إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الخامس

ظهور فيروز في حياتها

في أحد أيام شهر أبريل عام ١٩٣١ سافرت إنديرا بصحبة والديها — بالإضافة إلى سائق وخادمة وخادم جواهرلال الذي يدعى هاريلال — من مدينة كولومبو إلى مدينة كاندي في سيلان (سريلانكا الآن) عندما استداروا بسرعة كبيرة عند أحد المنعطفات في الطريق، ليجدوا سيارتهم تسير في منعطف آخر أكثر انحدارًا وحدة. وانجرفت عجلتا السيارة الخلفية إلى حافة الجرف. وبينما السائق يضغط على كوابح سيارته ويحرك عجلة القيادة بسرعة نحو الاتجاه العكسي؛ إذ بإنديرا الجالسة بجواره تفتح باب السيارة وتقفز منه، تاركة الباقين في السيارة — لمدة خمس دقائق كما أشار والدها — يندفعون أسفل المنحدر ليلاقوا مصيرهم المحتوم. لكن براعة السائق وردود فعله السريعة أنقذتهم. وبرغم شعورها بالخجل الشديد من هذا التصرف، لم يُصِب إنديرا الهلع أبدًا فيما بعد أثناء مواجهتها الخطر.1
كانوا قد ذهبوا إلى سيلان لقضاء عطلتهم. فقد كانت صحة نهرو في تدهور تام بعد وفاة والده، وبعد «الاستسلام التام غير المشروط» وهو الوصف الذي أطلقه على المعاهدة التي وقعت بين غاندي والحاكم البريطاني اللورد إيروين في مارس ١٩٣١. كانت شروط هذه الهدنة تنص على أن يلغي غاندي العصيان المدني، ويوافق على العمل في سبيل إنشاء حكومة ذاتية بالتدريج ويطلق البريطانيون سراح المعتقلين السياسيين، ويسمحون للفلاحين بإنتاج الملح للاستهلاك المحلي. كان من المفترض أن تكون سيلان مهربًا من الحزن وتسويات النزاع السياسي. ورأت إنديرا أنها مكان «خصب للغاية يتميز بالخضرة والجمال الآسر». أما نهرو فقد شبهها بأرض آكلي اللوتس التي ذكرها هوميروس في الأوديسا؛ إذ قال نهرو عنها: «إنها مكان فاتن … الطقس دائمًا رائع … حيث يكاد المرء ينسى الكفاح والتعاسة الموجودين في العالم الواقعي.»2
ولكن الأمر كان أبعد ما يكون عن الهدوء والسكينة. فحتى في وقت العطلة تظل عائلة نهرو محتفظة بشهرتها. فكأن أفرادها ملكية عامة، فالصحافة ترصد جميع تحركاتهم. ووجوههم مألوفة للعامة الذين رأوهم في ملصقات حزب المؤتمر أو في الصور التي تنشرها الصحف. وفي «آنورادهابورا»، المدينة القديمة المقدسة، كان يأتي لزيارة جواهرلال وكامالا وإنديرا «مجموعات من العمال والعاملين بحقول الشاي وآخرون … ممن يأتون إليهم سيرًا على الأقدام لمسافة عدة أميال حاملين معهم … الهدايا [من] … الزهور البرية والخضراوات والزبد المعد في المنزل.»3 ومع تجوالهم في باقي ربوع سيلان من أجل زيارة الآثار البوذية والمعابد والقصور والقلاع القديمة، كانت «الحشود [وراء] الأخرى» تتبعهم، وكانوا يتورطون في «دوامة من الارتباطات وإلقاء الخطب والاجتماعات وحفلات الاستقبال». سافرت عائلة نهرو إلى أقصى مكان جنوب الجزيرة ومنه إلى أقصى شمالها بالقطار حتى وصلوا إلى مدينة جافنا حيث كان في انتظارهم هناك أيضًا «برنامج حافل».4
ومع هذا الجدول المليء بالأعمال والحشود شهد زواج جواهرلال وكامالا — الذي كان في عامه السادس عشر آنذاك — تحولًا في سيلان أثر فيهما بعمق وأدهش كليهما. فكما يصفه نهرو، كان يبدو وكأن «أحدنا قد اكتشف الآخر من جديد. فكل الأعوام التي قضيناها معًا ما كانت إلا تجهيزًا لهذه العلاقة الجديدة الأكثر حميمية وألفة». فقد كان يدهشهما — وهما يشاهدان حطام زيجات أخرى عديدة — كيف استطاعا أن يبقيا على «تلك الشرارة مشتعلة».5 ولم تكن تلك الشرارة مشتعلة من منطلق الحب العذري فحسب. فقد قال نهرو فيما بعد لغاندي إن لمسة كامالا (وحدها بخلاف جميع البشر) «دائمًا ما تهز كيانه». وكانت علاقتهما «غالبًا مؤلمة»، ولكنها كانت في الوقت نفسه «مثيرة».
لم يكن حب نهرو لزوجته، كما أدرك في ذلك الوقت، إلا خليطًا نادرًا. فقد كانت هناك تلك الحالة اللذيذة من الانجذاب الجنسي. ولكنه ما لبث أن تصاعد وازداد شدة منذ أن ظهر نشاط كامالا السياسي قبل عامين مع زيادة احترام نهرو وإعجابه. فقد كان نهرو رجلًا لا يمكن أن ينجذب إلا لامرأة يشعر أنها مكافئة له. وأدركت كامالا هذه الحالة مؤخرًا عندما خرجت في شوارع الله آباد للتظاهر عام ١٩٣٠. والآن في سيلان يتشاركان في نوع متناقض من أنواع الألفة العاطفية. فمن جانب كانت كامالا هي «الشخص الوحيد الذي يستطيع … الدخول في ثنايا الحياة الخاصة المنعزلة» لزوجها، وهي الشخص الوحيد القادر على اختراق عزلته. وفي الوقت نفسه ظلت شخصية كل منهما للآخر محيرة ومجهولة إلى حد ما. قال نهرو عن زوجته في هذا الشأن: «إنها كانت غامضة عليَّ وكنت غامضًا عليها و… لم تتوقف أبدًا المفاجآت ولا الاكتشافات.»6

كيف كان وضع إنديرا في هذه الحالة الجديدة من الحميمية التي انتابت والديها؟ كان العدد ثلاثة بالطبع يعد مجموعة كبيرة، كانت عائلة نهرو الآن تمثل ثلاثيًّا مختلفًا حيث إنديرا كالمشاهد، تحوم حول جوانب علاقة والديها، وربما هي متأثرة بها، ولكنها إلى حد ما بعيدة عنها.

أما الآخرون فقد كانت الأسرة تدهشهم. ففي عمر الثانية والأربعين أصبح نهرو أصلع تحيط عينيه الهالات السوداء. أما كامالا، التي تصغره بعشرة أعوام، فقد كانت هيفاء ذات بشرة صافية وناعمة. كانت لا تزال تبدو وكأنها فتاة صغيرة. أما إنديرا، التي كانت تبلغ الرابعة عشرة، فكانت قد بلغت أقصى طول لها وهو خمسة أقدام وبوصتين وكانت أطول من والدتها ببوصة أو بوصتين. كان كل من يرى نهرو يتعرف عليه في الحال، في حين كان هناك التباس في التفرقة بين كامالا وإنديرا. كتب نهرو إلى أخته قائلًا: «يُنظر إلى كامالا غالبًا على أنها ابنتي. ولكن ما قولك في أن يُنظر إلى إندو على أنها الأم! لقد حدث هذا الأمر مرارًا وتكرارًا!»7
عادت الأسرة إلى الله آباد عبر جنوب الهند والولايات الهندية المستقلة اسمًا لا حقيقة، وهي ولايات ترافاكور وكوشن ومالابار وميسور وحيدر آباد حيث الحشود «المتجمهرة» ثانية، ومن ثَم كانوا يندفعون «من مكان إلى آخر، ومن عمل إلى آخر دونما راحة أو سكينة».8 ولكن ما أدهش إنديرا بشدة في الجنوب هو الحاجز الطبقي الموجود في كل مكان. فقد تربت إنديرا على عدم التفرقة بين الطبقات، وهي تربية غير معتادة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. وعائلة نهرو بها العديد من الخدم الذين ينتمون إلى طائفة الهاريجان «المنبوذين» في قصر آناند بهافان والذين كانوا يعيشون ويأكلون معهم، ومن ضمنهم هاريلال الخادم الشخصي لموتيلال، وأصبح بعد وفاته خادمًا لجواهرلال. ولأول مرة في جنوب الهند تجد إنديرا التحيز الطبقي في كل مكان ذهبوا إليه. فهناك «شوارع بأكملها»، على حد قولها، محظورة على الهاريجان أو «المنبوذين» بلافتات كبيرة مكتوب عليها «للبراهمة فقط». ومع ذلك كان المنبوذون يسيرون فيها مع الآخرين.9

كانت الذكرى الحية الأخرى في مخيلة إنديرا في رحلة عودتهم هي مشهد كامالا وهي تلقي خطبة في حيدر آباد تحث فيها النساء على الخروج عن سياسة حجب النساء وعزلهن، تأثرت إنديرا كثيرًا بأداء والدتها. ولكنها لم تكن تفهم وقتها اتجاهات كامالا المناصرة لحقوق المرأة، حيث إنها لم تختبر بنفسها قط أي عيوب في أنها فتاة. ولم ترَ إنديرا حولها أي اضطهاد للنساء. وهذا الاضطهاد بالطبع لم يكن في حيدر آباد حيث أقاموا مع قائدة حزب المؤتمر سروجيني نايدو التي تتسم بكونها امرأة ذكية وقوية ومؤثرة هي وابنتاها ليلاماني وبادماجا.

