إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل التاسع عشر

شقاق

في أوائل الثمانينيات، هدد الدمار الهند. ففي آسام والبنجاب وكشمير اندلعت الاضطرابات السياسية. وفي جميع أنحاء البلاد انقلبت الطوائف العليا على الهاريجانيين، وانقلب الهندوس على المسلمين، والسيخ على الهندوس، والهندوس والمسلمون على المسيحيين، والكل على القبليين. لقد بدا أن الأمة التي تقبل التعدد وتحتضنه — التي امتدحها نهرو في جميع كتبه خاصة في كتابه «اكتشاف الهند» الذي اضطلعت إنديرا بمراجعته عندما كان في السجن — تتداعى. لكن لطالما كانت الهند المتحدة التي تحدث عنها نهرو نوعًا أسطوريًّا، الأمر الذي يقف تقسيم الهند ودولة باكستان دليلًا عليه. على أن تلك الأسطورة عاشت ما يقرب من ثلاثين عامًا. لكن بحلول الوقت الذي سقطت فيه حكومة حزب جاناتا عام ١٩٧٩، وظهر فيه احتمال عودة إنديرا السياسية، أخذ مفهوم الهند ودولتها الفعلية في الانهيار معًا.1

الانقسامات التي عانت منها الهند حينذاك كانت نتيجة مباشرة لفترة تولي إنديرا منصب رئيسة الوزراء بين عامي ١٩٦٦ و١٩٧٧. فقد أدت سياسة مركزة السلطة التي انتهجتها الأخيرة إلى تقويض استقلالية الولايات وحكوماتها، ومن ثَم أثارت الاستياء على المستوى المحلي وبين الطوائف. والمفارقة هي أن الانقسامات أخذت تتزايد كلما لجأت إنديرا إلى السيطرة على الأمور بالحكم المركزي. ففي أواخر السبعينيات، علت أصوات الأقليات الشاعرة بالظلم على المستوى المحلي وبين الطوائف الدينية في جميع أنحاء البلاد مطالبة بتملك السلطة وحق تقرير المصير. ومع أن إنديرا غاندي كانت السبب في تلك الأزمة التي صارت الهند تواجهها، إلا أنها اعتُبرت مخلصتها. فأثناء إدارتها الحملات الانتخابية في جميع أنحاء البلاد، في الأسابيع والأيام الأخيرة من عام ١٩٧٩، شعر الكثيرون — كما آمنت هي نفسها — بأنها الشخص الوحيد القادر على الإبقاء على تماسك الهند.

في فترة الاستعداد للانتخابات العامة في يناير عام ١٩٨٠، أمضت إنديرا اثنين وستين يومًا في السفر برًّا وجوًّا، قطعت خلالها ٤٠٠٠٠ ميل، وخطبت في نحو عشرين اجتماعًا يوميًّا. قدم لسماعها ورؤيتها فيها في آخر وأشق حملاتها الانتخابية ما يقدر بتسعين مليون شخص، أو واحد من كل أربعة من ناخبي الهند.

لم تمثل إنديرا دائرتها الانتخابية القديمة دائرة راي باريلي وحسب، وإنما مثلت كذلك دائرة انتخابية جديدة هي دائرة مداك في أندرا براديش (القواعد الانتخابية الهندية لا تمنع المرشحين من تمثيل أكثر من دائرة انتخابية). وفازت في كلتا الدائرتين بفارق أصوات كبير، رافعة اسم حزبها في جميع أنحاء البلاد. ففاز حزب المؤتمر ﺑ ٣٥١ مقعدًا من مجموع ٥٤٢ مقعدًا في المجلس الأدنى من البرلمان. وكانت هي على حد تعبير صحيفة «تايمز أوف إنديا»: «الفائزة في كل مكان.» ولما قررت على مضض التخلي عن تمثيل دائرة راي باريلي، أفسح ذلك المجال لسانجاي — الذي انتُخب عضوًا برلمانيًّا عن دائرة أميثي — كي يُعنى بولاية أوتار براديش. واصطفت إنديرا أيضًا شابًّا ورجل أعمال ناجحًا من عائلتها يدعى آرون نهرو، برع من سن مبكرة في المناورة السياسية ليتولى السلطة على دائرة راي باريلي. وقد صار الأخير بمرور الوقت مستشار راجيف غاندي الأول، وساعده الأيمن.

بعد وقت قصير من أداء إنديرا قسم تولي منصب رئيسة الوزراء للمرة الرابعة، في ١٤ يناير عام ١٩٨٠، انتقلت مجددًا إلى مقر إقامتها القديم العقار رقم ١ في شارع سافدار جانج رود. غير أنها قبل العودة إليه، أرسلت اثني عشر رجل دين هندوسيًّا «لتطهير» المنزل، وأيضًا بعضًا من العمال لهدم الحمام الذي أقامه ديساي على الطراز التقليدي الهندي، وإبداله بحمام على الطراز الغربي. وبحلول الوقت الذي استقرت فيه إنديرا وعائلتها في المنزل، بدا تقريبًا كما لو أنهم لم يغادروه قط.

بل إن إنديرا قالت لصحفي في غضب لما سألها عقب الانتخابات عن شعورها إزاء انتخابها قائدة للهند من جديد: «لم أكفَّ يومًا عن قيادة الهند.»2 وقد بدا أن الهند بدورها تعاني تلك الحالة من فقدان الذاكرة؛ إن فترة حالة الطوارئ والفترة الوجيزة التي أمضتها إنديرا خارج السلطة إثر هزيمتها عام ١٩٧٧ قد مُحيا من التاريخ. فالقضاة الذين عينهم ديساي لمقاضاة إنديرا وسانجاي غاندي على الجرائم التي ارتُكبت إبان حالة الطوارئ ألغوا — كما يرام منهم — محكمتهم الخاصة، وأعلنوها محكمة غير دستورية. ومن ناحية أخرى، أُسقطت سريعًا القضايا المعلقة التي رفعت على سانجاي، وفيها قضية تدميره هو وفي سي شوكلا لفيلم كيسا كورسي كا الساخر عن حالة الطوارئ. ولما أرادت إنديرا أن تبدأ بداية جديدة بلا مشاكل في الولايات أيضًا، طوت الماضي فيها بأن حلت حكومات حزب جاناتا التسع المحلية، وأخضعتها للحكم المباشر مطالبة بعقد انتخابات تشريعية جديدة. ففاز حزب المؤتمر في جميع تلك الانتخابات عدا واحدة فقط.
ولما انتُخب سانجاي غاندي عضوًا في البرلمان، اكتسب أخيرًا الشرعية السياسية والاعتبار. وحظي بهما أيضًا الكثير من أصدقائه وشركائه الذين خاضوا الانتخابات لأول مرة عام ١٩٨٠. فمن بين ٣٥١ عضوًا برلمانيًّا انتموا لحزب المؤتمر، بلغ عدد من ترشحوا لعضوية البرلمان لأول مرة ٢٣٤ عضوًا، وصل عدد أتباع سانجاي المخلصين إلى ما لا يقل عن ١٥٠ عضوًا منهم. وقد مثَّل هؤلاء — على حد وصف الصحفي إندر مالهوترا — جيلًا جديدًا من رجال حزب المؤتمر، من «الشباب الجهلة الحمقى … الذين يجهلون … آداب البرلمان، ولا يتقيدون بأيديولوجيات أو مُثل … أقوياء البنية لكن ضعاف التفكير.» لقد اعتبر أعوان سانجاي عضويتهم للبرلمان وقربهم من مركز السلطة طريقًا مختصرًا يجنون منه أقصى كمٍّ من المال في أقصر وقت ممكن.3

انتظر الجميع أن تجعل إنديرا سانجاي عضوًا في مجلسها الوزاري، لكنها — عن حكمة — لم تفعل ذلك. فقد فطنت إلى ضرورة أن يبدو النفوذ الذي امتلكه سانجاي مستحقًّا ومستمدًّا من آخرين سواها. علاوة على أنها أرادت أن يحتل سانجاي منصب رئيس حكومة ولاية أوتار براديش، مع أن الأخير أراد أن يكون في مركز السلطة في نيودلهي حيث تكمن الإثارة. فقبلت في آخر الأمر تعيينه سكرتيرًا عامًّا للجنة مؤتمر كل الهند.

•••

في ١٦ فبراير، في كسوف الشمس الأول الذي تشهده الهند منذ أربعة وثمانين عامًا. بعد شهر من عودة إنديرا إلى السلطة، حصلت على إجازة — الأمر الذي كان يحدث نادرًا — ودعت صديقتها بوبول جاياكار إلى مقر إقامتها لمشاهدة كسوف الشمس معها. عصرًا كان راجيف وطفلاه في حديقة المنزل حيث أعد الأخير تلسكوبًا وأمد الجميع بنظارات شمسية. أما سانجاي فكان انشغاله الشديد يمنعه من الاهتمام بأمر الكسوف. كانت مانيكا زوجته حاملًا في الشهر الثامن وكانت تمكث في غرفتها ولم تشاهد كسوف الشمس مع بقية أفراد الأسرة لأن إنديرا — بناءً على المعتقدات القديمة التي تقضي بأن الكسوف الشمسي يمثل خطرًا مباشرًا على الجنين وأنه على المرأة الحامل تجنب تأثير الكسوف الضار — نصحتها بذلك، الأمر الذي أدهش بوبول جاياكار.

