقى بالقائدين الصينيين تشو آن لاي والزعيم ماو.

لم تكتشف إنديرا وهاكسار ذلك إلا فيما بعد. لكن حينذاك قبلت إنديرا — على ضوء تصريحات كيسنجر الصريحة في الهند، والعلاقات الطيبة التي تجمع بين الولايات المتحدة وباكستان — بمعاهدة «السلام والصداقة والتعاون» مع الاتحاد السوفييتي التي عرضها ليونيد بريجينيف لأول مرة قبل ثلاثة أعوام. فوضع هاكسار شروط المعاهدة بدقة، وفيها المادة رقم تسعة التي تضمن اتفاق الاتحاد السوفييتي والهند على «الامتناع عن تقديم المساعدة لأي طرف ثالث يشتبك معه أي من الطرفين الموقعين للمعاهدة في نزاع مسلح». وأضاف أيضًا فقرة يؤكد فيها على التزام الهند بمبدأ عدم الانحياز، ومن المفارقة أن تلك المعاهدة هدفت إلى القضاء نهائيًّا على مبدأ نهرو ذاك. ناقش مستشارو إنديرا المقربون ودي بي دهار رئيس لجنة تخطيط السياسات — الذي كان كثيرًا ما يوصف بكيسنجر الهند — شروط المعاهدة في موسكو. ثم في ٩ من أغسطس عام ١٩٧١؛ بعد شهر فقط من المأدبة الصينية التي أقيمت لكيسنجر، وصل وزير الخارجية السوفييتي أندريه جروميكو إلى دلهي ووقع المعاهدة وسط ضجة إعلامية كبيرة.

بعدها بعدة أيام أعلن الجنرال خان أن الشيخ مجيب الرحمن سيحاكم قريبًا محاكمة عسكرية في باكستان. لقد تقرر أن تجرى محاكمته في إحدى المحاكم العسكرية الخاصة، في غرفة قاضٍ حيث كان من المفترض أن تتم المحاكمة سرًّا. فكاتبت إنديرا على الفور رؤساء الدول في جميع أنحاء العالم تحذرهم من أن تلك «المحاكمة المزعومة لن تكون سوى ستار يغطي على إعدام الشيخ مجيب الرحمن»، وستجلب عواقب كارثية على كل من باكستان الشرقية والهند. وناشدتهم «ممارسة ضغوط على الرئيس يحيى خان … من أجل المصلحة العامة في حلول السلام والاستقرار في المنطقة».17 فلما فشل ذلك النداء في تحريك ردة فعل قوية قررت إنديرا أن تسافر خارج البلاد لتعرض قضيتها بنفسها على المجتمع الدولي.
في سبتمبر عام ١٩٧١ صحب هاكسار إنديرا إلى الاتحاد السوفييتي. أكدت إنديرا في خطاب في موسكو أن «ما حدث في بنجلاديش لم يعد من الممكن عده مسألة تخص الشأن الباكستاني الداخلي». وأضافت: «أكثر من تسعة ملايين لاجئ من بنغال الشرقية قدموا إلى دولتنا. أليس لهؤلاء الحق في العيش والعمل بوطنهم؟ ليس من المنطقي أن تستوعب دولتنا هؤلاء. إن هذا ليس نزاعًا هنديًّا باكستانيًّا. وإنما مشكلة دولية. وإن كان ثقلها قد وقع على كاهل الهند. إن المبادرة بخلق ظروف تسمح للاجئين … بالعودة إلى أوطانهم بلا خوف هي بلا شك مسئولية عالمية.»18 بعد المحادثات التي أجرتها إنديرا مع بريجينيف ورئيس الوزراء كوسيجين غادرت إنديرا الاتحاد السوفييتي بتعهد من جانبه بتقديم المساعدة العسكرية للهند في حال شنها حربًا على باكستان بسبب بنجلاديش.

بعدها بشهر فقط، في ٢٤ أكتوبر، عكفت إنديرا وهاكسار وكبير مسئولي الشئون الخارجية الهندية تي إن كاول على القيام بجولة استمرت ٢١ يومًا زارت فيها أوروبا وأمريكا في محاولة لتحريك الرأي العام. فزاروا بلجيكا وفرنسا والنمسا وألمانيا الغربية وبريطانيا والولايات المتحدة. لاقت قضية إنديرا تعاطفًا في كل مكان عدا الولايات المتحدة التي وصلت إنديرا وهاكسار إليها في أوائل نوفمبر عام ١٩٧١.

