إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل السابع عشر

الابن الصاعد

منذ البداية امتدحت أبواق الدعاية حالة الطوارئ على أنها برنامج لإحياء الأمة. لن ينقذ الديمقراطية وحسب، وإنما كذلك ستُبعث به الهند إلى الحياة من جديد. لتحقيق ذلك البرنامج أعلنت إنديرا خطة اقتصادية من عشرين نقطة، تضمنت مبادرات تحرم العمل بموجب عقود الإذعان، وتلغي جميع ديون الفلاحين لمقرضي الأموال، وتضع القيود على تملك الأثرياء للأراضي، وتفرض إجراءات صارمة لمحاربة المهربين والمتهربين من الضرائب، وتعفي إيرادات الطبقة المتوسطة من الضرائب، وتتحكم في أسعار السلع الأساسية. كل تلك الخطط بدت واعدة على الأوراق. لكن من ناحية أخرى، لم يكن بمقدور حملة البرنامج ﻟ «محاربة الفقر» — وبصفة خاصة الفقر بين فقراء القرى — تحقيق نجاح كبير؛ لأن الولايات حينذاك افتقرت إلى التنظيمات الإدارية والبنى التحتية التي يمكنها تنفيذ الإصلاحات.

غير أنه أحرز نجاحًا حقيقيًّا على صعيد حملات محاربة المهربين والمتهربين من الضرائب. فبعد وضع مشروع لتقديم الإقرارات الضريبية طواعية، تقدم ٢٥٠٠٠٠ شخص للإبلاغ عن حجم ثرواتهم، ودخولهم، الأمر الذي أثمر عائدًا قيمته ٢٤٩ كرور. وفي العام الأول من فرض حالة الطوارئ تزايدت الحصيلة الضريبية بنسبة ٢٧٪. واعتقل ما يزيد عن ٢٠٠٠ مهرب، وشن ما يزيد عن ٦٠٠٠٠ غارة على المشتغلين بالسوق السوداء، أسفرت عن مصادرة بضائع تقدر بمئات الملايين. وتقلص الفارق بين حجم التبادل التجاري المشروع وغير المشروع. وشهدت الأسعار استقرارًا، ونقص العجز في السلع الأساسية.1

لكن خطة سانجاي المكونة من خمس نقاط — لا برنامج العشرين نقطة المعقد الذي وضعته إنديرا — هي التي أثارت حماسة الشعب الهندي. لقد ظل سانجاي حينذاك مديرًا لشركة السيارات الخاصة به، شركة ماروتي، إلا أنه بدأ أيضًا قبل بضعة أعوام في التدخل في الشئون السياسية. لقد تبرع الكثير من الساسة لشركته بالأموال طمعًا في الفوز بحظوة إنديرا، وأشعل اتصاله بهؤلاء رغبته في تملك السلطة السياسية. فدخل عالم السياسة بصورة غير عادلة، بلا حق أو خبرة أو تفويض انتخابي، ومع ذلك لم يشكك أحد في شرعية وضعه للسياسات الحكومية عندما أعلن بحماس خطته المكونة من خمس نقاط. بل إن الحكومة أنفقت ما يزيد عن ٨٠٠ ألف روبية في الدعاية لخطته التي حققت شعبية بسرعة صاروخية.

الأهداف الخمس التي وضعها سانجاي شملت زيادة نسبة المتعلمين من البالغين (وقد رُوج لذلك بشعار «كلٌّ يعلم الآخر»)، وإلغاء الأنظمة الطائفية ودفع العرائس للمهور، وتجميل البيئة (ويدخل فيه إزالة العشوائيات وزراعة الأشجار)، وأخيرًا — الأمر الذي كان أكثر ما أثار المعارضة — بدء برنامج شامل لتنظيم الأسرة. استند أغلب تلك الأهداف إلى مشروعية كافية. لكن خطة الخمس نقاط شأنها شأن حالة الطوارئ نفسها، صارت أداة تعظم بها مكانة سانجاي غاندي الشخصية أكثر منها أداة لتحسين الأوضاع الاجتماعية في الهند.

فتح إعلان حالة الطوارئ لسانجاي الباب للمال والسلطة. فاستخدمه لتصفية حساباته مع من يحمل الضغائن تجاههم. وبي إن هاكسار — الذي حاول إقناع إنديرا بالحد من سلطاته — جاء على رأس قائمة مستهدفيه. لم يستطع سانجاي المساس بهاكسار نفسه، لكن عائلة الأخير كانت تملك متجرًا كبيرًا يدعى بانديت براذرز تباع فيه الأقمشة والمفروشات المغزولة يدويًّا على الأنوال في سوق كونوت بليس في دلهي. وهذا المتجر أداره عم هاكسار العجوز ذو الأربعة والثمانين عامًا آر إن هاكسار وصهره كيه بي موشران.

في ١٠ يوليو اقتحم مفتشو الضرائب بانديت براذرز بدعوى تهرب أصحابه من الضرائب. وصدر أمر التفتيش من سانجاي غاندي، وأُقر على طول التسلسل القيادي للمناصب التنفيذية، بداية بآر كيه دهاوان، وانتهاءً إلى نائب حاكم ولاية دلهي. إلا أن مفتشي الضرائب بعد تفتيشهم للمتجر لأكثر من ساعتين لم يستطيعوا تقديم أي دليل لإدانته. ولما لم ترضِ تلك النتيجة سانجاي، اتهمهم بالتواطؤ مع المتجر. وأُجري تفتيش ثانٍ للمتجر في ١٤ يوليو بدعوى التحقيق في تطبيقه لقانون قواعد بيع السلع الأساسية، وهو قانون يقضي بإبراز أسعار السلع المعروضة للبيع. في ذلك التفتيش الجديد الذي أجري للتنقيب عن بطاقات الأسعار، عُثر على سلع بدون بطاقات أسعار مبرزة، فأُلقي القبض على آر إن هاكسار، وكيه بي موشران. لكن لما علمت إنديرا بذلك من صديقها القديم «أرونا أساف علي»، تدخلت وأمرت بإطلاق سراح عم هاكسار المسن وصهره فورًا.2

اعتقد الكثيرون أن سانجاي هو أول من اقترح فكرة فرض حالة الطوارئ القومية بعدما صدر حكم محكمة الله آباد العليا ضد إنديرا. لكن ما حدث على الأرجح هو أن أحد مستشاريه — كبانسي لال رئيس حكومة ولاية هارايانا — أثار ذلك الاقتراح، فتحمس له سانجاي وشجعه، ثم أقنع بدوره والدته باستدعاء سيدهارثا شانكار راي والإصرار على ضرورة اتخاذ إجراء صارم عاجل. لكن بصرف النظر عن كون سانجاي صاحب تلك الفكرة أم لا، فقد كان أشد مؤيديها. واتسعت سلطاته تزامنًا معها، فعلى مدى الثمانية عشر شهرًا التالية، أصبحت الهند تعرف ﺑ «أرض الابن الصاعد».

مع أن أكثر جهود سانجاي اتجهت آنذاك للأنشطة السياسية، ظلت شركة ماروتي قائمة، على الأقل اسميًّا. لقد ظل إنتاج سيارة الماروتي التي كانت ستصبح «سيارة الشعب» ضعيفًا، لكن الشركة وسَّعت من أنشطتها بافتتاح شركة ماروتي للخدمات التقنية (أو شركة إم تي إس)، وهي شركة استشارات خاصة نشأت ظاهريًّا «لتقديم … الخبرات في تصميم وتصنيع وتجميع السيارات.»

في البداية لم تعلم إنديرا ولا راجيف — الذي كان حينذاك يعمل طيارًا لدى شركة الهند للخطوط الجوية — شيئًا عن شركة إم تي إس. لكن بعدئذٍ في الوقت الذي كان راجيف مسافرًا فيه خارج دلهي أقنع سانجاي زوجة الأخير سونيا غاندي بتوقيع عدة وثائق لتلك الشركة الجديدة، صارت هي بمقتضاها المديرة العامة لها، وأصبح طفلها الذي كان لا يزال يتعود المشي، وطفلتها الرضيعة مساهمين فيها. وبهذا استُحق لسونيا — التي كانت بلا شك لا تملك خبرات إدارية أو دراية في مجال صناعة السيارات — راتب شهري قيمته ٢٥٠٠ روبية، وعمولة تبلغ ١٪ من صافي ربح الشركة، وعلاوات، ومكافآت، وتأمين طبي، ونفقات سفر، ومصروف لمنزلها وهاتف، وسيارة، وسائق. من الواضح أن سونيا لم تفهم تمامًا خطورة الوثائق التي طلب منها أخو زوجها توقيعها. ويقال إن راجيف ثارت ثائرته لدى اكتشافه أن أخاه ورط عائلته في شركة إم تي إس. لقد شكا الأمر إلى سيدهارثا شانكار راي، إلا أنه لم يطلب من زوجته الانسحاب من تلك الشركة الجديدة.3
كانت شركة إم تي إس شركة صورية. فوفقًا لكاتب سيرة سانجاي فينود ميهتا «لم يكن هناك تقريبًا أي استشارات … أو حتى شركة لتقديمها».4 لم تنشأ شركة إم تي إس إلا لامتصاص كل ما يمكن من أموال الشركة الأم؛ شركة ماروتي المحدودة المسئولية التي كانت تكبرها، وتتدفق عليها الأموال من الكثير من البنوك ورجال الصناعة المدينون بالفضل لإنديرا. فبحلول عام ١٩٧٥ كانت شركة إم تي إس قد استخلصت مليون روبية من شركة ماروتي المحدودة المسئولية، الأمر الذي شجَّع سانجاي على تأسيس شركة أخرى هي شركة ماروتي للمركبات الثقيلة، وهي «شركة صغيرة» لإنتاج مداحل الأسفلت. شأنها شأن شركة إم تي إس، كانت شركة ماروتي للمركبات الثقيلة شركة احتيال. اشترى سانجاي محركات من طراز فورد من شركات تملك أذون استيراد (ساهم مديروها بمبالغ هائلة في تمويل حزب المؤتمر) وركبها في مداحل أسفلت قديمة متهالكة طلاها طلاءً خفيفًا، ثم باعها على أنها مداحل جديدة. وقد تهافتت حكومات الولايات الطيعة والشركات على شرائها رغم أسعارها الباهظة.

إبان عام ١٩٧٦، اتسعت مشروعات شركة ماروتي، ونمت ثروة سانجاي الشخصية بسرعة هائلة. خاضت الشركة مجال الأنشطة المصرفية، وميدان القانون المدني والجنائي وقانون الشركات، وعملت بالتسويق، وإنتاج هياكل الحافلات، وبيع المواد الكيميائية، وبالطبع — عن طريق أولياء نعمتها — شاركت في السياسة. وفوق ذلك صارت وكيلة للعديد من الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات، من بينها شركة إنترناشيونال هارفيستر وبايبر آيركرافت.