أثناء انتظار إنديرا وجاياكار لبدء كسوف الشمس، عكفتا على مشاهدة فيلم تسجيلي لرواية «بعيدًا عن الزحام المجنون». خفت الضوضاء خارج المنزل. وأظلمت السماء، وزادت برودة الجو. وسكتت زقزقة العصافير. وغمر ضوء أزرق المدينة ماحيًا ظلالها. فنهضت إنديرا فجأة من مقعدها وقصدت غرفتها ومكثت بها وحدها حتى انتهاء الكسوف الشمسي. لقد أثار اختفاء ضوء الشمس خوفها بلا شك، ولكنها لم ترِد أن يبدو عليها الخوف. وقد أحبط تأثر إنديرا «بالخرافات» صديقتها جاياكار ودفعها إلى التساؤل عما أصاب «إنديرا الماضي القوية».4
كذلك انزعجت جاياكار من وجود دهيريندرا براهماتشاري الدائم؛ معلم السوامي الوسيم المؤثر الذي أحاط بإنديرا وظل معلم اليوجا الخاص بها أكثر من عشرين عامًا. لقد بدا منذ حالة الطوارئ أن نفوذ براهماتشاري يتزايد مع ضعف ثقة إنديرا في الآخرين. فبإبلاغ تلك الأخيرة أولًا بأول بمن زعم أنهم ينوون أذيتها وأذية سانجاي، أذكى بلا شك عقدة الاضطهاد لديها. وقد قامت استراتيجيته معها على خطوتين. أولًا: إثارة مخاوفها بإبلاغها بمؤامرات — أغلبها غير واقعي — يدبرها أعداؤها ضدها. وثانيًا: دفعها فيما يبدو إلى الموافقة على إجرائه طقوسًا مضادة من شعائر عديدة وتعاويذ لحمايتها والقضاء على قوى الشر التي أطلقها عليها السعاة إلى تدميرها.5

ولم تصدق إنديرا تكهنات براهماتشاري العجيبة وحسب، بل إنها لجأت إليه أيضًا للنصيحة، وتجاهلت احتمالية أن تكون نصائحه قائمة على المصلحة الشخصية. وقد كان من أهم الاكتشافات التي وقعت عليها لجنة شاه مدى استغلال ذلك الأخير لتأثيره عليها وانتهازه صلته بابنها سانجاي لزيادة ثروته الشخصية. في الخمسينيات إبان تولي نهرو لمنصب رئيس الوزراء. أسس براهماتشاري بدعم حكومي أشرم يوجا فيشوياتي في دلهي؛ ليكون مركزًا لتعليم اليوجا. وظل نفوذه محدودًا طوال الفترة التي تولى فيها بي إن هاكسار ومافيا كشمير توجيه إنديرا. لكن بعدئذٍ، مع صعود سانجاي إلى السلطة، اتسعت سلطاته. وأسس عام ١٩٧٣ شركة أبارنا أجرو برايفيت المحدودة المسئولية لشراء وبيع الطائرات التي كان مولعًا بها شأنه شأن سانجاي؛ أحد مديري الشركة. وفي العام نفسه أسس مركز تعليم يوجا جديدًا في مانتالاي في كشمير يُدعى أبارنا كشمير.

عام ١٩٧٦، في الوقت الذي بلغت فيه أحداث حالة الطوارئ ذروتها، تقدم براهماتشاري بطلب للحصول على إذن حكومي بقبول طائرة لأربعة أشخاص من طراز إم٥ تبرعت بها له شركة ماولي إيركرافت بالولايات المتحدة الأمريكية، وحصل على الإذن. وزعم في طلبه أن الغرض من الطائرة هو استخدامها في «الرش الزراعي»، لكن لما اكتُشف أن الطائرة غير مجهزة لذلك الغرض، عدل براهماتشاري الغرض منها في طلبه فصار: «المساعدة في أنشطة أشرم أبارنا». فأُعفيت الطائرة من الضرائب الجمركية، لكن قيمة إذن استيرادها ارتفعت بلا سبب واضح إلى ٦٧٣٥٦ دولارًا مع أن قيمته في الواقع كانت أقل بكثير. ولم تكن تلك الطائرة برغم ما زعم براهماتشاري هدية؛ فقد دفع في مقابلها ٤٠٥٨٥ دولارًا نقدًا عندما زار الولايات المتحدة عام ١٩٧٦. ومُنح بعد وقت قصير من عودته إلى الهند ترخيصًا ببناء مهبط طائرات خاص في مانتيلال بكشمير، مع أن قرب موقع المهبط من حدود باكستان ينتهك القواعد الأمنية.

لم تتضح تلك المعلومات إلا أثناء جلسات تحقيقات لجنة شاه، عندما ظهرت أيضًا حقيقة أشرم براهماتشاري «الخيري» في كشمير. فبعد هزيمة إنديرا في انتخابات ١٩٧٧، زار مفتشو الضرائب أشرم أبارنا فوجدوه «مبنًى شبيهًا بالقصور فخمًا مبهرًا … فُرشت أرضه بالرخام الثمين … وحماماته بالقرميد المصقول، به أربعة أحواض استحمام، وعشرة هواتف، وغسالة آلية، وموقد للطهي، وكاميرا وأجهزة كاسيت وتسجيل وتلسكوب … وغلاية شاي كهربائية، ومجفف شعر والغريب هزاز كهربائي». فعلى حد تعبير تقرير لجنة شاه: كان الأشرم مجهزًا لأن يتيح أسلوب حياة مترفًا، ولأن يوفر أسباب الراحة والرفاهية بكل أنواعها … من الصعب حقًّا استيعاب أن ذلك المبنى المكلف الفاخر أقيم لتعليم اليوجا والتدرب عليها. والكتب والوثائق التي حجز عليها مفتشو الضرائب «لا تدل إطلاقًا على أن مركز مانتالاي عاش به تلميذ … أو معلم يوجا. بل كان من الواضح أن الأشرم أثث وجهَّز … ليكون منزلًا يقضي فيه الأثرياء وذوو السعة إجازاتهم.»6
كان المفترض أن تقضي الاكتشافات التي أسفرت عنها لجنة شاه على براهماتشاري. غير أن «السوامي الطائر» — كما صار يدعى لضلوعه في مجال الطيران — عاد مع عودة إنديرا وسانجاي إلى السلطة عام ١٩٨٠. وأصبح حقيقة جزءًا لا يتجزأ من حياة إنديرا اليومية؛ فتردد باستمرار على منزلها، وحضر أغلب وجباتها، وتصرف فيها كما لو أنه أحد أفراد أسرتها، إلا أن سلوكه على المائدة افتقر إلى التهذيب، وتعوَّد الأكل بشراهة.7 ولوجوده الدائم حول إنديرا واتصاله المستمر بها، ظلت الشائعات تدور بأنه عشيقها. فقد ظل وهو في العقد السابع من العمر بشعره ولحيته السوداويين اللامعين، ورشاقته وطوله الذي يبلغ ست أقدام، ومظهره في لباسه الأبيض الناصع رجلًا جذابًا ساحرًا. غير أن الدور الذي اضطلع به في حياة إنديرا عام ١٩٨٠، في الوقت الذي بلغت فيه سيطرته عليها ذروتها، كان أكثر خطرًا وخبثًا من دور العاشق.

بعد أقل من شهر من الكسوف الشمسي، في ١٣ مارس وضعت مانيكا غاندي طفلًا سُمي فيروز فارون تيمنًا بجده لأبيه. وتولت سونيا غاندي الاعتناء به أغلب الوقت. أما إنديرا فقد أُغرمت به، وقررت على الفور أن تجعله ينام معها في غرفتها.

في صباح ٢٣ يونيو عام ١٩٨٠، وقتما كان الطفل في شهره الثالث فقط من العمر، قرر سانجاي غاندي تجربة طائرة البيتس إس٢ إيه المعدة لشخصين في سماء دلهي في الصباح الباكر.

كانت طائرة البيتس — وهي طائرة أمريكية توسط براهماتشاري في شرائها لسانجاي — أحدث الألعاب التي امتلكها سانجاي. في ساعة مبكرة من ذلك اليوم، غادر سانجاي منزل إنديرا، وقاد سيارته إلى نادي دلهي للطيران المجاور. دعا الكابتن سوبهاش ساكسينا أحد معلمي الطيران بالنادي إلى التحليق معه بالطائرة وتجربة بعض الحركات الأكروباتية الجريئة. فرفض ساكسينا دعوته لأنه كان يعلم ضعف خبرته في قيادة طائرة البيتس إس٢ إيه. لكنه وافق بعد بعض المحاولات، وسريعًا ما أخذ هو وسانجاي يحلقان بالطائرة ويهبطان بها بسرعة فائقة في سماء دلهي. لكن بعدئذٍ، وفقًا لما رواه شهود العيان على أرض الحادث، هبط سانجاي بالطائرة هبوطًا حادًّا، عازمًا فيما يبدو على التحليق بها في حركة أكروباتية. لكنه فقد السيطرة عليها. فارتطمت مقدمة الطائرة بالأرض لتودي بحياة كل من سانجاي وساكسينا فورًا.

في الثامنة والربع صباحًا، عندما اشتدت حرارة الجو، وصل في بي سينج رئيس حكومة أوتار براديش الجديد إلى مكتب إنديرا للقائها. لكن بعدئذٍ، في الثامنة وعشرين دقيقة، أثناء انتظاره لإنديرا في غرفة الاستقبال، اندفع آر كيه دهاوان أمامه إلى مكتبها. وسمعه سينج يقول لها: «حدث شيء فظيع.» بعدها غادرت إنديرا ودهاوان المكتب على عجل مارين بسينج، واتجها مباشرة إلى الباب الأمامي حيث انتظرتهما سيارة دبلوماسية. قفزا إليها وانطلقت بهما مسرعة وهي تصدر هديرًا. فتبعهما سينج إلى الخارج وقفز إلى سيارته ثم تبعهما بسرعة كبيرة. هذا إلى أن توقفت سيارتهما محدثة صريرًا في موقع الارتطام الذي صار بحلول ذلك الوقت مليئًا برجال الشرطة.

وصلت فرق المطافئ والجيش وعربات الإسعاف إلى الموقع، وأخرج المسعفون جسد سانجاي من حطام الطائرة ثم حملوه إلى شاحنة جيش. شاهد سينج إنديرا وهي تصعد إلى متنها. وهناك انحنت إنديرا على جسد ابنها، ثم سحبت البطانية الحمراء التي غطت وجهه. فبدا للحظة أنه سيغشى عليها، لكنها عندئذٍ تمسكت بسلم الشاحنة المجاورة لتحفظ توازنها، ونظرت مجددًا إليه، ثم غطت وجهها بكلتا يديها. وبعد وقت بدا طويلًا خرجت من الشاحنة وخلفها بعض من رجال الجيش.8
مع أنه كان من الواضح أن سانجاي وساكسينا قد لقيا حتفهما، حملتهما سيارة الإسعاف إلى مستشفى رام مانوهار لوهيا المجاور. ركبت إنديرا سيارة الإسعاف إلى جانب سانجاي. خاط الجراحون جروح جثة سانجاي المحطمة في عملية جراحية استغرقت أكثر من ثلاث ساعات وصلت أثناءها مانيكا إلى المستشفى في حالة هستيرية. فتولت إنديرا السيطرة عليها موضحة لها أنه: «وقع حادث» وأن «الأطباء عاكفون على معالجة» سانجاي. فلما انتهى الجراحون، دلفت إنديرا إلى غرفة العمليات، وطلبت من الآخرين جميعهم مغادرتها وتركها وحدها مع ابنها. وبعدها ببضع دقائق خرجت شاحبة الوجه، ولكن رابطة الجأش تمامًا من جديد.9

حُمل جسد سانجاي إلى مقر إقامة إنديرا، حيث مُدد على كتل كبيرة من الثلج. وأمضت إنديرا أكثر اليوم في استقبال المعزين ببيتها. ولكنها أيضًا خرجت. وكما لو أنها مجبرة على ذلك، أصرت على زيارة موقع تحطم الطائرة من جديد. وهو الأمر الذي دارت بسببه شائعات فيما بعد بأنها قامت بذلك لاستعادة ساعة سانجاي وسلسلة المفاتيح اللتين كانا بحوزته. فسلسلة المفاتيح زُعم أنها تحوي مفتاحًا لصندوق أمانات أو خزينة تحوي الثروات التي يخفيها سانجاي. أما الساعة فقد قيل إنه كُتب على ظهرها أرقام حسابات سانجاي في المصارف السويسرية.