•••

بعد عودة أسرة نهرو إلى الله آباد في أوائل مايو بوقت قصير حدث أمر ما، واحد من تلك الأحداث الخفية غير الملحوظة التي مع ضآلتها تُشكل حياة وتترك جروحًا؛ كانت نان بانديت عمة إنديرا كثيرًا ما تصفها بأنها «دميمة وغبية»، وتردد ابنة عمتها هي الأخرى هذه الكلمات مرارًا وتكرارًا. ونظرًا إلى طول قامة إنديرا الذي يسبق سنها ونحافة جسدها وكبر أنفها، بالإضافة إلى لون بشرتها الذي كانت تشعر أنه داكن للغاية، تسببت «الكلمات المدمرة» لعمتها في تحطيم إنديرا عاطفيًّا. كانت إنديرا بالفعل خجولة وتشعر بعدم الطمأنينة. وتحولت على إثر رأي عمتها المؤلم فيها إلى مراهقة صامتة ومتقلبة المزاج. وظلت لفترة من الوقت لا تشعر بالسكينة ولا بالرضا عن جسدها. وبعد خمسين عامًا كان رأي عمتها الذي لم يراعِ مشاعرها «لا يزال نابضًا في مخيلتها». فقد «دمرت شبابها»، حسب كلمات إنديرا نفسها.10

تقاسي نساء كثيرات من جراء التعرض لتجارب «تدميرية» مشابهة في سن المراهقة. ولكن إنديرا لم يكن لها سوى قليل من الدعامات التي يمكنها الاتكاء عليها، هذا إذا لم تكن منعدمة. ولا يوجد أحد تتجه إليه في الواقع. فوالداها منشغلان بالسياسة وأحدهما بالآخر. وجدها توفي. ولم يكن لديها أصدقاء وأولاد عمومتها لا يزالون أطفالًا صغارًا. وبالإضافة إلى هذا كانت إنديرا على وشك الرحيل إلى المدرسة. حيث تقرر هذا الأمر قبل عطلة سيلان. فقد كان جواهرلال وكامالا يعتقدان أن هذا هو الحال الأفضل بالنظر إلى وضعيهما واحتمالية أن يُسجنا معًا مرة أخرى.

ومن ثَم نُفيت إنديرا في مايو عام ١٩٣١ إلى «مدرسة الطلبة» في بونا جنوب بومباي التي يديرها زوجان بارسيان يدعيان آل فاكيل، واللذان كانا قريبين من غاندي، ودرسا في مدرسة رابيندراناث طاغور الشهيرة في شانتينيكيتان. كان جيهانجير فاكيل رجلًا اشتراكيًّا تلقى تعليمه في أكسفورد، ويتبع مثله مثل نهرو مذهب اللاأدرية. أما زوجته كونفيرباي فكانت مغنية موهوبة وفنانة من فناني الباتيك (الطباعة بالشمع).11 ويدير الزوجان معًا روضة أطفال ومدرسة لأطفال أعضاء حزب المؤتمر تعد مشروعًا قوميًّا يشجعه الشعب في شانتينيكيتان في البنغال. كان الطلاب وهيئة التدريس جميعهم يرتدون الخادي، وعندما يُعتقل أعضاء حزب المؤتمر يمنح الطلاب عطلة. ويجري التدريس في الهواء الطلق تحت ظلال الأشجار وفي الحدائق التي تُحيط منزل آل فاكيل المكون من طابق واحد والشبيه بمساكن الإنجليز المستعمرين، والكائن في ٣ شارع ستافلي في منطقة الثكنات العسكرية في بونا. كان المنهج الدراسي المتبع يُعد الطلاب لامتحان الحصول على شهادة الثانوية العامة الهندية، ولكن كانت الفنون، وخاصة الرقص والموسيقى، كما كان الحال في شانتينيكيتان، من المجالات التي يجري التركيز عليها.
كان لآل فاكيل ابنتان، الصغرى تدعى إيرا والتي كانت بالمنزل عندما وصلت إنديرا، ولم ترَ هذه الفتاة في إنديرا سوى فتاة طويلة نحيلة عصبية تحت عينيها هالات سوداء ويعلو رأسها شعر طويل غير مصفف. أما الكبرى التي تدعى جاي، والتي أصبحت صديقة حميمة لإنديرا، فقد لمحتها فيما بعد تبكي خلف إحدى الأشجار. ولمدة طويلة ظلت إنديرا بائسة، يخالجها شعور بالحنين الشديد إلى المنزل والاشتياق الشديد لوالديها. كان في المدرسة سبعون طالبًا من الجنسين. (زاد هذا العدد إلى ١٢٠ في السنتين التاليتين مع تدفق طلاب المعتقلين السياسيين، وفي ذلك بنات أسرة البانديت.) ومع ذلك ظلت إنديرا لبعض الوقت الطالبة الوحيدة المقيمة إقامة كاملة بالمدرسة. هذا بالإضافة إلى كونها الأكبر سنًّا والأطول بين طالبات المدرسة، ولديها أكثر أبوين مشهورين. فلم تستطع الخروج من دائرة الملاحظة من جميع النواحي.12

كانت الأفكار التجريبية والاشتراكية هي أساس التدريس في المدرسة، ومع ذلك ظلت المواد البعيدة عن الفنون هي نفسها المواد التقليدية التي تُدرس في المدارس البريطانية في الهند. فإنديرا كانت تدرس التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية والفيزياء والكيمياء. ويدفع نهرو لإنديرا تكاليف إضافية من أجل حصولها على دروس في اللغة الفرنسية والسنسكريتية، هذا بالإضافة إلى تعلمها الرقص الشعبي واللغة الجوجاراتية. ومع أن المدرسة كانت مؤسسة على ميزانية صغيرة والطلبة غير المقيمين بالمدرسة يدفعون ٧ روبيات شهريًّا، كانت مصاريف إنديرا الشهرية، وفي ذلك التعليم الإضافي، تصل إلى ١٠٠ روبية، وهو مبلغ لا يستهان به بالنظر إلى أحوال نهرو المادية غير المستقرة.

تُرى هل استفادت إنديرا من هذا التعليم باهظ التكاليف؟ مع كون إنديرا جيدة في اللغة الفرنسية كانت طالبة غير مبالية، ربما لكونها ظلت حتى ١٩٣٢ دون أقران، ودون أحد تنافسه أو تتعلم معه إلى أن التحقت بالمدرسة فتاة بارسية تدعى شانتا غاندي (لا تمت بصلة للمهاتما غاندي أو فيروز). كانت إنديرا تكبر طالبات المدرسة بعدة سنوات والمواد الدراسية التي تُدَرَّس في الفصول على مستوى غالبية الطلبة الأصغر سنًّا منها. ومن ثَم ظلت إنديرا دون منافسة.

لكن إنديرا تطورت وتقدمت تدريجيًّا، خاصة بعد التحاق بنات نان بانديت الثلاث (التي لم تبلغ صغراهن سنتين) إلى المدرسة في ١٩٣٢. قامت إنديرا بدور الأم لبنات عمتها الثلاث اللائي شعرن بالتعاسة والحنين إلى المنزل أكثر منها. اتسمت إنديرا وهي مراهقة بأنها «صعبة المراس»، وهي بالغة بأنها باردة ومنعزلة، ولكنها منذ نعومة أظافرها لم تستطع تحمل رؤية الضعفاء، فتتخلى عن جميع تحفظاتها وتقدم المساعدة لمن يحتاجها. وعندما كانت إنديرا صغيرة كان الأطفال والحيوانات هم من يمسون فيها هذا الوتر ويحصلون على مساعدتها. وفيما بعد أصبحت هذه العاطفة دعامة وقوة كبيرة وأساسًا لشعبيتها الهائلة، فكان الفقراء والمرضى والمضطهدون والمظلومون — وهم يمثلون الغالبية العظمى من الشعب الهندي — ينظرون إليها ويؤمنون أن بإمكانها مساعدتهم. وأهم درس تعلمته إنديرا في مدرسة بونا أنها تمتلك القدرة على العناية بالآخرين. وكما وصفتها شانتا غاندي: «كانت عاطفة الأمومة عندها قوية للغاية.»13 فلم تكن فقط بنات عمتها، بل الطلاب الأصغر سنًّا وطلاب الهاريجان الذين التحقوا بالمدرسة وقت «إضراب» غاندي في سبتمبر ١٩٣٢، جميعهم ينمون تحت جناح رعايتها.

شعر الطلاب وهيئة التدريس في مدرسة آل فاكيل بالوحدة القوية مع غاندي في أثناء صيامه، ولم يوافقوا فقط على التحاق عديد من الطلاب ممن ينتمون لطبقة الهاريجان فحسب، بل خرجوا لتعليمهم في أحياء بونا. وحسبما قالت شانتا غاندي، التي التحقت بالمدرسة وأصبحت في ذلك الوقت صديقة مقربة لإنديرا، صارت إنديرا مرتبطة على وجه الخصوص بفتاة من طبقة الهاريجان ترفض تعلم كيفية العد. فكانت إنديرا تجعلها تستحم وتلتقط القمل من شعرها وتعلمها كيف تجدل شعرها. ثم كانا يعدان معًا القمل الذي وجداه في فروة رأسها، وبهذه الطريقة علمت إنديرا الفتاة كيفية العد.

وكما هو الحال في معظم حياة إنديرا كانت إنديرا وقت صيام غاندي الشهير في ١٩٣٢ في المكان المناسب والوقت المناسب. بل في حقيقة الأمر كان لإنديرا وضع متميز. ففي بداية عام ١٩٣٢ بعد فشل مؤتمر المائدة المستديرة الثاني في لندن الذي حضره غاندي، وعلى إثر القلاقل التي أثارها الفلاحون في الأقاليم الهندية المتحدة، اعتُقل غاندي وفالابهبهاي باتيل وآلاف آخرون بموجب سلطات قانون الطوارئ الذي طبقه نائب الملك، اللورد ويلنجدون. كان نهرو سيقضي الأربعة الأعوام التالية كلها، فيما عدا ستة شهور، في السجن، يبدؤها بمدة طويلة في سجن نايني بمدينة الله آباد، وقد أطلق عليه اسم «منزلي الآخر». أما غاندي فكان محتجزًا خلف قضبان سجن يرفادا بالقرب من بونا حيث كانت إنديرا وبنات بانديت في بعض الأحيان يزرنه في عطلة نهاية الأسبوع.

وفي ١٣ سبتمبر أعلن غاندي أنه سيبدأ «اعتبارًا من ٢٠ سبتمبر إضرابًا عن الطعام حتى الموت» احتجاجًا على الأمر المحلي الذي أعلنه رئيس الوزراء البريطاني رمزي ماكدونالد بتخصيص دوائر انتخابية مستقلة للمنبوذبن (الهاريجان). أرعب هذا القرار الوطنيين الذين اعتبروه محاولة مرتبة من البريطانيين لاتباع مبدأ «فرق تسد»، ولكن اعتراض غاندي على فصل الدوائر الانتخابية ارتكز على أساس ديني ومنبعه التزامه بإلغاء تصنيف المنبوذين. أما طائفة المنبوذين أنفسهم، تحت قيادة شخصية بارزة هي دكتور بيماراو رامجي أمبيدكار، فقد دعموا القرار لأنه سيعطيهم ثقلًا وهوية سياسية.

