إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثالث

تتنفس مع حركة كعبها

عام ١٩٢٦ قبل أن تستطيع الطائرات أن تنكر العلاقة بين طول المسافة والزمن كانت الرحلة من بومباي إلى فينسيا تستغرق وقتًا طويلًا؛ إذ كان مسار السفن على النحو الآتي: الإبحار عبر بحر العرب، ثم حول خليج عدن، ثم قناة السويس إلى البحر المتوسط، ثم المرور بجزيرة كريت وجزر البحر الأيوني حتى الوصول شمالًا إلى البحر الأدرياتيكي. وصف نهرو هذه الرحلة في خطاب لوالده بقوله «إنها رحلة شاقة»، وأردف أن هذه المشقة منشؤها الطقس في البحر من ناحية، والطقس العاطفي على متن السفينة.1 كانت إنديرا وحدها هي المستمتعة بالعواصف الرعدية والأمواج الهائجة التي أصابت الآخرين بالدوار والغثيان. لكن العلاقات المتوترة بين كامالا ونان بانديت هدأت عندما أصيبت كامالا بنزلة شعبية ولزمت غرفتها بالسفينة. وظلت كامالا تقاسي من الحمى الشديدة عندما وصلوا إيطاليا.

وفور وصولهم أسرعت عائلة البانديت للبدء في رحلتها الأوروبية التي تستغرق ستة أسابيع، في حين لم يسمح مرض كامالا لها بمواصلة السفر فتوقفت عائلة نهرو ثلاثة أيام في فينيسيا، كانت فينيسيا مكانًا ساحرًا لإنديرا، فهي مدينة الجزر، كأنها السراب منعكسًا على سطح ماء، يتنقل الناس فيها مستخدمين الجنادل وليس وسائل النقل المعتادة مثل السيارات أو الحافلات أو العربات التي تجرها الثيران. عندما انخفضت درجة حرارة كامالا استقلت العائلة قطارًا انطلق عبر شمال إيطاليا إلى جنيف، وهي مدينة مزدحمة تعج بعربات الترام، وبأبواق السيارات، وبشوارعها الممهدة والمرصوفة بالحصى، ويرتدي سكانها ملابس داكنة اللون ويحملون مظلاتهم. ومع أن الوقت عندئذٍ كان ربيعًا، كانت جنيف رطبة وباردة؛ حيث الرذاذ والضباب يغطيان أفق بحيرة جنيف، وتسبَّب هذا الضباب لعدة أيام في عدم مقدرة أحد على رؤية المرتفعات المحيطة بالمدينة أو رؤية الشمس.

استقرت الأسرة في فنادق رخيصة الثمن عدة أشهر إلى أن عثرت على شقة تحتوي على غرفتين في ٤٦ شارع بوليفار دي ترانش. وبعد أن كان لدى الأسرة جيش من الخدم في قصر آناند بهافان، لم يعد لديها سوى خادمة سويسرية اسمها مارجريت لا تتحدث إلا الفرنسية. عقد جواهرلال العزم على أن يعيش على نحو اقتصادي على قدر استطاعته. ناسب هذا طريقة كامالا الزاهدة، ولكن هناك في الله آباد استاء موتيلال كثيرًا مما وصفه ﺑ «الاقتصاد الزائف» الذي يتبعه ابنه. فكتب إليه: «يبدو أنك لم تقم بهذه الرحلة إلا لتُظهر كيف يمكن لرجل وامرأة وطفلة أن يعيشوا بأرخص ما يكون في مدينة أوروبية. لم يكن السفر بعيدًا ضروريًّا لمثل هذه التجربة الفعلية للاقتصاد.» وانتقد جواهرلال على عدم ابتياعه معطفًا و«إعطائه كامالا أغراضًا زهيدة الثمن» لارتدائها خارج المنزل.2
كان أحد أسباب اتباع نهرو لسياسة الاقتصاد الصارمة تلك هو التكلفة الكبيرة لعلاج كامالا. فقد أحضر معه ما يكفيه لقضاء نحو ستة أشهر أو ما شابه، خطط لقضائها في أوروبا، لكن شيئًا ما قد حدث: إما أنه لم يحسب النفقات الطبية وإما أنه لم يقدرها جيدًا بسبب التباس الأمر عليه، فقدرها وفقًا لتكاليف المعيشة في إنجلترا منذ خمس عشرة سنة فائتة.3 وفور وصولهم إلى المدينة زارت كامالا الاختصاصيين الطبيين في معهد بحوث جنيف الشهير حيث يعمل عالم البكتريا السويسري هنري سبالينجر. كشفت التحاليل المعملية عن بكتريا «تي بي» في بلغم كامالا، مؤكدة بذلك تشخيص أطباء مستشفى لكناو. ثم خضعت كامالا لجرعات علاجية من لقاح سبالينجر فاق ثمنها ٢٠٠ جنيه استرليني، وهو مبلغ ضخم في ١٩٢٦. كان هذا اللقاح موضع جدل، وهو مصل مضاد لمرض السل الرئوي مأخوذ من دماء الخيل، وإن جرى الاحتفاظ بسر مصدر اللقاح وطبيعته.4 ومما زاد من ضيق صدر جواهرلال أنه اضطر لبعث برقية إلى موتيلال ليزوده بالمال من أجل هذا العلاج. ومن الواضح أن تقليله المصروفات في أي ناحية أخرى غير العلاج كان من دواعي التعويض عن التكلفة الضخمة للعلاج. ولكن، كما كانت وجهة نظر موتيلال، إذا كانت كامالا تُطعم بلقاح سبالينجر وفي الوقت نفسه لا ترتدي ما يكفي من الملابس، وتأكل القليل من الطعام، وترتعش من البرد لإقامتها في أماكن باردة تكثر فيها تيارات الهواء، فقد انتفى «الهدف الأساسي من زيارتك.»
ومع هذا لم يتهاون نهرو في تعليم إنديرا في جنيف. كانت المدينة المقر الرئيسي لعصبة الأمم، التي تشكلت عام ١٩١٩، وعام ١٩٢٦ كانت لا تزال تمثل «الأمل في نظام دولي [و] … في قمة مكانتها.»5 كانت المدرسة الدولية «إيكول إنترناسيونال» مدرسة متعددة اللغات (فرنسية وألمانية وإنجليزية)، وتأسست ليدرس بها أطفال الأفراد المشتركة دولهم في العصبة. فقرر جواهرلال وكامالا أن هذا الأمر سيكون مثاليًّا لإنديرا ويستحق التكاليف. كانت المدارس الجيدة في الهند دائمًا ما تكون بريطانية، حتى فيما يخص مظهرها ومناهجها التعليمية التي تعد معادية لمبادئ آل نهرو الوطنية. كانت مدرسة عصبة الأمم مدرسة دولية حقًّا تحتوي على خمسة وسبعين تلميذًا من معظم الدول المشاركة في العصبة. ولم يكن منهجها التعليمي مرتكزًا على الثقافة الأوروبية أو أي مبادئ سياسية أو دينية.
لكن ترى ماذا تعلمت إنديرا من المدرسة الدولية؟ في السنين التالية قالت إنديرا إنها كانت سعيدة هناك وإنها أحبت مدرِّستها السيدة هارتوش. ما تذكرته إنديرا المسافة من البنسيون الذي تقطنه عائلتها إلى المدرسة التي تطل على منظر جبلي بديع. تمشي إنديرا كثيرًا ثم تركب الترام ثم الحافلة، ويتكرر ذلك أربع مرات في اليوم. فتغادر البنسيون كل صباح في الثامنة ثم تعود لتناول الغذاء عند الظهيرة، ثم تعود إلى المدرسة في الثانية حيث يستقل الأطفال الحافلة إلى الريف للعب وتعلم الزراعة ودراسة الطبيعة، ثم تعود في النهاية إلى المنزل في السادسة مساءً. في البداية كان نهرو يصطحبها من المدرسة وإليها، ولكن كان هذا يستقطع وقتًا كبيرًا من وقته. فبدأت إنديرا ذات الثمانية أعوام ونصف قطع رحلتها اليومية وحدها حاملة على ظهرها حقيبتها المحتوية على كراسات الواجب المنزلي وكتبها. وكتب موتيلال من مدينة الله آباد يقول: «إن إندو طفلة صغيرة رائعة، إن من الشجاعة أن تشق طريقها في شوارع المدينة السويسرية بالطريقة التي وصفت.»6
في الحقيقة كانت إنديرا وحدها في جنيف، حيث لا خدم ولا مربية ولا جدة أو خالة كبرى للعناية بها. فهي تساعد الخادمة مارجريت في عمل المنزل وتذهب للتسوق معها. وتقرأ لكامالا التي كانت في فراشها معظم الوقت، وتتأكد من أنها تأخذ دواءها. كتب جواهرلال إلى والده عن روح الاستقلالية والمبادرة التي تكبر في إنديرا، ورد موتيلال برسالة قال فيها: «إن عزيزتي إندو الصغيرة فتاة مدهشة … ونموها العقلي أمر ملحوظ … فمن كان يتخيل أن تستطيع في بضعة شهور أن تصقل كل مهارات الاعتماد على النفس التي تُظهرها الآن؟»7
ساعدت السرعة والسهولة التي تعلمت بها إنديرا الفرنسية بطلاقة على تكيفها السريع مع الحياة في جنيف. كان التدريس يتم في المدرسة الدولية باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وبالطبع كانت تستخدم الفرنسية في شوارع جنيف. كتب نهرو لأخته كيف «أصبحت تتحدث بلغة إنجليزية مختلطة بكلمات فرنسية وهي تتحدث عن الذهاب إلى مكتب البريد وأن الساعة تقارب العاشرة. أما اللغة الهندوستانية فإنها تحاول تجنب الحديث بها.»8 ومن هنا جاء تخوف كامالا وجواهرلال من أن تنسى اللغة الهندية، وصمما على أن تكون هذه اللغة هي لغة الحوار التي تتحدث بها معهما.