زارت إنديرا الموقع الذي شهد وفاة سانجاي بالفعل، ولكن ليس لأنها كانت هادئة الأعصاب بما يكفي للتفكير في استعادة أدلة إدانته. عادت يوم ٢٣ يونيو إلى هناك مرتين لا مرة واحدة لأنها أرادت أن تحفظ مشهد الحادث في ذاكرتها وأن تعاين الطائرة المهشمة. فقد أجبرها على ذلك الفضول الفطري الذي يتولد لدى من يُسلبون أحباءهم فجأة. وساقها البحث عن ولدها ومحاولة استعادته — لا استعادة أغراضه — إلى النقطة التي شهدت آخر لحظات حياته. وبتأملها بدأت تدرك فداحة خسارته.

في اليوم الذي أودت طائرة سانجاي به إلى النسيان، كان راجيف وسونيا وطفلاهما في مكان بعيد يزوران عائلة سونيا في إيطاليا. فلما بلغتهم أنباء وفاة سانجاي، استقلا أول طائرة عائدين إلى دلهي. أُقيمت جنازة سانجاي في ٢٤ يونيو. وعنيت إنديرا بتنظيمها بدقة كما فعلت في جنازة زوجها وأبيها. نظمت الجنازة بحيث تكون جنازة عامة مع اعتراض راجيف على ذلك، ودفعت تكاليفها من أموال الحكومة. فحُمِل جسد سانجاي — كما حمل جسد المهاتما غاندي وفيروز غاندي ونهرو من قبله — على شاحنة مفتوحة سارت بين شوارع دلهي. وجلست إنديرا ومانيكا تحت الشمس الحارقة على جانبيه وهما تتصببان عرقًا. قد أُخفيت عيني إنديرا المحمرتين المنتفختين تحت نظارة شمسية كبيرة.

كان جسد سانجاي متماسكًا بالغرز التي خاطها الجراحون في المستشفى، يغطيه تل من الزهور، أما وجهه فكان مكشوفًا. لكن أنفه وإحدى عينيه سُحقا وشُوه منظرهما لما دمر وأصيب إصابات بالغة. فبدت جثته بالغرز التي تصل بين أجزاءها كأنها جثة لفرانكشتاين هندي. فلم يكن أي جراح أو حانوتي مهما بلغت براعته يستطيع أن يجعله يبدو سليمًا خاليًا من الندوب أو أفضل مما هو عليه الآن؛ بقايا جسد بشري بشعة غريبة المنظر فارقتها الدماء.

أُحرق جسد سانجاي في شانتي فانا على ضفاف نهر جومنا، على مقربة من الموقع الذي أُحرق فيه جسد نهرو. أشرف براهماتشاري على الطقوس الجنائزية. وجلست إنديرا ومانيكا أرضًا أمام المحرقة. وكان من خلفهما الأصدقاء وأفراد العائلة، والساسة ومن بعدهما، إلى أبعد ما يصل البصر تقريبًا صفوف من آلاف المعزين. ومع أنه لا يُسمح عادة للنساء بالمشاركة في المراسم الجنائزية الهندوسية، أزالت إنديرا بنفسها العلم الهندي الذي كُسي به جسد ابنها ثم تولى راجيف إشعال النار في المحرقة التي بُنيت من خشب الصندل. وأدى الطقوس الجنائزية بصفته أقرب الذكور نسبًا إلى المتوفى كما تقضي التقاليد؛ فأبحر برماد أخيه تحت الشمس الحارقة سيرًا على إرشادات براهماتشاري ورجال الدين الذين عكفوا على تلاوة الترانيم.

في غضون أيام من وفاة سانجاي، في جميع أنحاء البلاد، أُنشئت فورًا المعالم التذكارية بكل أنواعها من التماثيل إلى الطرق العامة إلى المتنزهات؛ إحياءً لذكرى سانجاي. لقد ارتفع سانجاي بموته إلى مرتبة الشهداء، فازداد عدد عشاقه سريعًا، وعكفت البلاد على مناحة هستيرية تغيرت فيها أسماء محطات توليد الكهرباء المائية، والقطارات ومحطات الحافلات والجسور والسدود والشوارع والمدارس والمستشفيات، وما قد يعد أكثر غرابة، سلسلة من حدائق الحيوان أنشأتها زوجته باسم سانجاي.10
في اليوم التالي على جنازة سانجاي، سأل بي كيه نهرو راجيف عن الأموال التي جناها سانجاي إبان حالة الطوارئ. واستفهم عن مكانها، فأخبره راجيف بأنه لم يُعثر إلا على مليوني روبية في المكتب المركزي للمؤتمر بدلهي. لكنه أفضى إليه كذلك بأن سانجاي ترك بعد وفاته «عشرات الملايين الأخرى التي لم يعلم عنها أحد شيئًا.» إلا أن تلك الأموال ظهرت بعد وفاته. فعندئذٍ القليل من الناس — البعض منهم من نيودلهي، والبعض الآخر ممن عني بأمواله خارج البلاد في لندن — اغتنوا بصورة ملحوظة.11
وقد ازدهرت أحوال السوامي دهيريندرا براهماتشاري أيضًا بعد وفاة سانجاي، وأخذ يزداد قوة على قوة؛ لأن مشروعاته التجارية ارتبطت بمشروعات الأخير للعديد من السنوات. فتاجر في الأسلحة وصار له برنامج تليفزيوني خاص به، واضطلع بمنح التراخيص والتصاريح لأعلى المزايدين. وتزايدت سيطرته على إنديرا حتى صارت أقوى من أي وقت مضى. فقبل وفاة سانجاي حذرها براهماتشاري من أن أعداءها عاكفون على إقامة طقوس هندوسية لإنزال مصيبة على أسرتها. وأخبرها بأن عليها كي تتجنب الأذى أن تزور بعض المقامات وأن تؤدي بعض الشعائر. فلما لم تتمكن إنديرا من الانتهاء من زيارة كل هذه المقامات وقتما تحطمت طائرة سانجاي، وأخفقت بذلك في التصالح تمامًا مع القوى المعادية لها. شعرت على حد قولها لبوبول جاياكار أن موت سانجاي كان بالإمكان تلافيه وأنها المسئولة عنه. فاستغل براهماتشاري مخاوفها وأذكى شعورها بالذنب.12

•••

مع أن إنديرا تظاهرت بالعلمانية، وزعمت أن إيمانها بالعقائد الروحانية لا يعدو أضعف درجات الإيمان، فإنها كانت دائمًا ما تؤمن بالخرافات، وتلك صفة ورثتها عن جدتها لأمها سواروب راني وعن أمها. فعلى سبيل المثال رفضت الانتقال إلى بيت تين مورتي قبل اللحظة التي يبدو الطالع فيها حسنًا، الأمر الذي أزعج أباها. وظلت سنوات — على سبيل الوقاية من الشر لا التجمل — لا ترتدي من الحلي سوى مسبحة خشبية أهدتها إليها أناندامايي مستشارة والدتها في الروحانيات.

عام ١٩٨٠، في أعقاب موت سانجاي، انهارت حياة إنديرا على المستوى الشخصي، فلجأت — عن طريق براهماتشاري وبتأثيره — إلى طلب المساعدة من قوى «أعلى». إلا أنها لم تكن وحدها في ذلك. فالكثير من الهنود ومنهم السياسيون والمفكرون المتأثرون بالغرب أولَوا المعلمين الروحانيين المشهورين ثقتهم. فهؤلاء «الآلهة البشريون» لم يكونوا مستشارين روحانيين وظيفتهم تحسين صورة الساسة كبيلي جراهام في صلاة الإفطار مع ريتشارد نيكسون مثلًا. فمع أن الساسة الهنود تظاهروا بأن اعتمادهم على معلميهم الروحانيين بسيط، بل أخفوه ولم يجاهروا به. فإنهم لجئوا إليهم لطمأنتهم ونصحهم وإنبائهم بالمستقبل، خاصة في الأزمات. وكان موت سانجاي بعد فقد فيروز أصعب أزمة في حياة إنديرا، لذا ففي الفترة التي تلته مباشرة أكثرت من الاعتماد على براهماتشاري.

•••

عندما توفي فيروز ونهرو، استغرقت إنديرا أسابيع بل شهورًا لتعود — إلى حد ما — إلى الحياة بصورة طبيعية. أما بعد وفاة سانجاي فقد عادت إلى العمل مباشرة تقريبًا. ووفقًا لآر كيه دهاوان لم تتأخر «في تسليم ملف واحد».13 إلا أن هذا لا يعني أنها كانت حينذاك قد استعادت توازنها. فعلى حد قول سونيا غاندي بعدها بسنوات، بعد «كارثة» وفاة سانجاي، كانت إنديرا «مع شجاعتها ومظهرها الهادئ محطمة معنويًّا».14
لكنها بعد أربعة أيام فقط من حادث ارتطام طائرة سانجاي المميت، في ٢٧ يونيو، أو اليوم الذي أخذ فيه راجيف وسونيا ومانيكا رماد سانجاي لإلقائه في نهر سانجام بالله آباد، عادت إلى العمل. وفي ٢٨ يونيو، كان لديها موعد مع أستاذة جامعية أمريكية تدعى فرانسين فرانكل. كانت فرانكل تعكف آنذاك على كتابة مقالة عن سيرة إنديرا من أجل الطبعة الجديدة للموسوعة البريطانية، وكانت متأكدة أن موعدها مع إنديرا (وهو موعد يعد بالكاد عاجلًا) سيُلغى على ضوء وفاة سانجاي. إلا أن ذلك لم يحدث. ففي مكتب إنديرا التقت فرانكل تلك الأخيرة التي التقتها قبل ذلك لعدة مرات. وأبدت إنديرا استعدادًا للتعاون معها، لكن وجهها اكتسى بالهدوء، ولم يحمل أي مشاعر، ولم تقل الكثير. فأثار فتورها، واضطراب عينها اليمنى الذي لا يتوقف، والغرابة الصارخة التي تتسم بها تلك المقابلة في ظل الظروف الصعبة التي جاءت وسطها، خوفَ فرانكل. كانت إنديرا بلا شك منهكة القوى تعاني حزنًا شديدًا، لكنها احتفظت بتماسكها حتى نهاية اللقاء، إلى أن سألتها فرانكل ما أكثر ما تود أن يذكره الناس عنها؟ فحدقت بها للحظة ثم أجابت بمرارة: «لا أريد أن يذكروني بشيء.»15

