إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثاني

حدث بالفعل

في ٥ أكتوبر ١٩١٧ زارت آني بيسانت مدينة الله آباد زيارة المنتصر، وعندئذٍ كانت هذه المرأة الإنجليزية قوية البنية في السبعين من عمرها وقد خط الشيب شعرها، قد أُطلق سراحها قبل أسبوعين من السجن السياسي. وعندما وصلت إلى محطة القطار وكانت ترتدي ساريًا أبيض مطرزًا بالذهب، استقبلها حشد ضخم ضم زعماء وطنيين مثل موتيلال وجواهرلال نهرو ووبالا جنجادهار تيلاك والسيدة سروجيني نايدو. فكت الجموع خيول عربتها وجر العربة مجموعة من الشباب عبر الشوارع التي اصطف فيها المهللون والتي تزينت بالأعلام والرايات إلى جانب أقواس مصنوعة من الزهور. عندما وصل الموكب إلى قصر موتيلال نهرو الفخم، آناند بهافان، ألقت السيدة بيسانت — مؤسِّسة رابطة الحكم الوطني الهندية، التي سرعان ما ستُنتخب رئيسة لحزب المؤتمر الهندي، وخطيبة مفوهة، وأحد أتباع مذهب الثيوصوفية المشهورات عالميًّا — خطبة حماسية منادية باستقلال الهند. كانت كامالا نهرو ذات الثمانية عشر عامًا فحسب آنذاك، والحامل في شهرها الثامن، تقف في شرفة قصر آناند بهافان بجوار زوجها جواهرلال، وتستمع إلى تلك الخطبة الحماسية. لقد كانت ابنتهما التي على وشك المجيء إلى الدنيا تستمع إلى أول حدث سياسي في حياتها. تلك الطفلة ستكبر وتصبح رئيسة لحزب المؤتمر مقتفية أثر آني بيسانت وجدها ووالدها. فبعد ثمانية وأربعين عامًا ستنتخب إنديرا غاندي ثالث رئيسة للوزراء للهند المستقلة، وسترتدي في ذلك اليوم ساريًا أبيض وقد خط شعرها الأسود خيط من الشيب أشبه ما يكون بجناح الطائر.

ولدت إنديرا بعد ستة أسابيع من زيارة السيدة بيسانت، في ليلة عاصفة في التاسع عشر من نوفمبر، ولدت في حجرة تقع في الجانب الشمالي الشرقي من آناند بهافان حيث كانت هذه الحجرة هي المكان التقليدي الذي ولد فيه جميع من جاءوا للعائلة. كانت الطفلة تزن أربعة أرطال، وأعلى جسدها النحيل رأس يبدو على النقيض رأس شخص بالغ بشعره الأسود الكثيف وعينيه السوداوين الواسعتين وفمه الصغير وأنفه الكبير الحجم الذي سيحزنها طوال حياتها. وهناك في الشرفة خارج حجرة الولادة انتظر بفارغ الصبر طوال اليوم حشد من المترقبين من عمات وخالات وأبناء الأعمام والأصدقاء والأقارب والخدم وفيهم المربية التاميلية الجديدة.

عند الحادية عشرة مساء تقريبًا خرجت سواروب راني نهرو، جدة المولودة، من الحجرة متجهة إلى الشرفة منادية زوجها الذي كان يشرب الويسكي الاسكتلندي الفاخر مع الرجال في المكتبة.

«لقد حدث بالفعل»، أعلنت سواروب راني الخبر عندما وصل زوجها.

كرر موتيلال: «أحقًّا حدث؟» وهو يعرف تمام المعرفة أن زوجته عمدت إلى عدم ذكر نوع الطفل حتى لا تقول إن المولود أنثى.1
غمرت موجة واضحة من الوجوم والإحباط الحشد المجتمع في الشرفة. وكما أوضحت إنديرا غاندي بدبلوماسية بعد عدة سنوات: «مع أن عائلتي لم تكن تقليدية متزمتة حتى تعتبر مولد الأنثى عيبًا، فإنها كانت تنظر إلى مولد طفل ذكر باعتباره ميزة وضرورة.»2
لا يبدو أن أحدًا يتذكر مكان جواهرلال ولا انطباعه عند مولد ابنته. لكنه كان تقريبًا الوحيد في قصر آناند بهافان تلك الليلة الذي لم يكن يقلقه بشدة نوع المولود. ففي سيرته الذاتية التي كتبها في السجن بعد ذلك اليوم بسبعة عشر عامًا أهمل جواهرلال ذكر أحداث تلك الليلة العاصفة من نوفمبر، كما أغفل ذكر مشاعره الشخصية حولها. ما كان يهمه، كما أخبر ابنته فيما بعد في خطاب كتبه لها في عيد ميلادها الثالث عشر، أن «ذلك الشهر الذي وُلدت فيه» هو نفس الشهر الذي شهد ميلاد الثورة الروسية على بُعد آلاف الأميال من الهند.3 إنه لمن العجيب أن يُقدر نهرو، الرجل البعيد عن الخرافة والعواطف المفرطة، هذه الصدفة التاريخية واحتفظ بها في مخيلته لابنته كبشارة خلال طفولتها. لقد كان العالم الذي شهد بدء تكوين إنديرا وميلادها، كما قال في خطاب آخر، عالمًا من «العواصف والمشكلات»؛ فهي طفلة ستكبر في غمار ثورة أخرى،4 وشأنه شأن الكثيرين الذين كتبوا عن ابنته كان نهرو غالبًا ما يرى ابنته من خلال سحابة من الأساطير.

كانت ذكريات إنديرا الشخصية التي حدثت في حياتها الباكرة — والتي استرجعتها في كبرها — تتسم بكونها هي الأخرى أسطورية وسياسية من الطراز الأول. عام ١٩٢٠ عندما كانت في الثالثة من عمرها أطلق القوميون حركة عدم التعاون، كخطوة في سبيل نيل الهند الحكم الوطني، وتضمنت هذه الحركة مقاطعة المعاهد البريطانية، وفي ذلك المدارس والمحاكم، بالإضافة إلى رفض الانصياع إلى الأحكام واللوائح الخاصة بالحكومة الاستعمارية. وتجنب الجميع البضائع البريطانية والأجنبية واستعاضوا عنها بالمنتجات الهندية، خاصة القماش الهندي يدوي الصنع (الخادي). وما بين ليلة وضحاها تحول قصر نهرو الفاخر كلية؛ فاختفت جميع الثريات الكريستالية، والخزف الصيني الفاخر، والأدوات الفضية الخالصة، والزجاج الفينيسي، والسجاد الثمين، والعربات، والخيول العربية، وارتدى أعضاء العائلة الملابس المصنوعة من قماش الخادي الخشن برغم احتجاجات سواروب راني وآخرين.

ومن هنا تشكَّلت أولى ذكريات إنديرا على هيئة نيران مضرمة تحرق الملابس الإنجليزية والملابس المستوردة في شرفة آناند بهافان. رأت إنديرا الخشب يُلقى على أكوام من الأثواب الملونة المصنوعة من الساتان والحرير والشيفون والبذل التي حيكت يدويًّا في متاجر شارع «سافيل رو» الشهير بلندن. شاهدت إنديرا النيران و«أول ألسنة لهبها»،5 وتذكرت في صورة أكثر حيوية كيف كرهت عباءة فرنسية جلبتها واحدة من الأقارب، التي أوضحت فيما بعد أن دمية إنديرا هي الأخرى منتج أجنبي. كانت إندو (كما كانت تُنادى دائمًا في العائلة) تنظر إلى دميتها على أنها أحد أقاربها وليست شيئًا يُمثل خيانة. و«لأيام تالية، أو لعلها أسابيع؟» ظلت إنديرا ممزقة بين «حب الدمية و… الواجب تجاه وطنها». في نهاية الصراع أخذت إنديرا دميتها بنفسها يومًا ما على سطح آناند بهافان وأحرقتها. وبعدها مرضت وارتفعت درجة حرارتها. وبعد أن كبرت اعترفت قائلة: «إلى اليوم أكره إشعال عود ثقاب.»6

كانت النيران التي أُضرمت في الملابس وأحرقت جسد الدمية هما أول حريقين في حياة قيست، مثلها مثل حياة الهندوسيين، بالحرائق التي تتلازم مع طقوس الحياة المختلفة؛ مثل الزواج، ومراسم تسمية الأطفال، والعبادة، وإحراق الجثث، التي تحمل بين طياتها جميعًا فكرة الميلاد أو تناسخ الأرواح، وفي الوقت الذي تذكرت فيه إنديرا غاندي ذكريات الطفولة تلك عام ١٩٨٠ كانت تعرف أن حياتها مليئة بالكثير من هذه المحطات المشتعلة، ولحظات العودة، فاختارت بذلك رمزًا للتدمير والبعث.