ومن ثَم كان هناك مأزق، وفي سجن ييرافدا اختار غاندي أن يتبع واحدة من الطرق القليلة التي يستطيع بها الضعفاء الرد؛ فأضرب عن الطعام. ومع أن هذا لم يكن صيامه العام الأول، هذا بالإضافة إلى أن الصيام جزء لا يتجزأ من الحياة الهندوسية، كان لأداء غاندي «الصوم حتى الموت» عام ١٩٣٢ أثر هائل. فكتب نهرو المحبوس في سجن نايني إلى إنديرا (في واحدة من الرسائل غير المرسلة التي نشرها في كتابه «لمحات من تاريخ العالم»): «أنا متأثر كلية ولا أعرف ماذا أفعل. لقد واتتني الأخبار، تلك الأخبار الفظيعة، أن بابو قرر أن يجوع حتى الموت. إن … عالمي … يهتز ويرتج حتى إن الظلام والفراغ يبدوان في كل أرجائه.»14 كذلك كانت السلطات البريطانية مرتاعة، ولكن لأسباب مختلفة تمامًا. فلم تكن السلطات تريد أن يموت غاندي بين أيديهم. فحاولوا إقناعه بالذهاب إلى المجتمع الذي أقامه للمدة التي حددها لصيامه، ولكن غاندي رفض أن يُطلق سراحه من السجن.
يومًا بعد يوم، والهند كلها (مع الحكومة البريطانية) تترقب، كان غاندي يرفض الطعام. ومع زيادة ضعفه الجسدي لم تفقد روحه ابتهاجها. ذهبت إنديرا وبنات عمتها لزيارته كالمعتاد في عطلة نهاية الأسبوع يومي ٢٣و٢٤ سبتمبر، على إثرها أرسل غاندي برقية مرحة إلى نهرو المذهول تطمئنه على الأحوال قائلًا: «رأيت إندو وبنات نان بانديت. بدت إندو سعيدة للغاية وزاد وزنها.»15

بحلول اليوم الخامس من الصيام، الذي أصبح فيه غاندي ضعيفًا للغاية، منع أمبيدكار المأساة بأن اتفق مع غاندي على معاهدة بونا التي تعني تخلي الهاريجان عن دعواهم للحصول على دوائر انتخابية مستقلة ورضوا بأن يكون لهم عدد من المقاعد المحجوزة للهندوس.

في ٢٦ سبتمبر، وعلى نحو مؤثر، كسر غاندي صيامه أمام مجموعة من المتفرجين وصل عددها إلى ٢٠٠ في سجن ييرافدا ومن ضمنهم رابيندراناث طاغور وكامالا نهرو وسواروب راني نهرو وإنديرا. وفي الواقع كانت إنديرا هي من عصرت البرتقال وقدمته لغاندي وقد كان هذا أول غذاء يدخل جوفه حينها. وكما كتبت إنديرا لوالدها ترك هذا الحدث:

«تأثيرًا كبيرًا في نفسي كما علمني درسًا … لقد كانت هذه … الأيام الأخيرة فظيعة … عندما رأيت حالته، لم أكن أعتقد أنه سيحيا. كان الوقت من الثامنة صباحًا حتى الثانية عشرة أسوأ ساعات مرت عليَّ في حياتي. ولكني الآن مطمئنة تمامًا لأن بابو باستطاعته القيام بأكثر الأعمال غرابة [لا يمكن تصورها].»16

كان الدرس المهم الذي تعلمته إنديرا من صوم غاندي هو قوة المقاومة السلبية. فبينما هو محبوس في سجن بريطاني استطاع غاندي الحصول على قدر عظيم من السلطة السياسية والمعنوية. فمن ناحية كان آخر ما تصبو له السلطات البريطانية الاستعمارية أو تحتاجه أن يكون هناك شهيد. ومن ناحية أخرى لم يكن باستطاعة الهنود الحصول على الاستقلال دون قيادة غاندي، فهو فرد لا يمكن الاستغناء عنه. وغاندي، على كل تواضعه، يعلم كل هذا. وهكذا فإن ما شهدته إنديرا كان طريقة مثيرة لنيل السلطة والسيطرة بواسطة شخص ضعيف على المستويين القانوني والجسدي وتحت إمرة الآخرين. ومن ثَم استطاع غاندي برفضه للطعام والتهديد باستعداده للموت أن يجبر دكتور أمبيدكار على تحقيق أهدافه، وانتصر غاندي.

الأمر الذي كان مدهشًا حول انتصار غاندي — الذي كان درسًا لفتاة مراهقة — هو وسيلته العبقرية: اللافعل. كان الصيام طقسًا شائعًا من الطقوس الهندوسية، ومن ثَم لم يكن من المدهش أن يتحول إلى أداة مستخدمة غالبًا للاحتجاج السياسي في الهند. فقد كان للإضراب عن الطعام تاريخ في التأثير السياسي المحقق. وقد استقى غاندي هذه الفكرة إلى حد ما من أعضاء حركة الفينان الثورية الأيرلندية في القرن التاسع عشر، وكذلك من الوطنيين الأيرلنديين في مطلع القرن العشرين إلى جانب البريطانيين المنادين بحق المرأة في الاقتراع.

بعد إضراب غاندي المؤثر عن الطعام بدأت إنديرا في التفكير في اتباع طريقة أخرى من الإضراب. واختارت الإضراب عن الحديث وليس عن الطعام. اعتادت إنديرا وهي طفلة صغيرة أن تتحدث بلا انقطاع، بل تتحدث بطريقة غير لائقة؛ فقد تحدثت بصوت عالٍ في المحكمة، واعترضت أثناء المظاهرات وأثناء قبض الشرطة على أقاربها، واحتكرت مقابلات السجن. ولكنها تعلمت عندما كبرت كيف يمكنها الإمساك بزمام الأمور من خلال عدم الرد على الآخرين سواء باللسان أو بالخطابات. وفي ذلك الحين تحول هذا إلى عبقرية أسطورية للصمت.

•••

وبعدما ذهبت إنديرا إلى مدرستها في بونا لم تعد لها حياة مستقرة مع والديها في قصر آناند بهافان، أو في أي مكان آخر. وفي وقت ما بدا الأمر وكأنهم ربما يفقدون منزل العائلة. ففي يناير عام ١٩٣٢ استولت الحكومة على قصر سواراج بهافان وأغلقت المستشفى الذي أنشأته كامالا فيه. وانتشرت الشائعات بأن الحكومة ستستولي أيضًا على قصر آناند بهافان الجديد لأن نهرو امتنع عن دفع ضريبة الدخل للبريطانيين. كان القلق يجتاحه بشأن أمه المسنة، ولم يرغب بكل تأكيد في أن تتشرد وتصبح بلا مأوًى، لكنه اعترف في سيرته الذاتية بأنه لن يشعر بالندم إذا فقد آناند بهافان في وقت جرى فيه تجريد كثير من الفلاحين من ممتلكاتهم.

ساءت صحة كامالا من جديد عام ١٩٣٢ وظلت معظم ذلك العام تتلقي العلاج بعيدًا عن منزلها؛ في البداية في بومباي ثم في كلكتا حيث اعتنقت التعاليم الدينية لراما كريشنا،17 وبعد أن هزل جسدها زاد حماسها الديني؛ مما أثار غضب زوجها الذي لم يعلم بمسألة اعتناقها لتلك التعاليم إلا فيما بعد.
وفي ذلك الحين نُقِلَ نهرو من سجن نايني إلى سجن بيريلي، ثم نقل فيما بعد إلى مكان أبعد وهو سجن ديهرا دون. أما عن إنديرا فوجودها في بونا على بُعد مئات الأميال من والديها جعلها تفتقدهما تمامًا. وبطبيعة الحال كانت تعرف أخبارهما من الصحف، وذهبت ذات مساء بصحبة آل فاكيل لمشاهدة أحد الأفلام الخاصة بحزب المؤتمر، وفيه ظهر جواهرلال وكامالا بوضوح. وتحدثت إنديرا عن هذه الواقعة في أحد خطاباتها؛ إذ قالت: «كلاكما بدا رائعًا.»18

وفي مايو عام ١٩٣٢ ذهبت إنديرا مع والدتها وجدتها لزيارة رانجيت بانديت في سجن نايني، وحملت معها خطابًا من جيهانجير فاكيل بخصوص تقدم مستوى بنات آل بانديت في المدرسة. واعترض حارس السجن على تسليم إنديرا الخطاب إلى عمها في حين احتجت سواروب راني (التي تعرضت لضرب مبرح في مظاهرة اشتركت فيها خلال الشهر السابق) مما تسبب في طرد نسوة آل نهرو الثلاثة. وكانت نتيجة هذه الحادثة إخبار السلطات نهرو بمنعه من الزيارات لمدة شهر. وردًّا على ذلك أرسل نهرو خطابًا إلى مدير إدارة السجون قال فيه إنه يرفض تعرض أمه وزوجته وابنته لأي إهانات في المستقبل، ولذلك فإنه يتنازل عن جميع الزيارات. ويعني هذا التنازل أن إنديرا لن تتمكن من رؤيته سبعة أشهر أخرى.