ذلك الرد وكأنه يخبر عن نبوءة، أصاب عين الحقيقة. فالتاريخ لن يذكر إنديرا غاندي بأي شيء محدد؛ سواء استراتيجية ثابتة أو أيديولوجية أو سياسية أو رؤية. ففي أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات قادتها اليسارية. لكنها بعد ظهور سانجاي على الساحة السياسية، نبذت ولاءها للأيديولوجيات السياسية تمامًا. وسارت حياتها من سيئ إلى أسوأ، مع أن احتمالات ذلك بدت لدى وفاة سانجاي شبه مستحيلة. فحينذاك لم ينكسر فؤادها وحسب. بل أيضًا زال عنها شعورها بالأمان. في الواقع لقد لجأت منذ وقت طويل، منذ بداية مسارها السياسي إلى سياسة رد الفعل المقاوم لا المبادرة. لكن تلك السياسة الارتجالية التي تعودتها استحالت عقب وفاة سانجاي إلى إجراءات يائسة. ففيما تلا من أشهر وسنوات، لجأت حفاظًا على منصبها إلى تأليب مختلف الطوائف، والجماعات الدينية والمناطق بعضها على بعض في محاولة اقتربت يومًا بعد يوم من الفشل.

على أن النتيجة المباشرة لوفاة سانجاي كانت إيجابية. فعائلة إنديرا وأصدقاؤها — وفيهم من حلت بينه وبينها الجفوة — توافدوا لمواساتها. فسعدت بمصالحتهم لها مع أنها كانت كسيرة الفؤاد، لا يمكنها احتمال شيء. ولعدة أيام، ملأت بيتها النساء اللاتي جمعت بينهن وبينها علاقة وطيدة على مر حياتها. ومكثن معها في محنتها؛ فقدمت فوري نهرو، وبوبول جاياكار، وشانتا غاندي، وسوبهادرا جوشي. وهرعت فيجايا لاكشمي بانديت — عمتها التي أدارت ضدها الحملات الانتخابية في عام ١٩٧٧، والتي جمعتها بها علاقة متعثرة — من دهرا دون لنجدتها. فإنديرا وفيروز قبل ثلاثين عامًا سانداها لما تُوفي زوجها في السجن. فزالت حينئذٍ البغضاء والريبة اللتان باعدتا بينها وبين إنديرا وقتًا طويلًا.

وقد تناست دوروثي نورمان بدورها الجفوة التي نشأت بينها وبين إنديرا. فكاتبت تلك الأخيرة فور سماعها بوفاة سانجاي، لتحطم بذلك حاجزًا من الصمت استمر أربع سنوات في علاقتهما. أما سوراج باول الذي أيد إنديرا في الفترة المظلمة التي عانتها عقب حالة الطوارئ، فقد سافر إليها جوًّا من لندن. لكن مع كل تلك المشاعر الفياضة على المستوى العام والخاص سيطر على دلهي شعور غريب وغامض. بكى الناس — كما كتب روميش ثابار — «لأن الأمر كله كان مأساويًّا … لأن تلك كانت بلا شك مأساة». لكن في الوقت نفسه، مع وفاة سانجاي سرى في جميع أنحاء البلاد «شعور غامر وغريب بالارتياح».16 لقد أعرب بي كيه نهرو بعدها بسنوات عما شعر به الكثيرون في يونيو عام ١٩٨٠ لكن لم يقووا على النطق به: موت سانجاي كان أبعد ما يكون عن الكارثة، لقد كان حقيقة «أفضل ما قد يحدث للهند».17

•••

فبموته صار بمقدور إنديرا إجراء التعديلات الجذرية على حكومتها، والتخلص من أتباعه وإرثه البغيض. وصار بإمكانها أيضًا الفوز بتأييد مستشاريها السابقين البارعين، وفي مقدمتهم بي إن هاكسار وروميش ثابار وآي كيه جوجرال ومن كان على استعداد لمسامحتها على الزلات التي وقعت فيها في حالة الطوارئ من نخبة رجال الفكر السياسي.

غير أنها فضلًا على فشلها في كسب ود ثابار، لم تحاول استمالة هؤلاء من جديد، أو التخلص مما ورَّثه سانجاي. بل إنها قالت حينما نظم إندر مالهوترا اجتماعًا بينها وبين مستشارها الصحفي شارادا براساد وستة من رؤساء التحرير البارزين إن جميع رجال الفكر الذين انتقدوها متأثرون بالولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد السوفييتي. وفوق ذلك فسرت عدم ثقتها بأعضاء حكومتها السابقين وسماحها ﻟ «أتباعها» بإدارة الأمور. قالت إنها لا تستطيع الاعتماد على مسئولين حكوميين رفيعي المستوى «لم يبذلوا قط أي محاولة لمساعدتي. فهل أُلام على أنني أوكل مناصب حساسة لرجال قد لا يكونون على قدر كبير من البراعة، ولكن بوسعي أن أثق بهم.»18

في الواقع، بحلول ذلك الوقت، توقفت إنديرا عن الثقة بكل من لا تجمعها به صلة قرابة أو صداقة. فمع أنها صارت تملك حرية إقامة علاقات مع الشخصيات المرموقة النزيهة، آثرت أن تعتمد على رجال قد «لا يكونون على قدر كبير من البراعة ولكن بوسعي أن أثق بهم.» وكان على رأسهم ابنها المتبقي راجيف بصفته البديل الواضح لسانجاي.

في غضون أيام من وفاة سانجاي، حث الكثيرون من أتباع إنديرا في حزب المؤتمر راجيف على خوض المجال السياسي، ورجوه إلى ذلك. ولم يكن هذا من جانب إنديرا نفسها وإنما من جانب الموالين لحزب المؤتمر وفيهم أعضاء حزب المؤتمر القدامى الذين لم تتلوث سمعتهم كتي إن كاول. استغرق راجيف ما يقرب من العام ليتخذ قراره، تعرض إبانه لضغط هائل. على رأس الضغوط كان هناك علمه بحاجة والدته إليه، وممانعة زوجته سونيا الشديدة لخوضه المجال السياسي. قاومت سونيا — على حد قول راجيف — ذلك بشراسة. و«عذب الصراع» — وفقًا لسونيا — راجيف بحق. فمن ناحية كانت والدته «وحيدة ومحطمة»، وفي الوقت نفسه، ظلت زوجته تذكره ﺑ «الحياة التي أسسناها معًا»، التي علمت أنها ستذهب فداء نظام سياسي … «سيحطمه ويقضي عليه».19
لكن كما كان الحال دومًا في تاريخ أسرة نهرو غاندي، الإحساس بالواجب يكسب الصراع. ففي آخر الأمر، في ٥ مايو عام ١٩٨١، أعلن راجيف اعتزامه الترشح في انتخابات يونيو الفرعية لتمثيل دائرة سانجاي السابقة؛ دائرة أميثي. أميثي انتظرت هذا الإعلان بفارغ الصبر؛ لأنه كان من المفترض أن يشغل مقعد سانجاي ممثل عن الدائرة في غضون ستة شهور من وفاته. فترشح راجيف للمنصب، مع أنه لم يهتم قط بالشئون السياسية، ولم يحمل حتى عضوية بحزب المؤتمر. وبدا الأمر له شبيهًا بدخول السجن. لكنه خاضه بعد عشرة شهور من التردد، لأنه كان «لا بد أن يكون هناك من يساعد أمي».20 فاستقال من عمله في الخطوط الجوية الهندية، وأقلع عن ارتداء القمصان والسترات، وتعود ارتداء الخادي الأبيض الخاص بحزب المؤتمر.

كما هو متوقع، أثار ذلك معارضة عنيفة بين المثقفين. فأشار نقاد راجيف إلى أنه لا يملك المقومات الأساسية التي تكوِّن السياسي، ولا الناخبين ولا الخبرات ولا الدراية السياسية. لم يملك من المؤهلات إلا النسب. وعليه استمر أغلب المثقفين في الهند وخارجها في معاداة إنديرا، خاصة عندما اتضح أنها تنوي اختيار راجيف خليفة لها. فنشرت مقالات فيد ميهتا اللاذعة عنها في جريدة «ذا نيو يوركر» مجمعة في كتاب. ولم يُبد إلا القليل من الكتاب والصحفيين — منهم تريفور فيشلوك — استعدادًا لنشر مقالات موضوعية عنها.

إلا أن العامة لم يروا الأمور من ذلك المنظور. فعلى حد قول أحد كتاب سيرة إنديرا فيما بعد، «التاريخ الهندي … سلسلة طويلة متصلة من الحكم الملكي المتوارث. فضلًا على أن النسب العائلي يعد أمرًا مهمًّا في حياة كل هندي … والتقاليد الهندية تقضي بأن يتبع المرء مهنة أسلافه. فعلى مدى قرون علم الحرفيون المهرة والموسيقيون سلالاتهم مهاراتهم … لذا اعتُبر إعدادها ابنها لخلافتها سيرًا على العادات الراسخة لا غير».21

على كل، لم يكن مستغربًا أن راجيف فاز في انتخابات دائرة أميثي الفرعية ليونيو بما يربو على ربع مليون صوت. وأدى في ١٧ أغسطس عام ١٩٨١، قبل ثلاثة أيام من عيد ميلاده السابع والثلاثين، قسم عضوية البرلمان. بعد قرابة عام سيلقي راجيف خطبته الأولى في البرلمان، لكنه سيتحول إلى الشعبية الواسعة قبل ذلك بوقت طويل. فقد كان وسيمًا وجذابًا، ولا تجمعه علاقات أو صلات بأصحاب السمعة المشوبة. وقد بدا رجلًا طيب القلب عطوفًا. حتى إنه حقيقة عُرِف في وقت قصير ﺑ «الأستاذ نظيف». هذا فضلًا على أنه امتلك عائلة جميلة تبدو رائعة في الصور.

ما إن قرر راجيف خوض المجال السياسي حتى أيدته سونيا غاندي تأييدًا تامًّا، بالضبط كما فعلت دومًا مع إنديرا. أما زوجة أخيه مانيكا غاندي فقد ظلت تعارض عمله السياسي الجديد حتى بعد فوزه في انتخابات دائرة أميثي؛ فقد أرادت أن تتسلم منصب سانجاي. إلا أنها كانت حينئذٍ في الثالثة والعشرين من العمر، أي في سن صغيرة جدًّا لا تسمح بالترشح لعضوية البرلمان، أما بعدها بعامين فستبلغ السن المناسبة لذلك. مع هذا أخذت مانيكا تنتقد راجيف بوضوح، ومعه — ولكن بصورة أقل وضوحًا — حماتها.