تنافر ريتشارد نيكسون وإنديرا غريزيًّا أو — بتعبير هنري كيسنجر الألطف — «لم يكن مقدر لشخصيتيهما أن تتآلفا». قبل ثلاثة أعوام، عام ١٩٦٩، زار نيكسون الهند في إطار جولة قام بها حول العالم، وأُحبط من الاستقبال الفاتر الذي حظي به في دلهي بالمقارنة بالاستقبال الحاشد والهتافات اللذين حظي أيزنهاور بهما عام ١٩٥٦. وقد بدا أنه يحمل ضغينة تجاه إنديرا منذ تلك الزيارة. فضلًا عن ذلك أشعرته إنديرا بالخوف؛ فقد أيقظت — وفقًا لكيسنجر — «شكوك نيكسون في نفسه.»19
لذا لا عجب أن الجو الذي ساد محادثاتهما كان مشحونًا بالعداء والريبة. لقد التقيا في يومين متتاليين هما الرابع والخامس من نوفمبر في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض؛ حيث جلست إنديرا ونيكسون على كرسيين مجنحين على كلا جانبي مدفأة المكتب، في حين جلس هاكسار وكيسنجر كلٌّ على أريكة مجاورة لرئيسه. وكأن كليهما سيحل محل رئيسه في المبارزة إذا أصابه مكروه. وبعد مغادرة المصورين افتتحت إنديرا النقاش بينها وبين نيكسون بالثناء على سياسته في فيتنام والصين «وكأنها مدرس يثني على طالب بليد». ثم زادت من سوء موقفها بأن مضت إلى الإشارة إلى نيكسون قائلة: «قد أنجز ما أوصت به الهند لأكثر من عقد» فيما يتعلق بالصين. فكظم نيكسون غيظه في عينين خاويتين من التعبير وتهذب. وجلس هاكسار وكيسنجر «في تبلد على أريكتيهما».20
فيما بعد وصف كيسنجر المحادثات التي جرت بين إنديرا ونيكسون بأنها «مثال لحوار الصم»، وذكر أن التعليقات التي تفوه بها نيكسون بعدها «لا يجوز ذكرها في مطلق الأحوال».21 رفض نيكسون القيام بأي شيء للمساعدة في تسهيل إطلاق سراح الشيخ مجيب الرحمن، أو إقناع الجنرال خان بفتح حوار مع قادة حزب رابطة عوامي. لكنه مال إلى منح حكومة باكستان الغربية العسكرية عامين لتتقبل فيهما الوضع في باكستان الشرقية. فردت إنديرا على ذلك: «الوضع متفجر، ولن يمكن تهدئته إلا بإطلاق سراح الشيخ مجيب الرحمن وبدء حوار مع قادة باكستان الشرقية الذين انتُخبوا بالفعل.» وقالت له أيضًا: «إن الهند ستضطر قطعًا إلى الانتقام إن واصلت باكستان السياسات الاستفزازية التي تنتهجها عبر حدود (الهند).»22
فلما وصلت مباحثات إنديرا ونيكسون إلى طريق مسدود في اليوم الأول، لم يحاولا حتى التظاهر بمناقشة الأزمة الهندية الباكستانية في اليوم الثاني، ذلك اليوم أبقى نيكسون إنديرا في غرفة الانتظار خمسًا وأربعين دقيقة قبل أن يصل إلى المكتب البيضاوي. فاستشاطت غضبًا، لكنها ردت لنيكسون وقاحته بدهاء؛ فلم تشر إلى باكستان على الإطلاق فيما تلا من نقاش. بل جعلت تسأل نيكسون أسئلة تشف عن قراءة له حول … السياسة الخارجية (الأمريكية) في الأماكن الأخرى، وكأن شبه القارة الهندية هي البقعة الوحيدة في العالم التي تنعم بالسلام والاستقرار. يقول كيسنجر في ذلك: «لقد منحتنا علامات مشرفة في كل مكان باستثناء تلك البقعة.»23
لما لم يكن شيء ذو أهمية يحدث في لقاء نيكسون وإنديرا الثاني وجد هاكسار نفسه منشغلًا بمتابعة نيكسون وكيسنجر. حكم هاكسار على نيكسون بأنه شخص «يفتقر إلى المبادئ الأخلاقية»، في حين رأى أن كيسنجر — الذي كان أكثر مكرًا واعتدادًا بنفسه من نيكسون — شخص «مجنون بعظمته يحسب نفسه مستشار النمسا الشهير مترنيخ.»24
أذهل وجه نيكسون هاكسار حتى إنه شعر برغبة تكاد تكون عارمة في لمسه؛ كان يبدو بابتسامته المتشنجة الآلية وحاجبيه الكثين المقطبين كأنه وجه غير حقيقي كالقناع. حتى إن هاكسار شعر أن إنديرا — التي قد تكون أحيانًا باردة المشاعر ومتحفظة ومتكبرة ولا مبالية — كانت مع ذلك في منتهى الإنسانية بالمقارنة بنيكسون الآلي. الشيء الوحيد الذي دل على أن المشاعر قد تبدر من نيكسون هو تعرقه بغزارة، خاصة تحت الضغط.25 غير أن محنة لاجئي باكستان الشرقية والعبء المالي الذي كانت الهند تعانيه لم يؤثرا في نيكسون وكيسنجر. وبذا اتضح انحياز الأمريكيين لباكستان.
على غرار نهجها في الهند اتجهت إنديرا بقضيتها إلى عامة الشعب، واحتكمت إلى الشعب الأمريكي مباشرة متجاوزة بذلك الرئيس نيكسون. فوصفت في خطبة مؤثرة كيف أنها «تزورها [في الأحلام] وجوه المعذبين في معسكرات اللاجئين المزدحمة التي تعكس الأحداث المظلمة التي دفعت هؤلاء الملايين من البشر إلى النزوح من بنغال الشرقية. لقد جئت إلى هنا بحثًا عن فهم أفضل للوضع في منطقتنا.»26 أما في نادي الصحافة الوطني في واشنطن فقد شرحت السبب الذي يجعل التوصل لأي نوع من التفاهم مع الجنرال يحيى مستحيلًا. قالت: «من المستحيل على المرء أن يصافح شخصًا يقبض يده.» واعتبرت يحيى نقيضها، واصفة إياه بأنه: «سكير فج ومتنمر». كان يحيى خان قد أشار لإنديرا علانية ﺑ «تلك المرأة» وأعلن أنه «لن يرضخ لترهيبها». فانتهزت إنديرا فرصة وجودها في مقابلة صحفية لمجلة «نيوزويك» لتعبر عن ازدرائها لتصريحاته، وقالت: «لا تعنيني تصريحاته، وإن كانت تعبر عن عقلية صاحبها.»27
عانت إنديرا ضيق الوقت في الولايات المتحدة، ومع ذلك تمكنت من القيام بزيارة خاطفة لنيويورك لقضاء يومين برفقة دوروثي نورمان التي نظمت من أجلها محفلًا غير رسمي لمفكرين مشاهير في بيتها مثل حنا آرندت وإدوارد ألبي وإريك إريكسون والموسيقي جون كيدج. غير أن مشكلات الهند مع باكستان سيطرت على الحديث حينها أيضًا. في تلك الزيارة كانت الراحة والتمتع بضروب الأنشطة الثقافية التي قامت إنديرا ودوروثي بها معًا دائمًا ببساطة مستحيلين لإنديرا. صحيح أنهما ذهبتا مساء اليوم الأول إلى عرض لأوركسترا نيويورك الفلهرمونية بقيادة ليونارد بيرنشتاين، لكن مساء اليوم التالي عندما كانت معهما تذكرتان لحضور إنتاج جديد لحفل باليه — وضع موسيقاه المؤلف الروسي الشهير إيجور سترافينسكي، وصمم رقصاته جورج بلانشاين — تراجعت إنديرا فجأة عن الذهاب وقالت لدوروثي: «لا أستطيع. من المؤكد أن الأمر سيكون في غاية الروعة. لكن لن يمكنني احتمال ذلك.» وأوشكت على البكاء، الأمر الذي أقلق دوروثي. لكن إنديرا بحلول صباح اليوم التالي استعادت رباطة جأشها.28
عندما عادت إنديرا وهاكسار إلى الهند في منتصف نوفمبر اكتشفا أن المفاوضات العقيمة التي أجرياها في أمريكا قد أثارت ردود فعل مؤيدة لبنجلاديش ومناهضة لباكستان والولايات المتحدة. «صبت اللعنات … متبوعة بالبصاق على كل من نيكسون وكيسنجر». في حين شوه وجهيهما في الصحف، حتى «بات الأميون أيضًا … بوسعهم التعرف على وجهي الشريرين»؛ الشرير المقطب الوجه الذي يملك عيني الفأر (نيكسون)، والثاني ذي النظارة الذي يملك وجهًا كوجه الثور السمين (كيسنجر).29 في تلك الأثناء استطاعت إنديرا أن تزيد من شعبيتها بزيارة معسكرات اللاجئين وقواعد الجيش الأمامية مجددًا. وخاطبت الجنود العاديين والمرضى والجرحى في المعسكرات. فعزز حضورها وكلماتها التشجيعية — اللذان حظيا بتغطية واسعة بالصور في الصحف — الروح المعنوية بين قوات الجيش الهندي واللاجئين والهند بصفة عامة.