وخلال هذه المدة أرسلت كامالا إلى جواهرلال خطابًا تخبره فيه أن إنديرا مكتئبة جراء بُعدها عنهما. ولهذا كتب على الفور خطابًا لابنته قال فيه: «ما من سبب يدعو أيًّا منا، ولا سيما أنت، للاكتئاب أو أن يبدو عليه ملامح الاكتئاب. أحيانًا تشعرين بالوحدة بعض الشيء، وكلنا مثلك، ومع ذلك يجب أن نستمر في رسم الابتسامة على شفاهنا.» وحذرها من أنه عندما يلتقيان من جديد «يجب عليك ألا تنسي أن أباك يمكن أن يتحمل أي شيء إلا شيئًا واحدًا؛ أن يرى إنديرا مكتئبة ووجهها تعلوه علامات الأسى.»19 ويبدو أن هذه النصيحة قد أتت بثمارها؛ فإما أن إنديرا أصبحت أكثر ابتهاجًا وأملًا. وإما أنها أصبحت ممثلة رائعة. فعندما التقت بوالدها في سجن ديهرا دون يوم ١٢ يناير عام ١٩٣٣ كتب في يومياته بالسجن عقب هذه الزيارة قائلًا: «كنت في غاية السعادة وأضحك من أعماق قلبي … إنديرا باتت امرأة صغيرة في غاية الجاذبية ويبدو عليها الذكاء والألمعية … إنني شعرت بالسعادة الغامرة وبالفخر لرؤيتي لها سليمة معافاة وطبيعية وتنمو دون أي معوقات واضحة.»20
غير أن هذه اللقاءات كانت أشبه بواحات وسط الصحارى وسرعان ما خبت بهجتها. فبعد أربعة أشهر ذهبت إنديرا أثناء العطلة الدراسية لتقيم مع والدتها في ديهرا دون حيث استأجرت كامالا بيتًا لتكون بالقرب من نهرو. وكان في ذلك الوقت قد سُمح له بلقاءات نصف شهرية، لكنه ذكر في يومياته في السجن أنها لم تكن كافية، واعترف بأنه لم يكن يتوقف عن الحديث في هذه اللقاءات نظرًا لضغط الوقت، كأنه على حد تعبيره «صنبور تُرِك مفتوحًا». كانت إنديرا تقابل ثورات أبيها العاطفية بالصمت وعدم الرد إلا نادرًا. وزاد عجز نهرو عن التواصل مع ابنته بعد أن أنهى كتابه «لمحات من تاريخ العالم» في أوائل شهر أغسطس في سجن ديهرا دون، وقال عن ذلك: «كتبت جبلًا هائلًا من الخطابات، وأرقت كمية هائلة من الحبر الهندي الجيد على أوراق هندية.» لم يختلف مصير هذا الخطاب الأخير عن الخطابات السابقة فلم يرسل قط، غير أن نهرو شعر في نهاية هذه المراسلات الغزيرة الخيالية مع ابنته — هذه المراسلات التي أبقته حيًّا قرابة ثلاث سنوات — بأن الرابطة بينه وبين ابنته لم تنفصم بل ذابت.21

وفي نهاية شهر أغسطس، أي بعد عودة إنديرا إلى المدرسة، أُطلق سراح نهرو من السجن بسبب حالة والدته الصحية الحرجة، وظل نهرو ينعم بحريته طوال الأشهر الخمسة المقبلة. وفي سبتمبر زار إنديرا في بونا (وكذلك غاندي في بومباي). وزار مدرسة الطلاب في بونا. كان محملًا بالكتب وبنماذج ميكانيكية منحها كهدايا لإنديرا وغيرها من الأطفال الذين قضى معهم ساعات يبني فيها هذه النماذج ويعرضها. غير أن الجميع كانوا يشعرون في قلوبهم بالرهبة من نهرو، ولمَ لا فهو رجل لا يسبقه في مكانته فيما يخص النضال من أجل الحرية سوى المهاتما غاندي، وعلاوة على ذلك فقد شعروا أيضًا بالتوتر بسبب رجال الشرطة الذين أحاطوا به في فناء المدرسة وقد ارتدى بعضهم ملابسه الرسمية وارتدى البعض الآخر ملابس مدنية.

وفي شهر أكتوبر، أي قبل شهر من عيد ميلاد إنديرا السادس عشر، تقدم فيروز غاندي لخطبة إنديرا، وربما يكون ذلك قد حدث من خلال رسالة لها بهذا المعنى؛ إذ إنه كان في بونا، أو ربما يكون قد تقدم لها بشخصه؛ إذ حضر إلى بومباي لزيارة أقاربه وبعدها ذهب إلى بونا حتى يرى إنديرا. وجاء تقدم فيروز لخطبة إنديرا مفاجئًا. كانت إنديرا تنظر إلى فيروز باعتباره لا يختلف كثيرًا عن الشباب الأعضاء في حزب المؤتمر الذين رأتهم في آناند بهافان في مدينة الله آباد. لم تكن قد رأته إلا مرات قليلة منذ التحاقها بالمدرسة. ومع ذلك فمن غير المحتمل أن فيروز — الذي أصبح شديد التمسك بكامالا وعائلة نهرو — قد أقدم على هذه الخطوة بتهور. والأرجح أنه اتخذ قراره بالزواج من إنديرا منذ بداية ارتباطه بعائلة نهرو، ولكن انتظر حتى يحين الوقت المناسب عندما تكبر.

ومهما كان تفكير فيروز فإن طلبه قوبل بالرفض على الفور. وردت إنديرا وكامالا على طلبه بطريقة دبلوماسية، فأخبراه أن إنديرا لا تزال صغيرة للغاية على الزواج، ومن غير المعروف إن كان نهرو قد علم بتقدم فيروز لخطبة إنديرا. غير أن هذا السبب لم يكن مقنعًا لرفض طلب فيروز؛ إذ إن معظم الهنديات آنذاك كن يتزوجن في سن السادسة عشرة. وكامالا نفسها كانت عروسًا في السادسة عشرة، بل إن المهاتما غاندي تزوج من كاستوربا وكان الاثنان في الثالثة عشرة من عمريهما. إذن فالزواج في سن المراهقة هو القاعدة في ذلك الحين. وبعد بضعة أيام من تقدم فيروز لخطبة إنديرا أرسل غاندي رسالة إلى نهرو يخبره فيها أنه وجد زوجًا مناسبًا لإنديرا.22 كان الرد بالرفض على طلب غاندي أكثر صعوبة من رفض طلب فيروز، لكن جواهرلال وكامالا وإنديرا كرروا حجة أن إنديرا لا تزال صغيرة على الزواج. ولم تحظَ فكرة تزويج إنديرا آنذاك بالقبول إلا من جدتها سواروب راني التي قضت وقتًا طويلًا في محاولة العثور على زوج مناسب لحفيدتها.

على أن الزيجة التي حدثت بالفعل في العائلة آنذاك تمت في ٢٠ أكتوبر عام ١٩٣٣ وهي زواج كريشنا أو بيتي نهرو من راجا هوثيسنج، وعقدت المراسم في قصر آناند بهافان. كانت هذه الزيجة من الزيجات المدنية غير المعتادة، والسر في ذلك أن هوثيسنج يدين بالديانة الجانية في حين تدين بيتي بالهندوسية، وفي ذلك الحين كان القانون البريطاني والتقاليد الهندية تحظر عقد مراسم الزواج الدينية إذا كان الزوجان ينتميان إلى عقيدتين أو طبقتين مختلفتين. ومن المفارقات أن بيتي — أكثر أعضاء أسرة نهرو تمسكًا بالأعراف والتقاليد — هي أول من خطت هذه الخطوة الثورية بالزواج من رجل غير برهمي، وهي خطوة استشرفت عددًا من الزيجات المثيرة للجدل التي ستشهدها الأسرة فيما بعد.

صحيح أن هذه الزيجة عُدت زيجة في الخفاء بالنظر إلى المعايير الهندية، غير أن هذا لم يمنع إقامة حفل زفاف جرى فيه تقديم الطعام للحضور بالإضافة إلى دفع ثمن جهاز العروس. وخلال هذه الفترة القصيرة التي حظي فيها نهرو بالحرية عام ١٩٣٣ حاول أن ينظم احتياجات الأسرة المالية بعد أن تعرضت للاختلال والفوضى منذ وفاة موتيلال قبل عامين. نظر نهرو إلى المال والممتلكات باعتبارهما «عبئًا» وكان «يتطلع إلى الوقت الذي يصبح فيه بلا مال». ومع ذلك فقد احتاج إلى المال لسببين: الأول هو عدم رغبته في أن تصبح أمه فقيرة في شيخوختها، والثاني هو تصميمه على أن تتعلم إنديرا وهو أمر من وجهة نظره لا يتأتى إلا بحصولها على شهادة من جامعة بريطانية أو أوروبية. قرر نهرو وكامالا أن يبيعا كل متاع العائلة الموروث، وآنيات المائدة الفضية وصفها نهرو أنها «أشياء متنوعة ملأت حمولة عربات»، التي بقيت ولم يصادرها البريطانيون عبر السنين عوضًا عن الغرامات.

وكانت مجوهرات كامالا هي أنفس ما يمتلكان، وكانت محفوظة في خزانة بأحد البنوك. وتعود هذه المجوهرات إلى الأيام الأولى لزواجها؛ إذ حصلت كامالا عليها من موتيلال الذي لم يبخل عليها بأي نفقات، بل صمم بنفسه الكثير من هذه الحلي الثمينة. وبعد ممانعة كبيرة تخلت كامالا عن هذه الحلي للمرة الأولى في خريف عام ١٩٣٣، ولكن هذه الممانعة لم يكن سببها حبها الشديد لهذه المجوهرات. فلم تكن قد تحلت بها طيلة سنوات إلى جانب أنها فشلت في نيل إعجابها، وقالت إنديرا فيما بعد إن أمها «كرهت» المجوهرات، وكانت تنظر إليها على أنها رمز لعبودية المرأة. أما السبب الحقيقي لرغبتها في الاحتفاظ بمجوهراتها فهو رغبتها في أن تترك لابنتها هذه الحلي المصنوعة من الذهب والجواهر من قلادات وأساور وأقراط وغيرها كميراث مالي آمن.23 غير أنه ما من شيء قدر له أن يكون آمنا في حياة إنديرا، وقد بيعت كل هذه المجوهرات فيما عدا بعض القطع القليلة.

•••

كتبت إنديرا خطابًا إلى أمها في مطلع عام ١٩٣٤ من مدرسة الطلبة التي جرى نقلها في ذلك الحين إلى حي «فيل بارل» في بومباي في أعقاب تفشي وباء الطاعون الدبلي ببونا، قالت إنديرا:

أمي الحبيبة،

لا بد أنك قد عدت من كلكتا الآن. ما رأي الأطباء؟ أخبريني من فضلك. هل ذهبت إلى شانتينكيتان؟ … هل شعرت بالزلزال الذي وقع في مدينة الله آباد؟ … عليكم أن تكتبوا لي كثيرًا … أبلغي سلامي لأبي وجدتي [سواروب راني]، وحبي لكِ.

حبيبتك للأبد
إندو.24

وفي ١٥ يناير ذهب نهرو وكامالا إلى كلكتا، حيث تعاود كامالا تلقي علاج طبي متخصص بالإضافة إلى زيارتها مدرسة طاغور في شانتينكيتان التي تبعد نحو مائة ميل شمال غرب كلكتا. ولكن في اليوم الذي كان من المقرر فيه أن يرحلوا من مدينة الله آباد شعر نهرو بأن الأرض تهتز تحت قدميه وهو يقف في شرفة آناند بهافان عندما كان يلقي خطبة في حشد من الفلاحين. وفي تلك الليلة غادر قطارهما المتجه إلى كلكتا عبر ولاية بيهار التي دمرها الزلزال ووصلت حصيلة الموتى فيها إلى عشرين ألف قتيل ودمر أكثر من مليون منزل. كان هذا الزلزال كارثة طبيعية مروعة على الرغم من أن غاندي وصفه بأنه قصاص «إلهي» يعاقب به الرب الهنود على خطيئة وجود طبقة المنبوذين. وبعيدًا في بومباي انتاب إنديرا القلق على والديها سواء على حالة أمها الصحية أو مدى الضرر الذي لحق بهما من جراء الزلزال، وانتابها القلق في الوقت نفسه أيضًا بشأن مستقبلها؛ إذ إن الهدف من زيارة شانتينكيتان هو تحديد هل ستذهب إلى هناك بعد أدائها لامتحان الثانوية العامة في الربيع.