مع هذا، وبدلًا من هذه الصورة الأسطورية، كان هناك شعور بالندم فحسب على مولد أنثى في نوفمبر عام ١٩١٧. غير أن هذا الحزن لم يزعج الأبوين طويلًا. فكامالا نهرو لم تزل في الثامنة عشرة من عمرها فقط، وزوجها في الثمانية والعشرين، ولم يمر على زواجهما إلا أقل من عامين، ولم يكن أحد يتوقع أن يكون هذا المولود هو طفلهما الوحيد. اختار موتيلال نهرو للطفلة اسم والدته إندراني الذي تغير ليصبح إنديرا الأكثر حداثة وملاءمة، وأضاف جواهرلال الاسم البوذي بري يادارشيني الذي يعني «محبب للنظر» ويعني أيضًا «الشخص الذي يُظهر الخير». رسم أحد العلماء المتبحرين الخريطة التنجيمية للطفلة بلا نبوءات مأساوية أو ثورية. وأقيم حفل تسمية كبير. ثم عادت الحياة الطبيعية في آناند بهافان إلى مجراها بعد فترة سادت فيها الإثارة.

لم يكن مولد طفلة أنثى كارثة في أسرة أرستقراطية ثرية مثل أسرة نهرو، بل كان له توابع بسيطة في نظر والديها فقط بالطبع. وكتبت عنها الشاعرة والزعيمة القومية سروجيني نايدو من مدراس قائلة: «قبلاتي لروح الهند الجديدة»، ولكن هذا لم يكن سوى إشارة ضمنية لواحدة من قصائد السيدة نايدو الحديثة، وليست نبوءة.7 شغفت بالطفلة والدتها كامالا وجدها موتيلال (الذي أحضر لها عربة أطفال إنجليزية)، ولكنها لم تكن بالنسبة لذلك المنزل الضخم الذي يصل عدد أفراده إلى المائة (بكل الخدم) فردًا مهمًّا. في أعوامها الأولى كانت إنديرا صغيرة الحجم، غير متطفلة، لا تتسبب في مشكلات تذكر، ولا تجذب كثيرًا من الاهتمام. وفي إحدى المرات وبعد أن أصبحت إنديرا رئيسة للوزراء سألها ابن عمها بريج كومارنهرو — الذي نشأ في مدينة الله آباد وعاش في قصر آناند بهافان في عشرينيات القرن العشرين — أين كانت طوال تلك السنين؛ إذ لا تحوي مخيلته ذكريات عنها. أجابته: «كنت هناك، لكن أحدًا لم يكن يلاحظني.»8 ومع ذلك فما إن تخطت إنديرا مرحلة الطفولة حتى صارت عنصرًا أساسيًّا لا يُستبعد من النشاط السياسي الذي استحوذ سريعًا على المنزل. كانت في قلب الأحداث، في البداية تحت الأقدام ثم في المشهد العام.

•••

قبل مولد إنديرا بعام كان جواهرلال قد قابل مهنداس غاندي في اجتماع حزب المؤتمر القومي الهندي الذي عقد بمدينة لكناو عام ١٩١٦، الحزب الذي حقق الاستقلال من بريطانيا. كانت هذه المقابلة حاسمة إذ كان لغاندي تأثير فعلي وعميق على جواهرلال. فقد ركز غاندي على وطنية جواهرلال التي لم تتبلور بصورة كاملة، ووجه آراءه لتكون أكثر تطرفًا على نحو أقلق موتيلال الذي كان يفضل انتهاج سياسات أكثر تحفظًا. بشكل ما أصبح غاندي سريعًا يُمثل لجواهرلال صورة أبوية منافسة، ومن ثَم رأى موتيلال أن غاندي يمثل له تهديدًا من الناحية الشخصية إضافة لكونه موضع شك من الناحية السياسية. وعندئذٍ فضل موتيلال تحدي الأسد في عرينه، ودعا غاندي إلى مدينة الله آباد لإجراء مناقشات معه. في مطلع مارس عام ١٩١٩ وصل غاندي، مرتديًا مئزره لين القماش، إلى آناند بهافان ونزل في الجزء الهندوسي الخاص بسواروب راني في المنزل، حيث يمكنه تناول وجباته النباتية على الأرض، واستخدام المراحيض هندية الطراز الخاصة بالخدم. كانت له مع موتيلال محادثات خاصة في المكتبة، وبعد عدة أيام نصح غاندي جواهرلال بالتخفيف من نشاطه السياسي احترامًا لوالده وعدم تحديه أو حتى الشجار معه في هذه المرحلة. من الواضح أن الطريق كان مسدودًا في النقاش مع موتيلال في مكتبته المصفوفة بالكتب، ولكن غاندي كان يرغب في انتظار التطورات. ومن ثَم نصح تابعه الشاب بالصبر.

لم يكن على الاثنين الانتظار كثيرًا. ففي ١٨ مارس ١٩١٩، فقط بعد بضعة أيام من مغادرة غاندي لآناند بهافان، فرض البريطانيون «قانون رولات» الذي سمح بمد السلطة الممنوحة أثناء الحرب التي تشمل القبض على المشتبه فيهم واعتقالهم دون محاكمة. في تلك الليلة حلم غاندي بالمعنى الحرفي للكلمة (إذ جاءت له الفكرة في حلم) بخطة للاحتجاج على هذا القانون الظالم القمعي، عن طريق تنظيم إضراب عام على مستوى الدولة مصحوب بالصوم والصلوات الجماعية. وهكذا أطلقت الساتياجراها — التي تعني العصيان المدني أو المقاومة السلمية — في السادس من أبريل. وبعدها بأسبوع في الثالث عشر، في أمريتسار بمنطقة البنجاب، قوبلت مظاهرة سلمية داخل حديقة تدعى «جالينوالا باغ» المحاطة بالأسوار بمئات الرصاصات التي أطلقها جنود بريطانيون تحت إمرة الجنرال ريجينالد داير. وبمرور الوقت «أُعيد النظام»، وقُتل ٣٧٩ من الرجال والنساء والأطفال غير المسلحين الذين وقعوا ضحايا لهذه المكيدة.

عندما وصلت أخبار مذبحة أمريتسار — أكثر الأحداث المشينة في تاريخ الحكم البريطاني في الهند — إلى آناند بهافان أنجزت في لحظةٍ ما عجز عنه غاندي المتميز بقدرته على الفصاحة والإقناع في ساعات من النقاش؛ فقد انضم موتيلال نهرو إلى الساتياجراها. وكما قالت إنديرا نفسها فيما بعد: «مثلت جاينوالا باغ نقطة تحول … فقد تنحى التردد والشك … وكان ذلك عندما اقتربت العائلة أكثر من المهاتما غاندي وتغيَّر أسلوب حياتنا كلية.»9
ولم يكن هذا على مستوى العائلة جميعها. ففيما عدا كامالا كانت نساء آناند بهافان معاديات في البداية لغاندي وقاومن تأثيره. لم تفهم سواروب راني، على الأخص، كيف — أو لماذا — يمكن لهذا الرجل النحيل الذي يرتدي الدوتي (إزار هندي) وبنظامه الصحي والغذائي أن يتدخل في حياة أسرتها وينصحها فيما يخص الشئون الشخصية والسياسية. في حقيقة الأمر شعرت سواروب راني «غريزيًّا [بأن هذا الرجل] … عدو لبيتها.»10 أصبح وضع غاندي الآن في المنزل يتسم بالأهمية والتأثير البالغ. كانت إنديرا لا تتذكر إلا فيما ندر وقتًا لم يكن فيه «كبير العائلة الذي كنت أستأنس برأيه في الصعوبات والمشكلات.»11 فلم يكن هناك موضوع أو صعوبة كبيرة كانت أو صغيرة على «بابو»، كما كان آل نهرو يطلقون عليه، سواء كانت معضلات أخلاقية أو أهدافًا سياسية حتى مشكلات الهضم وهل على السيدات الصغار وضع أحمر الشفاه أم لا. كان غاندي يُسدي النصح في جميع المجالات، ومع أنه ليس ديكتاتوريًّا فكلمته كانت تحدد الأحداث لأعوام في عائلة نهرو بالإضافة إلى الحركة الوطنية.

لم تغفل الحكومة البريطانية وجهاز مخابراتها في الهند عن تقرب موتيلال وجواهرلال من غاندي وتورطهما في الساتياجراها. ففي مايو ١٩٢٠ اصطحب جواهرلال والدته وأختيه نان وبيتي وزوجته كامالا وابنته البالغة من العمر عامين ونصفًا إلى مدينة موسوري الشمالية حيث التلال والجو أكثر اعتدالًا. كان فصل الصيف في مدينة الله آباد شديد الحرارة؛ إذ تصل في المتوسط إلى ٤٠ درجة مئوية وأعلى، وكانت نساء أسرة نهرو يقضين الصيف دائمًا في التلال. غير أن الجديد في ذلك العام أن سواروب راني وكامالا لم تكونا بصحة جيدة، فقد كان من المعروف أن صحة سواروب راني «ضعيفة» في معظم فترات حياتها، ولم تتحسن صحة كامالا أبدًا عما كانت عليه وقت زواجها من جواهرلال عام ١٩١٦. فكانت الرسائل بين جواهرلال وموتيلال وكذلك بينهما وبين غاندي تحمل أسئلة عن أعراض مرضية تظهر على كامالا، يبدو معظمها في هذه السنين المبكرة أعراضًا جسدية ذات أصل نفسي. كانت كامالا تعاني صداعًا وإرهاقًا وفقدان الشهية والوزن وصعوبات في التنفس، و«نوبات قلبية» لم تكن في حقيقتها إلا خفقانًا سريعًا للقلب.