•••

في ٦ أغسطس عام ١٩٧٥، أجرت أوما فاسوديف — التي نشرت سيرة إنديرا قبل عامين وأجرت مقابلة مع سانجاي حول السيارة الماروتي — مقابلة صحفية جديدة مع سانجاي لمجلة «سيرج». سُجلت المقابلة على آلة تسجيل شريطية. كان المفترض أن ينبه صوت دوران آلة التسجيل ذات البكرة الضخمة المزعج سانجاي — الذي اتسم بوجه عام بالحيطة — لأن يلزم الحذر. لكن الأخير كان على العكس مندفعًا جدًّا في كلامه، فأعلن نفسه معارضًا للكثير من سياسات والدته، وأغلب حلفائها السياسيين. وفوق ذلك أدان تأميم القطاعات الخاصة، وامتدح المشروعات الربحية والشركات متعددة الجنسيات، وصرح بأنه يفضل أن تُرفَع جميع القيود الاقتصادية. وقال إن القطاع العام لا بد أن يُترَك ليموت «كما هو متوقع». أما عن الحزب الشيوعي الهندي (سي بي إيه) — الذي كان دعمه حاسمًا للحكومة إبان الشهور الأولى من فرض حالة الطوارئ، فقد قال سانجاي عن أعضائه: «لا أظن أنه يمكن العثور على أناس أكثر ثراءً وفسادًا من هؤلاء.»5

أثناء تلك المقابلة، كانت فاسوديف بالكاد قادرة على احتواء حماسها؛ على حد تعبيرها فيما بعد، فقد كان سانجاي يفشي «معلومات ستحدث ضجة إعلامية». لذا قبل أن تنشر المقابلة، وزعتها على وكالة أنباء رويترز والكثير من وكالات الأنباء الأخرى. وحرص سانجاي نفسه على أن يجيز رقباء المطبوعات نشرها في ٢٧ أغسطس.

حتى اليوم التالي عندما نُشرت مقتطفات طويلة من مقابلة سانجاي في الصفحة الأولى لجميع الصحف الهندية، لم تكن إنديرا قد قرأت عنها أو عرفت حتى بإدلاء سانجاي بها. لقد أجرت تسعون صحيفة أمريكية تغطية للمقابلة، وتناولتها الصحف البريطانية. إزاء هذا استشاطت إنديرا غضبًا واستدعت سكرتيرها الأول بي إن دهار. تصادف أن كان الأخير آنذاك في اجتماع لعائلته في مكان قريب بدلهي، فاستغرق ساعة تقريبًا في الوصول إلى مقر إقامة إنديرا. ولما وصل أعطته إنديرا رسالة قصيرة عن مقابلة سانجاي — مع أنهما كانا سيخوضان نقاشًا طويلًا في ذلك الشأن — خطتها على عجل أثناء انتظارها له:
«المشكلات لا تنتهي أبدًا. أدلى سانجاي بتصريح في منتهى الحماقة عن الشيوعيين. لم أعرف بأي شيء عن تلك المقابلة إلا بعدما رأيت الصحف، ولم أقرأ عنها حتى ذلك الحين. هذا المساء فقط فجرت عناوين الصحف أحداثها في وجهي. في لحظة حاسمة وحرجة للغاية لم نتسبب في ألم بالغ لمن ساعدونا ويؤيدوننا الآن في البلاد (الحزب الشيوعي الهندي) وحسب، (بل أيضًا) خلقنا مشكلات خطيرة مع الجبهة الاشتراكية بكاملها. فات أوان التحرك بالفعل، ومع هذا فإن دهاوان يبذل قصارى جهده لمنع نشر المزيد. إلا أننا لا نستطيع منع ما صدر بالفعل. ماذا عسانا أن نفعل؟ أشعر بالقلق الشديد، إنها المرة الأولى التي أشعر فيها حقًّا بالقلق منذ سنوات. كيف نبلغ الاتحاد السوفييتي وغيره بما حدث؟ ما الأعذار التي يمكن أن نجدها أو نختلقها؟ هل عليَّ أن أصدر تصريحًا؟ هل علينا أن ندفع سانجاي إلى قول شيء ما؟ لن يفعل ذلك. أنا متأكدة (مع أنني لم أتحدث معه في ذلك). لا أريد أن ألقي باللائمة على من أجرت المقابلة أو أي شخص آخر. لقد فقدت حقًّا السيطرة على أعصابي. هل بإمكانك أن تبتكر حلًّا ما؟ ليس هناك أي وقت لنضيعه.»6

قضى دهار ما يزيد على الساعة في مناقشة إنديرا فيما يمكن عمله لاحتواء ما وقع من ضرر. كان الخيار الواضح أمامهما هو اللجوء إلى وزير الإعلام والإذاعة الجديد في سي شوكلا. إلا أن الأخير كان حينذاك يتلقى أوامره من سانجاي، وكلاهما كان يعلم أنه لا يمكن الوثوق به. في نهاية الأمر قررا أن يأمر دهار بمنع نشر المقابلة في مجلة «سيرج» والصحف والمجلات الأخرى التي لم تنشر فيها بعد، وأن يقنعا سانجاي بالإدلاء ﺑ «تفسير» لتصريحاته عن الحزب الشيوعي الهندي.

مقابلة سانجاي أشعرت دهار في قرارة نفسه بالخوف، ليس فقط لما كشفته عن سانجاي، بل لأن الموقف آنذاك أظهر مدى ضعف سيطرة إنديرا على ابنها. كان دهار يعلم من وقت مسبق أن سانجاي مثير للمشاكل، وأنه يتخذ الرئيس فيرديناند ماركوس — الذي كان كتابه «الثورة الديمقراطية في الفلبين» واحدًا من الكتب القليلة التي امتلكها سانجاي — قدوة له، وأنه قد استخف في بعض تعليقاته بجده، ووصف أعضاء مجلس وزراء والدته بأنهم «مجموعة من الحمقى الجهلة». على كلٍّ، في الوقت الذي حاول فيه دهار وإنديرا تهدئة عاصفة الجدل التي أثارتها مقابلة سانجاي، تدفق على مكاتب مجلة «سيرج» ومكاتب إنديرا في شارع «أكبر رود» سيل من المكالمات الهاتفية من السفارات ومكاتب المندوبين الساميين والصحف الدولية. وثار الحزب الشيوعي الهندي، وأخذ يطالب بتفسير لتصريحات سانجاي. ثم منع دهار في مساء ٢٨ أغسطس نشر المقابلة في جميع وسائل الإعلام الهندية. عندها لم تكن مجلة «سيرج» نفسها قد بلغت أكشاك بيع الجرائد، وتلقت أوما فاسوديف مكالمة قصيرة من مكتب رئيسة الوزراء تعلمها بأن المقابلة لا يمكن نشرها.7
في اليوم التالي نشرت الصحف الهندية «تفسير» سانجاي نفسه لتصريحاته عن الحزب الشيوعي. لم يسجل التاريخ الطريقة التي نجح بها دهار وإنديرا في دفع سانجاي إلى الإدلاء بذلك التفسير. لكن الأخير بدا أنه يتراجع عن أقواله؛ إذ قال سانجاي: «لم أعنِ بهذا التصريح العام حزبًا بأكمله (الحزب الشيوعي). بالطبع هناك في أحزاب (أخرى) كحزب السواتانترا وحزب جان سانج أناس … أكثر ثراءً … وفسادًا بكثير … أنا لا أؤيد الحزب الشيوعي … لكن موظفيه مخلصون لقضيتهم … وقد أيد السياسات التقدمية وأخلص العمل لتحقيقها، خاصة السياسات التي تهدف لإصلاح أحوال الفقراء.»8
رأى بي إن دهار أن المقابلة التي أدلى بها سانجاي لمجلة سيرج كانت «محاولة جريئة لتجاوز سلطة رئيسة الوزراء».9 فمع تراجعه عن أقواله، صار معروفًا لدى الجميع أنه يرفض رؤى والدته السياسية وأنه غير مستعد حتى للإدلاء بتأييد شفهي لقيم الديمقراطية والاشتراكية و«البرامج التقدمية» التي يتمسك بها المؤتمر. كان بلا شك مؤيدًا للرأسمالية والسياسات المحافظة والحكم المطلق.

فضلًا على أنه بنى لنفسه قاعدة سياسية اتخذت من بيته أو بيت رئيسة الوزراء مقرًّا لمنافسة سكرتارية إنديرا. فبتعيين بعض من أتباعه كنواب للوزراء، صار بإمكانه التدخل في شئون بعض الوزارات المهمة والسيطرة عليها. فتحكم في وزارة الداخلية، لا عن طريق وزيرها براهماناندا ريدي عضو مجلس إنديرا الوزاري، وإنما عن طريق وزير الدولة للشئون الداخلية أوم ميهتا الذي صار في وقت قصير يعرف بهوم ميهتا (وزير الداخلية ميهتا). وبالتحايل نجح في تعيين براناب مخيرجي في وزارة المالية وإيه بي شارما في وزارة الصناعة. وأصبح بانسي لال ولي نعمة شركة الماروتي ورئيس حكومة ولاية هاريانا وزير الدفاع في ديسمبر عام ١٩٧٥.

وبالإضافة إلى دلهي، حاول رؤساء الحكومات في الولايات الأخرى الفوز بحظوة سانجاي. وتسابقوا إلى جذب انتباه «ابن» رئيسة الوزراء، فرحبوا به في ولاياتهم، واستقبلوه استقبال العظماء، وجمعوا الحشود الضخمة إكرامًا لوفادته. أما في ولاية أوتار براديش فقد أبلغه ياشبال كابور أن رئيس حكومة الولاية إتش إن باهوجونا استأجر أربعة من رجال الدين الهندوس للدعاء بهلاكه وهلاك رئيسة الوزراء، فأمر بملاحقة رجال الدين هؤلاء واعتقالهم. وعُزل باهوجونا من منصبه، وحل محله إن دي تيواري (الذي سرعان ما عُرف باسم نيو دلهي تيواري لولائه للوسط الذي قضى فيه أغلب وقته).