كانت هناك مظاهر أخرى أيضًا لتغير إنديرا. فمع أن كامالا ترتدي الساري طوال وجودها بالخارج فقد عاد نهرو إلى ارتداء الملابس الأوروبية التي كان يرتديها خلال سنوات دراسته في هارو وكمبردج والهند قبل بدء حركة عدم التعاون. ورغم نزوعه إلى الاقتصاد في الإنفاق فإن هذا لم يمنعه من شراء ملابس جديدة لإنديرا. وبدلًا من إندو الصغيرة الهزيلة التي كانت ترتدي الخادي الخشن في مدينة الله آباد، باتت إنديرا ترتدي الفساتين السويسرية والجوارب النيلون التي تصل إلى الركبة، والأحذية الجلدية اللامعة. وكانت تضع مشبك شعر في المناسبات الخاصة، على سبيل المثال عندما تذهب مع نهرو لاحتساء الشاي مع الروائي الفرنسي وكاتب السير الذاتية والناقد رومين رولاند الذي يقطن في مدينة فينليف بالطرف الشرقي من بحيرة ليمان. وكانوا يزورون الشاعر الألماني اليهودي والناشط السياسي إيرنست تولر، ويتلقون الدعوات من عدد كبير من أشخاص ذوي جذور هندية يعيشون في المنفى في سويسرا.

وبين هؤلاء زوجان عليلان مسنان يدعيان آل كريشنافارما. كان جواهرلال يأخذ إنديرا لزيارة شايماجي كريشنافارما وزوجته اللذين يعيشان في الطابق الأعلى في منزل متهالك في جنيف وحيدين ودونما أصدقاء. الكتب والأوراق تفترش الأرض والغبار يغطي كل شيء بالمنزل. ودائمًا ما كان شايماجي يحمل في جيوبه نسخًا من صحيفته القديمة، «إنديان سوشيولوجست»، ويخرج هذه الصحف من جيبه المنتفخ ويُشير بحماس إلى بعض المقالات التي كتبها منذ أعوام. وتمحور حديثه عن الأيام الخوالي؛ «بيت الهند في منطقة هامبستيد بلندن، والأشخاص الذين أرسلتهم الحكومة البريطانية للتجسس عليه، وكيف كشف هؤلاء الأفراد وخدعهم». كان شايماجي يملك الكثير من المال، ولكنه لم يكن ينفقه على الخدم، ويخبر ضيوفه أنه يمشي مسافات طويلة بدلًا من إنفاق بضع سنتيمات على تذكرة الترام. ووصف نهرو الحال بقوله: «المكان كله معبق برائحة الكآبة والتعفن.»9
وفي الوقت نفسه بعيدًا في دلهي في أحد أيام ١٩٢٦ استمع بارميشوار نارين هاكسار البالغ من العمر عندئذٍ ثلاثة عشر عامًا إلى نقاش محتدم بين والدته ونسوة أخريات ووالدة كامالا نهرو، راجباتي كول. كان النقاش «عن الحالة الصحية المتدهورة لابنتها وكيف أنها عانت بسبب تورط جواهرلال في الصراع الوطني ورحلاته الطويلة … إلى السجن». ولكن راجباتي كول باتت واثقة من شفاء ابنتها بعد أن أخذها جواهرلال إلى أوروبا. لم تكن الإجابة على سؤال «لماذا كان على جواهرلال أن يذهب إلى أوروبا؟» واضحة للصبي الصغير بارميشوار نارين هاكسار الذي جلس صامتًا بين النسوة. ثم شرحت راجباتي أن «الطقس في أوروبا … أفضل من الهند، ولكن ما هو أهم من الطقس لها أنها وجواهرلال وحدهما بصحبة طفلتهما إندو.»10

كانت والدة كامالا ونسوة هاكسار يفهمن الأمر تمامًا، ففي خلال الأشهر الأولى في جنيف — قبل وصول أخت جواهرلال الصغرى بيتي للالتحاق بهم في يونيو ١٩٢٦ — كانت إنديرا ووالداها وحدهم لأول مرة في حياتهم، بعيدًا تمامًا عن شبكة العائلة والخدم والمشتغلين بالسياسة الذين كانوا يحيطون بهم في مدينة الله آباد. وتخلصت كامالا أيضًا من الجو المضطهد العدائي الذي كانت تعيشه مع حماتها وأخت زوجها، وتخلص جواهرلال من اهتمامهن الخانق. أصبحت العلاقة بين كامالا وإنديرا حميمية في آناند بهافان وسط الآخرين، لكن إنديرا كانت قد بدأت اختبار هذه العلاقة مع والدها فقط في جنيف. فحازت في ذلك الوقت اهتمامه الكامل.