ولأنها شخص بسيط ومتحفظ بالإضافة إلى عدم تمكنها من التحدث بالإنجليزية بفصاحة كانت كامالا امرأة تحتقرها حماتها وأختا زوجها، خاصة ساروب أونان التي لم تكن تحاول إخفاء حب تملكها لأخيها وازدرائها لزوجته غير المتفرنجة. في حقيقة الأمر كانت النسوة في قصر آناند بهافان ممتلئات بالغيرة والعداوة والاستياء، وعانت كامالا بشدة لسنين في هذا الجو. وكان يمكن للمرض أن يحتجزها في غرفتها وينتشلها من هذه المعركة. وعلى نحو لا يدعو للدهشة لم تتحسن صحة كامالا عندما ذهبت إلى التلال بصحبة حماتها وأختَيْ زوجها.

عندما وصل آل نهرو إلى موسوري في مايو ١٩٢٠ أخذوا جناحًا بفندق سافوي. وكان هناك وفد أفعاني أيضًا مقيم في الفندق جاء إلى موسوري من أجل التفاوض مع البريطانيين بعد الحرب الأفغانية القصيرة في السنة السابقة. فرأت الحكومة البريطانية هدفًا خبيثًا خلف هذه المصادفة وانتهت إلى أن جواهرلال نهرو قد أتى إلى التلال في سبيل التحالف مع الأفغان. وفي اليوم التالي لوصول آل نهرو استدعى المراقب المحلي للشرطة جواهرلال وطلب منه عدم الاتصال بالأفغان، في حقيقة الأمر لم تكن لدى نهرو أي نوايا للاتصال بالوفد الأفغاني، ولكنه رفض من حيث المبدأ الانصياع لمثل هذا الأمر.

في اليوم التالي صدر أمر إبعاد بحق جواهرلال مفاده أن عليه مغادرة المقاطعة خلال أربع وعشرين ساعة. لم يكن لدى جواهرلال خيار سوى العودة إلى مدينة الله آباد تاركًا والدته المريضة وزوجته وأختيه وحدهن في موسوري. ولم تكن هذه سوى واحدة من المرات العديدة التي اختفى فيها والد إنديرا وابتعد عنها أثناء طفولتها.

ثار موتيلال نهرو من قرار ترحيل ابنه وأقنع صديقه القديم سير هاركورت بتلر — حاكم الأقاليم المتحدة — بإلغاء هذا «الأمر الغبي». عندما عاد جواهرلال إلى موسوري في صباح أحد الأيام الصافية في يونيو كان أول ما رآه في ساحة سافوي هو أحد الوزراء الأفغان يمسك إنديرا بين ذراعيه. فقد علم الأفغان من الصحف عن أمر الإبعاد، وفي أثناء غياب جواهرلال كانوا يرسلون الزهور والفواكه إلى سواروب راني وكامالا كل يوم، وكانوا يصطحبون إنديرا للعب في الخارج كل صباح.12

في سبتمبر ١٩٢٠ بعد وقت قصير من عودتهم من موسوري سافرت إنديرا، التي لم تتم الثالثة بعد، مع والديها وجدها إلى أول اجتماع لحزب المؤتمر الهندي، وهي دورة خاصة أقيمت في كالكتا. لا تتذكر إنديرا ما وقع في هذا الحدث التاريخي فيما تلا من سنين، ولكنها شعرت أن حضورها وقت إطلاق غاندي حركة المقاطعة وتزعمه خلال عام حركة سواراج — الحكم الذاتي في الهند — كان ذا أهمية كبيرة.

عند عودتهم إلى الله آباد كانت النار في آناند بهافان قد اشتعلت ولا سبيل لعودة الأمور إلى ما كانت عليه ثانية. فتخلى موتيلال عن مقعده في مجلس الإقليم، وترك مهنة المحاماة التي كانت تدر عليه الربح (مع أنه استمر في ممارستها على نحو متقطع عندما كان يحتاج إلى المال)، وأخرج ابنته الصغرى بيتي من المدرسة، وتخلص من الخيول والعربات، وباع كل سياراته فيما عدا واحدة فقط، وغيَّر أسلوب الطهي في آناند بهافان من الطريقة الأوروبية إلى الطريقة الهندية، وأغلق قبو الخمر، وقلص عدد خدمه وبدل ملابس الباقين منهم من الزي ذي اللونين الذهبي والنبيتي إلى الخادي (الذي أطلق عليه جواهرلال فيما بعد «رداء الحرية»). أما إنديرا فكان هذا الأسلوب من التقشف هو أسلوب الحياة الوحيد الذي يمكنها أن تتذكره في آناند بهافان والذي أصبح فيما بعد طريقة حياة.

لم تكن مظاهر الحياة وشكلها الخارجي في آناند بهافان هو ما تغير على نحو أساسي فقط بعد بداية حركة عدم التعاون، فالآن كرس موتيلال وجواهرلال كل وقتهما وطاقتهما للنشاط السياسي. وسجل جواهرلال في سيرته الذاتية كيف «أصبحت منهمكًا تمامًا في الحركة … لقد تركت كل ارتباطاتي الأخرى ومعارفي وأصدقائي القدامى وكتبي، حتى الجرائد … ومع قوة الروابط العائلية فقد نسيت تقريبًا عائلتي وزوجتي وابنتي … لقد عشت في مراكز الشرطة واجتماعات اللجنة والحشود.»13 وبعد أعوام عندما كان جواهرلال في السجن كان إهماله لعائلته يراوده بشدة، ولكنه في الوقت الذي كانت فيه السياسة قد استحوذت عليه لم يكن يوجد ما يؤثر عليه حتى إن خطابًا تأنيبيًّا من والده (الذي كان بعيدًا عن المنزل) لم يكن له أدنى أثر عليه:
«هل كانت لديك أي مساحة من الوقت للعناية بالأبقار المسكينة في آناند بهافان؟ ليس لأنهم أبقار بالفعل بل لأنهم تراجعوا إلى منزلة البقر لا لسبب غير إهمال لا يستحق سوى اللوم من جانبك وجانبي، وأقصد بالأبقار والدتك وزوجتك وابنتك وأختيك؟ لست أدري بأي حق أو عقل ندعي أننا نعمل لمصلحة العامة — والدولة كلها — حين نخفق بشدة في مد يد العون لأشد المتطلبات أهمية لأقاربنا ولمن نحن أقارب لهم.»14
بعيدًا عن رعاية «الأبقار المسكينة» في آناند بهافان ابتعد جواهرلال عن عائلته تمامًا عندما زج به في السجن — مع موتيلال نفسه — في ديسمبر ١٩٢١. كان أمير ويلز (الملك إدوارد الثامن فيما بعد) وحاشيته (وفي ذلك لويس مونتباتن [الذي سيتولى منصب حاكم الهند فيما بعد] البالغ من العمر عندئذٍ واحدًا وعشرين عامًا) في زيارة إلى مدينة الله آباد في الشهر السابق ضمن جولة أمير ويلز الذي سيصبح في المستقبل ملك إنجلترا وإمبراطور الهند. ولكن بدلًا من الترحيب بالأمير استقبلت مدينة الله آباد — شأنها شأن بقية مدن الهند — الأمير وحاشيته بإضراب عام؛ فأصبحت المدينة شوارع فارغة ومتاجر موصدة. وتحولت المدينة إلى «مدينة موتى» في تباين حاد مع الترحيب الذي قوبلت به آني بيسانت قبل أربعة أعوام. مضى الموكب في مسيرته الملكية عبر الشوارع الصامتة المخيفة «دونما شخص يشاهده».15 نظم موتيلال نهرو إضراب مدينة الله آباد ضد هذه الزيارة الملكية في ٦ ديسمبر واعتقل في آناند بهافان. واعتقل ابنه أيضًا الذي سجل في اليوميات التي كتبها في السجن أنه بعد هذه الاعتقالات، وبينما كانت الشرطة في انتظار حزم متعلقات موتيلال وجواهرلال كانت سواروب راني وكامالا ونان جميعهن هادئات، في حين كانت إنديرا، التي كانت تبلغ الرابعة عندئذٍ، «تصدر الضجيج اعتراضًا على طعامها وضاغطة على أعصاب الآخرين عامة.»16

أقيمت محاكمة موتيلال في اليوم التالي في سجن نايني في الله آباد واتُّهم بأنه متطوع في حزب المؤتمر الهندي، وهي جريمة جنائية لأن البريطانيين قد حظروا حزب المؤتمر القومي الهندي. احتشد الناس في قاعة المحكمة؛ موتيلال نهرو، المحامي الشهير في الله آباد، الآن يرفض علانية النظام القانوني البريطاني الذي مارسه واعتنقه لفترة طويلة عن طريق رفضه الدفاع عن نفسه أمام محامي الحكومة، الذي كان صديقًا قديمًا وزميلًا سابقًا.