في العصابة السياسية السرية التي ألفها سانجاي في بيت رئيسة الوزراء أو عصابة بي إم إتش كما أشار لها دهار (اختصارًا لبيت رئيسة الوزراء) ألغيت الجدارة والنزاهة كمقياس، وحل محلها الولاء. فعلى حد قول أحد زملاء دهار فيما بعد: «سكرتارية رئيسة الوزراء قامت مقام مخزن المياه النقية (في الحكومة)، في حين قامت عصابة بي إم إتش مقام نظام الصرف.»10 بحلول ذلك الوقت كان قد انضم إلى عصابة بي إم إتش كيشان تشاند نائب حاكم ولاية دلهي، وسكرتير إنديرا الخاص متعدد المهام الذي لا يعرف التعب آر كيه دهاوان. فأدت العصابة وظائفها بسلاسة وكأنها سلطة فوق القانون. وأخذت تصدر الأوامر — عن طريق دهاوان — إلى المسئولين في سكرتارية إنديرا الذين كان أغلبهم على حد تعبير دهار «ليسوا ممن يقام لهم وزن».11

•••

في جلسة حزب المؤتمر السنوية التي انعقدت في أواخر ديسمبر عام ١٩٧٥، في تشانديجارف (العاصمة المشتركة للبنجاب وهاريانا)، عندما نصب سانجاي عضوًا في اللجنة التنفيذية لجناح الشباب بحزب المؤتمر، كان ذلك بمنزلة إعلان لاختياره خليفة لوالدته. لقد هدف سانجاي من ترشحه لتلك العضوية إلى إحياء جناح الشباب الذي توقف دوره قديمًا ليكون منبرًا «يؤثر» به على أعضاء الحزب الذين تنازع معهم. وصار الجناح مركز قوة منافسًا لحزب المؤتمر الأب، بالضبط كما صارت عصابة بي آر إتش في بيت إنديرا منافسة لسكرتاريتها. فعينت امرأة في الخامسة والثلاثين من العمر من أتباع سانجاي تدعى أمبيكا سوني رئيسة لجناح الشباب. طرح الحزب سياسات لتحديث القرى والبرامج لتنظيم الأسرة ونشر التعليم، وتوفير المساعدات القانونية للفقراء، والتخلص من الكلاب الضالة في شوارع دلهي. وتحت تأثير سانجاي، قدم مظلةً لرعاية شتى أنواع العصابات والمجرمين … و«الشخصيات غير السوية» والعناصر المثيرة للاضطرابات.»12
تحرش «فتية شباب حزب المؤتمر» بأصحاب المحال في دلهي، وأجبروهم على دفع تبرعات لمراكز لا وجود لها لتعليم الكبار وتنظيم الأسرة. في ذلك قال أحد تجار كونوت ناطقًا بلسان الكثيرين آنذاك: «كلما رأيت هؤلاء الهمج، قلت لنفسي: رباه كم سأضطر أن أدفع هذه المرة؟ لكنني كنت دائمًا أدفع. فكل ما كنت أتمنى حينها هو التخلص منهم.»13

لكن لم يقف فتيان سانجاي عند حد جمع التبرعات. أُلزم التجار في ظل حالة الطوارئ بإبراز قوائم أسعار البضائع المعروضة للبيع، وخفض أثمانها بنسبة ١٠٪ ثم وضع بطاقة أسعار على كل سلعة مبيعة. طاف أعضاء من شباب حزب المؤتمر — وأحيانًا أفراد عصابات يدعون أنهم منه — على محال دلهي التجارية وجمعوا الغرامات فوريًّا من أي تاجر ينتهك قواعد حالة الطوارئ. وأحيانًا كان من يبتزون تلك الغرامات يضعونها في جيبهم الخاص. بوجه عام كانت تلك الأموال تذهب مباشرة لسانجاي و«بطانته».

دارت قصص من مختلف الأنواع حول سانجاي «وفرق العمليات الخاصة» به في دلهي، من بينها قصص عن «قتلة مأجورين» يقومون بتصفية الأهداف البشرية بناءً على أوامره. كان من المستحيل التأكد مما إذا كانت تلك القصص مجرد شائعات أم حقائق لها أساس من الصحة. لكن نتيجتها كانت مناخًا من الخوف انتشر بين قطاع عريض من الناس من ساكني العشوائيات والمشردين إلى أصحاب المحال ورجال الأعمال، وحتى كبار المسئولين الحكوميين. ولما أمكن بأمر من سانجاي إقصاء أعضاء من المجلس الوزاري كآي كيه جوجرال، وتهميش مستشارين كبي إن هاكسار، بدا أن الكل صار تحت رحمة سانجاي؛ «الابن الصاعد» كما صار يُدعَى.14
يزعم روميش ثابار صديق ومستشار إنديرا في الستينيات — الذي وقعت جفوة بينه وبين إنديرا — أن سانجاي أمر بقتل رجل من رجال العصابات جمعت بين معشوقته وسانجاي علاقة غرامية. وفقًا لثابار، عندما تحدى الرجل سانجاي أن يضع يده على معشوقته أمر سانجاي رئيس شرطة دلهي بي إس بهيندر باعتقاله. وعُثِر فيما بعد على جسده في كيس بلاستيكي ملقًى في قاع نهر جومنا. تلك الحادثة وقصة ضلوع سانجاي فيها كانتا معروفتين لدى الجميع، وقد خدمتا كإنذار قوي لكل من يفكر في إغضاب سانجاي.15
في أواخر عام ١٩٧٥، إبان عمل بي كيه نهرو في منصب المندوب السامي الهندي، زار دلهي، وفزع لدى اكتشافه أن «حكم القانون حل محله حكم سانجاي غاندي». أخبر بي كيه نهرو صديقه المقرب بي إن هاكسار أنه «سيتحدث مع إنديرا عما يقترفه سانجاي»، لكن حينئذٍ أقنعه هاكسار بأن ذلك سيكون خطأً جسيمًا يؤدي إلى تهميشه كما حدث له هو. قال هاكسار لنهرو إن إنديرا «ليست على استعداد لفهم الحقيقة مطلقًا عندما يتعلق الأمر بذلك الفتى؛ فهي تراه مثاليًّا معصومًا من الخطأ. وإبداء أي شك فيه» ستكون نتيجته إقصاء نهرو. ونهرو — كما أوضح هاكسار — كان واحدًا من الساسة المخضرمين القلائل الذين ظل الاتصال مفتوحًا بينهم وبين إنديرا. فإن انتقد نهرو سانجاي علانية فلن يمكنه تحقيق أي أثر إيجابي حققه … أو أمكن له مستقبلًا تحقيقه. من ثَم لزم نهرو الصمت على مضض.16
في بعض الأحيان أبدت إنديرا تشككًا في سانجاي؛ وأوعزت بشكوكها ذات مرة لأحد قادة حزب المؤتمر الذين أعربوا عن قلقهم قائلة: «إن آراءه مختلفة عن آرائنا … لكنه ليس مفكرًا، إنه فاعل.»17 إلا أن سانجاي على الرغم من الآراء السياسية التي اعتنقها، وأسلوب القوة الذي استخدمه، وسطوه تدريجيًّا على منصب إنديرا، وتقويضه لسلطة سكرتاريتها؛ ظل الشخص الأهم في حياتها، والشخص الوحيد الذي تثق وتؤمن به. لماذا؟

لم يكن سانجاي لينجح وحده قط في عالم السياسة، شأنه شأن والدته. فباستثناء النسب الذي ورثه عن نهرو وإنديرا، لم يملك أي مقومات سوى الشباب والحيوية والطموح. برع في الخداع والتحايل، إلا أنه لم يكن خارق الذكاء. فقلما قرأ غير مجلات السيارات وكتيبات الآلات. ولم يفهم نظم وآليات الحكم فهمًا حقيقيًّا. كان يفتقر إلى المهارات الاجتماعية التي يتمتع بها أغلب الساسة. فكان فجًّا، ومباشرًا، ووقحًا في كلامه، ولم يقم قط علاقات وجدانية وثيقة مع أبويه أو أخيه أو زوجته. كان أصدقاؤه من المتملقين أو ما يعرف بالهندية ﺑ «تشامتشاس»، وهي كلمة يشار بها للشخص الذي ينحني للآخرين تزلفًا بالصورة التي تنحني بها رءوس الملاعق بعضها على بعض. وكان متملقو سانجاي مجموعة من أصحاب المستويات التعليمية الضعيفة مثله، منهم ساسة وبعض من رفقاء السوء ورجال العصابات.

كان شعور إنديرا بالوحدة قد تزايد بمر الأعوام، فبادماجا نايدو توفيت. لم تكن بوبول جاياكار — على حد قولها فيما بعد — مقربة إلى إنديرا بالدرجة نفسها. أما دوروثي نورمان فانقطع اتصالها بإنديرا بسبب فرض حالة الطوارئ. عاشت ماري سيتون بمنأى عنها ولم تلقَها إلا نادرًا. ابن إنديرا الأكبر راجيف لم تكن علاقته بها وثيقة كعلاقتها بسانجاي، فضلًا على أنه بطبيعته لم يكن مهتمًّا بالسياسة، وإن كان قد أعرب عن عدم ارتياحه للأوضاع في ظل حالة الطوارئ. أما سونيا زوجة راجيف فقد أُغرمت إنديرا بها واعتمدت عليها، ولكنها لم تناقشها في الأمور السياسية، فهي لم تملك خبرة أو تبدِ اهتمامًا بها. أيضًا بحلول ذلك الوقت كانت إنديرا قد أقصت أغلب أفراد مافيتها الكشميرية، لكن هؤلاء كبي إن هاكسار ودي بي دهار وتي إن كاول لم يكونوا بأية حال من أصدقائها الشخصيين قط.

لا يدع هذا إلا علاقة واحدة وثيقة في حياة إنديرا، ألا وهي علاقتها بابنها الأصغر سانجاي. كانت سيطرة الأخير على والدته واضحة، وقد شعر من عرفوا إنديرا إبان حياة فيروز غاندي أن سيطرته ترجع إلى ارتباطه في ذهنها بفيروز. فمع أن راجيف كان يشبه أبيه جسديًّا شبهًا عجيبًا، فقد كان هادئ الطباع وخجولًا وغير طموح. من ناحية أخرى كان سانجاي هو من ورث صفات أبيه وطباعه. فأخذ عنه حيويته وطاقته وعناده وإصراره على النجاح، إلا أنه افتقر إلى مبادئه وبصيرته السياسية. لقد كان سانجاي بوجه عام صورة من فيروز تجتمع فيها جوانبه المظلمة، وتعظم نقائصه، وتنعدم فضائله. أيضًا كان سانجاي من طراز الرجال الذين انتمى إليهم ماثاي المعشوق المزعوم لإنديرا. فكل من ماثاي وسانجاي كان من الطراز الرجولي المكافح المسيطر المصمم على النجاح. إلا أنهما افتقرا إلى الكياسة التي تمتع بها نهرو، وإلى تمسكه بالقيم.