وفي ذلك الوقت أيضًا كان والدها يحرص، على نحو أكثر انتظامًا مما كان في مدينة الله آباد، على أن تجري كل صباح قبل الذهاب إلى المدرسة، مصممًا على ألا تصقل في نفسها مهارة السرعة فحسب، بل أيضًا «الرشاقة» و«الأناقة». قالت إنديرا فيما بعد وهي تتذكر تلك الأيام: «لم يكن من المهم إذا كنت أعدو لمسافة طويلة أم لا … بل المهم أن أعدو برشاقة.»11 كانت العديد من الهنديات يعدون وهن ملقيات بثقل أجسادهن إلى الخلف، ولكن إنديرا كانت تتعلم كيف تعدو كالرياضي «على أصابع قدميها وثقل جسدها إلى الأمام، بخطوات واسعة وتناسق تام بين عضلاتها، وتنفسها في تناغم مع جسدها». وقد عبرت إنديرا عن هذا الأمر بقولها: «تعلمت أن أتنفس مع حركة كعب قدمي.»12
بالإضافة إلى أن إنديرا وجواهرلال كانا يذهبان للتنزه معًا في جنيف. ففي أحد أيام الآحاد في مطلع شهر مايو اصطحبها جواهرلال إلى جبل صغير بالجوار اسمه ساليف، في رحلة استغرقت ساعتين بالقطار والتليفريك. كان المشهد من أعلى بديعًا؛ فبإمكانهم رؤية جبل مون بلون وجبل جورا وبحيرة جنيف والأودية بالأسفل التي تتخللها القرى. ومما زاد من سعادة إنديرا أن الثلوج هطلت، وكانت هذه أول مرة في حياتها ترى الثلوج تهطل، وعلمها جواهرلال كيف تصنع الكرات الثلجية، وأخذ الاثنان يتقاذفان بكرات الثلج.13

في حقيقة الأمر كانت جنيف المكان الذي وقعت إنديرا فيه في حب الجبال، بجمالها ومنحدراتها وبالمنظر البانورامي الذي تقدمه. وفيما بعد لقبها الآخرون ولقبت هي نفسها ﺑ «ابنة الجبال»، بسبب حبها — الذي يصل لحد الاستحواذ — لكشمير. ولكن أول لقاء لها مع الجبال كان في سويسرا لا الهند، ولم يكن تشربها للاعتقاد الكشميري أن جبلًا — حتى جبال الألب — لا يستطيع أن يباري الهيمالايا إلا بعد ذلك بكثير.

في ٦ يونيو ١٩٢٦ ارتكبت إنديرا خطأً فكتبت — وهي في عمر الثامنة والنصف — أول خطاب لوالديها وهي معهم في المنزل في جنيف، وهو بالمناسبة لا يزال موجودًا، قالت في خطابها:

أمي وأبي الحبيبان،

أنا آسفة لأني لم أتصرف جيدًا. ولكن من اليوم سأتصرف جيدًا. وإذا لم أفعل فلا تتحدثا إليَّ. وسأبذل قصاري جهدي لأتصرف جيدًا. وسأفعل كل ما تطلبانه مني.

بكل الحب، ابنتكما إندو.14

مهما كان حجم الخطأ الذي ارتكبته فهو تغير عن سلوكها المعتاد. وأوفت إنديرا بوعدها. ومع أنها كانت طفلة ذكية وتسبق سنها فإنها لم تكن متسلطة أو صعبة المعاشرة. بل كانت في الحقيقة «فتاة حسنة السلوك» — محبة للتعلم وهادئة ومطيعة وليست كثيرة المطالب — ليس في سويسرا فقط بل في معظم أوقات طفولتها. هذا بالإضافة إلى أن كامالا كانت غالبًا مريضة، مما يعني أنه كلما كبرت إنديرا ازداد دورها في العناية بوالدتها، عاكسة بذلك العلاقة المعتادة بين الوالدة والابنة. شجَّعها والداها على الاستقلال، وذكرت إنديرا لاحقًا أنها شعرت بأنهما ضعيفان وبحاجة لحمايتها. والوقت الوحيد الذي تشعر فيه إنديرا أنها قد تُمثل عبئًا إذا أصابها المرض، وبالفعل أصيبت إنديرا بالالتهاب الشعبي — مشاركة في العديد من الأعراض التي كانت كامالا تعانيها — في أواخر ربيع ١٩٢٦ بعد وقت قصير من وصول عمتها بيتي.

فزع نهرو عندما أصيبت إنديرا بالنزلة الشعبية؛ إذ استيقظ الخوف الدائم من أن يكون لديها استعداد للإصابة بمرض السل فيما بعد. وبُعثت البرقيات إلى مدينة الله آباد تطلب المزيد من المعونات المادية، حيث «فُحصت إنديرا على نحو كامل بواسطة أطباء الأطفال وأطباء آخرين» في سويسرا. ومما أراح نهرو وكامالا أن الفحوصات والاختبارات لم تكشف عن أي «خلل عضوي». لكن وكما قال نهرو: «من الواضح أن صحتها أقل من الطبيعي.» فبدأ نهرو يعتقد أن مرض ابنته عضوي ذو أسباب نفسية. ولأنه رجل يتمتع بصحة جيدة ويتناول طعامه باقتصاد ويمارس اليوجا والرياضة على نحو منتظم، كان نهرو يعطي أهمية كبرى للياقة البدنية، ولا يستطيع تحمل فكرة مرض الآخرين. ومن ثَم كانت شكواه من «ضعف إنديرا الطفولي» ورأى أنها دائمًا تأكل على نحو أفضل إذا كانت بعيدة عن المنزل.15
وهكذا قرر نهرو في صيف عام ١٩٢٦ إرسال إنديرا إلى مدرسة في الجبال حيث «الرفقاء المناسبون» ولن يكون هناك مجال «للتدليل والنقاش و[لن تكون هناك] محاولة للإطعام ونفور من الطعام.»16 ومع «أنها لم تكن شغوفة بالالتحاق» بالمدرسة الجديدة فقد أُخرجت إنديرا من المدرسة الدولية. وكتب نهرو إلى نان بانديت إن إنديرا «لا تزال ضعيفة وواهنة»، وأنه قد طَعَّمها قبل أخذها في رحلة لمدة أربع وعشرين ساعة من جنيف إلى شيسيير حيث تقع المدرسة الجديدة.17 ومن هناك كتبت إنديرا إلى كامالا وجواهرلال في ٢٧ يوليو:

إلى أبي وأمي الحبيبين،

هل أعطيتماني فرشاة أسنان جديدة؟ اسأل أمي هل حبل القفز عندكما، لا أستطيع أن أجده. شكرًا على خطابكما … بالأمس قضى الأطفال جميعًا الوقت في حمام السباحة وممارسة الرياضة البدنية. أخبروني عن جنيف. سأكتب لكما خطابًا أطول في المرة القادمة. أعطيا عمتي [بيتي] خطابها.