ومثلما ورد في جميع الصحف جلس موتيلال في قفص الاتهام وإنديرا جالسة على قدميه طوال مدة المحاكمة. كان هذا أول ظهور سياسي لها، ليس كمشاهدة فقط بل كمشاركة في هذا الحدث القانوني. ما السبب وراء استخدام موتيلال لحفيدته — مع موافقة جواهرلال وكامالا بوضوح — بهذه الطريقة؟ يمكن أن يكون الهدف هو إطلاقها في النشاط السياسي، ولكن سواء أكان هذا بقصد أو دونما قصد، فقد مثلت إنديرا أداة ورمزًا في قاعة المحكمة؛ إذ إنها تشخيص للبراءة التي تعرض ما سماه موتيلال «مهزلة» الإجراءات. يمكن أن تكون إنديرا قد استمتعت بالاهتمام الموجه ناحيتها أو أن تكون الظروف الغريبة المحيطة بها قد ثبتتها؛ إذ أوردت جميع الصحف أن تصرفاتها كانت خالية من الأخطاء.

حُكم على موتيلال بستة شهور من السجن وغرامة ٥٠٠ روبية، وحُكم على جواهرلال بعقوبة مشابهة بسبب توزيعه لمنشورات تؤيد عملية الإضراب. ولكنهما لم يعدما الصحبة الجيدة؛ فقد اعتقل البريطانيون ثلاثين ألف شخص من أرجاء الهند المتفرقة في الفترة من ديسمبر ١٩٢٢ إلى يناير ١٩٢٣ فيما سماه جواهرلال «إفراطًا في القبض والاعتقالات».17 وسُجن موتيلال وجواهرلال في سجن لكناو الذي يقع على بُعد ١٤٠ ميلًا شمال غرب مدينة الله آباد.
في المحكمة رفضت عائلة نهرو الدفاع عن نفسها، وفي السجن رفضوا دفع الغرامات المحددة عليهم مما نتج عنه ذهاب الشرطة إلى قصر آناند بهافان لجمع ما تبقى من أشياء ثمينة، كان معظمها قطعًا من الأثاث. شاهدت سواروب راني وكامالا عملية السلب هذه دونما تذمر، في حين اعترضت إنديرا بشدة، «وأعربت عن استيائها الشديد»، وكادت أن تبتر إصبع أحد رجال الشرطة وهي تلوح في وجهه مهددة بسكين الخبز.18

في أواخر ديسمبر ١٩٢١، وبعد أسابيع قليلة من سجن والدها وجدها في لكناو، قامت إنديرا بأول زيارة لها لصومعة غاندي المعروفة باسم «سابرماتي أشرام» الواقعة على ضفاف نهر سابرماتي، وهي أول رحلة لها في قطار الدرجة الثالثة. كانت هذه الرحلة شاقة للغاية على جميع نسوة آل نهرو؛ سواروب راني وكامالا وبيتي وإنديرا. وخلال رحلة القطار الطويلة إلى مدينة أحمد آباد في ولاية جوجارات جلست السيدات على مقاعد خشبية صلبة في إحدى عربات الدرجة الثالثة القذرة والمزدحمة. وبينما كان القطار يشق طريقه عبر سهول شمال الهند المنبسطة والمتشابهة كانت النساء والأطفال في كل محطة يتوقف فيها يحتشدن عند نافذة عربة آل نهرو ويمطرنهن بالطعام والزهور. وفي ذلك الوقت كانت شهرة آل نهرو تكاد تعادل شهرة غاندي نفسه، وشعر الناس بالتضامن الشديد مع هؤلاء النسوة اللائي سجن الإنجليز لهن الابن والأب والزوج.

في أحمد آباد حضر نساء آل نهرو مع غاندي الاجتماع السنوي لحزب المؤتمر الهندي، وعلى عكس السنة السابقة عندما أطلق غاندي الساتياجراها تذكرت إنديرا هذه الجلسة. في ذلك الحين ارتدى حزب المؤتمر عباءة الحركات الجماهيرية. وفي أحمد آباد رفرف العلم الهندي بألوانه الثلاثة الأخضر والأبيض والزعفراني، وجلس الجميع على الأرض بدلًا من الكراسي، وأُعلنت الهندية لغة قومية والخادي رداءً وطنيًّا. وحيَّت الجماهير نساء آل نهرو بصفتهن ممثلات لموتيلال وجواهرلال المحتجزين.

بعد ذلك ذهبن مع غاندي إلى سابرماتي أشرام على ضفاف نهر سابرماتي، التي يحيط بها مجموعة من الأكواخ المطلية بالجير الأبيض المتكلس، وتقع داخل بستان من الأشجار، ويحيط بها عشرون أكر من المزارع. وأسفل هذه المنازل يجري النهر حيث تغسل النساء الثياب، ويأخذ الأطفال الأبقار والمواشي ليسقوها. إنها منطقة يغلب عليها الطابع الرعوي، فيما عدا وجود الثعابين التي يحرم قتلها، ولكنها لم تكن مكانًا للحياة السعيدة إلا فيما ندر. لقد كان السبعون أو ما يقارب هذا العدد من سكان هذا المجتمع من السانياسيين — أي الزهاد — الذين تعهَّدوا بالعزوف عن الشهوات (ولو كانوا متزوجين)، وعدم ممارسة العنف، والاعتدال في الطعام، وعدم الاعتداد بالفروق الطبقية. ومع ذلك تطلبت طريقة الحياة المتقشفة تلك دخلًا أكبر مما كانت تُنتجه سابرماتي أشرام، مما جعل تمويل المعيشة فيها يتم عن طريق قادة صناعة النسيج في أحمد آباد وبارونات الشحن في بومباي. وقالت سروجيني نايدو عن هذه المسألة فيما بعد مازحة إن الأمر تطلب الكثير من المال ليحتفظ غاندي بفقره.

كان اليوم في هذا المجتمع يبدأ في الرابعة صباحًا بأداء الصلوات على ضفة النهر، ويُقضى اليوم بنظام دقيق صارم في ممارسة أعمال الغزل، وبذر البذور، وجمع الثمار، وسحب المياه، والطهي والكنس والغسيل وتنظيف المراحيض. وعلى الرغم من الحصول على تكاليف الإعاشة من الشركات الكبيرة فإن غاندي سعى إلى أن يصنع في سابرماتي مدينة فاضلة تتمتع بالاكتفاء الذاتي وترتكز على نظام من القيم السامية التي قال أحد كتاب سيرته الذاتية إنها تتمثل في «الصدق، ونبذ العنف، واقتصاديات الأخلاق، والتعليم الحقيقي، والنظام الاجتماعي القائم على المساواة بين الطبقات.»19

مع ذلك فإن نساء آل نهرو لم يكنَّ ليرين شيئًا أقل مثالية من هذا، فيما عدا إنديرا التي كانت تتسم بالمرونة، وكامالا التقليدية المتقشفة بطبعها. فقد سكن غرفة في فندق خالية من الأثاث حتى إنهن كن ينمن على الأرض، ويستيقظن في الساعة الرابعة صباحًا شأنهن شأن الآخرين، ويأكلن كميات ضئيلة من الطعام الخالي من التوابل، ويقضين حاجتهن في مراحيض مشتركة تختلف تمام الاختلاف عن المراحيض الأوروبية التي كن يستخدمنها في آناند بهافان. وحتى إنديرا، وهي لا تأكل إلا ما يعجبها، كانت جائعة معظم الوقت. ولكن مع هذا وتدريجيًّا مع الوقت تكيفت نساء آل نهرو مع الوضع، خاصة خلال المناقشات اليومية مع «بابو» في كوخه الشبيه بالزنزانة. كانت لدى غاندي قدرة على سحر لُب من أمامه وإقناعه ونصحه. وعندما عدن إلى مدينة الله آباد كانت نساء آل نهرو، وفيهن سواروب راني المعارضة، قد اعتنقن مبدأ الساتياجراها.