رأى بي إن دهار أن إنديرا في ردة فعلها إزاء تصريح سانجاي «الشديد الحماقة» لمجلة سيرج كانت «متخوفة نوعًا ما من ابنها» وأن مخاوفها «بلغت على أقل تقدير حد الخوف من إغضابه». لكنه لم يستطع أن يحدد «إن كانت لا تستطيع إيقافه عند حده، أم أنها ببساطة لا تريد ذلك».18 لم يكن دهار الشخص الوحيد الذي رأى أن إنديرا تخشى سانجاي. فبوبول جاياكار ونايانترا ساهجال بدورهما رأتا ذلك. لم تخشَ إنديرا إلا القليل من الناس في حياتها. لكن والدها وزوجها قد أرهباها، وإن كانت في أحيان قد تصدت لهما وتحدتهما. سانجاي من ناحية أخرى استطاع أن يبث الرعب في قلب أمه وأن يجمدها من الخوف، فقد ذكر مراسل صحيفة «واشنطن بوست» لويس سيمونز أن أحد ضيوف آل غاندي على العشاء في صيف عام ١٩٧٥ روى أنه في وسط مشاجرة ما صفع سانجاي أمه على وجهها ست مرات. ووفقًا لضيف العشاء المجهول «لم تفعل إنديرا شيئًا حيال ذلك، وإنما ظلت في مكانها تتلقى الصفعات، فهي تخشاه كالموت». غير أن أحد أصدقاء آل غاندي نفى صحة تلك القصة قائلًا للكاتب فيد ميهتا: «لا يستطيع حتى إله أن يصفع إنديرا غاندي على وجهها ست مرات.»19
عجز أغلب الناس، ومنهم من عملوا إلى جانب إنديرا وسانجاي كبي إن هاكسار وبي إن دهار وبي كيه نهرو، عن تفسير خوف إنديرا من ابنها. رأت جاياكار أن لهذا الخوف علاقة باعتراف إنديرا لها بعد وفاة فيروز بأن سانجاي اتهمها بالتسبب في وفاة والده بإهمالها له، وربما شعرت إنديرا في قرارة نفسها أن ذلك صحيح. لقد اختارت قبل عدة أعوام أن تتزوج من فيروز خلافًا لرغبة أبيها، وآثرت أن تضع الحب فوق الطاعة. لكن لما تعثر الزواج، تركت فيروز وعاشت مع أبيها في نهاية الأمر، فلعلها شعرت أن فيروز مات وحيدًا فاقد الاتصال بها، مع أنها كانت معه في ساعاته الأخير. من ثَم مثلت علاقة إنديرا بفيروز وسانجاي نقطة ضعف لها طوال حياتها. فحتى في أوائل الثمانينيات بعد وفاتهما كليهما تألمت عندما أحيا الكاتب سلمان رشدي في روايته «أطفال منتصف الليل» اتهام سانجاي لها بأنها كانت السبب في وفاة فيروز. فرفعت دعوى ضده بتهمة الطعن — مع أن الرواية كانت من القصص التخيلي — وانتصرت عليه فيها.20
لا شك أن سيطرة سانجاي العاطفية على والدته كانت مصدر قوته. إلا أن أوما فاسوديف ترى أن إنديرا حقيقةً دعمت سانجاي لأن الظروف السياسية كانت مواتية لذلك، وأنها على الرغم من ترديدها لقيم حزب المؤتمر العريقة صممت نظامًا ومنهجًا من مجموعة من «السياسات المتزامنة». كان من بين تلك السياسات تقسيم المعارضة تزامنًا مع تصوير نفسها على أنها «الخيار الذي يرضي الجميع». تعتقد أوما فاسوديف أنه في الوقت الذي ظلت فيه إنديرا تعزز من صورتها كيسارية، استخدمت سانجاي «رمزًا لليمينية». وبذا سيطرا معًا — كما خططت إنديرا — على جميع التيارات السياسية.21 برز سانجاي بصورة حتمية كوريث إنديرا. ولما كانت حالة الطوارئ قد عملت على التخلص من الديمقراطية وإبدالها بالحكم الوراثي على حد زعم أعداء إنديرا.

•••

في فبراير عام ١٩٧٦، أرجأت إنديرا الانتخابات العامة التي أوشك موعدها ومدت حالة الطوارئ. وظلت الديمقراطية معلقة لأن الحكومة — على حد قول إنديرا — احتاجت إلى المزيد من الوقت «لتعزيز المكاسب» التي حققتها من فرض حالة الطوارئ. وبتصويت أجري في البرلمان جرى مد فترة عمل المجلس الأدنى القائم بمجموع ١٨٠ صوتًا مقابل ٣٤ صوتًا. ولم يعارض تأجيل الانتخابات سوى قليلين أبدوا معارضة غير جادة، منهم بي إن دهار. حاول دهار إقناع إنديرا بأن تجري الانتخابات بدعوى أن حالة الطوارئ أدت إلى عكس المنشود منها، وأنذر بأن مد حالة الطوارئ سيؤدي إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية.22

لكن إنديرا رفضت نصيحة دهار. ولما كان سانجاي يريد تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، استمرت حالة الطوارئ. وفقًا لمنظمة العفو الدولية، في السنة الأولى من فرض حالة الطوارئ أُلقي القبض على ما يزيد عن ١١٠٠٠٠ شخص، وجرى احتجازهم بدون محاكمة في الهند. احتجز موراجي ديساي وجي بي نارايان — شأنهما شأن غاندي إبان حركة تحرير الهند — في مكان مريح بدرجة لا بأس بها في دار ضيافة. وبعدها بوقت قصير نقل نارايان إلى مستشفى بومباي لتدهور صحته. أما غير ذلك من المعتقلين البارزين فلم يحظوا بالمعاملة نفسها. فعلى سبيل المثال احتجزت أرملة مهراجا ولاية جايبور جاياتري ديف وأرملة مهراجا ولاية جواليور في سجن طِهار في زنزانات بجانب مومسات ومرتكبات جرائم. هذا الأمر شكت منه جاياتري ديفي قائلة إنه «يشبه العيش في سوق مع نسوة دائمات الشجار»، ودفعها إلى أن تطلب من صديقة لها سدادات أذن شمعية. نالت جاياتري ديفي إطلاق السراح المشروط بعد أن كاتبت إنديرا تخبرها أنها تتفق تمامًا مع برنامج العشرين نقطة الذي وضعته.

أما السجناء العاديون الذين مثلوا الغالبية العظمى فقد مروا بظروف مريعة. ببساطة يعود ذلك في جزء منه إلى أن السجون كانت في غاية الازدحام. ففي سجن طهار على سبيل المثال، احتُجز ٤٠٠٠ سجين في زنزانات صُممت لتسع ١٢٠٠ شخص فقط. ولذا لقي اثنان وعشرون من سجناء حالة الطوارئ حتفهم في السجن.

من نقاد إنديرا القلائل الذين نجوا من موجة الاعتقالات التي أجريت في يونيو عام ١٩٧٥ القائد الاشتراكي جورج فرنانديز. لقد اختبأ من السلطات وقاد عمليات تخريب تشبه تلك التي قام بها فيروز غاندي إبان حركة تحرير الهند عام ١٩٤٢. وبقيادته وقعت انفجارات في بعض خطوط السكك الحديدية وبومباي وبهار وكارناتاكا. كانت إنديرا موقنة من أنه وتابعيه يدبرون مؤامرة لاغتيالها. فيذكر أنها قالت لفوري نهرو عندما ألقت خطابًا عامًّا في بيناريس: «فرنانديز كان يعتزم تفجيري.»23 ولما فشلت الشرطة في تعقب فرنانديز، اعتقلت أخاه لورانس وعذبته. وفي النهاية ألقت القبض على جورج فرنانديز وسجنته في كلكتا، وذلك في يونيو عام ١٩٧٦.

إلا أن أكثر ضحايا حالة الطوارئ لم يكونوا من خصوم إنديرا السياسيين، وإنما من الفقراء الذين ادعت أن الغرض من حالة الطوارئ هو مساعدتهم وحمايتهم. ففقراء المدن والقرى وأصحاب المهن المتواضعة والمتسولون والمشردون وبسطاء الفلاحين هم الذين تحملوا أشد المعاناة بسبب البرنامجين الأكثر إثارة للمعارضة في خطة الخمس النقاط التي وضعها سانجاي، وهما برنامجا إزالة العشوائيات والتعقيم. فكلا البرنامجين انحرف تمامًا عن المسار الصحيح.

قبل إعلان حالة الطوارئ، كان سانجاي قد زرع بالفعل اثنين من أتباعه في منصبين مهمين في سلطات دلهي المدنية. رشح نافين تشاولا صديق سانجاي — وهو مسئول حكومي رفيع المستوى في الخدمة الإدارية الهندية — كيشان تشاند الذي كان رجلًا طيعًا ليكون نائبًا لحاكم ولاية دلهي. وبهذا الترشيح أصبح نافين سكرتيرًا له ومديرًا من أولي النفوذ لهيئة دلهي للتنمية يديرها حسبما يأمر سانجاي. أما نائب مدير تلك الهيئة، وهو رجل يدعى جاجموهان — لم يكن معروفًا إلا بهذا الاسم — فقد صار قائد ما يعرف بفريق العمليات التابع لسانجاي.

بعكس أغلب معارف سانجاي، كان جاجموهان رجلًا نزيها ومسئولًا حكوميًّا مجدًّا ومخلصًا في عمله. ولما كان قد علم نفسه بنفسه — بكل ما في الكلمة من معنًى — فقد حاز خبرات فنية عالية في مجال البناء والتخطيط ووضع البنى التحتية للمدن والتخطيط البيئي. وكانت مهمته هي «إنقاذ دلهي»، أو بعبارة أخرى تجديد العاصمة.

جاجموهان كما يبدو أيضًا آمن حقًّا بأن سانجاي غاندي هو الشخص الذي ستتحقق على يديه رؤياه لدلهي. فظل إلى يومنا هذا يخلص لسانجاي تمام الإخلاص.24 في أوائل أبريل عام ١٩٧٦، وقتما كان برنامجا هيئة دلهي للتنمية لإزالة العشوائيات وتجميل البيئة جاريين، صحب جاجموهان سانجاي في جولة تفقدية لدلهي القديمة. كان جزء كبير من تلك المدينة العتيقة متاهة من الأزقة والشوارع المكتظة الضيقة التي تحف جانبيها الأكواخ المؤقتة والمنازل القديمة الآيلة للسقوط. وكان هذا الجزء بأكمله محيطًا مزدحمًا وملوثًا وضارًّا بالصحة لقاطنيه الذين مثل المسلمون أغلبهم.

أمام مدخل المدينة العتيقة؛ عند بوابة تركمان التي أطلت على تيه يعج بالمساكن توقف سانجاي وجاجموهان. صاح سانجاي في تحدٍّ سافر: «أريد أن أرى مسجد جاما (الجامع الرئيسي العتيق بالمدينة) من بوابة تركمان.» فقابل جاجموهان تلك الكلمات بما يشبه الترحاب والسمع والطاعة. وعليه وجبت إزالة كل ما يعوق رؤية مسجد جاما من بوابة تركمان.