كل الحب من ابنتكما الصغيرة المحبة إندو18
قبل أن يصل هذا الخطاب لوالديها بعث إليها نهرو خطابًا من جنيف عبر فيه عن قلقه قائلًا: «هل نسيت أمك وأباك؟ ألم تعدينا بأن تكتبي إلينا كل يوم؟» ردت إنديرا على هذا الخطاب في الثاني من أغسطس قائلة: «أمي وأبي الحبيبان، شكرًا على خطابكما. اسأل أمي عن رقم فرشاة أسناني الجديدة. وأين جبل روشير دي ناي؟ لقد استمتعنا كثيرًا بالأمس … كيف حالكما؟ كل الحب من ابنتكما المحبة إندو.»19
ظلت خطابات إنديرا لعدة أشهر مقتضبة مثل هذين الخطابين الأولين؛ فواضح أن شاغلها الأكبر فرشاة أسنانها. لكنها لم تخبر والديها عن كونها غير سعيدة في شيسيير، المدرسة التي تديرها إحدى العائلات ويرأسها رجل ضخم الجسد يدعى السيد مولر له «رقبة ضخمة أشبه برقبة الثور ذات لحم كثيف». عامل السيد مولر وزوجته التي تضاهيه دمامة مجموعة الأطفال الصغار مثل الخدم. فجعلاهم يعملون لساعات طويلة في الحديقة، وقطع الأخشاب، وحمل الأوعية الثقيلة من نبات إبرة الراعي «ليتعرضوا لأشعة الشمس». والطلبة الذين لا يحسنون التصرف يعاقبون بالحبس الداخلي ويُطعمون الخبز المجفف. ومع هذا كان لإنديرا في شيسيير صديقة حميمة اسمها مارجوت، وهي فتاة من سان سلفادور، وجذبت أنظار أول معجبيها، وهو صبي فرنسي في التاسعة من عمره اسمه كلود، غير أنها لم تبادله الإعجاب.20
وإذا عدنا إلى جنيف نجد أن كامالا قد أنهت جرعاتها العلاجية المكلفة من لقاح سبالينجر بحلول الصيف. وفي ١١ أغسطس كتب نهرو إلى صديقه القديم سيد محمود: «كامالا بخير. وإندو أيضًا التي تقطن الجبال الآن. أما أنا فإنني بخير.»21 ولكنه بعد شهر عاد وأخبر محمودًا في ١٢ سبتمبر قائلًا: «يؤسفني القول إن كامالا ليست بخير.» فقد ارتفعت درجة حرارتها ثانية والأطباء يعتقدون أن «المرض لا يزال موجودًا.»22 وفي ذلك الوقت نصح الاختصاصيون بنقل كامالا إلى مونتانا، وهو منتجع صحي يقع في مرتفعات جبال الألب في إقليم فاليه جنوب شرق بحيرة جنيف. رحلت كامالا ونهرو وبيتي في منتصف أكتوبر إلى مونتانا حيث مصحة دكتور تيودور ستيفاني الشهير المعروفة باسم «لو ستيفاني» لعلاج مرض السل الرئوي والتي استقطبت مرضى السل الرئوي الأغنياء منذ إنشائها في تسعينيات القرن التاسع عشر.
وفي نوفمبر سافرت إنديرا للاحتفال بعيد ميلادها التاسع وحدها من شيسيير إلى مونتانا لرؤية والديها بعد غياب دام قرابة الخمسة الشهور. وسكنت في نُزُل صغير بالقرب من المصحة وكانت تزور والدتها مرتين في اليوم. ومنذ أول سقوط للثلوج على المرتفعات مارست إنديرا التزلج على الجليد في شيسيير، ثم باتت تمارسه الآن بصحبة والدها. كان الأمر يبعث على البهجة، أضف إلى ذلك الجمال من حولهما المتمثل في أعلى قمم سويسرا الغارقة في أشعة الشمس، يا له من مشهد في غاية الروعة! كتب نهرو إلى نان بانديت عن اعتقاده بأن «التزلج هو أفضل الرياضات التي يستمتع بها على الإطلاق، إلا فيما يخص لعبة الحياة والثورة المثيرة دائمًا». وأضاف عن «إندو» أنها «تتقدم باستمرار في رياضة التزلج».23 أزالت ممارسة الرياضة البدنية في هواء المرتفعات النقي البارد الشكوك والقلق من قلب نهرو على المستويين الشخصي والسياسي. وشعر أنه انعزل عن الهند. كانوا لا يرون سوى القليل جدًّا من الهنود، بل القليل من الناس عامة بعيدًا عن «المستعمرة الصغيرة» في المنتجع الجبلي.
كانت مونتانا منتجعًا وملعبًا للأغنياء المترفين بالإضافة إلى كونها مأوًى للمرضى والموشكين على الموت، أجواء غريبة على إنديرا. فمن ناحية هناك المصحة الخاصة بمرضى السل الرئوي، الذين كان معظمهم في «حالات متأخرة» ووالدتها ترقد على سرير أبيض في غرفة مفتوحة الباب والنوافذ لإفساح المجال لنفاذ هواء الجبال البارد إليها. ومن ناحية أخرى هناك العشرات من الفنادق الأنيقة المليئة بالأجانب القادمين من جميع أنحاء أوروبا وأمريكا، الذين يخصصون نهارهم لممارسة التزلج على الجليد، أما ليلهم فللاحتفالات والحفلات الموسيقية أو عروض رقص الباليه على الجليد. واستطاعت إنديرا أن تلاحظ التوتر المتصاعد بين الطبقتين المختلفتين من زوار مونتانا. فالمرضى وهؤلاء الذين جاءوا لقضاء الإجازة يستاء بعضهم من بعض، والعلاقة بين الأطباء والمسئولين عن الفنادق تتسم بأنها أقل ودًّا. والفنادق من أمثلة بالاس بيلفو وليدن ولو رويال ولو كونتيننتال تضع لافتات كبيرة مكتوبًا عليها «لا نقبل المرضى.»24
عادت إنديرا إلى مونتانا ثانية في عيد الميلاد. وفي خلال هذه الإجازة الطويلة اعترفت أخيرًا كيف أنها لم تكن سعيدة في شيسيير. بحث نهرو عن مدارس أخرى في المنطقة ورتَّب لها أن تنتقل إلى مدرسة «إيكول نوفيل» في بيكس، التي تستغرق الرحلة إليها ساعتين، مما يعني أنه قد صار بإمكانها زيارة والديها والتزلج مع والدها كل نهاية أسبوع تقريبًا. وعلى غرار المدرسة الدولية التابعة لعصبة الأمم كانت هذه المدرسة هي الأخرى معهدًا دوليًّا، وجميع التلاميذ بها فتيات تتراوح أعمارهن بين التاسعة والثامنة عشرة قادمات من أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة والهند وأوروبا. كانت مدرسة إيكول نوفيل توجد في ضيعة جميلة واسعة خارج بيكس اسمها «لا بيلوز» بناها في الأصل مهاجر روسي ثري. أقامت إنديرا في كوخ سويسري مدهون بألوان زاهية، وتحيطه أشجار التفاح والكمثرى والكستناء ومزارع الكروم. وكانت تستطيع من نافذتها رؤية سلسلة جبال دونت دو ميدي عبر الوادي وقممها مغطاة بالجليد. وناظرة المدرسة، الآنسة ليدي هيمرلين، امرأة سويسرية ذكية وطيبة تبلغ من العمر خمسين عامًا، ومع ذلك وصفتها كلمات إنديرا بأنها «قاسية للغاية في التدريبات البدنية وصارمة في فرض النظام».25
لا تفصح ذكريات إنديرا عن بيكس فيما بعد الكثير عن المنهج الدراسي أو نوع دراستها. فبدلًا من ذكر الكتب التي قرأتها وتعلمتها لم يكن ما تذكرته إنديرا عن إيكول نوفيل سوى أمور على شاكلة أن أول ما كانت تفعله عند استيقاظها في الصباح هو الحصول على «حمام بارد، أو بالأحرى ثلجي — مهما كانت حالة الجو — … ثم كنا نجري في الحديقة مرتدين سراويل قصيرة. وفي أيام الخميس والأحد نهرول ساعتين، وفي الأيام الأخرى فترة مماثلة من التمارين البدنية أو الألعاب الرياضية. والنوافذ كانت … تبقى مفتوحة» طوال الوقت.26 كان هذا هو تمامًا الجو المنشط الذي أراده والدها لها. وفي الحقيقة تحسنت صحة إنديرا في مدرسة إيكول نوفيل. بل إنها أحبت العمل في الحقول الذي يطلب من جميع التلاميذ القيام به في فصل الخريف، والذي تضمن قطف ثمار التفاح والكستناء وجمع العنب من المزارع.