لطالما مثلت مانيكا مصدر إزعاج لأسرة إنديرا، لكن عقب وفاة سانجاي فقط تزايد إزعاجها. وفي البداية شعرت إنديرا بالتعاطف مع ابنة زوجها التي صارت أرملة. حتى إنها عرضت عليها أن تكون مساعدتها الشخصية. لكن سونيا — التي ظلت على غير وفاق مع مانيكا، مع أنها كانت المسئولة الأولى عن الاعتناء بطفلها فارون — عارضت ذلك بشدة. ولأنها صارت مقربة جدًّا لدى إنديرا، ألغت إنديرا عرضها لمانيكا مراعاة لشعورها.22

•••

سيطرت المشاكل في البنجاب وكشمير على آخر فترات ولاية إنديرا، لكن بين عامي ١٩٨٠ و١٩٨١ كان أكثر ما يقلقها هو الوضع في ولاية آسام بشمال شرق البلاد. جاءت المشاكل إلى آسام من خارجها، لما قدم إلى الولاية عدد كبير من المهاجرين البنغاليين — أغلبهم من المسلمين — واستقروا فيها بعد مغادرتهم بنجلاديش إبان حرب عام ١٩٧١. حينذاك تدفق المهاجرون على الولاية بأعداد هائلة حتى إنهم هددوا بتحويل سكانها إلى أقلية بينهم. وإزاء ذلك تقدم الهندوس الذين مثلوا أغلب سكان الولاية بأربعة مطالب إلى الحكومة المركزية بخصوص هؤلاء «الدخلاء»، عُرفت باسم المطالب التائية الأربعة، وفيها طالب الهندوس بتمييز المهاجرين البنغاليين، وتجريدهم من حقوق المواطنة، وترحيلهم إلى بنجلاديش، أو توزيعهم على الولايات الهندية الأخرى. وفوق ذلك نظمت وقادت منظمة طلابية تدعى اتحاد عموم طلبة آسام تظاهرات مناهضة للبنغاليين. فلما بلغت القلاقل في الولاية حدًّا خطيرًا في أبريل عام ١٩٨٠، أُعلنت «منطقة اضطرابات». اختل في الولاية النظام العام فاضطرت الحكومة المركزية إلى إرسال قوات شبه عسكرية إليها؛ لحماية خطوط أنابيب النفط الخاصة بها التي تمد الهند بثلث احتياجاتها من البترول.

لكن لم يعتبر البنغاليون وحدهم سبب المشاكل في آسام. فحينذاك ثار القبليون من أهل المنطقة بدورهم على سيطرة الطوائف الآسامية الرفيعة على أراضيهم وطالبوا بطرد «السكنى بلا تصريح» من مناطقهم القبلية. لكن مع أن شكوى سكنى آسام على اختلافاتهم كانت منطقية، إلا أن إنديرا — كما صارت عادتها — اتهمت «الجهات الأجنبية» بالتحريض على الاضطرابات التي وقعت في الولاية. وفي البرلمان أدان وزير داخليتها الجديد زايل سينج الولايات المتحدة والصين بالأخص لتدخلهما في شئون الولاية.

رغم تزايد الاضطرابات في الهند — وربما إلى حد ما بسببها — أمضت إنديرا وقتًا طويلًا من عام ١٩٨١ في القيام بزيارات لافتة للانتباه خارج البلاد. وهذا ما جعلها تُمتدح في الصحافة الهندية، وخدم أيضًا كمتنفس من الاضطرابات الداخلية. ففي مايو زارت الكويت والإمارات العربية المتحدة، وسويسرا التي زارت فيها مدرستها القديمة ببكس مدرسة إيكول نوفيل التي كانت قد صارت ديرًا، رحبت فيه الراهبات بها ترحيبًا حارًّا. من ناحية أخرى لم تشعر إنديرا بالحنين إلى زيارة مصحة روليير في ليسين، أو بالأحرى مجموعة الشقق الفاخرة التي استحالت إليها. وزارت في أغسطس كينيا مع سونيا وراهول وبريانكا ومانيكا التي بدت متجهمة وظلت تشكو من أن جميع أفراد العائلة عداها سافروا بجوازات سفر دبلوماسية خاصة. وبعدئذٍ في أواخر سبتمبر وأوائل أكتوبر قامت بجولة طويلة في جنوب شرق آسيا زارت فيها جاكارتا وفيجي وتونجا وأستراليا والفلبين. أما ما تبقى من شهر أكتوبر. فقد قضته في زيارة رومانيا ثم حضور قمة رؤساء دول الشمال والجنوب في كانكون بالمكسيك. معنى كل ذلك أن إنديرا ظلت طوال صيف وخريف عام ١٩٨١ تقريبًا خارج الهند.

وفي غيابها ظلت المشاكل تتنامى في البلاد. فابتلعت الفتن الطائفية ولاية آسام، ومعها ولاية البنجاب. في تلك الولاية الأخيرة ظلت الاضطرابات تتصاعد منذ انتخابات عام ١٩٧٧ عندما خسر حزب المؤتمر جميع مقاعد المجلس الأدنى التسعة في البرلمان أمام حزب أكالي دال السيخي. لكن الصراعات الدائرة هناك تعود حقيقة إلى وقت أبعد كثيرًا من ذلك. إنها في الواقع تعود إلى الوقت الذي جرى فيه تقسيم البنجاب إلى نصفين متساويين بين الهند وباكستان.

في عام ١٩٦٦، بعد وقت قصير من تولي إنديرا منصب رئيسة الوزراء، سمحت بما رفض والدها السماح به. قبلت إقامة ولاية مستقلة تتحدث البنجابية، فيما انفصلت ولايتا هارايانا وهيماتشال براديش عن منطقة البنجاب التي خرجت من الأساس منقوصة من تقسيم الهند. لكن حكومة إنديرا أكدت حينذاك أن ولاية البنجاب الجديدة شأنها شأن الولايات الأخرى قامت على أساس قانون عام ١٩٥٦ لإعادة تنظيم الولايات، وأنها نشأت لأسباب لغوية — وليست دينية — مع أن ٥٦٪ من سكانها من السيخ. (بالمقارنة بتلك الأغلبية الضعيفة، يعد السيخ في سائر أنحاء الهند أقلية لا تمثل إلا ٢٪ من نسبة السكان حيث يمثل الهندوس الأغلبية بنسبة ٨٠٪).

منذ قيام الديانة السيخية قبل ما يقرب من خمسمائة عام، عاش السيخ في البنجاب في تآلف مع جيرانهم الهندوس، وتزوجوا منهم في الكثير من الأحيان. غير أن الديانة السيخية في إيمانها بإله واحد، ورفضها للنظام الطائفي الهندوسي اختلفت اختلافًا جذريًّا عن العقيدة الهندوسية. والسيخ أنفسهم تعمدوا التأكيد على ذلك الاختلاف بالتمسك بخمسة تقاليد تميزهم عن جيرانهم. السيخ من «الخالصة» أو الأنقياء لا يحلقون شعر رءوسهم أو لحاهم، ويحملون مشطًا على الدوام، ويرتدون سوارًا من الفولاذ، وبنطالًا قصيرًا ويتسلحون بخنجر. وأكثر ما يميز رجالهم عن غيرهم بوضوح هو شعرهم الطويل الذي يغطونه دائمًا بعمامة.

بعد نشأة ولاية البنجاب عام ١٩٦٦، ظلت قضايا معينة تتعلق بتوزيع الأراضي، واستخدام مياه الأنهار والعاصمة تشانديغار المشتركة بين ولاية البنجاب وهاريانا بلا حل لأي منها، وبقيت مَظلمة لدى السيخ. لكن بعدئذٍ عام ١٩٧٣ صرح حزب أكالي دال السيخي رسميًّا بمطالب السيخ في اجتماع بأناند بور صاحب في بيان عرف باسم قرار أناند بور صاحب. أراد السيخ أن يتملكوا وحدهم عاصمة الولاية تشانديغار وأن يحتفظوا بالمناطق التي تتحدث الهندية البنجابية وبسيطرتهم على مياه الأنهار الضرورية لممارسة الزراعة في الولاية.

فلما ماطلت الحكومة المركزية في تحقيق مطالبهم. صارت الغالبية السيخية في البنجاب أكثر إصرارًا على تحقيق مطالبها، وبدأ حزبها السياسي حزب أكالي دال يمثل تحديًا لحزب المؤتمر. بعدئذٍ في انتخابات عام ١٩٧٧، هزم حزب أكالي دال حزب المؤتمر. فقرر سانجاي غاندي — رغم خروج إنديرا من السلطة — بناءً على نظرة مستقبلية أن يقضي على سيطرة حزب أكالي دال في الولاية. ومن ثم نصحه زايل سينج رئيس حكومة الولاية السابق وهو سيخي من حزب المؤتمر بإيقاع الفرقة بين السيخ بدعم وجه جديد على الساحة بمقدوره تحدي قيادات حزب أكالي البارزة.

فأرسل سانجاي بعضًا من أتباعه إلى البنجاب للعثور على رجل دين سيخي بإمكانه إيقاع الفرقة بين السيخ وتقسيم حزب أكالي دال. فخرجوا بزعيم ديماجوجي يدعى جارنايل سينج بندرانواله وهو واعظ أصولي متشدد في الثلاثين من العمر يملك عينين ثاقبتين، ولحية سوداء طويلة ناعمة. أراد تطهير السيخية والعودة بها إلى منهجها القويم الذي لم يتلوث. فجمع حوله سريعًا عددًا كبيرًا من الأتباع المتشددين. وقد ساندهم وأيد قائدهم سرًّا سانجاي وزايل سينج.

لكن مع تنامي نفوذ بندرانواله، نما كذلك طموحه واستقلاليته. في عام ١٩٨٠ أدار الحملات الانتخابية لحزب المؤتمر في ثلاث دوائر انتخابية بولاية البنجاب، زعم مرشح حزب جاناتا في إحداها أن إنديرا ظهرت على نفس منصة الخطاب مع بندرنواله. غير أن بندرنواله عقب الانتخابات أعلن استقلاله ورفض أن يكون أداة لحزب المؤتمر. وفي آخر الأمر لم ينتهِ هو وأتباعه إلى تمثيل مطلب بمنح ولاية البنجاب مكانة خاصة وحسب، بل أيضًا أناب عن مطلب بإقامة دولة سيخية مستقلة تدعى خالستان.