•••

في جولة خارجية قامت بها إنديرا ألقت خطابًا أمام الرابطة الهندية في لندن. قالت فيه إنها تشعر بأنها تجلس «على فوهة بركان، لا أعلم صدقًا متى سينفجر».30 وقد انفجر ذلك البركان بعد أقل من شهر من عودتها هي وهاكسار من الولايات المتحدة. فقبل حلول مساء الثالث من ديسمبر عام ١٩٧١ بوقت قصير قصفت القوات الجوية الباكستانية تسع قواعد جوية هندية في شمال وغرب البلاد من بينها قواعد في أمريتسار، وأجرا، وسارينجار في كشمير. فاشتعلت شرارة الحرب الهندية الباكستانية الثالثة. بتلك الضربة الجوية وُصفت باكستان رسميًّا بالبادئ بالعدوان. غير أن تلك كانت حربًا واقعة لا محالة. فقبل أسبوعين تحركت القوات الهندية واحتلت مواقع دفاعية على حدود باكستان وأنشأت داخل باكستان قواعد لشن العمليات استعدادًا لشن عملية هجومية على دكا في ليلة الرابع من ديسمبر انتهازًا لفرصة تمام البدر في تلك الليلة.
وقتما شنت المقاتلات الباكستانية غاراتها كانت إنديرا في كلكتا تخاطب حشدًا كبيرًا من نصف مليون شخص في ساحة كلكتا للاستعراضات العسكرية. وفي الوقت الذي كانت تقول فيه: «نحن نؤيد السلام. لكننا إن فُرضت علينا الحرب مستعدون للقتال، لأن المسألة تتعلق بمبادئنا بنفس ما تتعلق بأمننا»، هرع أحد مساعديها إلى المنصة حيث تقف وأعطاها ورقة صغيرة خُط عليها على عجل نبأ الهجوم الباكستاني. فلم تدلِ بأي إعلان، بل أنهت على عجل خطابها. وقالت بمعزل عن الحشد لمن معها: «حمدًا لله أنهم هاجمونا.» فهي لم ترِد أن تبدو وكأنها البادئ بالعدوان، غير أنها أجازت خطة الجنرال مانيكشاو السرية بأن تشن الهند ضربة جوية على باكستان اليوم التالي.31 وبذا اتضح صواب استراتيجية التحرك المؤجل التي اتبعتها إنديرا، وصحة حكمها على الوقت المناسب للتحرك.32
مساء ذلك اليوم استقلت إنديرا طائرة عائدة إلى دلهي، وأحاطت بطائرتها طائرات تابعة للقوات الجوية الهندية. فلما شارفت الطائرات المدينة لم يكن سوى الظلام الذي اختبأت فيه دلهي تحسبًا للغارات الجوية الباكستانية. قصدت إنديرا مكتبها مباشرة في منطقة ساوث بلوك المجاورة للبرلمان، ودعت إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الوزراء. ثم التقت بقادة أحزاب المعارضة. ظلت متمالكة الأعصاب، «محتفظة برباطة جأشها وهدوئها وثقتها» تمامًا.33 وبعدها، في منتصف الليل، أذاعت على الأمة أن الهند اضطرت من جديد إلى الحرب مع باكستان، وتمنت تحقيق النصر في تلك الحرب التي «فُرضت» على الهند. وطوال الليل ظلت ساهرة تتابع الوضع العسكري المتأزم. أما في صباح اليوم التالي فقد قالت في اجتماع حاشد لمجلس النواب:
«لما يزيد عن تسعة شهور قمع نظام باكستان الغربية العسكري الحريات وضرب بحقوق الأفراد الأساسية في بنجلاديش عرض الحائط. وارتكب جيشها المحتل جرائم بشعة لا يوجد ما يضارعها ضراوة في الانتقام. فأرغمت ملايين كثيرة على ترك ديارها، وأجبرت عشرات الملايين على النزوح إلى بلادنا. نحن نبهنا العالم مرارًا إلى تلك الإبادة التي تُرتكَب في حق شعب كامل، إلى هذا الخطر الذي يهدد أمننا. وفي كل مكان أبدت الشعوب تعاطفها وتفهمها لما يتهدد الهند من أخطار ويقع على كاهلها من أعباء، سواء اقتصادية أو غيرها. لكن الحكومات بدت وكأنها أصيبت بشلل أخلاقي وسياسي … لقد صعدت باكستان الغربية اعتداءاتها ووسعتها إلى حرب شاملة على الهند … لذا علينا أن نهيئ أنفسنا لصراع طويل.»34

بعدها بيومين، في ٦ ديسمبر، وقفت إنديرا في البرلمان وأعلنت اعتراف الهند بدولة بنجلاديش المستقلة، وهو ما لاقى استحسانا هائلًا. وأوضحت إنديرا أيضًا أن القوات الهندية وقوات جيش التحرير البنجلاديشي تخوضان معًا الحرب في باكستان الشرقية.