تحسنت حالة كامالا ببطء في مصحة دكتور ستيفاني، واستطاع نهرو وأخته بيتي بالتدريج تركها والقيام برحلات قصيرة إلى باريس وبرلين ولندن، وتوجها أيضًا في فبراير ١٩٢٧ إلى بروكسل لحضور مؤتمر الشعوب المضطهدة الذي كان من نتائجه إنشاء الرابطة المناهضة للإمبريالية. على الناحية الأخرى كان من المنتظر حضور موتيلال نهرو في آخر الربيع في الوقت نفسه الذي شعرت فيه كامالا بتحسن شديد — وكان نظام المصحة قد أصابها بالضجر — حتى إنها أعلنت عن رغبتها في مصاحبة للآخرين في «الرحلة الأوروبية الكبيرة» التي نظمها موتيلال لهم جميعًا، وفي ذلك إنديرا.

بدأت إجازة إنديرا الصيفية في منتصف أبريل، ولكن بعد وصولها بوقت قصير إلى مونتانا وصلت برقية من الهند تفيد بأن موتيلال أجَّل رحلته لأوروبا لثلاثة أشهر آخرين على الأقل. فهو متورط في نزاع قانوني قديم، والفصل في هذا النزاع يتأجَّل باستمرار، وها هو الآن يتسبب في تأخيره لسفره. وبالإضافة إلى ذلك انشغل أيضًا في ذلك الحين ببناء منزل جديد للعائلة، ولم يكن البناء يسير بسرعة هو الآخر. وكان جواهرلال يعتقد لسنوات أن آناند بهافان، حتى في ظل تردي مستوى القصر، منزل ضخم للغاية عليهم وأنهم يجب أن يسكنوا في منزل أصغر وأكثر بساطة. وبعد سفره مع كامالا وإنديرا بوقت قصير إلى أوروبا بدأ موتيلال في إنشاء منزل جديد على أرض آناند بهافان. ولفترة ما على الأقل ظل الأمر في إطار متواضع إلى حد ما. ولكنه كان من الصعب على موتيلال — حتى مع ظروفه المالية الضيقة — أن يقوم بعمل أي شيء على نحو غير متقن. ومن ثَم كان من المحتم أن يُبنى آناند بهافان الجديد — مع صغر حجمه مقارنة بالقصر الأصلي — بأسلوب معماري أنيق مزخرف فصُمِّم البناء على شكل كعكة الزفاف، وتكوَّن المبنى من طابقين وعدد كبير من الغرف، وكانت له شرفة دائرية، وتحيط به حدائق كبيرة. ونتيجة لهذا لم يكن المنزل قد انتهى عندما خطط موتيلال في الأساس للإبحار إلى أوروبا في مايو ١٩٢٧.

وإذا انتظروا وصول موتيلال فسيطول الانتظار حتى سبتمبر أو بعد ذلك، وهو الوقت الذي سيكون على إنديرا العودة فيه إلى المدرسة. وكان جواهرلال يشعر أن إنديرا يجب أن تتعرَّف على باريس ولندن قبل عودتها إلى الهند. بالإضافة إلى أن كامالا شعرت بالقلق والضيق وتاقت لمغادرة مونتانا. ومن الواضح أنهم عندئذٍ كانوا على استعداد لاختصار رحلتهم عما كان مخططًا من قبل، ولكن منعهم ضيق ذات اليد. ثم وصلت إليهم برقية من مدينة الله آباد مفادها أن موتيلال يحثهم على البدء في السفر دونه وبعث إليهم حوالة بمبلغ ٥٠٠ جنيه استرليني. وغادر جواهرلال وكامالا وبيتي وإنديرا مونتانا في الأول من شهر مايو.