أرسل إليها والدها برقية بعد ذلك قال فيها: «إنني سأعود إلى منزلي الآخر لفترة وجيزة، تقبلي حبي وتمنياتي الطيبة، مع السلامة، أبوك.»25 وقد قُبض على نهرو يوم ١٢ فبراير في مدينة الله آباد بتهمة إلقاء خطب تحريضية في كلكتا، وأعيد إلى السجن حيث حكم عليه بالسجن لمدة عامين. وعندئذٍ انتقلت كامالا وحماتها إلى كلكتا لكي يكونوا على مقربة منه. وفي الوقت نفسه أمضت كامالا كثيرًا من الوقت في التعبد في المقر الذي أعده لذلك راما كريشنا، واعتادت كامالا الذهاب لهذا المقر كل يوم. وعلى الرغم من درجة الحرارة المرتفعة فقد رفضت كامالا وسواروب راني استخدام مروحة في مكان إقامتهما لأن نهرو لا يمتلك مروحة في السجن. وفي الوقت نفسه على الجانب الآخر من شبه القارة كانت إنديرا تذاكر استعدادًا لامتحانها الذي أدته في شهر أبريل. ثم لحقت بهم في كلكتا حيث قضت كل أوقاتها بصحبة والدتها عند راما كريشنا، وذهبا إلى زيارة نهرو في سجن اليبوري، وهي الزيارة التي لم يكن يُسمح بها إلا مرة واحدة كل أسبوعين لمدة عشرين دقيقة.
كان وقتًا عصيبًا. فكامالا ليست بصحة جيدة، ونهرو في السجن، وإنديرا قلقة بشأن نتيجة امتحانها وبشأن أبويها وأيضًا بشأن مستقبلها. وكان لقاؤها مع والدها في السجن مجهدًا لها ويتسم بالتوتر وفيه تظل صامتة لا تتحدث. بدت إنديرا في عيون الآخرين فتاة لا مبالية ومحبَطة ولم تُبدِ أي حماس بشأن إمكانية التحاقها بالجامعة في شانتينكيتان إذا تقرر أن تلتحق بها في حال نجاحها في الامتحانات. ووصفت إنديرا هذه الفترة من حياتها فيما بعد قائلة: «كنت مرهفة الحس، وعنيدة، وأنانية … وتسبب ذلك في شعوري أحيانًا بالشفقة على نفسي وبالإحباط وعندما كبرت ووصلت إلى سن الرشد تحول هذا الشعور إلى اكتئاب.»26
ولكن نهرو لم يرَ في ابنته سوى أنانيتها وعدم تحملها المسئولية وأغفل وحدتها وحزنها. وأرسل خطابًا إلى نان بانديت يشكو فيه من أن إنديرا لا ترسل خطابات لوالديها إلا نادرًا؛ «إنها تتجاهلنا … تمامًا». وشعر أنها أصبحت «أنانية بصورة مذهلة … وهي تعيش في الأحلام والأهواء، وتسبح في عالم الخيال». ومن ثَم لم يكن من المستغرب أن يقول إن إنديرا «تغضبني.» نظر لها باعتبارها تتجه أكثر وأكثر لأن تكون «فتاة كسولة واهنة».27 وفي خطاب آخر استطرد نهرو في هذه المسألة قائلًا: «إذا كان بإمكاني كراهية صنف معين من الفتيات فسوف أكره ذلك النوع الواهن الذي يمضي حياته متكاسلًا مترددًا حيران لا يعرف ماذا يفعل وينتظر من الجميع الانصياع لرغباته وتأدية احتياجاته. وقد تكونت في إنديرا الكثير من صفات هذا النوع … إنها لا تبالي بالآخرين. هذا عيب في غاية الخطورة … وإندو … تتمحور حول ذاتها … أنانية، ولا تفكر في الآخرين إلا لمامًا.»28
زادت إنديرا الأمور سوءًا عندما كتبت إلى أبيها خطابًا بشأن ترتيبات إقامتها في شانتينكيتان. زعمت إنديرا في خطابها أن جيهانجير فاكيل — الذي كان يدرس في شانتينكيتان — أخبرها أن نُزل إقامة الطالبات هناك لن تكون «مناسبة خصوصًا فيما يتعلق بالطعام». وأعربت عن خشيتها من تعرضها للمرض، وسألت أباها إن كان بمقدورها الإقامة في منزل بالقرب من الجامعة يمتلكه أحد الأصدقاء وأن تأخذ معها خادمة من آناند بهافان لتطبخ لها وتنظف المكان. اعترض نهرو على هذه الفكرة ورد عليها بخطاب قال فيه: «لا تعجبني فكرة أن تنفصلي عن [قطيع العوام] وأن تطلبي معاملتك معاملة خاصة على غرار أمير ويلز عندما يذهب إلى الجامعة … إنني على ثقة من أن الحياة هناك لن ترهقك. وأعتقد أنك يجب أن تقيمي في المكان الذي تخصصه لك إدارة الجامعة … تناولي الطعام الذي يعطونه لكِ … واعلمي أنني لا أخشى من أن يعاملكِ الجميع بقدر قليل من الاهتمام، بل أخشى معاملتكِ بقدر أكبر من الاهتمام. فهذه المعاملة المتميزة التي من المتوقع أن تحصلي عليها لا يمكن منعها لأنكِ تنتمين إلى عائلة مشهورة.»29

كان لهذا التوبيخ أثر عظيم في نفس إنديرا يعادل ما أحدثه من قبل توبيخ نهرو لها عندما قفزت من السيارة وهم على حافة الجرف في سيلان. وبعد ذلك لم تطلب قط (على الأقل علنًا) أن تحظى بمعاملة خاصة.

•••

وقبل التحاقها بشانتينكيتان سافرت إنديرا إلى كشمير لقضاء أربعة أسابيع مع عمتها لاكشيمي بانديت وزوجها رانجيت بانديت وبناتهما الثلاثة تشاندراليخا، ونايانتارا وريتا، وكانت معهم أيضًا مربية الأطفال الإنجليزية السيدة بيلشر. وفي ذلك الحين كان رانجيت بانديت قد انتهى لتوه من ترجمة كتاب عن تاريخ كشمير في القرن الثاني عشر مكتوب باللغة السنسكريتية (أنجز معظم الترجمة في السجن) وأراد أن يلتقط بعض الصور الفوتوغرافية ليتضمنها الكتاب. أقاموا جميعًا في سريناجار في منزل أحد الأقرباء الذي عزف أحفاده عن الرحيل للجنوب مع باقي العائلة قبل قرنين من الزمان. عاش هذا القريب في منزل ضخم مبني على مساحة كبيرة تحيطه أشجار الكرز، وله إطلالة رائعة من جميع الجهات على جبال الهيمالايا.30
كانت كشمير مدهشة، وبعد أن ظل أبواها وجداها يتحدثان عن هذا المكان طيلة سنوات وقعت إنديرا نفسها في هوى كشمير. أرسلت إلى أبيها خطابًا تحدثه عن هذه: «الأرض الرائعة التي أينما سار المرء يرى أمامه منظرًا بديعًا من القمم التي تكسوها الثلوج … والينابيع الجميلة … ومنذ أن وقعت عيناي على التشينار [شجرة تشتهر بها كشمير] أعجبت بها أيما إعجاب. إنها شجرة فاتنة.»31 وما شعرت به إنديرا من سحر في كشمير كان حقيقيًّا وأثر فيها تأثيرًا عميقًا. ومنذ هذه الزيارة الأولى لها لكشمير اختارت شجرة التشينار لتكون رمزًا مقدسًا، رمزًا للمكان الذي يمثل لها السلام والجمال والتنوير.

اتسمت كشمير بالصفاء؛ فالهواء بارد ونقي ويمكن للمرء أن يرى ببصره لمسافة عدة أميال. وفيها تسير مياه الجداول والأنهار سريعة ويغطيها الثلج بعكس مياه نهر الجانج الملوثة. وكانت الجبال البعيدة تلوح في الأفق بلونها الأبيض وبضخامتها الشديدة الجلية للعين، يا لها من روعة! شعرت إنديرا بالنشاط والحيوية تدب في أوصالها في هذا المكان. لم يكن يوجد به سوى عدد قليل من السكان بعد أن عاشت وسط زحام البشر في الشوارع والمدن الواقعة في السهول. قامت إنديرا وبنات آل بانديت بجولات طويلة في الغابات لم يرين خلالها شخصًا واحدًا لساعات. وفي ظل هذا الصمت الرهيب كان بوسعهم سماع أصوات الحيوانات الصغيرة، وتغريد الطيور، وحفيف الأشجار، وتراتيل الرهبان البوذيين على البعد.

وسوف تعود إنديرا لتزور كشمير مرارًا وتكرارًا في السنوات التالية، وسيسود تلك الزيارات مشاعر متناقضة من الفرح والتوتر والخطر والهزيمة والحزن. شعرت أن كشمير لم تخذلها قط وباتت تعشقها بشدة، بل امتد عشقها وإخلاصها للمكان ليكون أشبه بنوع من الإيمان بالخرافات. وقد جاءتها كل معتقداتها الدينية على أرض كشمير مثل فكرتها عن الفردوس، وهي إحدى الأفكار النادرة التي استمرت متمسكة بها طوال حياتها. وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت كشمير مكانًا لم تنله معارك السياسة لسنوات طويلة، ولهذا كانت نظيفة وصافية فيما يخص السياسة أيضًا، ومن ثَم باتت مصدرًا للراحة والسعادة. لم يراود إنديرا مثل هذا الشعور بالارتباط بالمكان سواء في الأقاليم المتحدة [التي أصبحت فيما بعد ولاية أوتار براديش] أو حتى في آناند بهافان. وتعمدت إنديرا أن تكون فيها كل صفات الهنود مستخدمة استراتيجية تجعلها سريعة التغير في المواقف المختلفة، حيث ارتدت الساري وتناولت الطعام الهندي، وتحدثت باللغات التي تتكلمها مناطق الهند المختلفة. وبطبيعة الحال كانت تلك استراتيجية سياسية متعمدة، غير أنه يمكن القول إنها فعلت ذلك بدافع حقيقي صادق في شخصيتها؛ فإنديرا غاندي لم ترتبط بجميع ربوع الهند. وإنما كانت كشمير تسكن قلبها، وكان هذا بمنزلة اكتشاف مذهل في مايو ومطلع يونيو عام ١٩٣٤.