في غضون أيام من ذلك، أُعلن أنه سيجري ترحيل عشرات الآلاف من تلك المنطقة، وتسكينهم في أراضٍ غير آهلة على بعد عشرين ميلًا على الجانب الآخر من نهر جومنا في ضواحي المدينة. وفي ١٣ أبريل وصلت فرق إزالة المباني بجرافات لتسوية المتاجر والمنازل حسنة البناء والأكواخ المؤقتة والأكشاك أرضًا. وأمهل أصحاب المحال والتجار وبائعو الأطعمة خمسًا وأربعين دقيقة لإخلاء مواقعهم. فيما منح ساكنو المنازل مهلة تزيد قليلًا على ذلك. في ١٩ أبريل بعد ستة أيام من التدمير اندلعت انتفاضة. وسارت النساء في حشد كبير إلى العيادة المحلية لتنظيم الأسرة (وهو برنامج آخر من البرامج المثيرة للمعارضة التي وضعها سانجاي) صارخات بشعارات التهديد. شكَّل رجالهن حشدًا غاضبًا أخذ يقذف الحجارة والطوب والزجاجات الحارقة على فرق إزالة المباني.

وصلت الشرطة سريعًا، وحاولت فض الحشد بالقنابل المسيلة للدموع. فاحتمت النساء والأطفال بالمباني. لكن الرجال والصبية تسلقوا أسقف المنازل وأعالي الجدران وواصلوا قذفهم. وعندئذٍ فتحت الشرطة النيران. تذكر تقارير الشرطة أنها لم تطلق سوى أربع عشرة رصاصة على بوابة تركمان في ١٩ أبريل. أما من شهدوا فيما بعد أمام لجنة شاه (التي تألفت للتحقيق في الاعتداءات التي وقعت إبان حالة الطوارئ) فقد زعموا أن إطلاق النيران تواصل بصورة متقطعة ثلاث ساعات. أُصيب المئات، وقُتل ما بين ستة أشخاص إلى ١٥٠ شخصًا (وفقًا لما إذا كان مصدر معلوماتك تقارير الشرطة الرسمية أم جاجموهان أم تقرير لجنة شاه أم الشائعات أم الصحف العالمية) من بينهم طفل في الثالثة عشرة من العمر قُتل أثناء مشاهدته أعمال الشغب. وعلى أقل تقدير قُتل رجل وهو يولي هاربًا. وفيما بعد اكتُشف أن هناك تباينًا صارخًا بين تقارير الشرطة والتقارير الطبية التي صدرت عن الرصاصات التي أُطلقَت. وفُرِض حظر تجوال مدته أربع وعشرون ساعة على المنطقة بأكملها استمر إلى ١٣ مايو عام ١٩٧٦ للسماح بمواصلة أعمال الإزالة.

وفقًا لجريدة «تايمز أوف إنديا» أُزيل ١٥٠ ألف متجر ومنزل وكوخ مؤقت (يسكنه الفقراء)، وغير ذلك من المباني. كان قاطنوها (الذين يربو عددهم على السبعين ألفًا) قد زُج بهم على عجل في شاحنات تحت تهديد السلاح ثم نُقلوا إلى ديارهم الجديدة في أرض زراعية محاطة بسياج من الأسلاك الشائكة. مُنحت العائلات خمسًا وعشرين ياردة مكعبة وبعض طوب البناء لتشييد مساكن خاصة، وبعض قسائم الطعام لشراء الأغذية من متجر موقع العمران.

بعد عامين نشر جاجموهان كتابًا بعنوان «أرض الحقيقة» عن عمله لدى هيئة دلهي للتنمية إبان حالة الطوارئ، تناول فيه بالتفصيل أعمال الإزالة التي نُفِّذَت عند بوابة تركمان. قال جاجموهان في دفاعه عن فرق الإزالة: «استُخدمَت الجرافات وسيلةً لتوفير الأيدي العمالة وإزالة الأنقاض بسرعة … وتلك وسيلة شاع استخدامها منذ عقد أو عقدين من الزمان. فضلًا على ذلك، وُفرت وسائل نقل مجانية لحمل أغراض الأسر التي تأثرت بأعمال الإزالة (كما ورد نصًّا). ولم يُقصَد بأعمال الإزالة الإيذاء بتاتًا.» أما بالنسبة للوتيرة التي تمت بها أعمال الإزالة، فقد أقر جاجموهان بأنها «تسارعت بلا شك. لكن كانت هناك أسباب منطقية لذلك. وحتى لو لم تكن هناك أسباب، أكان من الخطأ التخلص من مراتع الكسل ومحو «مجالس النميمة» من دوائرنا ورفع سيطرة كابوس عالم الأوراق وزحام الأصوات والفوضى (كما جاء في نص الكتاب) التي لا معنى لها؟»25
لم تكن منطقة بوابة تركمان وبعض مناطق دلهي الأخرى المناطق الوحيدة التي خضعت «للتجميل» إبان حالة الطوارئ. فمن المدن التي استهدفها مشروع «إصلاح المدن» مدينة بومباي وأجرا — التي يقع بها ضريح تاج محل — ومدينة فارناسي المقدسة. عندما زارت بوبول جاياكار تلك المدينة الأخيرة اكتشفت ما صدمها؛ الجرافات أفسحت أحد الشوارع في منطقة فيشواناث جالي بإزالة قطاعات من منازل تعود إلى القرن السابع عشر، «تاركة في إثرها غرف استقبال أزيل منها نصف مدخلها، وغرفًا مفتوحة على الطريق … وشرفات محطمة». التقطت جاياكار صورًا لهذا التدمير الذي «بدا وكأنه نجم عن سقوط قنبلة»، وعرضتها على إنديرا في دلهي. فاستشاطت الأخيرة غضبًا. وهاتفت رئيس حكومة أوتار براديش إن دي تيواري و«انفجرت في وجهه» من مكانها البعيد. ذعر تيواري، ووعد بأن يتحرى الأمر، وفي النهاية أخبرها بأن عمليات الإزالة في فارناسي اعتمدت على خريطة غير دقيقة للمدينة عام ١٩٢٠.26

ثاني أهم الحملات التي شنتها خطة الخمس النقاط التي وضعها سانجاي كانت تنفيذ برنامج تعقيم راديكالي لوضع حد للانفجار السكاني بالهند. في طفولة إنديرا ظل النمو السكاني في الهند تحت السيطرة بفعل الأمراض والأوبئة ونسب وفيات الأطفال العالية ومواسم الجفاف والفيضانات والزلازل والمجاعات. ففي عام ١٩٢٢ بلغ معدل المواليد ٤٨٫١ لكل ألف نسمة، في حين بلغ معدل الوفيات ٤٧٫٢. لكن في أوائل السبعينيات، بعد عقود من التقدم في مجال الرعاية الطبية والتغذية، وارتفاع مستوى الوعي الصحي، هبط معدل الوفيات إلى أدنى مستوياته فبلغ ١٧٫٤. ومن ثَم صار معدل النمو السكاني في الهند ١٢ مليون نسمة سنويًّا.

في أواخر الستينيات حاولت الحكومة الحد من الانفجار السكاني. لكنها واجهت عقبات عملية وثقافية في تنفيذ برنامج تنظيم الأسرة. لم تكن حبوب منع الحمل قد توفرت بعد في أنحاء كثيرة من الهند، أما العازل الأنثوي فلم يكن حلًّا عمليًّا لمن يعيشون في جماعات ولا يتمتعون بالخصوصية، فلا بد أن يقدمه ويركبه ممارس طبي. أما اللولب فكانت له في حد ذاته عيوب.

بدا لوهلة أن الواقيات الذكرية هي الحل. يصف دوم مورايس في كتابه «مسألة شعبية» كيف أنه في أواخر الستينيات طاف فيل بعض القرى الهندية حاملًا شحنة من الواقيات الذكرية وزعت مجانًا على عامة الناس. وعندئذٍ اكتشف الأطفال على الفور استخدامًا عمليًّا لها، فنفخوها على هيئة بالونات صغيرة وربطوها بالعصي. كان هناك شعار حكومي رائج آنذاك مفاده أن تنظيم الأسرة هو الطريق إلى سعادة الأطفال، الأمر الذي بدا واضحًا كالشمس من قصة الفيل الذي طاف يوزع الواقيات الذكرية.27 إلا أن معدل المواليد لم ينخفض بأية حال.

كانت أأمن وأرخص وأكفأ الطرق للسيطرة على التعداد السكاني هي سلب القدرة على الإنجاب، في أغلب الوقت من الرجال (بقطع القناة الدافقة)، وأحيانًا من النساء (باستئصال قناة فالوب). جراحة قطع القناة الدافقة أمكن إجراؤها تحت التخدير الموضعي في غضون دقائق، ولم تتطلب فترة نقاهة أو تنجم عنها عادة آثار جانبية. لكن في ثقافةٍ تعتبر خصوبة كل من الرجل والمرأة أمرًا حيويًّا للإحساس بقيمة الذات، ويعد الأطفال فيها مصدرًا للدخل ووسيلة تضمن الحماية من العوز في الكبر، لم يكن أحدٌ ليرحب ببرنامج التعقيم. لذا كان أي حزب سياسي يتبناه يضع نفسه في موقف حرج.

لكي ينجح برنامج التعقيم كان لا بد أن يُفرض من الجهات العليا، ولم يصِر ذلك ممكنًا إلا عندما فرضت حالة الطوارئ وعُلِّقَت السياسات الديمقراطية. حينذاك انتبه سانجاي — الذي لم يبدِ من قبل اهتمامًا ببرنامج تنظيم الأسرة — سريعًا إلى احتمالية أن يكون هذا البرنامج القضية الرئيسية والهدف الأول «للهند الجديدة». فذاع شعار إعلاني يقول: «امنع الإنجاب وأدخل النظام إلى حياتك.» إلا أن منع الإنجاب لم يكن ليجلب النظام إلى حياة العائلات وحسب، فمن منظور سانجاي، كان دواءً شافيًا لجميع أمراض البلاد، ونقلة تاريخية لها تغير من شكلها.

في أبريل عام ١٩٧٦، شرعت الحكومة في تنفيذ «سياسة سكانية وطنية» تهدف إلى خفض المعدل السنوي للمواليد من ٣٥ إلى ٢٥ طفلًا لكل ألف نسمة بحلول عام ١٩٨٤. في صورته الأولى، كان ذلك البرنامج يتكون من مجموعة من الحوافز «والروادع» التي ترمي إلى خفض عدد الأطفال لدى كل أسرة إلى ثلاثة أطفال كحد أقصى. فارتفع السن الأدنى للزواج، وحُرِمَ من امتنعوا عن الخضوع لجراحة تعقيم بعد الطفل الثالث من بعض المزايا كالإسكان المدعم والعناية الطبية المجانية. لكن لما لم تثمر تلك الإجراءات نتائج ملحوظة، حرص سانجاي على أن تُتَّخَذ إجراءات أشد قسوة.