ووصلوا إلى باريس في اليوم التالي حيث وجدوا فندقًا رخيص التكلفة في حدائق موتسارت. كان الوقت ربيعًا حيث الأشجار مزهرة في الشوارع، وهناك زاروا قوس النصر وكاتدرائية نوتردام وبرج إيفل ومتحف اللوفر، ولكن ما بقي حيًّا ينبض في ذاكرة إنديرا فيما بعد هو عدد الأشخاص المبتورة أطرافهم بعد إصابتهم أثناء الحرب العالمية الأولى؛ رأت إنديرا هؤلاء الأشخاص في الشوارع وداخل المترو حيث كانت فيه مقاعد مخصصة «لمعاقي الحرب». وبجانب المزارات السياحية المعتادة أخذها جواهرلال إلى سجن الكونسيرج، وهو مكان بغيض شأنه شأن سجن نايني في مدينة الله آباد.27 وفي إحدى الليالي خرجوا لمشاهدة مسرحية «دراكولا» المثيرة التي حظيت بشهرة كبيرة آنذاك. ولإضفاء الجو المناسب على المسرحية وُضِعت عربات الإسعاف خارج المسرح، وتهيأت الممرضات بأزيائهن داخل الصالة لمعالجة الأفراد من المشاهدين الذين يفقدون وعيهم من الرعب. وأثناء العرض فُتحت الأبواب والنوافذ فجأة وطار مصاص الدماء إلى الداخل مربوطًا بأسلاك غير مرئية.28
وفي الليلة التالية ذهبوا لمشاهدة مسرحية «القديسة جوان» لجورج برنارد شو، التي لم يكن تأثيرها قويًّا لكن كان عميقًا في نفس إنديرا. ويبدو للعيان أن شخصية جان دارك من ضمن العوامل التي أثرت بشدة على إنديرا في طفولتها، وإن لم يتضح هذا الأمر إلا فيما روته إنديرا بعد توليها منصب رئيسة الوزراء. عندما كانت إنديرا طفلة كتب نهرو عن جان دارك في العديد من الخطابات التي أرسلها لها وأيضًا في كتاب «لمحات من تاريخ العالم»، في حين أن إنديرا نفسها لم تذكرها أبدًا في خطاباتها الشخصية، ولا بوجد سوى نذر يسير من الأدلة المعاصرة تؤكد على أهمية قصة جان دارك لإنديرا والمثل الأعلى الذي مثَّلته لها. ففي كتاب كريشنا نهرو هوثيسينج «نحن آل نهرو» عام ١٩٦٨ الذي قصت فيه ذكرياتها العائلية، وأيضًا في كتابها عن سيرة إنديرا الذي نشر بعد ذلك بعام، مزاعم أن ابنة أخيها في طفولتها كانت تقف في شرفة آناند بهافان ممسكة بأحد الأعمدة بذراعها وترفع الذراع الأخرى في الهواء عاليًا قائلة: «أنا أمارس دور جان دارك … وفي يوم ما سأقود شعبي إلى الحرية مثلما … حدث بالفعل.»29 ولكن هذا الوصف الرومانسي لإنديرا وربطها بجان دارك الملقبة ﺑ «عذراء أورليانز» لم يظهر في السيرة الذاتية للعائلة التي كتبتها كريشنا ونشرتها في وقت سابق وبالتحديد عام ١٩٤٦، أي قبل وقت طويل من تمتع إنديرا بمثل تلك الأهمية السياسية.
وعندما أصبحت إنديرا رئيسة للوزراء باتت متضاربة مع نفسها فيما يخص دور جان دارك في حياتها. فمن ناحية تقول: «انبهرت بجان دارك لأنها حاربت البريطانيين ولأنها فتاة، وقد جعلها ذلك أقرب إلى نفسي من الآخرين ممن قاتلوا من أجل الحرية.»30 وقالت لأحد كتَّاب السيرة الذاتية عام ١٩٦٧ إن استشهاد جان دارك هو تحديدًا ما جذب انتباهها؛ «لقد أُعدمت حرقًا على الخازوق. وكان هذا الحدث هو الأبرز حتى إنني تخيلت لنفسي مصيرًا كمصيرها.»31 ولكن من ناحية أخرى لم نجد لجان دارك أبدًا أي ذكر في مراسلات إنديرا أو مقابلاتها أو ذكرياتها أو خطبها خلال السنين التي سبقت توليها السلطة. وقد أخبرت إنديرا إحدى كاتبات السيرة فيما بعد — وقد كانت إنديرا دائمًا أكثر صراحة مع محاوريها الإناث من المحاورين الرجال — أنها لا تتذكر أن جان دارك مثلت لها أهمية وهي طفلة، واعترفت أنها عندما كبرت ذكرها نهرو بأن هذه كانت هي الحالة،32 فيبدو أن جان دارك كانت مثلًا أعلى لها في الماضي، وهي أحد المكونات الرئيسية التي ساعدت إنديرا فيما بعد في سرد الأساطير حول طفولتها وتطورها السياسي.
ومن أكثر الأحداث إثارة لإنديرا في باريس هبوط تشارلز ليندبرغ في مطار لو بورجيه في ٢١ مايو بعد عبوره المحيط الأطلسي منفردًا في رحلة استغرقت ثلاثًا وثلاثين ساعة ونصفًا في طائرته التي أطلق عليها اسم «سبيريت أوف سانت لويس» أحادية المحرك، كانت إنديرا الجالسة على كتف نهرو واحدة من الحشود الهائلة التي شاهدت هبوط ليندبرغ ثم حيَّته بحرارة عندما خرج من الطائرة. كان نهرو مفتونًا بالطيران منذ رحلة كيتي هوك التي قام بها الأخوان رايت عام ١٩٠٣، وعندما تحول لمدة قصيرة للثيوصوفية في فترة المراهقة بدأ يحلم «بالأجسام السماوية وتخيل [نفسه] يطير لمسافات طويلة»، وظل «حلم الطيران عاليًا في الهواء (دونما تطبيق أبدًا)» واحدًا من أحلامه الدائمة طوال حياته.33 إلى جانب أن جواهرلال وموتيلال، وقبل رحلة ليندبرغ عابرة الأطلسي بثمانية عشر عامًا، وقفا في برلين ضمن جموع تجاوز عددها مليون شخص لمشاهدة هبوط الكونت تسيبلين في طائرته. وبعد شهرين شاهد الاثنان طيران الكونت دي لامبرت حول باريس ودورانه حول برج إيفل، ولكن كل هذه الأحداث تعتبر لا شيء مقارنة برحلة ليندبرغ البطولية التي كانت «مثل السهم اللامع حول الأطلسي».34 أثارت هذه الرحلة إنديرا مثلما أثارت والدها، ومع أنها لم ترث من والدها التعلق بالطيران فإن ابنيها بعد وقت طويل قد فعلا.