أطلق سراح جواهرلال من سجن لوكناو مبكرًا في ٣ مارس ١٩٢٢ غير أنه أُعيد القبض عليه وسجنه مرة ثانية في ١١ مايو بعد اتهامه بتهمة جنائية هي «الترويع والابتزاز»، وتضمن قرار الاتهام مقاطعته لتجار مدينة الله آباد الذين يبيعون القماش الأجنبي. حضرت إنديرا محاكمة والدها مثلما حضرت محاكمة جدها في السنة السابقة، ولكنها جلست هذه المرة مع والدتها على مقاعد المشاهدين وليس في قفص الاتهام. ومع هذا فحضورها كان مميزًا في قاعة المحكمة مرة أخرى حيث ذكرت الصحف أنها تحدثت بصوت عالٍ قبل بدء المحاكمة وسألت: «يا أمي، هل سيعرضون فيلمًا؟»20
استمرت مدة السجن الثانية لجواهرلال ثمانية أشهر حتى نهاية يناير ١٩٢٣. سُجن جواهرلال في البداية في سجن مدينة الله آباد ثم ثانية في سجن لكناو، وفي هذا الجو من الوحدة تسنى له أخيرًا الوقت لكي يهتم بأمر أفراد عائلته، خاصة إنديرا التي لم تكن صحتها بخير أبدًا معظم عام ١٩٢٢. وفي نهاية شهر مايو كتب موتيلال — الذي نُقل إلى سجن نايني الذي سيطلق سراحه منه بعد فترة وجيزة — معبرًا عن قلقه بشأن إندو واصفًا إياها بالتي «تدفع ثمن خطايا أبيها وجدها».21 فقد قال موتيلال إن إنديرا بدت شاحبة وهزيلة وفاترة الهمة في آخر زيارة لكامالا وإنديرا له بالسجن.
تسببت الحرارة الملتهبة في صيف مدينة الله آباد في وهن جسد إنديرا، ولكن كامالا وسواروب راني رفضتا الذهاب إلى تلال موسوري والتنعم بالهواء العليل في الوقت الذي يتصبب فيه زوجاهما عرقًا في السجن. وبدلًا من هذا بقيت السيدات في آناند بهافان، وكن يقمن كل شهر برحلة إلى لكناو في طقس حار خانق ومترب من أجل زيارة قصيرة لجواهرلال داخل مكتب حارس السجن. كانت هذه اللقاءات الشاقة التي هي أبعد ما تكون عن الخصوصية مراقبة دائمًا من أحد مسئولي السجن. كان جواهرلال وزائراته — سواروب راني وكامالا وإنديرا وبيتي — يتوقون لمثل هذه الزيارات ثم يصيبهم الإحباط والاكتئاب فيما بعد بسبب عدم قدرة أي منهم على التعبير عن مشاعره على نحو كافٍ. فقد كان الوقت المتاح قصيرًا جدًّا، وأضفى وجود الحارس شعورًا بالإحراج عليهم. إنديرا فقط التي كانت في سن الخامسة هي من لم يكبحها هذا الموقف غير الطبيعي. سجل جواهرلال جميع هذه اللقاءات في مذكراته التي كتبها في السجن، وكتب يوم ٢٣ أكتوبر أن «إندو [كانت] نحيفة للغاية ويبدو على ملامحها الضعف بعد مرضها القاسي ومع ذلك فقد كانت مرحة».22

شهد السجن خلال عام ١٩٢٢ بداية المراسلات التي دامت لفترة طويلة بين جواهرلال وإنديرا؛ حجم ضخم من الرسائل المتبادلة التي كشفت عن أمور عدة لكل منهما، حيث إنها ظلت لعدة سنوات الطريقة الرئيسية للتواصل بينهما. في حقيقة الأمر كانت هذه هي الوسيلة الأساسية للتواصل بينهما خلال سنوات نمو وترعرع إنديرا. خلقت الرسائل بينهما قربًا مذهلًا لأن كليهما كان يكتب بغير تحفُّظ كما كانا ممن لا يشق لهم غبار في الكتابة. ولكن هذه التلقائية والانفتاح خلقا صعوبات عندما أصبح الاثنان معًا بالفعل جسدًا وروحًا. فقد كان من الصعب، بل من المستحيل، الاحتفاظ بقدر الألفة الذي صنعته الرسائل عندما آن أوان التعامل فيما بينهما وجهًا لوجه.

وفي أكتوبر ١٩٢٢ أرسل جواهرلال أول رسالة لإنديرا من السجن باللغة الهندية، ولكنه بدلها إلى الإنجليزية عندما صارت لديها القدرة على القراءة والكتابة:

حبي الكبير لابنتي الحبيبة إندو من أبيك،

تعافي سريعًا واكتبي إلى أبيك. وتعالي لرؤيتي في السجن.
أنا أشتاق لرؤيتك كثيرًا، هل استخدمت التشارخا الجديد [المغزل اليدوي الذي يشبه ذلك الذي كان غاندي يستخدمه] الذي أعطاه إليك جدك؟
أرسلي لي بعضًا من القماش الذي غزلت.
هل تصلين كل يوم مع أمك؟
أبوك23
وبعد شهر آخر كتب جواهرلال إلى إنديرا التي كانت عندئذٍ في كالكتا حيث اصطحبها موتيلال هي وكامالا للعلاج بطريقة الأمصال:

حبيبتي إنديرا،

هل تعجبك كالكتا؟ أيهما يعجبك أكثر: بومباي أم كالكتا؟ هل رأيت حديقة الحيوان هناك؟ ما أنواع الحيوانات الموجودة؟ هناك شجرة ضخمة قديمة. يمكنك رؤيتها. تأكدي من أن تكوني بصحة جيدة عندما تعودين.

والدك المحب24

لم يكن من الواضح إذا كان علاج كالكتا ناجحًا أم لا، كما هو الحال فيما يخص مرض إنديرا. كانت الأعراض التي تعانيها تشبه العديد من تلك التي لا تزال كامالا تعانيها على حد وصف رسائل موتيلال وجواهرلال، وأيضًا طبقًا لما دوَّنه جواهرلال في يومياته بالسجن؛ عانت إنديرا فقدان الوزن والشحوب والضعف، ومثل والدتها، يمكن لهذه الأعراض أن تكون ناتجة إلى حد ما عن مرض نفسي. كان جواهرلال يخشى هذا، وخشي أن تعاني إنديرا ما سماه «إعاقة عقلية» أو وسواس المرض. ومن ثَم كان أمره أن «تكون بصحة جيدة». كان جواهرلال قلقًا بشأن صحة إنديرا خلال طفولتها وكان يصمم على ممارستها للرياضة على نحو منتظم — خاصة الجري اليومي — ليجعلها قوية وسليمة البدن، وقد حارب ميول كامالا وسواروب راني والمربية لتدليلها. ومن ثَم تعلمت إنديرا في سن صغيرة أن والدها يرفض فكرة المرض، وفي المستقبل استخدمت في بعض الأحيان صحتها أو مرضها كأداة في علاقتها معه.

لكن في بدايات ١٩٢٣ كانت إنديرا تتمتع بالصحة التي يتمنى والدها رؤيتها عليها، عندما أطلق سراح جواهرلال من سجنه للمرة الثانية. في السنة السابقة لهذا كان غاندي قد ألغى حركة عدم التعاون عندما أحرق العامة اثنين وعشرين شرطيًّا حتى الموت في قرية شوري شاورا. ولكن هذا لم يُوقف نشاط الشرطة في آناند بهافان. ففي ديسمبر عام ١٩٢٢ وقبل إطلاق سراح جواهرلال بفترة وجيزة أسس موتيلال وأحد المحامين البنغاليين في مدينة الله آباد يدعى سي آر داس حزب السواراج (الاستقلال)، ولكنهم لم يخرجوا من حزب المؤتمر الهندي. انحرف حزب السواراج عن غاندي وأتباعه — وكذلك أعضاء حزب المؤتمر — فيما يخص موضوع وقف حركة عدم التعاون، وعلى نحو أكثر جدية كان أعضاء حزب السواراج يسعون إلى إنهاء مقاطعة الهيئة التشريعية. وكانوا يؤيدون الدخول في المجلس — المشاركة في الهيئات التشريعية التي أتاحها قانون الحكومة الهندية لعام ١٩١٩ — من أجل «نقل الحرب إلى معسكر الأعداء».25
وجد جواهرلال نفسه في موقف صعب لعدم موافقته على قرارات «والديه»: فقد كان معارضًا بشدة لقرار غاندي بوقف حركة عدم التعاون، ولم يكن أقل معارضة فيما يخص خطة حزب السواراج لتخريب النظام البريطاني من الداخل. ومن هنا أثير التوتر بين موتيلال وجواهرلال واجتاح المنزل. وعلى الأخص كانت أوقات الطعام تتسم بالصمت والتوتر، وتدريجيًّا أصبحت إنديرا وكامالا تأكلان معًا وحدهما في شقة الطابق الأول التي بناها موتيلال لأسرة ابنه. وصار آناند بهافان مكانًا للاجتماعات المستمرة. وذات يوم اندفعت إنديرا إلى أحد اجتماعات اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر صارخة بأعلى صوتها: «ممنوع الدخول دون إذن»، لتفعل بذلك ما تنادي بعدم فعله.26