في الواقع صار برنامج التعقيم الذي وُضع إبان حالة الطوارئ موضع اهتمام سانجاي. حتى إنه هو الذي أداره، لا وزير الصحة كاران سينج، مع أن الأخير كان يجيز ما يقوم به سانجاي. اليوم يؤكد سينج أنه لم تكن لديه إلا فكرة واهية عن الأساليب التي استُخدمت في برنامج سانجاي غاندي لتنظيم الأسرة، وأنه لم يجتمع هو وسانجاي من قبل، ولذلك لم يتناقشا قطعًا حول تلك الأساليب. 28 إلا أن بي كيه نهرو يذكر أنه استجوبه عام ١٩٧٦ عن الانتهاكات التي وقعت إبان تنفيذ برنامج التعقيم فأجابه بلا تردد: «لا حصاد بلا ألم.»29 هذا على أن المخيمات التي كانت تجرى فيها جراحات قطع القناة الدافقة، وشاحنات برنامج التعقيم التي جابت القرى لم تكن من صنيع سينج، بل سانجاي. وكذا كان جيش «دعاة» برنامج تنظيم الأسرة، والمكافآت التي مُنحت لمن خضعوا لجراحة التعقيم، ونظام الحصص الذي فُرض على الموظفين الحكوميين ليضطرهم إلى دفع عدد معين من الأشخاص إلى الخضوع لجراحة التعقيم كي يتقاضوا رواتبهم.

ألَّف سانجاي كذلك «فريق عمل» أثار حوله الكثير من الجدل، تكون من فاتنات عملن «موظفات في برنامج تحديد النسل» وأدرن سلسلة من عيادات التعقيم في أرجاء دلهي الفقيرة. إحداهن كانت مصممة جواهر من أعضاء المجتمع البارز ترتدي النظارات الشمسية وأثواب الساري من قماش الشيفون، وتضع طلاءً قرمزيًّا لامعًا على أظافرها، وطبقة سميكة من الكحل على عينيها تدعى روخسانا سلطانة. لم تكن روخسانا — التي عُرفت لدى الكثيرين ﺑ «ملكة مدينة الأسوار» — ذات منصب رسمي، إلا أن مظهرها لفت الأنظار في عشوائيات دلهي حيث كانت النساء المسلمات تسرن مستترات من رءوسهن إلى أقدامهن في براقع سوداء. فقد جابت تلك المناطق المكتظة بصحبة أحد رجال الشرطة بمظهر أقرب إلى نجمات أفلام بومباي منه إلى مظهر عاملات الخدمة الاجتماعية، وأشرفت على عيادات جراحة قطع القناة الدافقة في مخيمات نُصبت على عجل على أرصفة الطرق. وأسست فيما بعد في دلهي القديمة عيادتها الخاصة لجراحة قطع القناة الدافقة وأدارتها. إلا أن أعظم إنجازاتها على الأرجح كان إقناعها لاثنين من أئمة المسلمين بإجراء جراحة قطع القناة الدافقة. وكان هذا حدثًا استوجب حضور الصحفيين عندما أهداهما سانجاي غاندي شخصيًا «بطاقات تشجيعية».

حصل مجري جراحة قطع القناة الدافقة من الأشخاص العاديين عادة على ١٢٠ روبية، أو زجاجة زيت طهي، أو راديو ترانزستور، وهو ما اشتهر بأنه أسوأ المكافآت. لذا كان من الطبيعي أن يكون هناك رجال مجازفون ممن أعيتهم الحاجة يخضعون للجراحة أكثر من مرة للحصول على أكثر من مكافأة. ومن ثَم ارتفع متوسط عدد جراحات التعقيم التي تجرى يوميًّا في دلهي من ٣٣١ جراحة إلى ٥٦٤٤ جراحة، حتى وصل ذروته ٦٠٠٠ جراحة.

لكن الكثير من الرجال في دلهي والقرى الريفية النائية قاوموا جراحة التعقيم. إذ لم تكن الكيفية التي ستؤثر بها الجراحة على القدرة على الإنجاب واضحة. وفوق ذلك، رفض بعض الرجال ببساطة أن يملي عليهم أحد العدد الذي يجب أن يكون عليه أفراد أسرتهم. فبسطاء وفقراء الفلاحين والعمال والمشردون ومتسولو المدن كانوا يرون الأطفال مصدرًا قيمًا للرزق. كانوا يعودون بالدخل من العمل لوالديهم في الحقول، والتسول لهم في الشوارع.

لمواجهة مقاومة هؤلاء، صار الموظفون الحكوميون كرجال الشرطة والمفتشين والأطباء والمعلمين يتقاضون رواتبهم فقط لدى نجاحهم في «تشجيع» عدد معين من الرجال على الخضوع لجراحة قطع القناة الدافقة، أو حث النساء على الخضوع لجراحة استئصال قناة فالوب (الأمر الذي كان يُجرى بصورة أندر). من جديد كان الضحايا الرئيسيون لذلك من الضعفاء والفقراء، خاصة من المسلمين والهاريجانيين وأفراد القبائل. لقد خضع لجراحة التعقيم عام ١٩٧٦ في غضون ستة أشهر من أبريل إلى سبتمبر مليونا هندي.

أما بالنسبة إلى من لم يشغلوا وظائف حكومية فقد «لاقوا تشجيعًا» على الخضوع لجراحة التعقيم بطرق أخرى. فلدى الخضوع لجراحة التعقيم كان الرجال يُمنَحون شهادة رسمية بذلك. وكان لا بد من إبرازها في العديد من المواقف. فعلى سبيل المثال، عند تجديد رخصة القيادة كان على سائقي عربات الريكاشة أن يبرزوا شهاداتهم. وصارت تلك الشهادة أداة ضرورية في معاملات الحياة اليومية لجميع فئات الشعب، حتى إن مزورو الشهادات التعليمية عكفوا على المتاجرة فيها بنشاط.

من ناحية أخرى أُرغِم البعض — ولم يشجع أو يتقاضَ الرشاوى — على الخضوع لجراحة التعقيم. ففي دلهي وكلكتا وبومباي وغيرها من مدن الهند الآلاف من المشردين الذين يُقدَّرون بعشرات الآلاف ويقطنون الشوارع. لقد اعتُقلوا إبان فرض حالة الطوارئ بتهمة «التبطل» وحُملوا إلى معسكرات جراحة التعقيم حيث لم يكن أمامهم خيار سوى الخضوع لجراحة قطع القناة الدافقة.30
يقال إنه لما أبلغت فوري نهرو إنديرا بأنه في تشانديجارف — التي تمر بها عائلتها في طريقهم إلى منزلهم الصيفي على تل كاساولي — يخضع الرجال شبابًا وكهولًا لجراحة التعقيم قسرًا. انهارت إنديرا وأخذت تصرخ: «ماذا عساي أن أفعل؟ ماذا عساي أن أفعل؟ إنهم لا يخبرونني بشيء.» لكنها بعدئذٍ تمالكت نفسها وأكدت أن «أغلب تلك الادعاءات أكاذيب».31
في الواقع ظلت إنديرا وقتًا طويلًا ترفض رفضًا باتًّا تصديق ما يتناهى إليها من قصص عن جراحات التعقيم القسرية الوحشية التي كانت تجرى. وكانت تطلب من «مساعديها» التحري من تلك القصص، ولما كان هؤلاء يخبرونها بأنها شائعات لا أساس لها من الصحة، كانت تطمئن إلى ذلك. لكن لما لفت بي إن دهار انتباهها إلى حادثة إجراء جراحة تعقيم قسرًا لمعلم مدرسي قروي، سافر بطريقة ما إلى دلهي ونجح في الوصول إلى مقر عمل دهار بمكتبها في شارع أكبر رود، تحركت أخيرًا. صُدمت من التفاصيل التي سردها المعلم المدرسي. كما صُدمت من الشواهد القاطعة التي قدمها لها دهار كدليل على تعرض معلمين مدرسيين آخرين للتحرش جسديًّا لدى فشلهم في تخريج عدد كافٍ من المتطوعين لإجراء جراحة قطع القناة الدافقة. وإزاء ذلك اعترفت لدهار بأن الشك ظل يساورها حيال برنامج تنظيم الأسرة بعض الوقت، لكنها لم تجد دليلًا قاطعًا تستند إليه لما أكد لها تابعو سانجاي أن البلاغات التي أثارت شكوكها كاذبة. إلا أنها بعدما تأكدت شكوكها بعثت بعد تأخير رسالة صارمة لجميع رؤساء حكومات الولايات تنص على «معاقبة من يستخدم التحرش في الدعوة إلى تنظيم الأسرة».32

في الأشهر الخمس الأولى من حالة الطوارئ، جرى تعقيم ٣٫٧ مليون هندي. ومع انتهائها كانت الهند في طريقها إلى تحقيق هدف تعقيم ٢٣ مليون شخص قبل ثلاثة أعوام، أي قبل الموعد. واتضح أن برنامج التعقيم لم يضر فقط بضحاياه، وإنما بإنديرا أيضًا. فقد حطم مصداقيتها لدى أكبر مؤيديها وهم الأقليات من المسلمين والهاريجانيين والطوائف التي تعاني القمع.

•••

في تلك الأثناء تعاظمت مكانة سانجاي، وبدأت تطغى على مكانة والدته. ففي أغسطس عام ١٩٧٦ ظهرت صورته على عدد يوم الاستقلال لمجلة «إلاسترايتد ويكلي» التي تولى رئاسة تحريرها وإجراء المقابلة الصحفية لقصة غلافها مع سانجاي الصحفي المشهور خوشوانت سينج الذي أيد بحماس فرض حالة الطوارئ. ووصف سانجاي بأنه «أمل المستقبل» وبأنه «شاب شديد الوسامة»، «عيناه شديدتا الدكنة يملؤهما الصدق». لكن مع ذلك كانت مقابلته مع سانجاي — على حد وصفه هو نفسه — «فاشلة»:

«هل تذكر جدك؟ … هل كانت علاقتك وثيقة به؟»

«كعلاقة أي شخص آخر بجده.»

«هل كان له تأثير على تفكيرك من أي ناحية؟»

«لا أذكر ناحية بعينها كان فيها مؤثرًا عليَّ.»

«ماذا عن والدك؟ هل كنت على علاقة وثيقة به؟»

«أجل، كما هي العلاقة بين أي ابن وأبيه.»

«أظن أن الأمر نفسه مع أمك وأخيك؟»

«أجل، علاقتي بهما لا تختلف عن علاقة أي شخص بأمه وأخيه.»

«ماذا عن الكتب؟ هل هناك أي كتاب أثر عليك بوجه خاص؟»

«لا أذكر أي كتاب كان له ذلك التأثير.»