ومع مرور الأيام واستمرار نهرو وإنديرا في زيارة الأماكن السياحية في باريس كان الوقت الذي تجلس فيه كامالا وحيدة في الفندق يزداد، مصابة بالعديد من الأعراض القديمة التي كانت تعانيها كالصداع و«الأزمات القلبية» — وهو الاسم الذي أطلقته على سرعة خفقان قلبها — وفقدان الشهية والإعياء والإرهاق. وأصبحت مكتئبة بشدة أيضًا. وقد تعرفنا على حالتها النفسية خلال ربيع وصيف عام ١٩٢٧ لأنها كتبت سلسلة من الخطابات التي تميزت بنوع من المصارحة الشديدة إلى سيد محمود خلال تلك المدة. لم يكن محمود صديقًا قديمًا وزميلًا عاملًا لجواهرلال في حزب المؤتمر فحسب، فقد كان يُعلم كامالا اللغة الأردية منذ مطلع عشرينيات القرن العشرين، وخلال الدروس نمت بينهما علاقة وطيدة. وبعد أن أهملها معظم الكبار في آناند بهافان وغياب زوجها معظم الوقت لجأت كامالا إلى محمود ووثقت به كما لو كان أخاها.

في أحد خطاباتها الأولى التي بعثتها من باريس إلى محمود لم تتظاهر كامالا بأنها في صحة جيدة أو بكونها سعيدة؛ إذ قالت: «إن المرض المستمر يجعل الحياة غير محتملة … أشعر بأنني عديمة الفائدة للعالم وأنني أثقل عليه لأنني لا أفعل شيئًا غير الأكل والنوم فقط … إنني حمل ثقيل على الجميع. كم أتمنى لو تأتي نهايتي قريبًا. إن أخاك [جواهرلال] لا يستطيع القيام بعمله بسببي.»35
وفي خطاب آخر بتاريخ ٤ مايو كانت حالتها النفسية أسوأ؛ إذ جاء فيه: «إن الموت أهون عليَّ من مثل هذه الحياة، ولكن حتى الموت يخشاني … كنت أشعر بالسعادة عندما ظننت أن مرض السل الرئوي سيريحني من هذه الدنيا، ولكني لم أكن أعرف أن الموت نفسه يهابني … وحدهم الأغنياء والأصحاء يجب أن يأتوا إلى هنا [باريس]. إنني أرى نفسي سجينة هنا … فكلهم خرجوا للتنزه، أما أنا فبقيت وحيدة بالمنزل.»36

ازدادت عزلة كامالا وصمتها. وكانت هي وإنديرا في تناغم تعرف كل منهما حالة الأخرى، ومن ثَم لاحظت إنديرا اكتئاب كامالا. وفي النهاية لاحظ نهرو الأمر أيضًا وقرر الرحيل إلى لندن.

وفي إنجلترا ازدادت الأمور سوءًا. فقد واجهوا صعوبة في حجز غرف بفنادق لندن، وشرحت كامالا الأمر في خطاب إلى سيد محمود قائلة: «لقد وصلنا إلى لندن في الأول من يونيو، لم ترُقْني لندن من اللحظة الأولى لوصولنا إلى المحطة. وكلما ازدادت مدة إقامتنا ازداد كرهي للمكان … لقد كان اللون عاملًا يثير الارتياب في كل مكان. فأينما ذهبت تجد إجابة برفض إقامة رجل أسود … لقد ازداد كرهي للإنجليز بشدة … فنحن هنا في كل خطوة ندرك أننا عبيد.» واستطردت كامالا قائلة إنه في سويسرا «نحن … لم نشعر أبدًا بأننا أغراب».37
وفيما بعد ذهبوا إلى منتجع بريتون الفاخر قرب البحر لعشرة أيام، حيث وجدوا في كل شبر شعورًا بالعداء، فعادوا إلى لندن لقضاء عدة أسابيع. اصطحب نهرو إنديرا إلى متحف التاريخ الطبيعي في مدينة ساوث كينجستون حيث رأت الحفريات والآلات التي تعود للعصر الحجري وهياكل الديناصورات الضخمة، واصطحبها إلى المتحف البريطاني حيث شاهدت المومياوات المصرية، ثم إلى مبنى البرلمان. وزاروا كريشنا مينون، وهو رجل صغير يتسم بالغرابة والهزال بأنفه الذي يشبه المنقار وعينيه الغائرتين، الذي تحدث بقوة عن إنشاء منظمة للسعي خلف استقلال الهند.38
أما هناك في فندق بيركلي فكانت كامالا لا تزال على مراسلاتها مع محمود، وأحد المواضيع الملحة في هذه الخطابات ضرورة تعليم بناته وتحريرهن وزوجته من نظام الحجب الهندي. ومن الواضح أن كامالا ناقشت هذا الأمر مع محمود قبل أن تغادر مدينة الله آباد وكانت تسأله عما اتخذ من رد فعل في كل خطاب أرسلته من أوروبا تقريبًا. وعندما ظل صامتًا هددته كامالا بقولها: «لن أخبرك بأي شيء عن حالتي الصحية حتى تخبرني أنباء سارة بأن الترتيبات الخاصة بتعليم بناتك قد تمت.»39
كانت مشاعر كامالا الانفعالية حول تعليم النساء شخصية وسياسية في آن واحد. فأخبرت محمود أنه من التناقض تمامًا — بل من الزيف والنفاق — أن يكرس نفسه لاستقلال الهند ثم يحرم بناته من التعليم، وقالت: «هل يمكنك أن تتخيل بلدنا حرة دون تعليم النساء؟ … إنكم تتركوهن يتعفنَّ في ظل نظام الحجب و… وتغلقون عقولهن.»40 وأدانت سلوك محمود من الناحية الأخلاقية إذ استطردت: «هل واجبك أن تأتي ببنات إلى الدنيا ثم تتركهن وحيدات مثل الحيوانات؟ في رأيي جميعكم [أيها الرجال] شديدو الإثم.» وتابعت مهددة: «وسيأتي الوقت الذي فيه تُحرر المرأة [و] يبقون عليكم أنتم في الحجب.»41
إن المفارقة في النقاش الدائر بين كامالا ومحمود تتجلى في حقيقة أن محمودًا هو معلم كامالا، ومن ثَم فإنه يعد محررها بدرجة ما، مفارقة أدركتها كامالا وأوضحتها له. وفي رجائها له حتى يعلم بناته أوضحت كامالا كيف أن نقص تعليمها أفسد حياتها. واستطردت قائلة له: «عندما أنظر إلى مأساتي أعتقد أنه يجب إنقاذ الفتيات الصغار من مأساة تبديد حياتهن، مثلي … لقد تحطمت حياتي بكل ما في الكلمة من معانٍ … وأكثر ما يدعو للأسف أني أنا نفسي لست بالقدر الكافي من الذكاء الذي يؤهلني لتعليم الآخرين. لا بد أن أكبت شغفي تجاه الأشياء.»42
كانت مناقشة كامالا مع محمود مشحونة بشعورها الشخصي بالندم والتفاهة. وكان هذا هو السبب في مخاوفها المستمرة بشأن تعليم إنديرا. فقد قالت في أحد خطاباتها لمحمود: «عند عودتنا [إلى الهند] ستواجه إندو الكثير من الصعوبات لأنه لا توجد مدرسة تعجبني في مدينة الله آباد.»43 ومن ثَم كان العزاء الأكبر لكامالا في كونها في أوروبا هو شعورها أن إنديرا أخيرًا تحظى بالتعليم المناسب.