•••

وعندما كبرت كان يحلو لإنديرا في بعض الأحيان أن تصف طفولتها بالفترة التي فيها «أحيطت بالحب والطاقة». ونفت أن تكون هذه الفترة سببَّت أي جراح لها.27 ولكنها في اللحظات التي تكون فيها أقل تحفظًا تتحدث عن أمور مختلفة. ففي إحدى اللقاءات الصريحة شكت إنديرا أنها «لم تعرف كامالا بما فيه الكفاية». واستطردت: «لم أعرف أحدًا بما فيه الكفاية، لقد كان أحدنا يرى الآخر بصعوبة لأن أفراد المنزل يخرجون في الصباح الباكر لأعمالهم أو لمتابعة أمور مختلفة. وفي بعض الأحيان نلتقي على مائدة الطعام، وفي أغلب الأحيان لم نكن نلتقي … لقد كان المنزل بأكمله في [تلك] الحالة من التوتر حتى إن أحدًا لم يحيَ حياة طبيعية.»28
لكن الأمر لم يكن يقتصر على ذلك النشاط «غير الطبيعي» المستمر، و«حملات الشرطة» والاعتقالات وما إلى ذلك، وهو ما اعتبرته إنديرا سببًا للحياة المشحونة في آناند بهافان. فهناك الجو المتوتر الناتج عن الخلاف السياسي بين موتيلال وجواهرلال حول قضية الدخول في المجلس، ومع نمو إنديرا أصبحت على وعي بعدم موافقة جدتها سواروب راني وأخت جدتها الأرملة على آراء ومواقف والديها. وحسب وصف إنديرا لأكبر خالاتها بيبي آما بـ «الساحرة الشريرة» سواء في آناند بهافان أو في طفولة إنديرا. ترملت بيبي آما في عمر الثمانية عشر، وعاشت بقية حياتها الطويلة مع أختها الصغرى سواروب راني وفرضت سلطتها عليها، وأدارت المنزل على نحو فعَّال. ووصفها بريج كومار نهرو بأنها «امرأة بائسة تسبب المشكلات … بغيضة حتى إنها لا تحتمل رؤية إنسان سعيد.»29 ولطفلة مثل إنديرا كانت هذه المرأة مخيفة أيضًا. فهي أبعد ما تكون عن الجاذبية، ومثلها مثل معظم الأرامل الهنديات ترتدي ساريًا أبيض غير مرصع بالجواهر، ولا تضع البيندي، أي العلامة التي توضع على الجبهة وتزين رءوس السيدات الهندوسيات المتزوجات. فقد كانت تعتنق القاعدة القائلة على الأرامل العيش في أحياء منفصلة، بعيدًا عن باقي الأسرة، وعليهن طهي طعامهن غير المحتوي على التوابل وأكله بمعزل عن الآخرين.
وفي ذلك الحين كان الترمل يعني للنسوة الهنديات العذاب المقيم، وهو بديل ليس أفضل كثيرًا من إلقاء أنفسهن في أكوام الحطب التي تحترق فيها جثث أزواجهن، أما بيبي آما فقد واجهت مصيرها القاسي بكل ما تملك من قوة. هذا المصير الذي أدى إلى اكتئابها واستيائها من جواهرلال وكامالا على الأخص واستنكارها لمواقفهما وأفكارهما. رأت إنديرا وهي طفلة صغيرة خالتها الكبرى على أنها «الشر بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ» لأنها سمعت مصادفة بيبي آما وهي تنتقد والديها، قالت إنديرا في هذا الشأن: «لقد كنت أود حمايتهما للغاية … وكنت أعرف أنها تستنكر … طريقتهما في الحياة وفكرة التخلي عن الأشياء. فقد كانت تعتقد أن هذا غباء شديد. فكيف لأسرة تمتلك كل سبل الرفاهية أن تنحيها جانبًا … مقابل لا شيء.»30
وعلى النقيض من أختها لم تتحول بيبي آما إلى الساتياجراها أبدًا. فلكونها أرملة هندوسية كان لزامًا عليها أن تكون من السانياسيين وترفض كل المتع المادية، لكنها لم تسامح باقي أفراد المنزل في رفضهم طواعية «كل سبل الرفاهية». هذا بالإضافة إلى أنها الوحيدة من قلائل في العائلة التي كانت تود العناية بإنديرا وكان عندها الوقت لذلك. وعلى كره منها، سمحت إنديرا لبيبي آما بمصاحبتها في الفراش، كانت تقول لها: «يمكنك المجيء وأن تقصي لي حكايات قبل النوم، لكني لن أنظر إليك.»31 ورفضت أكل الطعام الشهي ودعوات الغداء الذي كانت خالتها الكبرى تعده لها في مطبخها المنفصل.
كان هناك شخص آخر في العائلة يُصيب إنديرا بالضيق، عمتها نان التي كانت مصدرًا للتوتر والحزن بسبب عداوتها لكامالا نهرو. كانت نان التي تصغر كامالا بعام واحد تعشق جواهرلال وتستاء من زوجة أخيها منذ لحظة زواجها بجواهرلال عام ١٩١٦. وأصبحت إنديرا بالطبع على وعي بهذا عندما كبرت. خف الجو المشحون بالغيرة على نحو طفيف في آناند بهافان فقط عندما تزوجت نان من رانجيت بانديت عام ١٩٢١.32 ولكن الإهمال والإهانات استمرت؛ فلم تكن كامالا على سبيل المثال ممن يُدعَون لمشاهدة فيلم إنجليزي مع الآخرين لأنهم كانوا يقولون إن لغتها الإنجليزية ضعيفة للغاية. وأصبحت الأمور أكثر سوءًا في السنين التالية عندما صار جواهرلال بعيدًا عن المنزل في السجن لمعظم الوقت وساءت صحة كامالا، وعندما أصبحت إنديرا نفسها هدفًا لعداوة عمتها. على نحو أساسي كانت النساء البالغات — سواروب راني ونان وكامالا — يتبارين في الحصول على قدر من وقت جواهرلال المحدود واهتمامه وحبه. كانت كامالا هي أكثر الثلاثة تحفُّظًا وأيضًا أكثرهن عزة وعلى نحو متوقع كانت أكثرهن معاناة، كما لاحظت إنديرا. وعلى ما يبدو أن جواهرلال نفسه لفترة كبيرة على الأقل كان مشغولًا، حتى إنه لم يكن على وعي بالعلاقات المضطربة غير السعيدة بين والدته وأخته وزوجته.
وكطفلة صغيرة كانت إنديرا تستطيع الهروب من هذا الجو المشحون في آناند بهافان عندما تذهب لزيارة جديها لوالدتها في منزلهما التقليدي الضخم الذي يعرف باسم «أتال هاوس» الكائن في سوق سيتا رام بمدينة دلهي القديمة. تميزت علاقة إنديرا بجدتها راجباتي كول بالحميمية والبساطة، إلى جانب أن العائلة الكبيرة الممتدة كلها كانت تُطلق لها العِنان وتدللها. فأرسلت إنديرا إلى روضة أطفال موجودة في مدرسة «مودرن سكول» وهي مدرسة أنشأها القوميون وكانت قد افتتحت في وقت قريب آنذاك، وكانوا يصطحبونها في زيارات للجيران. وتحديدًا من بين هؤلاء الجيران كان هناك ولد في العاشرة من العمر آنذاك اسمه بارميشوار ناران هكسار، يتذكر بارميشوار إندو الصغيرة الصامتة ذات العينين الواسعتين أثناء جلوسها على كتف أحد الخدم، ونساء الجيران يولينها عناية فائقة واللائي كن يقلن بشكل مستمر «أيتها المسكينة» وهن يربتن عليها.33 فعلى عكس الإهمال واللامبالاة التي تعرضت لها في دلهي كانت إنديرا طفلة مدللة من الجميع وفي ذلك الخدم الذين كانوا يحضرون لها الخبز المقلي والحليب الساخن كل صباح.
لكن لم تكن إنديرا تبقى مع جديها لأمها فترة أطول من شهر كل عام. وعندما تعود إلى آناند بهافان تستمر الطقوس العائلية الأساسية لتعطي شكلًا من أشكال الاستقرار وسط التغير والخلاف. توقظ سواروب راني إنديرا غالبًا عند شروق الشمس وتصطحبها إلى نهر الجانج ثم إلى المعبد. وإذا كان جواهرلال في المنزل تقرأ الجيتا في الصباح مع والديها، ثم تمارس في حدائق آناند بهافان الضخمة رياضة الجري تحت الإشراف. كان تجار السوق والباعة الجائلون يأتون كل يوم إلى المنزل لبيع الخضراوات والفواكه والصابون والمتطلبات الأخرى، كما كان الحال مع باعة الآيس كريم والوجبات الخفيفة اللذيذة. وكان الخياطون يجلسون القرفصاء في الشرفة لخياطة الساري والسترات الطويلة وسراويلات البيجامات. ومن وقت لآخر كان القائمون بألعاب التسلية أيضًا يحضرون: من أمثلة رجل الدب الذي يأتي وبصحبته دبه الذي يؤدي الألعاب، ومُلاعب القردة، والبهلوانات والسحرة والمغنين. وفي كل عام، في عيد ميلادها، تُوزن إنديرا على ميزان تكون إنديرا في كفة وفي الكفة الأخرى صينية نحاسية من الأرز، ويتم زيادة كمية الأرز إلى أن تتعادل الكفتان، ثم يوزع هذا الأرز على الفقراء. وعقب ذلك يقام حفل عيد ميلاد فخم على الطريقة الأوروبية حتى بعد الحظر الذي فُرض على السلع والتقاليد الأجنبية في آناند بهافان.34

كانت إنديرا، مثل كل الأطفال، تقضي كثيرًا من وقتها في عالم خيالي من اللعب. وقد استمدت إنديرا الكثير من خيالات ألعاب الطفولة — من أمثلة الخطب السياسية الحماسية الملقاة على الخدم في آناند بهافان، والدمى المحاربة في سبيل الحرية، والهراوات، وحملات الشرطة الخيالية — كما لو أن هذه الألعاب نبوءة لعملها السياسي فيما بعد. ولكن بعيدًا عن كونها ألعابًا بدا كما لو أنها تستشرف المستقبل، كانت إنديرا ببساطة تُمثل دور شخص بالغ في ألعابها وكان هذا ما رأت عليه من حولها. هذا بالإضافة إلى أن أسرتها دون شك شجعتها على مثل هذا النوع من اللعب. فأعطاها موتيلال مغزلًا عندما بلغت الخامسة. (كان غزل النسيج لصناعة ملابس الخادي الشعبية يروق بشدة لأعضاء حزب المؤتمر الذين قاطعوا الملابس البريطانية المستوردة.) وعلى نحو معتاد تُلبس كامالا إنديرا الزي الرسمي الخاص بالمتطوعين الذكور في حزب المؤتمر، وفي ذلك غطاء رأس غاندي. وفي حقيقة الأمر كان ينظر إلى إنديرا كثيرًا باعتبارها ذكرًا، كما أنها في بداية كتابتها الرسائل لوالدها كانت توقعها باسم «إندو-الولد».