في ٩ سبتمبر عام ١٩٨١، قُتل رميًا بالرصاص صاحب سلسلة صحف بنجابية يدعى لالا جاجات ناراين أدانت المقالات الافتتاحية لجرائده بندرانواله رجل الدين الكاريزماتي. فلما كان ذلك الأخير هو العقل المدبر وراء الاغتيال اعتُقل في ٢٠ سبتمبر. لكن عندها اندلعت التظاهرات الغاضبة في جميع أنحاء البنجاب احتجاجًا على اعتقاله، تدخلت الحكومة المركزية، وتولى زايل سينج — الذي صار بحلول ذلك الوقت وزير الداخلية — إطلاق سراحه في ١٤ أكتوبر. فكان السجن لبندرنواله — كما كان الحال في أوقات كثيرة جدًّا من التاريخ الهندي — نقطة تحول. فقد دخله دجالًا على المستوى المحلي، وخرج منه بطلًا على المستوى القومي. ولم يرَ أنه مدين بالفضل للحكومة المركزية على إطلاق سراحه، فجال كالمنتصر في أرجاء العاصمة وبومباي يستعرض شعبيته الكبيرة بين السيخ الذين يسكنون خارج البنجاب.

ولدى عودته إلى البنجاب، ضاعف أنشطته التخريبية. فتصاعدت أعمال العنف العشوائية. وقُتل الهندوس وقُطعت رءوس الأبقار وألقي بها إلى داخل المعابد الهندوسية. وأمر بندرنواله بنشر قائمة بأسماء الخصوم الذين يستهدف اغتيالهم في الجرائد. فدب الذعر بين الناس وأخذ الهندوس يهاجرون إلى ولاية هاريانا ودلهي. وقُتل ابن لالا جاجات ناراين — الذي كان بدوره صحفيًّا — بعد عام بالضبط من مقتل أبيه، فتأكدت على نحو مؤثر رسالة بندرنواله بأن كل من يسيء الكلام عن حركته سيهلك. وقد قُتل على حد سواء السيخ والهندوس الذين انتقدوه. وقد تخلص بنهاية عام ١٩٨٢ من الكثير من أعدائه.

بحلول الوقت الذي أدركت فيه إنديرا وزايل سينج أن بندرنواله الوحش الذي صنعه سينج مع سانجاي قد خرج عن السيطرة، كان الأوان قد فات على التحرك. فعقب إطلاق سراح بندرنواله من السجن، انتقل مع جيش أتباعه إلى مجمع المباني الذي يحوى المقامات الأكثر قدسية لدى السيخ؛ المعبد الذهبي في أرميتسار. ومن ذلك الحرم الآمن، استمر بندرنواله في قيادة عصاباته التي خرجت تنتهك حرمة المعابد الهندوسية وتقتل وتنهب وتشعل الحرائق في القرى. ومن هنا فُرض على الحكومة المركزية مواجهة حركة انفصالية في البنجاب. وفي تلك الأثناء توافدت جموع الإعلاميين الدوليين والصحفيين على أرميتسار للتزود بمعلومات عن بندرنواله الذي صار نجمًا إعلاميًّا.

في الأشهر الأخيرة من عام ١٩٨١، وطوال عام ١٩٨٢، في الوقت الذي اشتعلت فيه الاضطرابات في البنجاب، ظلت إنديرا ترفض اتخاذ إجراءات قمعية في الولاية متذرعة بهندوسها، لكنها بذلك أطلقت يد جيش بندرنواله فيها. ولم يكن دافعها لذلك الإبقاء على انقسام حزب أكالي دال وحسب؛ لقد هدفت أيضًا إلى زيادة مؤيديها من الهندوس الذين يمثلون الأغلبية في سائر أنحاء البلاد. غير أن تلك كانت محاولة يائسة لم تجدِ نفعًا لوقت طويل. ومع ذلك لم تنتبه إنديرا إلى أنها لن تكون قادرة على إنقاذ الموقف إلا بعدما ابتلعت الفوضى الولاية وخرج العنف فيها عن السيطرة. عندئذٍ حاولت إنديرا التفاوض مع حزب أكالي دال وأتباع بندرنواله. فالتقت بهم مرتين، على أنه ليس من المؤكد — كما يزعم — أنها التقت ببندرنواله نفسه. لكن المفاوضات لم تثمر شيئًا، فاضطلع راجيف غاندي ومستشاروه — وبالأخص ابن عم والدته آرون نهرو — بمهمة حل مشكلة البنجاب والتعامل مع بندرنواله وحزب أكالي دال العويصة التي تتزايد خطورتها يومًا بعد يوم.

افتُتحت دورة البرلمان لعام ١٩٨٢ بإعلان مقتل ٩٦٠ هاريجاني على مستوى البلاد في العامين الماضيين. واندلعت أعمال العنف بين المسلمين والهندوس. وتأزمت الأوضاع بين الطوائف بتحول العديد من الهاريجانيين «المنبوذين» إلى الإسلام أو المسيحية لجوءًا إلى الطريقة الوحيدة لتلافي مصيرهم في النظام الطبقي الهندوسي. إلا أنهم لم ينجوا منه؛ إذ ظلت أشكال التمييز تمارس ضدهم بعد تغيير ديانتهم. فمثلًا في جنوب الهند لم يسمح للمسيحيين من أبناء الهاريجانيين بالجلوس على مقربة من المسيحيين غير الهاريجانيين في الكنيسة. وتسبب تغيير الهاريجانيين لديانتهم في ارتكاب المزيد من الفظائع في حقهم. فطالب الهندوس المتعصبون بأن تمنع الحكومة تغيير الديانة. هذا الأمر رفضته إنديرا مصممة على أن الهند دولة علمانية، وعلى أن منع تغيير الديانة «يتنافى مع الحرية الدينية التي يكفلها الدستور». إلا أنها انجذبت إلى دوامة الصراع الطائفي، وألبت الطوائف المختلفة بعضها على بعض سيرًا على استراتيجيتها الجديدة.

بدا أن المشاكل تحيط بإنديرا من كل ناحية، وفي ذلك بيتها. فالمشاكل مع مانيكا بدورها لم تنتهِ. بعد رحلة إنديرا لكينيا في صيف عام ١٩٨١ اتضح للجميع أنها تفضل سونيا على مانيكا، وأن تلك الأخيرة تزعجها للغاية. ومن ثَم همشتها إنديرا تدريجيًّا. ففي مآدب العشاء الرسمية أُجلست مانيكا على منضدة أخرى مع موظفين كآر كيه دهاوان خشية أن تتفوه بشيء مهين أو محرج للضيوف. ولأنها لم تكن سببًا للخلافات في العائلة وحسب. بل أيضًا شاعت في دلهي مختلف أنواع الشائعات — التي لم تثبت صحة أي منها تمامًا — عنها وعن والدتها. طلبت إنديرا من خوشوانوت سينج لما فقدت الأمل فيها أن يخبرها بأنها تسبب لها المشاكل. فلما أخبرها خوشوانوت بذلك، قالت له إن آل غاندي يعاملونها بازدراء ونعتت إنديرا ﺑ «العجوز الشمطاء».23

لما شعرت مانيكا أنها تُهمَّش أكثر فأكثر في منزل إنديرا، وأحست بالنقمة تجاه تلك الأخيرة، وساد بينها وبين راجيف التنافس، ومقتت سونيا، قررت في فبراير عام ١٩٨٢ الانتقام ببيع مجلتها المصورة سوريا إلى أصوليين هندوس يمينيين من أعداء إنديرا السياسيين. وسربت معلومات سرية حساسة من بيت إنديرا، من بينها خطابات عائلية. ظلت الخلافات في بيت إنديرا تكبر وتصغر. لكن في أغلبها رفض أهل البيت الحديث بعضهم إلى بعض. وكانت أمبيكا أخت مانيكا ووالدتها أمتيشوار أناند طرفًا وثيقًا في تلك المعارك المستمرة.

وصلت الأمور إلى ذروتها في مارس عام ١٩٨٢ عندما وافقت مانيكا على أن تخطب في مؤتمر بلكناو لمؤيدي سانجاي غاندي الذين كانوا جميعًا أعداء لراجيف غاندي. آنذاك كانت إنديرا بلندن في مهرجان الهند في لقاء مع رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت ثاتشر وملكة بريطانيا. لكنها من مكانها البعيد أرسلت إلى مانيكا أمرًا بعدم حضور اجتماع لكناو الذي رأت أنه معاد لمؤتمر (آي) وراجيف. سافرت إنديرا جوًّا عودة إلى دلهي في ٢٧ مارس. علمت لدى وصولها إلى مطار بالام بأن مانيكا سافرت إلى لكناو لتخطب في المؤتمر. فبعثت في إثرها خطابًا تكرر فيه أمرها لها بعدم حضور المؤتمر وتحذرها من أنها ستضطر لمغادرة منزل آل غاندي إن حضرته. فلم يثنِ ذلك مانيكا التي ألقت الخطاب ثم عادت إلى دلهي لتواجه عواقب فعلتها.

تميزت إنديرا غضبًا و«تأهبت لمواجهة» مانيكا. تلك المواجهة التي لم تلبث أن تفجرت كما كان محتمًا أن يحدث. فقدت إنديرا السيطرة على أعصابها، و«طار صوابها».24 وبعد مشادة صاخبة مع مانيكا كتبت إليها رسالة عاصفة اتهمتها فيها بسلاطة اللسان، وأشارت إلى أن سانجاي كان قد سأم تقلباتها، وانتقدت الخلفية والأسرة اللتين انحدرت مانيكا منهما، اللتين اختلفتا تمامًا عن أسرة إنديرا وخلفيتها. لكن ذلك الخطاب — مع اتهام مانيكا لإنديرا بأنها كتبته لتعرضه على «الأجيال القادمة والصحافة» — لم يخرج إلى ساحة العلن، ولم يُستدل على فحواه إلا من رد مانيكا اللاذع عليه الذي نشر في جريدة «إنديان إكسبريس» في ٣١ مارس.
في خطابها العلني، اتهمت مانيكا إنديرا بالإساءة إليها «جسديًّا ونفسيًّا» وبتعذيبها «بكل معنى الكلمة» و«بكل الطرق التي يمكن تصورها». وزعمت أنها ذهبت إلى مؤتمر لكناو كضيفة، وأنها لما خطبت فيه أيدتها وستؤيدها دومًا.25 أثار خطاب مانيكا ضجة كبيرة حتى إن مستشار إنديرا الصحفي شارادا براساد أدلى ببيان إلى وكالة يونايتد نيوز أوف إنديا نشرته أغلب الصحف الوطنية. جاء فيه:
«إن الخلافات بين السيدة غاندي وزوجة ابنها نشأت مع إبرامها صفقة سرية لبيع مجلة «سوريا» مع قائد حزب الآر إس إس ساردار آنجري. السيدة مانيكا غاندي لم تأتِ على ذكر ذلك مطلقًا للسيدة غاندي … التي شعرت أن تلك الخطوة تُعتبَر خيانة بكل معنى الكلمة للمثل والقيم التي أيدها سانجاي غاندي. كل ما تلا من أفعال … قامت بها مانيكا هدف إلى دعم عناصر وقوى معادية … لرئيسة الوزراء … مع أن السيدة مانيكا غاندي تأتي من خلفية عائلية مختلفة، إلا أن السيدة غاندي وسائر أفراد أسرتها تقبلوها بينهم بلا تحفظات كشريكة حياة لسانجاي غاندي.»26