•••

عندما كانت إنديرا في كشمير كتب نهرو — وهو حبيس في سجن ديهرا دون — الرسالة التالية لترفق مع طلب تقدمها إلى شانتينكيتان الذي قُدِّم مرفقًا به نتيجة امتحان القبول (جيد في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومقبول في باقي المواد) عندما وصلت نتيجة الامتحان في شهر يونيو:

اضطرت منذ نعومة أظافرها أن تتحمل مشقة المشكلات السياسية الوطنية والثورات المحلية التي تسببها هذه المشكلات. وتأثر تعليمها بسبب ذلك إذ لم يكن فيه أي استمرارية. ولفترات طويلة كان الجو حولها يفتقر إلى السلام والهدوء نتيجة انشغال أبويها أو أقاربها بالشئون العامة التي أدت كثيرًا إلى الزج بهم خلف قضبان السجون والابتعاد عنها. وبطبيعة الحال تركت هذه الأحداث انطباعات قوية في ذهنها الناشئ …

يود أبواها أن تتخصص في دراسة إحدى المواد أو بعضها، وهذا من شأنه أن يمكنها فيما بعد من أداء بعض المهام الاجتماعية المفيدة، وفي الوقت نفسه يمكنها من أن تعتمد على نفسها ماليًّا ما دام النظام الحالي للطبقات قائمًا. ومن غير المحتمل أن تعيش بمال لم تكسبه بجهدها وعملها، بالإضافة إلى أن أبويها لا يرحبان بفكرة أن تعتمد في حياتها على زوجها أو على أي شخص آخر كائنًا من كان …

حاولنا التعرف على ميولها ولكننا حتى هذه اللحظة لم يحالفنا النجاح في التعرف على أي ميول مميزة. ومن سوء الطالع أنني كنت طوال السنوات الأربع الماضية خلف قضبان السجن، وهو الأمر الذي أبعدني عنها وحرمني من متابعة تطورها. وإن لديها رغبة غامضة في أداء الأعمال الاجتماعية والعامة، وهذه الرغبة مردها على الأرجح إلى إعجابها الشديد بأنشطة أبويها. ومما لا شك فيه أن هذه الرغبة من الأمور المحمودة غير أن الرغبة وحدها لا تكفي، وإنما ينبغي عليها التسلح بالمعرفة المتخصصة في مادة بعينها. وسوف تختار هذه المادة فيما بعد.

وفي الوقت نفسه إذا قُبِلت للدراسة في شانتينكيتان فمن المفترض أن تلتحق بمعهد العلوم بجامعة ويسفابهارتي وتدرس المنهج المخصص لمستوى الطالب المتوسط. وبالإضافة إلى المواد الدراسية الإجبارية الأخرى (مثل اللغة الإنجليزية، والتاريخ، والتربية المدنية … وخلافه) فإنني أقترح أن تدرس اللغة الهندية باعتبارها إحدى اللغات التي يتحدث بها الناس في الهند، وأن تدرس اللغة الفرنسية كإحدى اللغات الحديثة.

إن إنديرا تتمتع بحالة صحية ممتازة. كانت تتعرض بين الحين والآخر لبعض المتاعب البسيطة ولكنها ليست ذات أهمية. وهي تعاني من حين لآخر مشاكل في الحلق، فعندما كانت طفلة صغيرة — تقريبًا في العاشرة من عمرها — أجرت جراحة إزالة اللوزتين، ومع ذلك فقد تعرضت لمشاكل في الحلق فيما بعد. وإلى جانب ذلك فإن عينيها تتعبانها تعبًا بسيطًا من حين لآخر، وقد نُصحت العام الماضي أن ترتدي نظارة طبية أثناء القراءة، ولكنها لم تتبع هذه النصيحة إلا نادرًا. وتعتمد هذه المشاكل على صحتها العامة. فعندما تكون بصحة سليمة تختفي كل هذه المشاكل. أما عندما تكون سقيمة فإن هذه الأعراض تظهر. وتتمتع إنديرا في الوقت الحالي، وأيضًا في الماضي القريب، بصحة جيدة. وإن عدم أدائها التدريبات البدنية يجعلها عادةً واهنة ومتوعكة الصحة.32
وبصيغة أقل رسمية من الرسالة السابقة كتب نهرو رسالة إلى آنيل شاندا سكرتير الشاعر رابيندراناث طاغور قال فيها: «أفكاري الشخصية عن التعليم غريبة بعض الشيء … فإنني أمقت التعليم الذي يعد الفتاة لأن تلعب دورًا في غرفة الصالون فقط وليس في أي مكان آخر. فعلى المستوى الشخصي … أود أن يتضمن تعليم ابنتي قضاءها عامًا في مصنع شأنها شأن أي عامل، ولكنني أعتقد أن حدوث مثل هذا في الهند في الوقت الحالي لهو أمر من قبيل المستحيل.» وما أراده نهرو لإنديرا هو نظام تعليمي صارم، وكان نظام التعليم البريطاني في ذهنه هو النظام الأمثل في هذا المجال. واستطرد في رسالته لشاندا أنه وكامالا «ليس لدينا الرغبة لأن يُلحقا [إنديرا] … بأي من الجامعات الهندية الرسمية. فإنني أمقت هذه الجامعات بشدة.»33

•••

وعلى الرغم من إجلاله الكبير لطاغور فإن نهرو ساورته الشكوك بشأن المعايير الأكاديمية في شانتينكيتان، ونظر إليها باعتبارها نوعًا من الإعداد التعليمي لإنديرا بحيث تظل تدرس هناك إلى أن يستطيعوا إلحاقها بالدراسة في جامعة أوروبية. والمفارقة هي أنه من بين جميع المدارس التي التحقت بها إنديرا — سواء هندية أو أوروبية — كانت شانتينكيتان هي الوحيدة التي أثرت فيها كطالبة خلال مشوارها التعليمي المتقلب، وتعلمت فيها كل الأمور المهمة والمفيدة.

•••

وفي بداية شهر يوليو استقلت إنديرا وكامالا القطار من شمال غرب كلكتا إلى مدينة صغيرة اسمها «بولبور» تبعد ميلين تقريبًا عن شانتينكيتان. كانت المدرسة تقع في وسط منطقة برية جميلة بها بساتين من النخيل والمانجو، وطريق مرصوف بتراب أحمر. والأرض كأنها مستديرة وليست مسطحة، والسماء الزرقاء الشاسعة تمتد لتملأ الأفق. وفي كل مكان توجد قرود ذات وجه أسود، ويُسمع نعيق البوم في الغسق، وعندما يحل الليل تظهر مئات اليراعات التي تنير في الظلام. كانت هذه الفترة هي أول مرة تعرف فيها إنديرا حياة الريف.