في تلك الأثناء، في ٩ ديسمبر، أرسل نيكسون إلى خليج البنغال وحدة حربية تابعة للأسطول الأمريكي السابع بقيادة سفينة حربية نووية تدعى إنتربرايز. ولم يفلح ذلك في صد إنديرا ودي بي دهار وهاكسار والجنرال مانيكشاو عن عزمهم، وقرر هؤلاء في اجتماع عقدوه في منتصف الليل المضي في الحرب ومحاولة الاستيلاء على دكا قبل وصول الأسطول الأمريكي إلى المياه الإقليمية الهندية. ألقت الصين ببعض التهديدات لكنها حتى تلك اللحظة لم تبدِ ما يدل على أنها ستتدخل في الحرب. فسارع دي بي دهار بالسفر إلى موسكو لتأمين مساعدة الاتحاد السوفييتي في حال تدخل الولايات المتحدة أو الصين في الحرب. وكما كان متوقعًا أرسل الاتحاد السوفييتي إلى خليج البنغال أسطولًا في أعقاب الأسطول الأمريكي.

لما أوشك الوضع على الانفجار أدان نيكسون بعنف «العدوان» الذي شنته الهند على باكستان. وردًّا عليه، في ١٤ ديسمبر، أعد هاكسار لإنديرا خطابًا مفتوحًا ترسله إلى نيكسون لبيان موقفها. لم يكن ذلك بالطبع خطابًا موجهًا للرئيس وحسب، بل كان خطابًا يهدف إلى تقديم دفاع قوي عن سياسات الهند أمام العالم. بدأ الخطاب بالإشارة إلى أنه كُتِبَ في «لحظة ألم شديدة»؛ لحظة تشبه تلك التي خُطَّ فيها إعلان الاستقلال الأمريكي عندما أكد أنه «متى أصبح الحكم في أي من أشكاله هادمًا لحقوق الإنسان التي لا تقبل المصادرة؛ حقه في العيش، والحرية، والسعي وراء السعادة، يصبح من حق الشعب أن يغيره أو يلغيه». ويتواصل الخطاب قائلًا:
«إن الحرب المأساوية في باكستان الشرقية … كان بالإمكان تلافيها لو أن قوى كل الدول وتأثيرها ونفوذها — وعلى رأسها الولايات المتحدة — قد وُظِّفَتْ لإطلاق سراح الشيخ مجيب الرحمن … لم تحظَ محاولة إيجاد حل سياسي إلا بتأييد شفهي، ولم تؤخذ خطوة واحدة جديرة بالاعتبار في سبيل إيجاد ذلك الحل … نحن لا نسعى لتحقيق أي مصلحة لنا. فنحن لا نطمع في أراضي ما كانت تعرف باسم باكستان الشرقية وباتت تُعرف حاليًّا باسم بنجلاديش. نحن نريد السلام الدائم مع باكستان … لكن من ناحية أخرى هل ستكف باكستان عن إحداث القلاقل التي أثارتها بسبب كشمير بلا انقطاع — وفي الوقت نفسه بلا جدوى — على مدى الأربعة والعشرين عامًا الماضية؟ هل الباكستانيون على استعداد للتوقف عن شن حملات كراهية على الهند واتخاذ موقف عدائي دائم منها؟ كم مرة على مدى الأربعة والعشرين عامًا الماضية حاولت أنا وأبي أن نعرض على باكستان توقيع معاهدة عدم اعتداء؟ إن ما سجله التاريخ وحده كافٍ لأن يشهد بأن باكستان رفضت بدون تفكير كل معاهدة عُرضت عليها. نحن نجد التلميح والإيعاز بأننا نحن من فجر تلك الأزمة وأحبط — في كل الأحوال — إيجاد حلول اتهامًا جارحًا للغاية … إبان زيارتي للولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والنمسا وبلجيكا كانت النقطة التي ركزت عليها في الاجتماعات العلنية والخاصة هي الحاجة العاجلة لإجراء تسوية سياسية. لقد انتظرنا تلك التسوية طيلة تسعة شهور. وقد أكدت للدكتور كيسنجر عندما قدم للهند في السابع من يوليو عام ١٩٧١ أهمية السعي لإجراء تسوية سياسية مبكرة. لكننا لم نتسلم إلى اليوم ولو خطة تسوية بسيطة تأخذ في الاعتبار الحقائق … آمل بصدق وجد أن … تخبرني تحديدًا أين أخطأنا قبل أن يبدأ ممثلوك والناطقون باسمك بمخاطبتنا بتلك اللهجة الشديدة.»35
كان ذلك خطابًا استفزازيًّا وغاضبًا ومباشرًا، لا بد أن يثير ثائرة نيكسون. ولما كانت إنديرا تعلم ذلك ظلت ليوم كامل تقدم رجلًا وتؤخر أخرى؛ مذبذبة بين إرسال الخطاب والسماح بنشره في الصحف من ناحية، والإحجام عن ذلك من ناحية أخرى. غير أنها أرسلته في نهاية الأمر.36
إبان تلك الفترة نمت قدرات إنديرا الذهنية بدرجة مذهلة، فصارت تتمتع بإدراك حاد وحضور ذهن قوي. ونمت قدرتها الفطرية على فهم الألوان والتعبير بها؛ فكانت ترتدي أثواب ساري أطرافها ذات ألوان زاهية، في الأغلب من ظلال اللون الأحمر، الذي يرمز إلى الحرب والعاطفة والدم، وهو لون تحرم التقاليد الهندية على الأرامل ارتداءه. في الواقع لقد بدا أنها — كما أخبرت حقيقة صديقتها بوبول جاياكار فيما بعد — ترى الأشياء عبر مصفاة حمراء؛ لقد كان اللون الأحمر «يغمرني طوال الحرب» بتعبير إنديرا.37
لم تدُم الحرب الهندية الباكستانية، التي ماطلت إنديرا وهاكسار قبل دخولها لعدة أشهر، سوى أربعة عشر يومًا فقط. فالجيش الباكستاني كان أقل عددًا، فضلًا عن أنه افتقر إلى التجهيزات. ولذا في عصر السادس عشر من ديسمبر، قبل أن يصل الأسطول الأمريكي إلى خليج البنغال، حررت القوات الهندية البنجلاديشية دكا واستسلمت باكستان استسلامًا غير مشروط. وفي قرابة الخامسة من مساء ذلك اليوم هاتف الجنرال مانيكشاو إنديرا ليزف إليها نبأ ذلك الانتصار، كانت إنديرا وقتها في مقابلة صحفية مع فريق تليفزيوني سويدي. فاعتذرت بأدب عن استكمال المقابلة، وقصدت البرلمان مباشرة حيث قالت تعلن لأعضائه المجتمعين وهي تغالب مشاعرها:
«ثمة نبأ عليَّ إعلانه أظن أن المجلس ظل وقتًا ينتظره. لقد استسلمت قوات باكستان الغربية استسلامًا غير مشروط في بنجلاديش … وصارت دكا عاصمة حرة لبلد حر. إن هذا المجلس والأمة بكاملها لتغمرهما الفرحة بهذا الحدث التاريخي. نحن نهنئ شعب بنجلاديش في لحظة انتصاره. ونحيي شباب جيش التحرير البنجلاديشي الشجعان وأبناءه على بسالتهم وتفانيهم. ونفخر أيضًا بجيشنا وسلاحنا البحري والجوي وقوات حرس حدودنا … أهدافنا كانت محددة: مساعدة شعب بنجلاديش النبيل وجيش موكتي باهيني في تخليص دولته من عهد الإرهاب، وصد العدوان عن أرضنا … نتمنى ونأمل أن يتبوأ أبو تلك الأمة الجديدة الشيخ مجيب الرحمن المكانة التي يستحقها بين أبناء شعبه، وأن يقود بنجلاديش نحو السلام والتقدم والرخاء … غير أن هذا ليس نصر بنجلاديش وحدها. فكل الأمم التي تحترم قيمة النفس الإنسانية ستنظر إلى هذا الانتصار على أنه حدث مهم في تاريخ سعي الإنسان نحو الحرية.»38