في ٢٩ مارس، كُلف آر كيه دهاوان بطرد مانيكا من منزل إنديرا كما تحتم أن يحدث. لكن مانيكا لم ترحل بهدوء. في عصر ذلك اليوم تواجهت مع إنديرا للمرة الأخيرة في حضور دهاوان ودهيريندرا براهماتشاري. وأمرت بحزم حقائبها والرحيل عن المنزل. وقد استغرق هذا الأمر اليوم كله تقريبًا. فاتصلت بأحد أصدقاء سانجاي وطلبت منه أن يخبر عائلتها والأصدقاء والصحفيين بأنها تتعرض للطرد من المنزل. فوصلت أختها أمبيكا بعد وقت قصير لمساعدتها في حزم حقائبها، وانتهى الأمر إلى صراخها بالشتائم ضد إنديرا. ثم عكفت مانيكا وأمبيكا على مشاهدة فيلم تسجيلي لعدة ساعات، ولم تستعدا للرحيل عن المنزل إلا بعد وصول حشود الصحفيين لمشاهدة خروج مانيكا من المنزل.

تحت أنظار الصحفيين حاول دهاوان وبراهماتشاري عبثًا تفتيش حقائب مانيكا. ثم حاولت إنديرا منع الأخيرة من أخذ ابنها معها. نام الصغير فارون ذي العامين منذ وفاة سانجاي مع إنديرا في غرفة نومها ليلًا، فيما تولت سونيا العناية به نهارًا. ولم يكن لمانيكا علاقة به إلا بالكاد، ومع هذا أصرت على أن تأخذه معها، فيما لم يكن باستطاعة إنديرا قانونًا عمل شيء للاحتفاظ به. فرحل في سيارة مع الأرملة الشابة مانيكا تحت وهج أضواء الإعلام في الحادية عشرة مساءً. وفي إثرهما قافلة عربات محملة بالألعاب والكلاب والممتلكات سارت في أنحاء دلهي.27
أهم رحيل مانيكا إنديرا، وآلمها بوجه خاص ضياع حفيدها الأصغر منها. فحاول سكرتيرها بي سي أليكساندر تهدئتها بعد مغادرة مانيكا وفارون مذكرًا إياها بأنها احتملت الكثير من الأزمات في حياتها، منها الاضطرابات السياسية وفقد الأحباب. فردت عليه إنديرا قائلة: «هذه الفتاة سلبت فارون مني. وأنت تعلم تعلقي به. إنه حفيدي. لكنه يضيع مني.»28 لم يفلح شيء في مواساة إنديرا. غير أنها قانونًا لم تملك الحق للاحتفاظ بفارون، ومن ثَم كان اختفاء فارون فعليًّا من حياتها في نهاية مارس عام ١٩٨٢.
ابتعدت مانيكا عن ناظر إنديرا، لكنها مع ذلك ظلت تزعجها. لقد ظلت تسخر من أهل زوجها وتزعم أنها — وليس هم — من يحمل راية سانجاي الآن. ولما لم تعد فردًا منهم أو مقيمة في منزلهم، شعرت أن بإمكانها أن تكون أكثر جرأة في انتقامها. فحصلت على نسخ من فصل «هي»، الذي منع ماثاي — الذي كان قد توفي بحلول ذلك الوقت — من نشره في سيرته الذاتية وقدم فيه وصفًا جنسيًّا لإنديرا، ووزعتها. كما نسخت ووزعت خطابات عائلية تنتقد راجيف. وشبهت في خطاب لها إنديرا بالإلهة كالي «التي تشرب الدماء». فردت إنديرا على ذلك بأن قالت إن زواج سانجاي من مانيكا كان «مؤامرة لزرع عدو في دائرة المقربين». وزعمت أنها دائمًا ما عارضت زواج سانجاي منها وأن «ابنها في آخر أيامه اكتشف حقيقة زوجته». فسخفت مانيكا من ردها ذلك بأن قالت إن إنديرا «عقلها أصابه خرف الشيخوخة وتمنت لها فترة تقاعد سعيدة ووشيكة».29

سوء العلاقة بين الحماة وزوجة ابنها كثيرًا ما كان جزءًا لا يتجزأ من الأفلام والقصص والمسلسلات الدرامية الهندية. لكنه هنا جاوز الحد. ومانيكا لم تكتفِ بالهجوم اللفظي الصريح. فبعد مؤتمر لكناو، أسست حزبًا سياسيًّا أخلص ظاهريًّا لتراث سانجاي سُمي بحزب راشتريا سانجاي فيتشار مانتش (المنتدى الوطني للدفاع عن منهج سانجاي)، وقصدت به محاربة إنديرا وراجيف غاندي. لكن مع أن الشعب الهندي تابع مشاحنات مانيكا مع إنديرا بشغف، إلا أنه لم يتوافد للانضمام إلى حزبها الجديد. فلم يرَ أحد أنها هي — وليس راجيف — الوريثة الحقة لعرش عائلة نهرو غاندي.

•••

في أواخر يوليو عام ١٩٨٢، سافرت إنديرا إلى واشنطن لعقد مشاورات مع الرئيس رونالد ريجان الذي التقت به أول مرة العام السابق في قمة رؤساء دول الشمال والجنوب في المكسيك. اتسم لقاؤهما بدفء المشاعر، إلا أن إنديرا لم تجد عقل ريجان مبهرًا. لقد نوهت بأنه هو وزوجته يستمتعان بأفلام رعاة البقر الأمريكية، والبرامج التليفزيونية التي يستخدمها ريجان ليظهر بمظهر البطل. وفيما بعد أشارت بصورة غير مباشرة إلى ميوله الثقافية عندما زار الرئيس الفرنسي ميتران دلهي. كتبت إنديرا إلى دوروثي نورمان تقول عن ميتران إنه مختلف عن أغلب رؤساء الدول الآخرين الذين التقت بهم، وبالأخص رئيسكم. هل قرأت كتابه «قمح وتبن»؟ كان ميتران وفقًا لإنديرا صديقًا شخصيًّا للكاتب الكولومبي الحائز على جائزة نوبل جابرييل جارسيا الذي كانت إنديرا شديدة الإعجاب به.30
هدفت محادثات إنديرا مع ريجان في عام ١٩٨٢ إلى ترميم العلاقات الهندية الأمريكية، إلا أنها لم تجدِ نفعًا على الإطلاق. في أعقاب غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان عام ١٩٧٩، أيدت الولايات المتحدة باكستان أكثر من أي وقت مضى. وحينذاك ظلت الهند من وجهة النظر الأمريكية حليفًا للاتحاد السوفييتي. حتى إن أحد الصحفيين في مؤتمر صحفي بواشنطن سأل إنديرا عن سبب «انحياز الهند دائمًا إلى الاتحاد السوفييتي». فقالت إنديرا إجابة على ذلك: «نحن لا ننحاز لأي جانب … نحن نسير على خط مستقيم.»31
في طريقها إلى واشنطن، أمضت إنديرا بضعة أيام في نيويورك حيث التقت بدوروثي نورمان للمرة الأولى منذ العديد من السنوات. ومع أن دوروثي ظلت تترقب بقلق هذا اللقاء، فقد تقاربت هي وإنديرا من جديد فورًا. وبدأت إنديرا لدى عودتها إلى الهند في مراسلتها والإفضاء لها بمكنون قلبها مجددًا. فاعترفت في رسائلها لها بأنها كانت تجهد نفسها في العمل بشدة، وبأن بلادها شهدت «فوضى تامة» و«اضطرابات كثيرة» في كل مكان. وشكت لها من «القيود الرسمية والأمنية» التي تحيط بها ومن التقارير الصحفية التي اتهمتها كذبًا بعقد صفقات مالية، «في الوقت الذي لا نملك فيه المال لنتم بناء منزلنا الصغير» في مهروالي. لقد بدا لإنديرا أن «العالم يزداد قبحًا»، وفوق كل شيء أثقلها شعور بالحيرة والضعف. «هل يدفع الكبر المرء إلى الظن بأن الأشياء تتداعى في كل مكان … لقد قال ييتس إن الأشياء تتداعى، إن عمادها لا يحتمل. ما هو العماد، وأين هو؟»32
بعد وقت قصير من عودة إنديرا من الولايات المتحدة الأمريكية. التقت بها بوبول جاياكار، فوجدتها منهكة القوى، تحيط الهالات الداكنة بعينيها. فاعترفت لها إنديرا بأنها لم تنَم جيدًا منذ عدة أشهر، وبأن كوابيس متكررة قد راودتها فلم تنفك عن الاستيقاظ في الثانية صباحًا شاعرة بالخوف. ثم أفضت إلى جاياكار بأنها تتلقى معلومات سرية تفيد بأن هناك «طقوسًا من السحر الهندوسي والسحر الأسود تقام سعيًا إلى تدميري ودفعي إلى الجنون». حاولت جاياكار أن تكلم إنديرا عن الضغط الهائل الذي تعانيه، لكنها أبت إلا أن تعرف ما إذا كانت جاياكار نفسها تؤمن بأن «قوى الشر … قد تطلقها الطقوس الهندوسية».33 فشعرت جاياكار بعد تلك المحادثة بعدم جدوى محاولاتها. شارفت إنديرا على الدخول في حالة من جنون الارتياب. لا شك أنه كان هناك من يتمنون الشر لها، لكن المقلق هو أنه بدا أن الأخيرة تؤمن فعليًّا بأن هؤلاء قادرون على إيذائها بقوى خارقة للطبيعة.