والغريب في ألعاب إنديرا ليس ما كانت تُمثله بل حقيقة أن جميع هذه الألعاب تقريبًا كانت تتصف بالعزلة. فقد نشأت إنديرا في منزل لا يوجد به أطفال آخرون، وبجانب الفترة القصيرة التي قضتها في روضة الأطفال لم تُرسل إنديرا إلى المدرسة في الله آباد حتى عام ١٩٢٤ عندما قرر موتيلال أن يلحقها بمدرسة سانت سيسيليا، وهي مدرسة تديرها ثلاث من النساء العزباوات يُطلق عليهن اسم كاميرون. كانت هذه بداية غير سعيدة لما تحول بعد ذلك إلى مسيرة أكاديمية غير متوقعة. كانت إنديرا تشعر بالتعاسة في سانت سيسيليا. فقد كانت خجولة ومعقودة اللسان وسط الفتيات الأخريات. وكانت تعي تمامًا نحافة جسدها، وتشعر أنها غريبة بوصفها الطالبة الوحيدة في المدرسة التي ترتدي زي الخادي. وتذكرت إنديرا كيف «في بعض الأحيان لكيلا أظهر في زي الكورتا التقليدي (قميص طويل وسراويل) وأتعرض للاستهزاء، كانت عمتي الصغرى [بيتي] … تتآمر معي وتساعدني على خلع زي الكورتا حتى أستطيع البقاء في تنورتي، التي كانت تشبه فستانًا دون أكمام على شكل حرف A.»35 وكانت تخاف الرقيب الأول البريطاني الذي كان مسئولًا عن التدريب البدني للفتيات، ويضربهن بسوطه إذا ما حدن عن الصف.

سرعان ما أنقذ الشجار العنيف بين موتيلال وجواهرلال إنديرا من عذاب مدرسة سانت سيسيليا. فقد كان من الواضح أن جواهرلال لم يُستشر في اختيار المدرسة الخاصة بإنديرا، وأنه كان خارج المنزل عندما أُرسلت إلى هناك أول الأمر. كانت سانت سيسيليا من المدارس الخاصة وليست معهدًا حكوميًّا، ولكن جواهرلال شعر أنه ما دامت هذه المدرسة تُدار بواسطة هيئة بريطانية ومعظم طلبتها من البريطانيين فإن حضور إنديرا فيها يعتبر انتهاكًا لمبادئ مقاطعة حزب المؤتمر لكل ما هو أجنبي. ومن هنا بدأ مقطع جديد من النزاع الذي أصبح راسخًا بين موتيلال وجواهرلال. ولجأ الاثنان إلى غاندي ليتوسط بينهما وتبادل الثلاثة سيلًا من الخطابات المرسلة والمستقبلة. وفاز جواهرلال في هذه الجولة. واستعيدت إنديرا من مدرسة سانت سيسيليا وتولى تعليمها مدرسون هنود في المنزل.

قد يكون هذا الأمر صحيحًا من الناحية السياسية، ولكنه أبعد ما يكون عن المثالية فيما يتعلق بالناحية التعليمية. تعلمت عمتا إنديرا على يد مربية إنجليزية كانت تتأكد من قدرتهما على القراءة والكتابة وحل المسائل الحسابية بكفاءة بالإضافة إلى تدريبهما على الاستحمام بالماء البارد، والنوم في مواعيد محددة لا تتغير قط. لكن دروس إنديرا والطريقة العامة في تربيتها كانت عشوائية على نحو أكبر. ففي بعض الأحيان كان البانديت (المعلم) الذي يعلمها اللغة الهندية لا يستطيع الحضور، وكانت تتعلم الإنجليزية مع والدتها، فكانت هذه الدروس هي الأخرى غير منتظمة. وكان جواهرلال هو أكثر معلمي إنديرا الموهوبين النشطين، ولكنه كان غالبًا مشغولًا للغاية أو بعيدًا عن المنزل.

كان المنزل يتصف بكونه ثنائي اللغة بأكثر من شكل. فجدة إنديرا وخالتها الكبرى سواروب راني وبيبي آما تتحدثان الهندية فقط كما كانت كامالا في الأصل. (في العشرينيات تلقت كامالا دروسًا في الإنجليزية والأردية.) أما موتيلال وجواهرلال فيستريحان على نحو أكبر في حديثهما بالإنجليزية، ولكنهما تحولا إلى مزيج من الهندية والأردية في بداية حركة عدم التعاون. ومع ذلك ظلت الإنجليزية وسيلة الاتصال الفعلية في جميع قراءتهما وكتابتهما. من ثَم كان واضحًا أن إنديرا قد ترعرعت وسط عائلةٍ الهنديةُ فيها هي اللغة الرئيسية للحديث بين السيدات والإنجليزية هي اللغة الرئيسية للحديث بين الرجال. ونتيجة لهذا يمكن القول إنها كانت أكثر أفراد المنزل استحقاقًا للقب ثنائية اللغة. فتحدثت الهندية لفترة طويلة، ولكنها تعلمت كتابة الإنجليزية وقراءتها في وقت مبكر وأصبحت قارئة متعطشة وسريعة للغاية بقية حياتها. وفي الحقيقة كانت إنديرا الطفلة في معظم وقت طفولتها تقضي الوقت جالسة بين الأشجار في حديقة آناند بهافان تقرأ الكتب. في البداية كانت هذه الكتب قصصًا خيالية أعطتها إياها عمتها بيتي (والقادمة من الإرث الذي تركته المربية الإنجليزية)، ولكن مع تقدم إنديرا في العمر التهمت إنديرا مكتبة موتيلال التي كانت تحتوي على أضخم مجموعة خاصة من الكتب في شمال الهند.

•••

كان منتصف عشرينيات القرن العشرين أي حينما بلغت إنديرا سن السابعة ثم الثامنة فالتاسعة، وقت خمود ميز الحركة القومية، ولكنه شكَّل فترة من القلق والشك لدى عائلة آل نهرو. فقد ألغى غاندي حركة عدم التعاون عام ١٩٢٢، وقُبض عليه بعد ذلك في العام نفسه بعد اتهامه بكتابة مقالات تحريضية لمجلته «يونج إنديا». حُكم على غاندي بالسجن ست سنوات في سجن ييرافدا المركزي قرب بومباي، ومع أنه أصبح رئيسًا لحزب المؤتمر في دورته السنوية في ديسمبر عام ١٩٢٤ فقد ظل بعيدًا عن السياسة حتى عام ١٩٢٨. وفي خلال هذه السنوات من الهدوء السياسي ظل غاندي يلعب دورًا أساسيًّا في حياة عائلة آل نهرو. في يناير عام ١٩٢٤ أُطلق سراحه قبل انقضاء فترة عقوبته بسبب إصابته بالتهاب حاد في الزائدة الدودية. وفي فبراير سافر آل نهرو بأكملهم، وفيهم إنديرا، إلى ضاحية جوهو على شاطئ البحر قرب بومباي، وهو المكان الذي اختاره غاندي ليسترد فيه عافيته في منزل مملوك لرجل الصناعة الثري «شانتي كومار مورارجي» حيث الحياة فيه أبعد ما تكون عن حياة السجون.