•••

كان طاغور — وهو شاعر وفيلسوف من البنغال — قد أسس مدرسة في شانتينكيتان التي يعني اسمها «دار السلام» عام ١٩٠١ في محاولة منه للمزج بين الثقافتين الهندية والأوروبية. وقد وصفها لغاندي في خطاب بأنها «سفينة تحمل شحنة من أنفس كنوز حياتي». ما كان «مجرد قطعة جرداء من الأرض في حي يهيمن عليه الفقر في البنغال تحول في ذهنه إلى مدينة فاضلة».34 وعام ١٩٢١ تحولت هذه المدرسة إلى جامعة فيسفابهراتي واحتوت على ثلاثة أقسام: قسم للفنون الجميلة، وقسم للموسيقى، وقسم لدراسة تاريخ الهند وثقافتها ولغاتها. وتضمنت رؤية طاغور إحداث تعاون مثمر بين الطلاب والأساتذة سعيًا إلى تعليم يدمج بين قيم الشرق والغرب. وفي المدرسة جرى تشجيع الطلاب — بنين وبنات — على العمل بأيديهم وإطلاق العنان لمواهبهم الفنية. وكانت الدروس تعطى في الهواء الطلق ويجلس الجميع — طلاب وأساتذة — حفاة الأقدام. وقد كان من الضروري وجود جو رومانسي من التواصل الحميمي مع الطبيعة في شانتينكيتان.
تلك كانت الأهداف المثالية التي أقام طاغور من أجلها دار السلام. غير أن الحقيقة بدت مختلفة تمام الاختلاف. ففي عام ١٩٣٤ عندما التحقت بها إنديرا كان طاغور — أو جورديف كما كان يطلق عليه — في الثالثة والسبعين من عمره، ومحل تقدير هائل، سواء من الهنود أو من الأوروبيين؛ إذ حصل على جائزة نوبل في الآداب عام ١٩١٣، وحصل على وسام الفارس من الملك جورج الخامس بعدها بعامين. كان الكثيرون ينظرون إليه وكأنه شخص مقدس. وتقول إنديرا عنه إنه «شخص تحب النظر إليه بشعره المتموج المسترسل إلى كتفيه، وبلحيته الطويلة، وعينيه الغائرتين ذات النظرة الثاقبة، وجبينه العريض، كان صورة مثالية للشاعر الرومانسي».35 شجعت هذه الجاذبية والمكانة المرموقة على وجود جو من النفاق والتملق حول طاغور الذي لُقب بالرجل العظيم. وأشارت معظم السير الحديثة التي تحدثت عن حياة طاغور إلى أن دار السلام في ثلاثينيات القرن العشرين كانت «مناخًا كريهًا من التملق والنفاق والسخرية».36 غير أن إنديرا لم تبقَ هناك فترة طويلة أو تمتلك من النظرة الناقدة التي تؤهلها لأن تلاحظ ذلك.
وفي حقيقة الأمر فقد شعرت إنديرا بسعادة غامرة منذ لحظة وصولها في السابع من يوليو. وأرسلت خطابًا لوالدها قالت فيه: «وأخيرًا ها أنا ذا في شانتينكيتان! … كل شيء هنا بديع وفاتن وعلى طبيعته.»37 رأت إنديرا أن المكان والمدرسة والبيئة المحيطة بل طاغور نفسه، كل شيء يروق بالفعل لمستوى اسم دار السلام. وأصبحت شانتينكيتان ملاذًا وملجأً. وللمرة الأولى في حياتها، حسبما قالت فيما بعد، تخلصت من «مناخ الحياة السياسية الملتهب».38 وأضافت: «لم أعِشْ أبدًا في مكان هادئ … عشت دائمًا في الزحام … وكان ذلك … إلى حد ما السبب في شعوري بالمرارة الشديدة … نما بداخلي قدر هائل من الكراهية والمرارة، وأظن أنني غسلت هذه المرارة والكراهية من نفسي في شانتينكيتان.» وقد كانت شانتينكيتان المكان الذي «تفتَّح فيه عقلها وروحها».39 وكشفت البيئة والناس والمناخ — كل القوى الخارجية — لإنديرا مركزًا ثابتًا بداخلها حيث جعلها تشعر بالأمان كما في كشمير، وقالت عن ذلك: «ما تعلمته في شانتينكيتان هو المقدرة على الحياة بهدوء داخل نفسي بصرف النظر عمَّا يحدث بالخارج. ولقد ساعدني هذا الدرس كثيرًا على مواصلة الحياة.» وكان ساتياجيت راي، المخرج السينمائي الشهير، الذي كان بهذه المدرسة في مطلع أربعينيات القرن العشرين قد تحدث عن المدرسة بكلمات مشابهة إذ قال: «إذا لم تكن شانتينكيتان قد قدمت لنا أي شيء آخر، فإنها شجعت التأمل والتعجب في أقل العقول إبداعًا.»40
وعلى الرغم من مخاوف إنديرا فقد تكيفت بسرعة مع الطعام وظروف المعيشة في نُزل الطالبات المعروف باسم «سري بهافان أشرام» حيث شاركتها الغرفة، المطلية باللون الأبيض وأرضيتها من الحجر، ثلاث فتيات.41 كانت الفتيات ينمن على حصير على الأرض، ويستحممن بمياه باردة ويصببن الماء على أجسادهن من دلو، ويستخدمن مرحاضًا بالخارج. لم يكن بالنُّزل كهرباء، وكان جرس المدرسة يوقظهن في تمام الساعة الرابعة والنصف صباحًا. وكن يرتبن فراشهن ويستحممن ويطبخن ويتناولن إفطارهن، ويكنسن ويمسحن أرضية الغرفة قبل أن يحل موعد اجتماع التأمل وتلاوة التراتيل في تمام الساعة السادسة والنصف صباحًا. وتبدأ الدروس بعد ذلك بنصف ساعة. درست إنديرا اللغتين الإنجليزية والهندية والتربية المدنية والكيمياء واللغة الفرنسية التي درسها لها كاهن بوذي ألماني اسمه لاما جوفيندا (اسمه الأصلي إيرنست هوفمان). كان من بين هيئة التدريس مدرس ألماني آخر يدعى فرانك أوبردورف. كان أوبردورف وجوفيندا مدرسَين دائمين، وضمت المدرسة أساتذة أوروبيين دائمين مثل مؤرخ فن مجري اسمه فابري، نجحت إنديرا في تنظيم حملة لمقاطعته بعد رفضه خلع حذائه والبقاء حافي القدمين شأنه شأن الآخرين.
وفي سجن ديهرا دون كان نهرو يتوق إلى معرفة أخبار إنديرا في شانتينكيتان. وكتب إليها خطابًا في ١٢ يوليو عما يراه عيوبًا في النظام الأكاديمي بالجامعة قائلًا: «إنها لا تقدم تعليمًا حديثًا يناسب الحياة … العصرية. بل تركز على الجانب الفني أكثر من اللازم.»42 وحثها على أن تدرس مادتين علميتين على الأقل، ولكنها لم تدرس سوى الكيمياء وسرعان ما تركتها لكي تتجنب الرسوب في الامتحان. كان مستوى إنديرا ضعيفًا أيضًا في اللغة الهندية التي درسها لها عالم شهير يدعى «هزاري براساد دويفيدي» الذي كان يقضي معظم الوقت في محاضراته يتلو قصائد الشعر. وكتبت إنديرا إلى أبيها خطابًا تخبره بمشاكلها قائلة: «ليست لديَّ أي خلفية عن اللغة الهندية، وإنني لا أعرف شيئًا بالمرة عن قواعدها.»43 غير أن اللغة الهندية لم تكن كالكيمياء؛ إذ كانت مادة إجبارية، ولذلك فقد ثابرت ونجحت بصعوبة.

كانت المادة المحببة لإنديرا هي الرقص المانيبوري وهو رقص هندي كلاسيكي، وهي المادة التي أصبحت تعشقها، والرقص المانيبوري يمتاز بأنه الأكثر رشاقة وجمالًا للعناصر الإيقاعية من بين الرقصات الهندية الكلاسيكية الأساسية الأربعة. أحرزت إنديرا تقدمًا سريعًا في الرقص وسرعان ما أصبحت تشارك في عروض الجامعة. وقد كان التحيز الفني في شانتينكيتان من الأسباب المهمة التي دفعتها للنجاح بها. وباستثناء الآداب لم تكن الفنون تمثل أهمية لأسرة نهرو. وفي شانتينكيتان لم تتعرف إنديرا على الرقص فحسب، بل تعرفت أيضًا على الموسيقى (الكلاسيكية سواء الهندية أو الأوروبية)، والمسرح والرسم والنحت والحرف من جميع الأنواع. واكتشفت حساسيتها الجمالية وأيضًا قدرتها على الإبداع. كان الرقص أهم فن لها ولكن الفنون الأخرى أسعدتها، وفي شانتينكيتان أيضًا بدأت إنديرا ولعها بالألوان، ولم يكن هذا الولع متعلقًا بالفنون البصرية فحسب، بل أيضًا بالعالم الطبيعي، بل في مجالات عادية مثل الأقمشة. فكانت ألوان ملابسها، عادة الساري، بداية من ذلك الحين من اختيارها — إما على حسب حالتها النفسية، أو المكان الذي ستذهب إليه، أو الموسم، أو ما يحدث في العالم — وكأنها أصبحت جزءًا من عمل فني أكبر. وظلت الألوان التي ترتديها إنديرا فيما تبقى من حياتها مسألة بالغة الأهمية فهي تتغير وتكشف عما يدور بداخلها.

استمر نهرو في النظر لتعليم إنديرا في شانتينكيتان من خلال منظور أكاديمي ضيق، وأراد متابعة تقدمها الدراسي. وطلب منها أن ترسل إليه أوراق امتحاناتها «بالبريد مباشرة إلى [ديهرا دون]. فيجب أن أراها».44 وواصل نهرو مضايقتها بشأن لياقتها البدنية فقال لها: «وماذا عن التدريبات البدنية؟ لم تذكري لي أيًّا منها. إياك أن تصبحي مثل الفتيات البنغاليات الرقيقات والممشوقات القوام العاجزات عن أداء التمارين الصعبة. وإذا لم تكوني مرتبطة بفعل شيء في الصباح فمارسي الجري.»45

•••

وفي مطلع شهر أغسطس بعد مرور شهر من وصولها إلى شانتينكيتان وصلتها برقية تقول: «كامالا أصيبت بنوبة حادة من مرض ذات الجنب، وساءت حالتها الصحية بشدة، وارتفعت درجة حرارتها وعانت مشاكل في التنفس.» استقلت إنديرا أول قطار متجه إلى كلكتا ثم إلى مدينة الله آباد. وصلت في التاسع من أغسطس لتجد المنزل يعج بأقاربها وبالأطباء والممرضات يرتدين ملابسهن البيضاء. ونظرًا لحالة كامالا الصحية الحرجة أُفرج عن نهرو وخرج من السجن بعد وصول إنديرا بيومين. أدرك نهرو وإنديرا أن كامالا ربما لن تتعافى، وعن هذه الفترة كتب نهرو فيما بعد يقول: «إن التفكير في أنها ربما ترحل وتتركني كان يمثل هاجسًا لا يحتمل»، ولكن برغم قلقهما البالغ لم يتحدثا معًا بشأن مخاوفهما.46
تحسنت صحة كامالا بعض الشيء في الأسبوع التالي، وفي ٢٣ أغسطس أرسلت السلطات البريطانية خطابًا لنهرو تخبره أن فترة الإفراج عنه قد انتهت، ويجب أن يعود إلى سجن ديهرا دون. وبعد ذلك بعدة أيام رحلت إنديرا إلى شانتينكيتان وهي متلهفة على العودة برغم قلقها على صحة أمها. واعترفت فيما بعد قائلة: «الحقيقة أن حياتي [عندئذٍ] كانت قاسية وكنت بحاجة لأن أنعم بالحرية حتى أستطيع الاستمرار.» وفي أغسطس عام ١٩٣٤ كان لآناند بهافان الرائحة نفسها والمناخ نفسه القابض للصدر الذي كان به قبل ثلاثة أعوام عندما كان موتيلال يرقد فيه وهو يُحتضَر قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. ولكن إنديرا رأت أنها لا يمكنها أن تترك وراءها كل شيء بهذه السهولة. وفور عودتها إلى شانتينكيتان حلمت ذات ليلة أنها «تطفو فوق بحر شاسع مظلم ووجدت أنها لا تستطيع السباحة. ثم غشيها الموج وعندها استيقظت من نومها.»47
سيطرت على إنديرا فكرة أن أمها تُركت وحيدة وأُهملت في غرفتها بالطابق الأعلى في آناند بهافان. فكتبت الرسالة الآتية إلى نهرو وهو في سجن ديهرا دون:

هل تعرف أي شيء عما حدث بالمنزل وأنت غائب؟ أتعرف أن المنزل امتلأ بالناس عندما كانت حالة أمي الصحية سيئة للغاية، ومع ذلك فلم يقم أي منهم برؤيتها أو الجلوس معها بعض الوقت، وقد كانت تتألم وحدها ولم يوجد أحد ليمد لها يد العون. ولم تحظَ ببعض الراحة إلا عندما قدم ابن عمها الطبيب مادان أتال، وعندما أُفرج عنك تغير كل شيء؛ إذ وفد الناس من كل حدب وصوب يسألون عنها ويجلسون معها. أما الآن وقد عدت مرة أخرى إلى السجن ولم يعد مادان أتال يأتي للمنزل كثيرًا كما كان من قبل، فهناك خطر في أن تُترَك أمي وحيدة … وفور أن تقوى أمي بالقدر الكافي ينبغي نقلها إلى أي مكان خارج مدينة الله آباد.