•••

في ٨ سبتمبر عام ١٩٨٢، توفي الشيخ عبد الله رئيس حكومة جامو وكشمير بعد الإصابة بأزمة قلبية حادة. كان في السابعة والسبعين من العمر، في حالة صحية ضعيفة منذ الأزمة القلبية الأولى التي أُصيب بها في انتخابات عام ١٩٧٧. وعلاقته مع إنديرا وحكومتها بعد اتفاقية عام ١٩٧٥ كانت متقلبة. فهي والكثير من أعضاء حزب المؤتمر الآخرين لم يثقوا قط في ولائه للهند. وفي عام ١٩٨١، في الوقت الذي دلف فيه راجيف إلى عالم السياسة، عين الشيخ عبد الله ابنه فاروق وريثًا له. فأدى ذلك الأخير قسم تولي منصب رئيس حكومة كشمير بعد تسعين دقيقة من وفاة والده. لكن وراثته للحكم لم تمر بلا مشاكل، ولم تصمد.

يقال إن إنديرا عارضت خلافة فاروق لأبيه، لكنها حتى إن فعلت، لم تبدِ ما يدل على ذلك عندما حضرت جنازة الشيخ عبد الله؛ فضلًا على أنها لم تشجع زوج أخت فاروق غلام محمد شاه الذي أراد أن يضطلع برئاسة حكومة كشمير. يزعم آرون نهرو أن إنديرا أرادت أن يخلف الشيخ عبد الله ابنته خالدة التي كانت متزوجة من شاه، إلا أنها أدركت — مثلما أدرك الشيخ عبد الله — أن الكشميريين المسلمين لن يقبلوا بأن تقودهم امرأة في الوقت الذي يوجد فيه ابن بإمكانه أن يتولى الحكم.34

غير أن الابن لم يكن مرشحًا واعدًا، وافتقر إلى الأهلية لدخول السياسة، شأنه بالضبط شأن ابني عائلة غاندي. قضى فاروق أغلب سنوات بلوغه في بريطانيا حيث تدرب على الطب وتزوج من ممرضة بريطانية. فتأثر تمامًا بالغرب، وكان شابًّا مفعمًا بالحماسة والطاقة، يتردد على صالات رقص الديسكو والحفلات ويطوف أنحاء سريناجار على دراجة بخارية ويردف خلفه امرأة جذابة.

لكن يحسب له — مع أنه لم يحاول كثيرًا التغيير من نمط معيشته التافه — أنه أخذ مسئولياته الجديدة على محمل الجد. فلجأ إلى حاكم كشمير بي كيه نهرو ابن عم إنديرا طلبًا للإرشاد والنصح.35 وتخلص من أعضاء المجلس الوزاري غير الجديرين بالثقة وأحبط الطموحات السياسية لزوج أخته وعدوه غلام محمد شاه. فقضى بذلك نوعًا على اتهامات الفساد وعدم الكفاءة التي طاردت حكومة أبيه. غير أنه لما دعا إلى عقد انتخابات جديدة العام التالي، رفض التحالف مع إنديرا، وصمم على استقلال حزبه حزب المؤتمر الوطني الهندي عن مؤتمر (آي)، الأمر الذي مهد للمنشقين الطائفيين التحريض على الاضطرابات في الولاية. حينذاك كان التدخل بالحكم المباشر قد أضحى عادة متأصلة لدى إنديرا. وهي لم تكن لتسمح بأن يحكم كشمير — وهي ولاية تحتل موقعًا مهمًّا على الحدود الهندية خاضت الهند من أجلها ثلاث حروب مع باكستان — رئيس حكومة لا يدين بالولاء التام لها.
لكن للوقت الحالي، مخاوف إنديرا حيال مستقبل كشمير توارت في ظل الوضع في البنجاب. في يوليو الماضي، دبرت إنديرا لانتخاب وزير داخليتها زايل سينج رئيسًا للهند. فقد أثبت أنه أداة طيعة ومفيدة في منصب وزير الداخلية، لكن إنديرا أدركت أن بإمكانه أن يلعب دورًا أكثر أهمية كرئيس للهند إذا اضطرب النظام العام أكثر. كما أنها أملت في امتصاص غضب السيخ بجعله أول رئيس سيخي للهند. وقد فهم سينج بوضوح الدور المرجو منه. حتى إنه افتخر بتملقه لإنديرا قائلًا في تحدٍّ سافر: «لو أن قائدتي أمرتني بالإمساك بمقشة والعمل ككناس، لقمت بذلك. لذا اختارتني لأكون رئيسًا.»36

ما كان من شأنه أن يعد تسلية لطيفة تلهي عن المشاكل القائمة في البنجاب، أدى حقيقة إلى تفاقم تلك المشاكل وجلبها إلى قلب دلهي. ففي نوفمبر الثاني عام ١٩٨٢، أقيمت دورة الألعاب الآسيوية التاسعة أو «دورة آسيا ٨٢» في دلهي، وشارك فيها ما يربو عن ٥٠٠٠ متنافس رياضي من ثلاث وثلاثين دولة آسيوية تشمل دول الشرق الأوسط والمنطقة الآسيوية بالكامل. خصصت مهمة التنظيم لتلك الدورة لراجيف بصفتها مشروعًا يحظى بالكثير من الاهتمام من المستبعد أن تنشأ بسببه الخلافات، وكونه ظاهريًّا مهمة سهلة لا تحتمل الفشل، يمكنها أن تحقق لراجيف المجد والشهرة.

بعد وقت قصير من دخول راجيف عالم السياسة في عام ١٩٨١، بدأ التمهيد لدورة الألعاب الآسيوية. تلك كانت مهمة ثقيلة تطلبت بذل مبالغ طائلة على إنشاء ستة ملاعب رياضية، وإقامة ثلاثة فنادق حكومية من فئة خمسة نجوم، وقرى سكنية للاعبين. كما بنيت طرق سريعة متعددة المسارات، وجسور طائرة، ومعابر فوقية. في الواقع، لقد تغير وجه دلهي تمامًا استعدادًا لآسياد عام ١٩٨٢.

كل تلك الأنشطة لم تتطلب مبلغًا هائلًا من المال وحسب — وصل إلى ما يزيد عن ٣ ملايين روبية في التقارير الرسمية، وتراوح قدره بين ٦ و١٠ ملايين روبية في التقارير غير الرسمية — بل إنها تطلبت كذلك جيشًا هائلًا من العمال الذين عملوا على مدار الساعة مع اقتراب موعد بدء دورة الألعاب. حينئذٍ ازدهرت أحوال جميع مقاولي البناء، وسماسرة التراخيص والتصاريح، وصناع الطوب والصلب، لكن من ناحية أخرى، العمال الذين تولوا بناء الطرق والملاعب والفنادق لم يصيروا أفضل حالًا. أغلب هؤلاء قدموا من جنوب الهند أو غيرها من الأطراف البعيدة في البلاد ووظفهم سماسرة مقاولي البناء للعمل بعقود إذعان، فأُرسلوا إلى دلهي في شاحنات مزدحمة بهم، ليكدحوا في العمل ليلًا ونهارًا. تألفوا من «رجال ونساء وأطفال هزيلي البنية، لا يغطون إلا نصف أجسادهم، يكسوهم التراب … يعمل الكثيرون منهم على سقالات بناء وهم مثقلون بالأحمال.»37 وسكنوا مخيمات قذرة بجانب مواقع البناء، لا يصل إليها الماء أو الكهرباء. الأوفر حظًّا منهم ناموا في بيوت من الكرتون أو غيرها من المواد التي يُتخلَّص منها. وتزاحم البعض الآخر تحت حصائر من البلاستيك أو الخيش رُفعت بعصي. وبلغ أجرهم اليومي ١١ روبية.

أما مواطنو دلهي العاديون فقد عانوا بصورة أقل من آثار دورة آسياد ٨٢. لقد تحولت الأموال والمواد الخام والكهرباء المخصصة لموارد مهمة وانصبت في الإعداد لدورة الألعاب. فالأراضي التي احتاجها بناء المستشفيات والمساكن الرخيصة وظفت في الإعداد للدورة. وأدى الطلب الهائل على موارد المياه والكهرباء إلى عجز دائم فيهما في دلهي كافة.

اضطلع راجيف وآرون نهرو وآرون سينج أحد مستشاري راجيف بالمسئولية الكاملة عن تنظيم دورة الألعاب. وظاهريًّا بدا أنهم أبلوا بلاءً حسنًا في ذلك، ففي ١٩ نوفمبر عام ١٩٨٢، في عيد ميلاد إنديرا الخامس والستين، افتتحت دورة آسياد افتتاحًا مهيبًا. لكن كما كان محتمًا أن يحدث، شعر الناس بالأسى على المبالغ الطائلة التي أُنفقت، وفضح الصحفيون الاستغلال الذي تعرض له من أقاموا البنية الأساسية لتلك الدورة.

غير أن الأدهى هو التبعات التي أدت إليها دورة الألعاب في البنجاب. رأى بندرنواله أن الدورة لا تخدم إلا في تحسين صورة إنديرا، فطالب بإنهائها. أما هارتشاند سينج لونجوال زعيم حزب أكالي فقد أعلن في ٦ نوفمبر أن حزبه سينظم تظاهرات يومية في دلهي. وعليه فرضت الحكومة الهندية دائرة أمنية حول دلهي لمنع المتظاهرين البنجابيين من دخول المدينة. وأنشأت الحواجز التفتيشية في جميع أنحاء ولاية هارايانا التي يجب أن يمر بها أي بنجابي ليصل إلى دلهي. وقد تحمس شرطيو هارايانا أكثر من اللازم في تفتيشهم للمسافرين السيخيين، حتى إنهم أخضعوا الكثير من الأبرياء للتحرش والإهانة. واعتقلوا ما يزيد عن ١٥٠٠ سيخي. فاستاء السيخ لا في البنجاب فقط، بل في جميع أنحاء البلاد.

إزاء ذلك حاولت إنديرا عقد المفاوضات مجددًا وأشركت فيها مهراجا سيخي سابق يدعى آماريندر سينج لإقناع حزب أكالي دال بتسوية خلافاته مع حكومتها. وفي ١٨ نوفمبر، توصلت تلك الأطراف إلى اتفاقية، خاصة حول قضيتي العاصمة تشانديغار ومياه الأنهار اللتين أثارتا جدلًا طويلًا. لكن عندها احتجت سلطات هارايانا وراجستان — اللتان رفضتا التنازل عن تشانديغار ومشاركة مياه الأنهار مع ولاية البنجاب — لدى إنديرا، فتراجعت عن الاتفاقية في اللحظة الأخيرة. هذا الأمر أسعد بندرنواله الذي صرح بأن ذلك لم يثبت إلا عدم جدوى التفاوض مع «الامرأة البراهماتية» أو «ابنة بانديت» كما أسمى بندرنواله إنديرا هازئًا.

وبذا تُركت إنديرا أمام عقبة سياسية، تترقب كارثة وشيكة.