تحولت هذه الرحلة لرؤية غاندي دونما تدبير إلى إجازة، وهي الأولى من نوعها التي تقضيها عائلة آل نهرو بعيدًا عن الإقامة الصيفية في التلال. استأجرت الأسرة بيتًا صغيرًا في مواجهة الشاطئ وقضوا الأيام في السباحة والركض وركوب الخيل على شاطئ البحر. كان هذا الوقت الذي علَّم فيه جواهرلال إنديرا السباحة. ولكن الهدف الأهم لهم كان استشارة غاندي. كان موتيلال يريد شرح وضع حزب السواراج وأراد جواهرلال مناقشة مستقبله. ولكن الاثنين عادا خائبين. ظل غاندي رافضًا لسياسة حزب السورارج و«لم تُبدَّد أي من الشكوك [الخاصة بجواهرلال]».36 وانتهى الأمر بالثلاثي المكون من موتيلال وجواهرلال وغاندي — الذين كان الإنجليز يدعونهم على الترتيب «الآب والابن والروح القدس» — إلى خلاف ميئوس منه.
كانت مشكلات جواهرلال في هذه المرحلة سياسية وشخصية. ففي خريف ١٩٢٣ مرض جواهرلال بشدة بحمى التيفود، وتركته تجربة المرض «بعزلة غريبة» تركت «أثرًا لم يزُل» يؤثر على طريقته في التفكير.37 وبحلول عام ١٩٢٤ عندما رأى غاندي في جوهو شعر بالقلق وعدم الرضا. بلغ جواهرلال في ذلك الوقت عامه الخامس والثلاثين؛ وهي السن التي توقع أن يحصد ثمار طموحاته عندها. لكن الهدف السياسي الذي تملَّكه لعامين أو ثلاثة من قبلُ أضحى اليوم سرابًا، أو بالأحرى تحول أمره إلى يد حزب السواراج الذي لم يرِد التحالف معه. فلم يستطِع اتباع برنامج موتيلال السياسي ولا اللجوء إلى الروحانية مع غاندي و«برنامجه البناء» للسمو الاجتماعي.
وازداد ضيق جواهر بسبب اعتماده المادي على موتيلال، وهو ما كان أمرًا صعبًا في ظل تقدمه في العمر واختلافه السياسي مع موتيلال. كان رأسمال موتيلال المدخر قد نفد منذ فترة، واضطر إلى قبول قضايا جنائية للإنفاق على متطلبات قصر آناند بهافان حتى في ظل تناقص هذه المتطلبات. ولكن رغم وقف حركة عدم التعاون كان جواهرلال مصممًا على عدم ممارسة المحاماة مرة أخرى لأن القانون الهندي ظل هو القانون البريطاني. وفي سيرته الذاتية لخص جواهرلال محنته بقوله: «كانت فكرة أن أكون وزيرًا في الحكومة غير قابلة للتفكير فيها … حقًّا إنه لأمر كريه … ولكني … كنت أشتاق لفرصة تتيح لي عملًا ثابتًا إيجابيًّا وبنَّاءً. فلا تمثل قوة التدمير والثورة وعدم التعاون أنشطة طبيعية للإنسان.»38 واقترح غاندي على جواهرلال عندما التقيا في جوهو ثم في الخطابات التي تلت هذه اللقاءات أن يعمل مراسلًا صحفيًّا أو أستاذًا جامعيًّا. وعرضت شركة تاتا في بومباي — على الأرجح بناءً على توصية من غاندي — توظيف جواهرلال. ولكن كل هذه البدائل — التي كان من الصعب أن تجذبه — انتهت إلى لا شيء.

في الوقت نفسه حملت كامالا أثناء الفترة التي قضوها في جوهو. كانت كامالا — إن لم يكن جواهرلال — تشعر بأن الكثير مما يخصهم في ذلك الوقت معلق وغير محدد. ثمانية أعوام الآن مرت على زواجها بجواهرلال، وسبع سنوات على مولد إنديرا. ويمكن لوضعها في العائلة — خاصة فيما يتعلق بعلاقتها بحماتها سواروب راني وأخت زوجها نان (التي صارت هي نفسها أمًّا لطفلة في ذلك الوقت) — أن يتحسن بشدة إذا ما أنجبت طفلًا ذكرًا. ليس الأمر أن كامالا تهتم بشدة بوضعها، لكنه سيكون من الصعب على النساء الأخريات أن يحططن من قدرها أو يهملنها إذا ما أنجبت وريثًا يحمل اسم آل نهرو. هذا بالإضافة إلى أنها كانت ترغب بالطبع بشدة في طفل من أجلها هي وجواهرلال.

وفي الحقيقة وُلد لهم صبي في منتصف نوفمبر. ولكنه كان طفلًا مبتسرًا، وتوفي بعد يومين من ولادته. عندما سمع غاندي بالخبر بعث ببرقية في ٢٨ نوفمبر قال فيها: «إنني حزين لموت الطفل، إنها إرادة الله.»39 قهر الحدث كامالا وجواهرلال وإنديرا، ولكن الوقع الأكبر كان على كامالا.

بعدها مباشرة تقريبًا أصيبت كامالا بكحة وحمى، ونقلت من قصر آناند بهافان إلى الجناح الأوروبي في مستشفى لكناو (فمن الواضح أن المقاطعة تتوقف في مثل هذه الظروف). سافرت كامالا في سيارة إسعاف تحركت من الطريق نفسه الذي كانت تمر به غالبًا في أثناء زياراتها لجواهرلال في السجن. وفي المستشفى شخَّص الأطباء حالة كامالا في البداية أنها مصابة بالسل الرئوي، وهو تشخيص كان في ذلك الحين أشبه بالإعدام. وبعد سنوات من المرض تحولت أعراض كامالا فجأة إلى مرض يعد عندئذٍ من الأمراض القاتلة.

بقيت كامالا في مستشفى لكناو في جناح معظمه من النساء البريطانيات، في حالة مستقرة حتى العام الجديد. وكان جواهرلال يتحرك جيئة وذهابًا بين الله آباد ولكناو، في حين لم يُسمح لإنديرا بزيارة والدتها. في فبراير ١٩٢٥ كتبت لوالدتها على بطاقة بريدية بخط مكتوب بعناية: «كل الحب لأمي العزيزة من إندو.»40 ولعلها كانت تتساءل هل ستموت والدتها هي الأخرى كما مات أخوها. وفي محاولة لصرف انتباه الصغيرة كتب غاندي يقترح أن تؤسس إنديرا قسم الأطفال في جمعية الغزل اليدوي «بال-تشارخا سانج» التي كان يتزعمها. نفذت إنديرا هذا الأمر وهي مقتنعة به تمام الاقتناع ولكنه لم يخفف من قلقها على والدتها.

ومع حصولها على أفضل رعاية صحية ممكنة فلم تتحسن حالة كامالا في لكناو. واستدعى موتيلال وجواهرلال الطبيب الشهير والزعيم القومي إم أيه أنصاري الذي وجد أن حالة كامالا خطيرة لا تسمح باقتراح البديل المتوقع لراحة علاجية في التلال. بدلًا من هذا حث الطبيب جواهرلال على الذهاب إلى سويسرا لاستشارة اختصاصيي مرض السل الرئوي في جنيف الذين كان الزعيم أنصاري على اتصال بهم.

واعترف جواهرلال فيما بعد أن عرض مغادرة الهند في ذلك الوقت الذي تميز بالخمول السياسي والخلاف بين موتيلال وغاندي لاقى ترحيبًا منه مع أنه يتحتم عليه السعي لعلاج كامالا. ولكن الإقامة مدة غير محددة في أوروبا كانت ستتكلف مبالغ كبيرة، ولم يكن لدى جواهرلال المال الكافي وكان معارضًا لفكرة أن يطلب من موتيلال أن يدعم هذه الرحلة ماديًّا، وعلى أي حال فقد كان موتيلال يمر بضائقة مالية. لم يبقَ لدى جواهرلال الآن سوى ذلك الخيار البغيض بأن يكسب ما يلزمه من مال عن طريق المهارة الوحيدة التي يملكها وهي المحاماة. حصل له موتيلال على قضية من عميل ثري دفع له مبلغًا ضخمًا بلغ عشرة آلاف روبية.41 ومن المستبعد أن تكون كامالا قد علمت بمصدر المال الذي اعتمدت عليه رحلتهم.

كانت نان وزوجها رانجيت بانديت قد خططا بالفعل لقضاء عطلة في أوروبا لمدة ستة أسابيع في أوائل عام ١٩٢٦، وكانا قد حجزا رحلتهما على باخرة مملوكة لشركة ليود اسمها تريستينو التي ستبحر من ميناء بومباي. قرر موتيلال أنه وبيتي وجواهرلال وكامالا وإنديرا سيذهبون جميعًا مع آل بانديت. كالمعتاد فضلت عائلة آل نهرو أن تسافر جملة، ولكن من وجهة نظر كامالا كان الأمر أبعد ما يكون عن المثالية. إن قربها من نان غالبًا ما يسبب لها مشكلات، وكانت متخوفة من أن تلومها نان على ما سببه مرضها من نفقات وإزعاج. وزيادة في السوء اضطر موتيلال وبيتي إلى تأجيل سفريهما، ومن ثَم أبحر آل بانديت وآل نهرو معًا في الأول من مارس عام ١٩٢٦.

في ٢٦ فبراير استقل موتيلال (الذي كان مصاحبًا للآخرين فقط إلى بومباي) وجواهرلال وكامالا وإنديرا ونان ورانجيت بانديت عربة من عربات الدرجة الأولى (من أجل راحة كامالا) في محطة القطار الموجودة بمدينة الله آباد. وطوال أغلب الرحلة إلى بومباي كانت إنديرا تجلس على قدم والدتها التي لم ترَها منذ شهور عديدة. وهو ما استحث موتيلال على كتابة خطاب إلى جواهرلال قائلًا: «في الرحلة … إلى بومباي لاحظت أن إندو تقبل كامالا كثيرًا، يجب أن يتوقف هذا. وإذا كان من الممكن فيحبذ أن تتوقفا عن العناق كما تفعلان؛ إذ إن … التنفس يحمل الميكروبات.»

بعد ثلاثة أيام وقف موتيلال على رصيف ميناء بومباي وهو يشاهد الباخرة «التريستينو» ترفع مرساتها وترحل بعيدًا في مياه بحر العرب الزرقاء اللامعة. وهناك على ظهرها أخذت طفلة هزيلة الجسد — يصعب على أي شخص آخر أن يتبين أذكر هي أم أنثى — تلوح بيديها حتى صارت شبحًا يلوح في الأفق.