«في أي المجالات تفضل أن تقرأ؟ الشعر؟ الأدب القصصي؟ التاريخ؟ سير الأعلام؟»

«ليس في أي من تلك المجالات.»

«ما هو شعورك حيال التعديلات المقترح إجراؤها للدستور؟»

«لست على دراية كافية بالدستور.»

لم يكن سانجاي مستعدًّا لأن يطلق لسانه في الحديث عندما حاول سينج أن يسأله عن دوره في تحديد السياسات الحكومية، والتأميم، والطرق التي اتبعها حزب المؤتمر في جمع التبرعات.33

إلا أن مقابلة خوشوانوت الصحفية مع سانجاي عكست على سخافتها الهوس الإعلامي المتزايد الذي أحاط بسانجاي. فبعد تلك المقابلة بوقت قصير، الكثير من المجلات الأسبوعية الواسعة التداول من المجلات الصادرة بالإنجليزية كمجلة «بليتز» و«كارانت» جعلت سانجاي قصة الغلاف. ومن بين الخمس المجلات القومية الصادرة باللغة الإنجليزية في الهند؛ انتقدت مجلة «إنديان إكسبريس» وحدها سانجاي والحكومة وحالة الطوارئ. أما مجلة «تايمز أوف إنديا» فقد صارت في وقت قصير تعرف بمجلة «تايمز أوف إنديرا».

إلى حد كبير كان كل ذلك من تدبير في سي شوكلا وزير الإذاعة والإعلام الذي حل محل آي كيه جوجرال. فمنذ بداية حالة الطوارئ أدار شوكلا — بكل ما تحمله الكلمة معنًى — منظومة دعائية لإنديرا وسانجاي راقبت وأشرفت على جميع وسائل الإعلام. فقد حرص شوكلا على أن تسيطر الأنباء «الإيجابية» على عناوين الصحف، وتلك البشائر كانت على الدوام تدور حول أفعال وأقوال رئيسة الوزراء وابنها.

على سبيل المثال كانت وزارة شوكلا وراء إذاعة ما لا يقل عن ١٩٢ خبرًا عن سانجاي في النشرات الرئيسية لإذاعة راديو كل الهند التي تملكها الدولة في أول أسبوعين من فرض حالة الطوارئ. امتلأت الصحف بعناوين كالآتية: «سانجاي يجتاح كانبور»، «سانجاي وشباب المؤتمر»، «سانجاي في دلهي»، «سانجاي في جولة»، «برنامج الخمس النقاط لسانجاي». على حد تعبير السياسي إل كيه أدفاني عدو إنديرا الأزلي، كان الصحفيون إبان حالة الطوارئ «يسجدون مع أن كل ما طلب منهم هو أن يومئوا بالموافقة.»34

كذلك أشرف في سي شوكلا على احتفالية عام ١٩٧٦ بمرور السنة الأولى من حالة الطوارئ التي أقيمت تحت اسم «عام تحقيق الغايات»، وتضمنت العديد من الأنشطة من بينها فيلم وثائقي يدعى «يوم مع رئيسة الوزراء». ونظم احتفالية تكريم لإنديرا بمناسبة مرور عشرة أعوام على توليها رئاسة الوزراء أقيمت تحت عنوان «عقد من الازدهار». ونُشر آنذاك أيضًا كتاب من مقالات المديح بعنوان «عقد من الإنجازات من ١٩٦٦ إلى ١٩٧٥»، وصُمم معرض بالعنوان نفسه. ويذكر أنه في واحدة من الحفلات الرسمية الكثيرة التي نُظمت إحياءً لذكرى عقد إنديرا الحافل بالأمجاد؛ زعم شوكلا أن إنديرا حققت للهند في العشرة الأعوام التي تولت رئاسة الوزراء فيها أكثر مما تحقق في الألف عام السابقة.

في نوفمبر عام ١٩٧٦، أجلت إنديرا الانتخابات العامة مجددًا، عامًا كاملًا هذه المرة. وهذا التأجيل شأنه شأن الذي سبقه في فبراير ثبت أنه استراتيجية خاطئة. لو أجرت إنديرا الانتخابات في موعدها في أوائل عام ١٩٦٧ وقتما كان لحالة الطوارئ الكثير من المؤيدين، لكانت على الأرجح ضمنت الفوز لها ولحزبها. وكان هذا الفوز سيضفي شرعية على حالة الطوارئ والقوانين القاسية والقرارات والتعديلات الدستورية التي نُفِّذت باسمها. إلا أن سانجاي لم يقنعها بأن ترجئ الانتخابات مرة واحدة وحسب، وإنما مرتين. بل لم يكن لدى المقربين منه شك في أنه يعتزم تأجيلها إلى أجل غير مسمًّى.

لكن وفقًا لبي إن دهار، «لم تشعر إنديرا بالارتياح حيال تأجيل الانتخابات في المرة الثانية … لقد شعرت أنه أعطى انطباعًا خاطئًا بأنها تخشى مواجهة الشعب.» فلما حثها دهار من جديد على إجراء الانتخابات، شعرت «بالحنين إلى مشاعر الشعب تجاهها إبان حملة عام ١٩٧١ الانتخابية، واشتاقت لسماع تصفيق الجموع. لقد أرادت أن تستعيد القدرة على التواصل مع الشعب عاطفيًّا».35

وهكذا أُحبطت مخططات سانجاي. وفي ١٨ يناير عام ١٩٧٧ اتخذت إنديرا اتجاها مغايرًا، فوقفت في وجه سانجاي، وأذهلت الأمة بإعلان إجراء الانتخابات العامة لا في نوفمبر القادم كما أعلنت مسبقًا، وإنما بعد شهرين فقط. قالت إنديرا لدى إذاعة الإعلان: «الانتخابات جميعها اختبار لصدق الإيمان، وفرصة لتنقية الحياة العامة من الاضطرابات. لذا لنمضِ إلى الانتخابات عازمين على تأكيد سلطة الشعب.»

لم تستشِر إنديرا سوى دهار وسانجاي في قرارها بالإسراع بعقد الانتخابات. لذا لسوء الحظ لم تروَ أو تدون المواجهة الحاسمة التي وقعت بينها وبين ابنها. فمجلس الوزراء ورؤساء الحكومات ووزير الداخلية وحتى الرئيس فخر الدين علي أحمد لم يُبلغوا بقرارها؛ لقد أذهلهم القرار جميعًا بقدر ما أذهل سائر الأمة. كان ذلك القرار خطوة جريئة غلَّبت فيها إنديرا للمرة الأولى سلطتها على سلطة سانجاي. بل تحدته بعدها ثانيةً بأن أمرت بإطلاق سراح أغلب المعتقلين السياسيين المشهورين، وأوقفت العمل بالقواعد الرقابية في الصحف.

أصاب المقربين من إنديرا الذهول لما دعت إلى عقد الانتخابات. وآنذاك وفيما بعد شاع أنها قامت بذلك لأن تقارير أجهزة المخابرات أكدت لها أنها ستفوز باكتساح. غير أن بوبول جاياكار علمت فيما بعد من رئيس جهاز المخابرات آر إن كاو أنه أخبر إنديرا بأنه ثمة احتمال لأن تخسر إن أطلقت سراح المعارضين. بل إن إنديرا نفسها قالت لأحد الصحفيين بعد عدة أعوام: «لم أكن واثقة من الفوز على الإطلاق. بل كنت متأكدة أننا لن نفوز بأغلبية كبيرة. ولكنني ظننت أن بإمكاننا أن نفوز وحسب.»36

ربما ساورت إنديرا الشكوك فعليًّا حيال مشروعية تمديد حالة الطوارئ والاستمرار في انتهاك الدستور وتدمير النموذج الحكومي الذي كرس والدها حياته لبنائه. فلم يكن فرض حالة الطوارئ في نظرها إلا وسيلة تصل بها إلى غاياتها، لكنها لم تكن بوتو أو مجيب الرحمن. فمع كل نقائصها، وإيمانها غير المنطقي بأنها وحدها القادرة على قيادة الهند، ظلت إلى حد ما مخلصة للديمقراطية. الاتهام الذي يليق بها هو الغرور لا جنون العظمة.

كذلك كان من الحكمة إعلان إجراء الانتخابات في ذلك الوقت. فقوى المعارضة كان قد أصابها الضعف والانقسام. وأمضى الكثير من قادتها العامين السابقين في السجن فأُسكتت أحزابهم، ونفدت أموالهم. هذا فضلًا على أن حركة جي بي نارايان تكوَّنت من مجموعة من الأحزاب المتنازعة ضمت اشتراكيي الجناح اليساري والهندوس المتعصبين المتطرفين والرأسماليين اليمينيين. بالإضافة إلى ذلك لم تمنح إنديرا هؤلاء سوى شهرين للاستعداد للانتخابات.

في الأسابيع الأولى من عام ١٩٧٧ أدارت إنديرا الحملات الانتخابية بعزم ونشاط. فزارت جميع ولايات الهند الاثنتين والعشرين وخطبت في ٢٢٤ اجتماعًا عامًّا. لكن الحشود التي اجتمعت لسماع خطاباتها كانت أصغر بالمقارنة بتلك التي احتشدت في حملاتها الانتخابية السابقة، وفي الكثير من الأحيان عدائية. في أحد الاحتشادات التي شهدها مارك تولي، وقفت بعض النساء موليات ظهورهن لها. الأمر الذي أحنقها. فتركت المنصة، فشعر رجال الأمن بالخطر، ثم نزلت إلى الصفوف الأمامية وحاولت بنفسها أن تدير ظهور النساء إليها.37

إبان تلك الحملة، كثيرًا ما شعرت إنديرا بالمرض؛ فقد ظهرت بعض البثور على وجهها، وشعرت بالألم، وأصيبت بالحمى. إلا أن ذلك لم يوهن عزيمتها، لكنها اضطرت في بعض الأحيان إلى تغطية نصف وجهها كي تخفي بثور القوباء التي ظهرت عليه.

في أول فبراير، في منتصف حملة إنديرا الانتخابية، توفي الرئيس فخر الدين علي أحمد فجأة. وسرت شائعات بأنه أصيب بأزمة قلبية إثر مناقشة حادة مع إنديرا طلبت فيها منه أن يلغي الانتخابات القادمة. غير أن فخر الدين علي أحمد كان قد سبقت له الإصابة بالأزمات القلبية، وليس هناك دليل على أن إنديرا طلبت منه تأجيل الانتخابات.