قوبل إعلان إنديرا بهتاف مدوٍّ وأمطر أعضاء البرلمان من حزب المؤتمر وأحزاب المعارضة إنديرا بأكاليل الزهر. ولأول مرة لم تحاول إنديرا إخفاء سعادتها.

غير أنها كانت تدرك أن عليها أن تتمالك نفسها وتحتوي فرحة وطنها بالنصر. فقد قالت لمساعدها وكاتب خطبها شارادا براساد في طريقها إلى البرلمان: «لا بد أن آمر بوقف إطلاق النار في الجبهة الغربية أيضًا. إن لم أقم بذلك اليوم فلن أتمكن من ذلك غدًا.»39 توقعت إنديرا ومستشاروها — وبالأخص هاكسار ودهار — أن تكون هناك مطالبة قوية بأن تواصل الهند حرب تحرير بنجلاديش وأن تسعى للانتقام من يحيى وباكستان الغربية. إلا أنه كان في ذلك مخاطرة كبيرة لأن الاتحاد السوفييتي عارض تلك الفكرة، وثمة احتمال أن تتدخل الصين والولايات المتحدة إن مضت الهند إلى حرب باكستان.
دعا هاكسار بالأخص إلى وقف إطلاق النار فورًا في الجبهة الغربية. كان منطقه في ذلك هو أنه بما أن قد صارت في موقع أفضل من باكستان الغربية من الناحية المعنوية والعسكرية، فيحسن ألا تسعى الهند إلى إذلال باكستان وتحطيمها أكثر من ذلك. وقد اتفق الجنرال مانيكشاو مع هاكسار في أن وقف إطلاق النار من جانب واحد هو «التصرف المناسب.»40 وبعد إخراس صوت وزير الدفاع الناقم جاجيفان رام (الذي تجاهلته إنديرا بدرجة كبيرة طوال تلك الأزمة؛ إذ كانت بنفسها تضطلع بالتعامل المباشر مع مانيكشاو والجيش)، أقر مجلس الوزراء وقف القتال، وأعلنت إنديرا قرار وقف إطلاق النار الفوري في الجبهة الغربية. وقالت فيما بعد بفخر في مقابلة صحفية لمجلة «تايمز»، ردًّا على شائعات بأنها اتخذت قرار وقف إطلاق النار بسبب الضغط الذي تعرضت له الهند ممثلًا في القوى العظمى والتهديد الذي يمثله أسطول نيكسون السابع: «لقد اتُّخذ القرار هنا (في الهند) … وأنا لست بالشخص الذي يخضع لضغط شخص أو دولة ما.»41
انتهت الحرب، وصارت إنديرا بطلتها. لقد نجحت في تحقيق ما عجز عنه كل من نهرو وشاستري، ألا وهو النصر العسكري. وقد كانت أصداء ذلك الانتصار أقوى حتى من أصداء الانتصار الذي حققته مارجريت ثاتشر في جزر فوكلاند بعدها بعقد. لقد صعدت إنديرا إلى مرتبة تقترب من مرتبة الآلهة. وامتُدحت في البرلمان بأنها «دورجا الجديدة» إلهة الحرب الهندوسية، وشُبهت بشاكتي التي ترمز لطاقة الأنثى وقوتها. وحتى الصحف الأجنبية استخدمت في تصويرها أوصافًا تمجيدية مثل «إمبراطورة الهند».42 وفي استطلاع لمؤسسة جالوب الأمريكية في عام ١٩٧١ اختيرت لتكون أكثر الشخصيات إثارة للإعجاب في العالم.