ومع أن إنديرا نفسها كانت دائمًا تنكر فيما بعد أنها من أنصار المساواة التامة بين الجنسين، فقد تأثرت كثيرًا بهذا الاتجاه في والدتها. فقد أدركت كيف كان هذا الاتجاه جزءًا لا يتجزأ من ارتباط كامالا السياسي بحزب السواراج وكيف شكَّل الطريقة التي ربت بها ابنتها، من حيث إصرارها على أن تكون إنديرا إنسانة مستقلة منذ نعومة أظافرها، وأن تكون لها كل الفرص والتوقعات والمتطلبات التي كان من الممكن أن يحظى بها طفل ذكر. غير أن كامالا كانت تمثل صوتًا منفردًا سواء أكان هذا في الهند أم في عائلتها. فقد كانت حماتها سواروب راني وأخت حماتها الأرملة بيبي آما نموذجين بدائيين للسيدات الهنود التقليديات، مع أن كونهن كشميريات جعلهن لا يخضعن لنظام الحريم الذي يعزل النساء عن الرجال الغرباء. أما نان بانديت وبيتي فقد كانتا متفرنجتين ولكنهما لم تطالبا بالمساواة بين الجنسين إلا فيما ندر. ولم تنالا تعليمًا متميزًا. حيث كان موتيلال نهرو، عندما كانت بناته يترعرعن في العقد الأول من القرن، أبًا متشبعًا بالأفكار التقليدية التي حطت من مكانة المرأة وسادت عصر الملك إدوارد السابع، ومع أنه أنفق الكثير من المال على جواهرلال في هارو وكمبردج فإنه لم يكن يرى أي فائدة من إرسال نان وبيتي إلى المدرسة. وحتى بعد بداية حركة عدم التعاون ونداء غاندي لنساء الهند بالقيام بدور نشط قاوم موتيلال رغبة بيتي في أن تتدرب لتصبح معلمة حتى تدخل جواهرلال نيابة عنها.

ومن إنجلترا انتقلت عائلة نهرو إلى برلين وهايدلبرج في بداية شهر يوليو، وهذا كان مبعثًا لسعادة كامالا حيث كتبت لمحمود: «جميع الأماكن محببة لقلبي أكثر من لندن.»44 ثم أُرسلت إنديرا وحدها لمعسكر صيفي للأطفال في بلدية آنيسي بفرنسا، قرب الحدود السويسرية، وعادت كامالا وجواهرلال إلى باريس. وفي أغسطس عادوا إلى لندن مما أثار امتعاض كامالا، حيث كتبت إلى محمود في يوم ٢٠ أغسطس تقول: «جواهر … ذاهب إلى آنيسي لرؤية إندو … لقد كتب لنا صديق يخبرنا أنها تبدو أفضل بكثير. أتمنى أن يسمن جسدها قليلًا. فهي نحيفة للغاية. يبدو أنها سعيدة هناك. سيأتي باباجي [موتيلال] إلى هنا في سبتمبر.»45
قبل أن يصل موتيلال في النهاية في بداية سبتمبر ١٩٢٧ كانت إنديرا قد عادت إلى المدرسة في بيكس، وبقيت هناك في حين تقوم كامالا وجواهرلال وبيتي وموتيلال في ذلك الوقت برحلة في العواصم الأوروبية التي خطط لها موتيلال، حيث يقضون وقتهم في فنادق الدرجة الأولى (التي كانت معارضتها لإقامة الهنود أقل — ما داموا أثرياء — عكس تلك الفنادق الرخيصة التي اختارها جواهرلال) وزيارة المزيد من الأطباء المتخصصين. وفي بداية نوفمبر ١٩٢٧ ذهبت عائلة نهرو إلى موسكو للاحتفال بالذكرى العاشرة لقيام الثورة الروسية. ومن هناك بعث نهرو في العاشر من نوفمبر بطاقة بريدية إلى إنديرا في بيكس قائلًا: «نحن الآن في موسكو في روسيا. سآتي إليك قريبًا. أتمنى أن تكوني بخير. مع حبي، أبوك.»46
كان وعد نهرو باستعادة إنديرا هو سبب قراره النهائي بالعودة إلى الهند بعد سنة وتسعة شهور بالخارج. كان موتيلال يرغب في البقاء لوقت أطول وقال إنه سيبقى في أوروبا عدة أشهر بعد رحيل جواهرلال وكامالا وإنديرا وبيتي في مطلع ديسمبر. لم تكن كامالا قد شُفيت تمامًا، ولكن مرض السل الرئوي الذي أتى بهم في المقام الأول إلى أوروبا كان خاملًا. وجواهرلال نفسه حسب وصفه «في حالة بدنية وذهنية جيدة».47 وفي حقيقة الأمر كان الوقت الذي قضاه بالخارج حاسمًا له أكثر مما كان لزوجته. فقد صاغ للأبد فكره الثقافي والسياسي؛ فكوَّن علاقات مهمة مع مفكرين وقادة سياسيين أوروبيين شاركوا في ميلاد الرابطة المناهضة للإمبريالية، وكان شاهدًا على الشيوعية في عقر دارها في روسيا. ومن ثَم أسهم كل هذا في إعادة شحن عقله بل تجديده، وبات يتوق للعودة إلى المعترك السياسي في الهند.

تُرى ماذا عن إنديرا — التي أصبحت في العاشرة من عمرها حينما كان والداها وعمتها وجدها في روسيا — كيف تغيرت؟ لقد زاد طولها عدة سنتيمترات، حقًّا لقد كادت أن تلحق بكامالا سريعًا. وامتلأت قليلًا أيضًا وأصبح جسدها قويًّا بفعل ممارستها للركض والتزلج. وفي ذلك الحين باتت تتحدث الفرنسية بطلاقة، وتقدم مستواها في اللغة الألمانية. وقد راقت لإنديرا ما تعرضت له من ثقافة أجنبية ومشاهد طبيعية خارجية. وأصبحت معتمدة على نفسها وصلبة على نحو ملحوظ نتيجة حياتها بعيدًا عن والديها وسفرها وحدها.

في حقيقة الأمر لم تكن إنديرا طفلة صغيرة عندما أبحروا من مرسيليا في ٢ ديسمبر ١٩٢٧. وخلال حياتها كانت إنديرا تشعر دائمًا أنها تبلغ العمر المناسب في الوقت المناسب، فمنحنى عمرها يرتبط بمسيرة التاريخ على نحو ما. والآن في ١٩٢٧، في عمر العاشرة، كانت إنديرا تغادر محطة الطفولة مثلما كان النضال السياسي في الهند يحقق أهدافه نوعًا ما.