في اليوم التالي لوفاة فخر الدين علي أحمد، تلقت إنديرا صدمة جديدة. فقد استقال جاجيفان رام وزير الري والزراعة الهاريجاني من مجلس الوزراء، وهو رجل من أولي النفوذ، وانشق عن حزب المؤتمر ليؤسس حزبًا جديدًا هو حزب المؤتمر الديمقراطي الذي انضم فورًا إلى جبهة حزب جاناتا. كانت تلك خطوة انتهازية من رام الذي رأى أن كفة إنديرا ستكون الخاسرة في هذه الانتخابات. فشعر أن فرصته قد حانت وخطط للاستيلاء على السلطة. ولدى إعلانه استقالته أدان إنديرا ليبدو في موقع أفضل منها من الناحية الأخلاقية، وشجب حالة الطوارئ. ودعا في مؤتمر صحفي زملاءه في حزب المؤتمر إلى الانضمام إليه في حركته للقضاء على «التوجهات الديكتاتورية الاستبدادية … في سياسة الأمة». وكتب في خطاب استقالته لإنديرا يقول: «لعل في الانتخابات العامة القادمة فرصة لمنع انقلاب المبادئ التي تعتز بها الأمة، وتصحيح الأوضاع غير المشروعة التي سادت حياة الأمة».

علنًا ردت إنديرا على خطاب رام قائلة: «من الغريب أن تطلق تلك الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة الآن بعد أن ظللت صامتًا كل تلك الشهور.»38 وقالت فيما بعد لما انفردت بأصدقائها إن جاجيفان رام لم يرد إلا أن يكون هو نفسه رئيس الوزراء، وإنه يحسب أن حزب جاناتا سيتيح له ذلك بمنتهى السهولة.
تبع عدد كبير من أعضاء المؤتمر رام، ومن بينهم باهوجونا رئيس حكومة أوتار براديش السابق. والأدهى أنه كان من بينهم عمة إنديرا فيجايا لاكشمي بانديت. فبعد عشرة أيام من انقلاب رام على حزب المؤتمر، عادت الأخيرة من اعتزالها للحياة السياسية، وبدورها أعلنت بمسرحية تأييدها لجبهة حزب جاناتا. ألقت خطابًا عامًّا قالت فيه إن إنديرا وحالة الطوارئ قد «كبتا ودمرا النظم الديمقراطية، وقوضا حكم القانون واستقلالية السلطة القضائية». وأضافت أن ذلك الشكل من «تفكيك المبادئ التي نعتز بها لا بد أن يتوقف كي نعود للقيم التي نلتزم بها».39 ما لم تذكره السيدة بانديت هو أنها كانت تأمل في العودة إلى الحياة السياسية بعد هزيمة إنديرا. في الواقع لقد بدا أنها عقدت آمالها على أن تنصب من قبل رئيس وزراء يبرز من حزب جاناتا — على الأرجح كان سيصبح موراجي ديساي — رئيسة للهند.40
لما تزايدت قوة المعارضة، حث سانجاي والدته على إلغاء الانتخابات، لكن نصيحته ذهبت بلا طائل. من ناحية أخرى، في تلك الأثناء، في باكستان، في ٧ مارس عام ١٩٧٧، عُقدت انتخابات عامة. فاز فيها حزب ذي الفقار علي بوتو (حزب الشعب الباكستاني) فوزًا ساحقًا، على أن ذلك كان بتزوير الانتخابات بحيث تُضمن النتيجة. ووفقًا لكاتب سيرة ذي الفقار علي بوتو «في ذلك «النصر» المُبالغ كانت تكمن هزيمة ساحقة تعد الساعات لتهبط على الرءوس.»41 ففي أعقابه اندلعت أعمال الشغب في جميع أنحاء باكستان، ولم تكن هذه إلا البداية.
عندما أدرك سانجاي أن الانتخابات الهندية ستمضي في طريقها، تقدم لأول لمرة لعضوية البرلمان من مدخل «مضمون»؛ عن طريق دائرة أميثي في ولاية أوتار براديش المجاورة لدائرة راي باريللي التي تمثلها إنديرا. فدائرة أميثي شأنها شأن دائرة راي باريللي كانت تعتبر معقلًا لحزب المؤتمر؛ إذ إن ولاية أوتار براديش بأسرها كانت منذ القديم قاعدة سياسية عريقة لآل نهرو وغاندي. وعليه أدار سانجاي الحملات الانتخابية هناك بنشاط، ولكنه بحماقة قاتلة روج «لمكاسب» برنامج التعقيم الذي وضعه، وأثار بغض أغلب الناس. فيذكر أن زوجته مانيكا أثناء إلقائها خطابًا في أحد حفلات الاستقبال الرسمية هاجمها شفهيًّا بعض النساء الغاضبات اللاتي اتهمن سانجاي بأنه جعل منهن أرامل لأن أزواجهن بسبب برنامج التعقيم «لم يعودوا رجالًا».42
في ١٤ مارس عام ١٩٧٧، قبل يومين من بدء الانتخابات العامة، في قرابة التاسعة والنصف مساءً، أنهى سانجاي يومًا طويلًا من الحملات الانتخابية في أميثي وغادر لينضم إلى مانيكا في جاوريجانج التي تقع على مسيرة ساعة قيادة للسيارة. وفي نحو العاشرة، أُطلِق على سيارة الجيب التي تقله وابل من الرصاص استطاعت السيارة النفاذ منه بأمان. تصادف أن سانجاي — الذي كان يجلس في المقعد الأمامي إلى جانب السائق — كان مائلًا بجسده إلى الوراء يتحدث إلى أحد مساعديه في المقعد الخلفي وقتما أصابت الرصاصات السيارة، فأفلت منها. هرب محاولو الاغتيال بسيارتهم. وأبلغ سانجاي الشرطة بتعرضه لمحاولة اغتيال بمجرد وصوله إلى جاوريجانج. وفي اليوم التالي في باتنا عاصمة ولاية بهار، أصدرت إنديرا بيانًا جاء هادئًا بصورة غريبة قالت فيه: «كنت دائمًا ضد العنف، وأنا أشجب تلك المحاولة.»43

مع أن محاولة اغتيال سانجاي كانت حدثًا في غاية الأهمية، فالمذهل أنها لم تحظَ إلا بالقليل من التغطية الإعلامية. ولم يكن هناك مفر من الشك في صحتها. فمنفذو محاولة الاغتيال لم يُقبَض عليهم قط، ولم تُنشَر قط أي تقارير للتحقيق في تلك المحاولة. وفوق ذلك وقع الهجوم على سانجاي قبل بدء الاقتراع بيومين فقط عندما أدرك سانجاي في وقت متأخر من الانتخابات أن الناخبين ثائرون عليه بسبب برنامج التعقيم. هذا غير أن رد فعل إنديرا الهادئ على تلك المحاولة كان غريبًا. لعلها شكت في أن سانجاي دبر بنفسه مسرحية يبدو فيها أنه نجا من الموت بأعجوبة. ولكن حتى لو كانت تلك الحادثة زائفة، فقد كانت أيضًا غير مجدية. فقد فشلت فشلًا ذريعًا في أن تكسب سانجاي تعاطف الناخبين.

في ١٦ مارس عام ١٩٧٧، بدأت انتخابات الهند العامة السادسة. وحينذاك طبع حزب المؤتمر رمزًا جديدًا له على شكل بقرة وصغيرها على أوراق الاقتراع، الأمر الذي رأى الكثيرون أنه غير موفق نظرًا لتأثير سانجاي الشديد على أمه.

بعد خمسة أيام من إحصاء الأصوات، تبين أن ٦٠٪ من الناخبين (ما يقدر بنحو ١٩٤ مليون شخص) أدلوا بأصواتهم. (من جديد كانت تلك أكبر انتخابات ديمقراطية في التاريخ، بالضبط كما كانت الانتخابات الهندية السابقة واللاحقة، وذلك لسبب بسيط هو أن الهند كانت ولا تزال أكبر ديمقراطية في العالم). حاز حزب جاناتا نسبة هائلة من أصوات الناخبين بلغت ٤٠٪، في حين بلغت نسبة حزب المؤتمر منها ٣٥٪. وفوق ذلك فاز حزب جاناتا (الذي يضم حزب المؤتمر الديمقراطي لجاجيفان رام) ﺑ ٢٩٩ مقعدًا في المجلس الأدنى من البرلمان، فيما فاز المؤتمر ﺑ ١٥٣ مقعدًا فقط. أما الحزب الشيوعي الهندي فقد تخلى عن حزب المؤتمر، واحتل مع بعض من الأحزاب المحلية الصغرى المقاعد المتبقية.

فضلًا على ذلك هُزِمت إنديرا هزيمة مذلة في دائرة راي باريلي من خصمها السابق راج ناراين، وهزم سانجاي أيضًا في أميثي. وفشل حزب المؤتمر في الفوز بمقعد واحد في قاعدة دعم آل نهرو السابقة ولاية أوتار براديش. كما مني معظم أتباع إنديرا في المجلس الوزاري والبرلمان بهزيمة منكرة.

في ليلة ٢٠ مارس غمرت الفرحة الهند كما لم يحدث منذ عشية الاستقلال من الاستعمار البريطاني قبل ثلاثين عامًا. ولوقت طويل من الليل دقت الطبول، ورقص الناس في الشوارع، وأنارت الألعاب النارية السماء احتفالًا بسقوط إنديرا. وقدمت بوبول جاياكار لزيارتها في الثامنة مساءً. فقد خيم الصمت والسكون على غير العادة، واختفت الجلبة والجموع التي اعتادت أن تملأ المكان؛ كانت إنديرا تجلس وحدها في غرفة الجلوس. فلما دخلت عليها جاياكار نهضت تقول: «بوبول، لقد خسرت!» وجلست الاثنتان صامتتين بعض الوقت.

ثم في آخر الأمر، في العاشرة والنصف مساء، طلبت إنديرا العشاء، واستدعت راجيف وسونيا. كان سانجاي لا يزال في أميثي. وبعد تناول العشاء، ذهب الجميع إلى غرفة الجلوس. استأذنت جاياكار في الرحيل بعد منتصف الليل. وصحبها راجيف إلى باب المنزل حيث قال لها: «لن أغفر لسانجاي أبدًا أن أدى بأمي إلى هذا الموقف.»44

في أواسط الليل اجتمعت إنديرا بمجلسها الوزاري في مكتبها بشارع أكبر رود. كان قد مر واحد وعشرون شهرًا على عقد الاجتماع الذي أعلنت فيه حالة الطوارئ. وكان هذا الاجتماع الذي عُقد لإلغائها قصيرًا وشكليًّا كسابقه، غير أن إنديرا هذه المرة استشارت مجلس الوزراء قبل أن تلجأ للرئيس. وبعدها في الرابعة صباحًا، أقلتها سيارة إلى منزل الرئيس المؤقت بي دي جاتي حيث أمرته بإنهاء حالة الطوارئ. ثم قدمت استقالتها.

ووجدت إنديرا غاندي نفسها للمرة الأولى في حياتها بلا عمل أو دخل أو منزل يئُويها وهي في التاسعة والخمسين من العمر.