•••

في أوائل يناير عام ١٩٧٢، في باكستان، أُطلق سراح الشيخ مجيب الرحمن من السجن. فلما وصل إلى مطار بالام الخاص بدلهي في العاشر من يناير ليتوقف في الهند لوقت قصير، قبل أن يمضي في رحلة عودته إلى بنجلاديش، كانت إنديرا وأغلب أعضاء مجلس الوزراء بالإضافة إلى وحدة حرس الشرف يقفون على مدرج هبوط طائرته استقبالًا له. ومعًا وجهت إنديرا والشيخ مجيب الرحمن خطابًا حارًّا إلى حشد شعبي كبير. قالت إنديرا: «ربما كان جسد الشيخ مجيب الرحمن سجينًا، لكن روحه لا يملك أن يسجنها أحد. لقد ألهم شعب بنجلاديش بأن يقاتل، واليوم هو حر.» فرد مجيب الرحمن على ذلك بأن قال إنه شعر بأن من واجبه أن يتوقف في الهند ليعبر عن «احترامي الشخصي لأفضل صديق لشعبي شعب الهند، ولحكومتكم التي تقودها رئيسة الوزراء العظيمة السيدة إنديرا غاندي، التي لا تعد قائدة للرجال وحسب، وإنما قائدة للبشرية أيضًا.»43

فيما تلا من أيام وأسابيع سمي الآلاف من المواليد الإناث في جميع أنحاء الهند بإنديرا. إلا أن واحدة منهن — ولدت في اليوم التالي على اليوم الذي زار فيه الشيخ مجيب الرحمن دلهي مزهوًّا بالنصر. لم تحمل هذا الاسم وهي حفيدة إنديرا نفسها، ابنة راجيف وسونيا غاندي؛ التي سميت باسم بريانكا غاندي.

في مارس زارت إنديرا دولة بنجلاديش الوليدة. ألقت هي والشيخ مجيب الرحمن خطابًا مشتركًا إلى حشد كبير يتكون من نحو مليون شخص. أغلب هؤلاء كان بعيدًا بدرجة يتعذر معها سماع ما تقوله إنديرا، لكنهم كانوا قادرين على رؤية ما ترتديه بوضوح؛ كانت ترتدي ساريًا بنغاليًّا أصفر اللون من الحرير الخام وأطرافه ذات لون أحمر برَّاق. ألقى مجيب الرحمن خطابًا مفعمًا بالمشاعر، ثم التفت إلى إنديرا التي تقف على المنصة وقال لها مقتبسًا كلمات رابيندراناث طاغور: «أنا حِمل عليك. ليس لديَّ ما أعطيه لك. ليس لديَّ ما أعطيه لك سوى الحب.»

في اليوم التالي على ذلك في دكا ذهبت إنديرا والشيخ مجيب الرحمن ووزير الخارجية سواران سينج، وكبير مسئولي الشئون الخارجية الهندية تي إن كاول، وبي إن هاكسار في نزهة استمرت طوال النهار على متن باخرة نهرية، بحثوا أثناءها عقد معاهدة صداقة بين الهند وبنجلاديش. وبعد عودتهم من النزهة أعد كاول ومسئول الشئون الخارجية البنجلاديشي مساء ذلك اليوم مسودة المعاهدة. وقع عليها مجيب وإنديرا في التاسعة من صباح اليوم التالي.

تعزز انتصار إنديرا في حربها مع باكستان في انتخابات المجلس التشريعي في مارس عام ١٩٧٢، عندما فاز حزب المؤتمر بسبعين بالمائة من المقاعد المتنافس عليها في المجلس. فمن جديد أدارت إنديرا الحملات الانتخابية بعزم، ونبهت في خطاباتها إلى حرب باكستان لكنها ركزت بدرجة أكبر على «الحرب الكبرى مع الفقر» التي تواجها الهند. وكي تقنع المتشككين بها بأن كلماتها ليست تعبيرات إنشائية وعدت بتحسين أحوال الفقراء من أهل القرى عن طريق تشريعات تعمل على تخفيض الحد الأقصى للأراضي المسموح بتملكها [بحيث يُعاد استخدام الأراضي الزائدة عن الحد الأقصى في بناء منازل للفقراء.]

•••

نتيجة للحرب التي انتصرت فيها الهند قبل ستة شهور بدأت في ٢٨ يونيو عام ١٩٧٢ أعمال قمة سلام بين الهند وباكستان في منتجع جبلي في مدينة سيملا، التي كانت فيما مضى المقر المفضل لعقد الاجتماعات السرية في عهد الاستعمار البريطاني. كانت الحكومة العسكرية في باكستان قد انهارت بعد هزيمتها، وتولى ذو الفقار علي بوتو الحكم بعد الجنرال خان باعتباره رئيسًا لحكومة مدنية.

وصلت إنديرا إلى مدينة سيملا قبل انعقاد القمة بيوم واحد لتشرف على إعداد المكان الذي سيقيم به ذو الفقار علي بوتو وابنته بينظير في راج نيواس. مقر حاكم المدينة، وجلبت معها لذلك الغرض أثاثًا وستائر جدارية من دلهي. ووفقًا لبي إن دهار الذي كان عضوًا في حاشيتها «لقد انفجرت غضبًا لدى رؤيتها لوحة كبيرة لها في الغرفة المقرر أن يقيم فيها بوتو». وأمرت بإزالة اللوحة فورًا لئلا تكون نظرتها المحدقة فرضًا على الرئيس. وبعدها تفقدت دورة المياه الخاصة ببوتو، فهدأت ثورتها لما وجدتها جيدة وهندية الصنع، وقالت في ذلك لدهار: «لندعه يعلم أن الاقتصاد الهندي يفي باحتياجات المدنيين.»44

ومع أن إنديرا اهتمت بتنسيق مكان إقامة بوتو فإن العداء بينها وبينه كان ملموسًا منذ اللحظة التي وصل فيها مع بينظير (التي كانت قد أتمت لتوها التاسعة عشرة من العمر وعلى وشك أن تدخل عامها الدراسي الأخير في كلية رادكليف، وهي كلية تابعة لجامعة هارفارد.) كان لقاء إنديرا وبوتو يشبه تقريبًا اللقاء الذي جمع بينها وبين نيكسون. فجل ما استطاعه مصوروهما هو حملهما على مصافحة أحدهما للآخر بطريقة لائقة على أرض ملعب سيملا لكرة القدم حيث هبطت طائرة بوتو المروحية. غير أن إنديرا رحبت بحرارة ببينظير؛ إذ ابتسمت وهي تنحني وتضم يديها على صدرها على طريقة الناماساتي، وقد أثارت نحافة رئيسة وزراء الهند وأناقتها دهشة بينظير.

لم يكن من المستغرب أن تتصف أول مقابلة شخصية بين إنديرا وبوتو بمثل هذا الفتور. فقبل ثلاثة أشهر، في مقابلة صحفية مع الصحفية الإيطالية أوريانا فالاتشي وصفت إنديرا الرئيس بوتو بأنه «غير متزن»، وهذا أسخط بوتو للغاية، حتى إنه دعا أوريانا فالاتشي في أبريل إلى مدينة كراتشي، حيث أخذ ينتقص من قدر هؤلاء الذين شملتهم حرب الأربعة عشر يومًا بين الهند وباكستان. فنعت الشيخ مجيب الرحمن بأنه «كاذب بالفطرة»، ذو «عقل مريض». في حين وصف إنديرا غاندي بأنها «امرأة عادية متوسطة الذكاء. ليس بها أي وجه من وجوه العظمة … وإنما عرشها هو ما يجعلها تبدو طويلة … وأيضًا الاسم الذي تحمله».45

تنافرت إنديرا وبوتو، غير أنهما تنازعا أيضًا. ففضلًا عن عدائهما الشخصي أحدهما للآخر، تنازعا فيما يتعلق بالأهداف. أرادت إنديرا استغلال مؤتمر سيملا لتسوية مسألة كشمير نهائيًّا، ومن ناحية أخرى أراد بوتو استرجاع ٩٣ ألف أسير واسترداد خمسة آلاف ميل كانت الهند تحتلها آنذاك. كانت إنديرا على استعداد للتخلي عن أي منطقة غير كشمير، أما الأسرى فرأت أنها لا تستطيع إطلاق سراحهم بدون موافقة بنجلاديش التي أرادت محاكمتهم بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

امتدت المحادثات بين الوفد الباكستاني والهندي خمسة أيام بدون أن تتكشف عن حل. ضم محور الطرف الباكستاني من المحادثات بوتو ووزير خارجيته عزيز أحمد والجنرال ضياء الحق (الذي صار فيما بعد رئيسًا لباكستان) والذي أصر الجيش الباكستاني على مصاحبته لبوتو في سيملا. ضم وفد إنديرا مستشاريها الأساسيين المخلصين دهار وهاكسار ووزير خارجيتها تي إن كاول العضو الأهم في «مافيا إنديرا الكشميرية» التي تكونت من رجال كلهم يتسمون بالأخلاق والمبادئ ويتمتعون بالدهاء والحنكة. وقد تولى قيادة تلك المجموعة هاكسار لما أصيب دهار بأزمة قلبية بسيطة في اليوم الثالث من انعقاد القمة.

كان الهدف الأساسي من منظور هاكسار هو عدم إذلال باكستان، وإنما خلق مناخ من الثقة والاطمئنان بينها وبين الهند. لقد قال هاكسار في ذلك لإنديرا: «عليكِ ألا تنسي معاهدة فيرساي [من الحرب العالمية الأولى]. ولا ينبغي أن تسحقي بقدميك من طُرِحَ أرضًا. كما أن لدينا مصلحة كبيرة في رؤية مزيد من الديمقراطية في باكستان.»46 فأخذ هاكسار يصوغ ويعيد صياغة معاهدات عديدة تنادي بتأسيس علاقات ثنائية بين الهند وباكستان لا يدخل فيها طرف ثالث — وفي ذلك منظمة الأمم المتحدة — وتطالب بالتخلي عن العنف، وتحويل خط وقف إطلاق النار إلى حد دولي، وحسم مسألة كشمير.
غير أن الوفد الباكستاني لم يقبل بأي مما عرضه هاكسار، يكمن السبب الرئيسي وراء ذلك الرفض في مسألة كشمير. وكان هذا بالأخص في مطالبة الهند بتحويل خط وقف إطلاق النار إلى خط سيطرة رسمي يتحول تدريجيًّا إلى حد دولي معترف به. كان بوتو لا يقول في هذا الشأن سوى: «ليكن هناك خط سلام، ليذهب الناس ويجيئوا، لا تجعلونا نتقاتل عليه.»47 غير أن تلك الآمال الواهية لم تكن كافية لإقناع الوفد الهندي، فواصلت إنديرا المطالبة بحسم الموقف في كشمير. ومن جانبه عدل بوتو ووفده على كل مسودة معاهدة عرضها الوفد الهندي عليهم أو رفضوها رفضًا تامًّا.
ثم في عصر الثاني من يوليو، بعد آخر اجتماع بين الوفدين، خرج وزير الخارجية الهندي تي إن كاول للقاء الصحفيين وأعلن بيأس أن المؤتمر وصل إلى طريق مسدود قائلًا: «كل شيء انتهى.» فسارع الإعلام بإعلان فشل القمة. وحزم تي إن كاول متاعه مغادرًا إلى دلهي قبل المأدبة التي ستعقب جلسة المباحثات الختامية اقتناعًا منه بأنه لن يكون هناك حل أو معاهدة.48
لكن قبيل بدء المأدبة التي أعقبت جلسة المباحثات الختامية والتي أقيمت في مقر إقامة حاكم مدينة سيملا، اقترح بوتو أن يلتقي هو وإنديرا بمعزل عن الآخرين، كلٌّ بدون وفده لمرة أخيرة. فوافقت إنديرا، وقال بوتو لهاكسار وبي إن دهار قبل أن يغادر هو وإنديرا المكان إلى غرفة جلوس صغيرة: «أنتم المسئولون تستسلمون بمنتهى السهولة.»49 فيما تباحثت إنديرا وبوتو انتظر هاكسار ودهار بفارغ الصبر في غرفة البلياردو بالمقر، وانتظر الوفد الباكستاني في قاعة الاستقبال المجاورة. كانت إنديرا وبوتو يخرجان من وقت لآخر من غرفة الجلوس ليستأنسا برأي مستشاريهما ثم يسرعان بالعودة إلى الغرفة لاستكمال اجتماعهما الخاص.
قدَّم كلٌّ من بوتو وإنديرا تنازلات عديدة أثناء مشاوراتهما. فمن ناحية وافقت إنديرا على سحب القوات الهندية من الأراضي الباكستانية، لكنها أعادت التأكيد بأنها لا تستطيع أن تتعهد بإعادة الأسرى الباكستانيين إلا بموافقة بنجلاديش. ومن ناحية أخرى تعهد بوتو شفهيًّا بالاعتراف ببنجلاديش في الوقت المناسب، واتفق الاثنان على عدم اللجوء إلى العنف فيما يتعلق بكشمير. وفوق ذلك اتفقا على عقد مفاوضات ثنائية لا تخضع للتدخل الأجنبي — وبالأخص من الأمم المتحدة — بين دولتيهما. أما خط وقف إطلاق النار الذي وُضع في ديسمبر عام ١٩٧١ فقد تقرر أن تعترف به باكستان ويتسمى بخط السيطرة، بما يستلزم تحويله إلى خط دولي، وبذلك تحسم مسألة كشمير نهائيًّا.50
اشترط نص المعاهدة أن «يحترم كلا الطرفين خط السيطرة الذي أسفر عنه وقف إطلاق النار في ١٧ ديسمبر عام ١٩٧١ دون إخلال بالوضع المعترف به لكلا الجانبين».51 غير أن الاحترام والإقرار لم يكونا ملزمين قانونيًّا مما عنى أن مصير كشمير النهائي ظل معلقًا. فاقترح هاكسار — ووافقه بوتو وإنديرا — أن يتعهدوا جميعًا بالاجتماع مجددًا «في وقت ملائم يتفق عليه الجانبان في المستقبل لبحث تسوية نهائية سلمية لقضية جامو وكشمير، واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين». كان توقيع بوتو على هذه المعاهدة بدون ذكر إقامة أي استفتاءات في كشمير يعد إنجازًا حقيقيًّا للجانب الهندي.52
وبعد منتصف الليل، طُبعت النسخة النهائية من المعاهدة على عجل. وفي الثانية عشرة وأربعين دقيقة في الثالث من يوليو، وقعت عليها إنديرا وبوتو في غرفة البلياردو. فلما خرجا من الغرفة استقبلتهما مجموعة صغيرة من المساعدين وصحفيين. صاحت مساعدة إنديرا يوشا بهاجات تسألها: «أصبي أم فتاة؟» (الصبي دلالته أنه تم التوصل إلى اتفاقية، وأن المفاوضات قد أثمرت نجاحًا، أما الفتاة فدلالتها أنها لا تزال أمام طريق مسدود). فأجابها هاكسار بالإنجليزية مبتهجًا: «ليس صبيًّا فقط، بل هو صبي حسن التنشئة، متعلم بكل ما للكلمة من معنًى.»53
غادرت إنديرا وبوتو سيملا — التي كانت فيما مضى مقرًّا لعقد المؤتمرات العقيمة بين الهند وبريطانيا — وهما راضيان ومفعمان بالآمال، لكن بعد سيملا كان هناك النقد. ففي عام ١٩٧٢ وفيما بعد ذهبت الآراء إلى أن إنديرا أخطأت خطأً فادحًا عندما فشلت في الضغط على بوتو فيما يتعلق بمسألة كشمير. وفوق ذلك دارت شائعات بأن التسويات التي تم التوصل إليها لم تتحقق إلا باتفاق كل من إنديرا وبوتو على «فقرة سرية» ما. غير أن الفرضية الأكثر إقناعًا في ذلك الشأن هي أن بوتو لمح لإنديرا أنه لن يتمكن من الحفاظ على بقائه السياسي إن عاد من سيملا خاسرًا باكستان الشرقية وكشمير. ولأن للهند — كما رأى هاكسار — مصلحة كبيرة في تواصل الديمقراطية فضلًا عن الحكم العسكري في باكستان. فقد رأت إنديرا — وإن كانت قد ظلت تعتبر بوتو غير أهل للثقة — أن بوتو تحدث بصدق عن موقفه الحرج، وآمنت بأنه يريد السلام مع الهند.54
كانت المشكلة الفادحة في اتفاقية سيملا على حد تعبير بي إن دهار هو: «أنها اعتمدت على افتراض احتفاظ كلا القائدين الموقعين لها بمنصبه وأنها اعتمدت أيضًا على افتراض أن بوتو سيلتزم بتعهده الشفهي لإنديرا غاندي (بأن يتحول خط السيطرة الكشميري إلى حد دولي) … ولم يبدُ أن القلق يساور الجانب الهندي إزاء احتمالية تراجع عزم بوتو السياسي، أو فقدانه للسلطة»، فلم يكن أحد عندئذٍ يتخيل اليوم الذي يخلو فيه العرش من إنديرا.55
في الواقع في صيف عام ١٩٧٢ بدا أن إنديرا تتمتع بمكانة حصينة بعد انتصار الهند في الحرب الهندية الباكستانية، واستقلال بنجلاديش، وتوقيع اتفاقية سيملا. لقد اعتمد نفوذها غير المسبوق كرئيسة وزراء الهند بانتهاجها سياسة فريدة تمتزج فيها الوطنية بالراديكالية، وقد حازت تلك السياسة إعجاب — بل عشق — الأطياف السياسية كافة سواء من اليمين أو الوسط أو اليسار. حتى إن الصحفي كولديب نايار، الذي كان دومًا يوجه إلى إنديرا انتقادات لاذعة، كتب يقر بأنها قد «فازت بالحرب، وفازت بالسلام. وصارت بلا منازع قائدة الدولة، وتحول استخفاف المثقفين بها إلى إعجاب شديد، وفاقتهم جموع الشعب حبًّا … وعُدت أعظم زعيم عرفته الهند قاطبة.»56

وفي أوج تلك السلطة والشهرة والشعبية لم يكن أمام إنديرا مفر من السقوط.