وقبل أن تنهي خطابها قالت لأبيها:
«أنت نفسك لا تبدو بصحة جيدة.» وعلى النقيض من هذه الجملة الأخيرة جاءها خطاب من والدها قال فيه: «ساءني للغاية أن أعلم مدى ضعفك الجسماني حتى لم تعودي قادرة على أداء التدريبات الرياضية البسيطة … كم أود لو لم تتركي لجسدك الفرصة في أن يصبح ضعيفًا ومترهلًا. وإن عدم اكتمال لياقتك البدنية هي لي بمنزلة خطيئة كبيرة يرتكبها المرء.»48

ومن الواضح أن قلقهما بشأن كامالا أثَّر على وجهة نظر كل منهما لصحة الآخر.

فزع نهرو من حديث إنديرا عن تعرض أمها للإهمال في آناند بهافان، ولكنه كره أن يشير بأصابع الاتهام إلى أحد. رأى نهرو أن نان بانديت، بطبيعة الحال، هي السبب الرئيسي وراء هذا الإهمال، ولكنه لم يذكر ذلك صراحة، وأثار نهرو الموضوع مع أخته، على مضض، في خطاب أرسله لها من سجن نايني في مطلع سبتمبر. إذ قال إنه لاحظ في آخر زياراته أن «هناك في بعض الأحيان اهتمامًا بتمريض كامالا والعناية بها، وفي أحيان أخرى يكون هذا الاهتمام أقل مما ينبغي». وأضاف أنه بشكل عام يحزنه «انعدام الانسجام الذي يحدث بين الحين والحين، وأي مقدار طفيف من عدم التعاون … في أسرتنا … ولذا فإنني أرجوك أن تتخلصي من أي نغمات متنافرة ربما تكون تسربت على نحو عفوي».49

لم يكن من المستغرب أن تظل حياة كامالا في آناند بهافان منعزلة ومختلفة. استدعيت إنديرا من جديد للمنزل في شهر أكتوبر حتى ترافق أمها في رحلتها إلى بهوالي حيث ستعالج في مصحة الملك إدوارد الخامس التي يديرها البريطانيون. أعدت إنديرا حقيبة والدتها، وبدأت هي وأمها ومادان أتال وفيروز غاندي وهاري لال خادم نهرو رحلة طويلة بالقطار ثم بالسيارة إلى مدينة بهوالي في ١٠ أكتوبر. وبعد ذلك بأسبوع نُقِل نهرو من سجن ديهرا دون إلى سجن ألمورا بالقرب من بهوالي حتى يمكنه زيارة كامالا مرة كل ثلاثة أسابيع (وليس مرة أو مرتين أسبوعيًّا مثلما أعلن صمويل هوار وزير الدولة لشئون الهند في البرلمان في لندن).

قضت كامالا الشهور التسعة التالية على فراش المصحة في بهوالي. وأظهرت صور الأشعة أن رئتها اليسرى مصابة بدرجة كبيرة، وبدأت في تلقي العلاج بطريقة الاسترواح الصدري الصناعي، وهي طريقة بشعة وخطيرة للعلاج؛ إذ يجري إدخال إبرة إلى صدر المريض كل بضعة أيام حتى يُقلل الهواء في الرئة [انخماص الرئة] عن طريق إدخال الهواء في الغشاء البلوري المحيط بالرئتين. تناولت كامالا المورفين في الليلة التي سبقت «تزويد رئتيها بالهواء»، وفي اليوم التالي خُدِّرت تخديرًا موضعيًّا قبل أن يضع الطبيب إبرة مجوفة في صدرها ويضخ فيه الأوكسجين. لم يكن تأثير الاسترواح الصدري الصناعي يظهر على الفور بل في بعض الأحيان لم يكن يظهر لها أي تأثير على الإطلاق، وعندما تنجح هذه العملية فإن الأمر يتطلب الحقن خمس مرات أو ستًّا خلال أسبوعين حتى يقل الهواء في الرئتين ثم يتم بعد ذلك «إعادة ملء الرئتين». وكان من الشائع أن تتسبب هذه العملية في آثار خطيرة مثل الانسداد الغازي للأوعية الدموية، وصدمة الجنبة، والتهاب الغشاء البلوري (وهي آثار كانت تؤدي كثيرًا للوفاة قبل ظهور المضادات الحيوية). ولكن على الرغم من كل هذه المخاطر فقد كان الاسترواح الصناعي من الجراحات الشائعة؛ لأنه كان يُظَن أن الرئة لو فُرغت من الهواء فيمكنها أن تستريح وتشفي نفسها بنفسها، وبذلك يشفى المريض تمامًا.50
أقامت إنديرا مع أمها في بهوالي لمدة قاربت الشهر. وفي الثاني من نوفمبر أرسلت لأبيها خطابًا قالت فيه: «لم تكن أمي بصحة جيدة خلال الأيام الأخيرة الماضية؛ فدرجة حرارتها ارتفعت … وشعرت بالوهن والضعف. أجرت أمي أمس الأول العلاج بالاسترواح الصدري الصناعي للمرة الخامسة.» ثم أضافت أن أمها رغم ذلك زاد وزنها ثلاثة أرطال، وأصبح وزنها ثمانين رطلًا.51 وخلال هذه الإقامة الطويلة في بهوالي زارت إنديرا والدها مرة واحدة في سجن ألمورا. ولكن الاثنين تشاجرا أثناء هذه الزيارة، غير أن سبب هذا الشجار غير معلوم. وهددت إنديرا «بعدم مجيئها مرة أخرى [لزيارته] لمدة ستة شهور»، ثم التزمت الصمت وأدارت له ظهرها وغادرت المكان.52

•••

لم يحظَ فيروز باهتمام إنديرا ويصبح جزءًا من حياتها إلا عندما ذهبت إلى بهوالي مع أمها والآخرين، مع أنه في ذلك الحين كان قد تقدم لخطبتها مرتين على الأقل. فمن يا ترى فيروز غاندي، ذلك الرجل الذي يوجد في كل مكان، الذي كان فيما سبق من الزوار الدائمين لآناند بهافان وأصبح الآن رفيق كامالا وملازمًا لها في المصحة؟ وفيروز هذا لا تربطه أي صلة قرابة بالمهاتما غاندي، فهو رجل بارسي مجوسي يحمل اسمًا لعائلة جوجاراتية، وهو آخر العنقود في أسرة مهندس بحري يدعى جيهانجير فاريدون غاندي وزوجته راتيماي. عاش جيهانجير غاندي وأسرته في بومباي، ولكن فيروز قضى معظم حياته في مدينة الله آباد مع خالته غير المتزوجة الطبيبة «شيرين كوميسارات» التي تبنته وتولت مسئولية تربيته. كانت خالته جرَّاحة بارعة، وفي الله آباد، كانت مسئولة عن اثنتين وخمسين ضاحية يخدمها مستشفى دافرين للسيدات. وتبوأت مكانة اجتماعية رفيعة في الله آباد. ولكن ترى لماذا تتحمل هي المسئولية الكاملة عن ابن شقيقتها؟ الإجابة هي أن ابن أختها من المحتمل أن يكون في حقيقة الأمر ابنها هي شخصيًّا. وإذا ما صح هذا الأمر فإن أحد المرشحين المحتملين لأن يكون أباه هو محامٍ شهير يمارس مهنته في المدينة ويدعى راج بهادور براساد كاكار.53

وحقيقة عدم العثور على شهادة ميلاد لفيروز غاندي، وأيضًا حقيقة أن مستشفى الولادة في بومباي لم تسجل في دفاترها أن راتيماي غاندي قد وضعت طفلًا بها في ١٢ سبتمبر ١٩١٢ يشيران إلى أن شيرين كوميسارات قد تكون بالفعل أم فيروز الحقيقية. ومهما يكن والدا فيروز فإن جيهانجير فاريدون غاندي زوج راتيماي توفي في مطلع عشرينيات القرن العشرين. وبالتالي انتقلت راتيماي وأطفالها الأربعة إلى الله آباد ليعيشوا جميعًا مع شيرين وفيروز. كان فيروز طالبًا في مدرسة «بيديا ماندير» الثانوية، وبكلية إيونج كريستيان، ومن الواضح أن فيروز ليست له أي اهتمامات سياسية بالمرة قبل مظاهرة كلية إيونج كريستيان التي ألقت به في مدار عائلة نهرو، وجعلت منه على الأخص تابعًا وفيًّا لكامالا.

غير أن فيروز لم يكن تابعًا وفيًّا لكامالا فقط. فعندما اتخذ البريطانيون عام ١٩٣٠ قرارهم بحظر حزب المؤتمر قُبض عليه وسُجن في سجن فايزه آباد جنبًا إلى جنب مع لال بهادور شاستري، رئيس لجنة حزب المؤتمر في الله آباد، الذي سيشغل فيما بعد هذا الحادث بسنوات طويلة منصب رئيس وزراء الهند لمدة تسعة عشر شهرًا في الفترة بين رئاستي جواهر لال نهرو وإنديرا غاندي للوزراء. وعقب الإفراج عن فيروز صار من الناشطين في الحملة المنادية بعدم دفع إيجارات الأراضي الزراعية في الأقاليم المتحدة خلال مطلع ثلاثينيات القرن العشرين. وهكذا سُجِنَ فيروز للمرة الثانية عام ١٩٣٢، ثم سُجن أيضًا عام ١٩٣٣ بعد أن أرسله نهرو إلى القرى ليعرف أحوال الفلاحين الذين شاركوا عام ١٩٣٢ في حملة عدم دفع الإيجارات، ويتحقق بنفسه من قدر معاناتهم على يد السلطات.54
يخلص كل البارسيين تقريبًا للحكم البريطاني في الهند، وقد غضبت أسرة فيروز بشدة بسبب مشاركته السياسية وتقربه من عائلة نهرو. زعموا أن نشاطه السياسي سيتسبب في تعريض منصب خالته الحكومي الطبي للخطر، وسيمنع شقيقه «فاريدوم» من إنهاء دراسة القانون، وسيحرم شقيقته «تيهمينا» من إمكانية الحصول على درجة الماجستير من جامعة الله آباد. وعندما جاء المهاتما غاندي إلى مدينة الله آباد عند موت موتيلال نهرو توسلت إليه راتيماي أن يقنع فيروز بالابتعاد عن السياسة ومواصلة دراسته. ولكن غاندي عندما سمع ذلك رد على الفور قائلًا باللغة الجوجاراتية: «إذا كان بالإمكان أن يعمل معي سبعة أولاد مثل فيروز فسأحصل على الاستقلال في سبعة أيام. وفي هند المستقبل لن يسأل أحد هل حصل ابنك على الليسانس أو الماجستير، ولكن الجميع سيسأل كم مرة سجن فيها بسبب أنشطته الوطنية.»55

وعلى نحو شخصي فإن فيروز كان يختلف اختلافًا شديدًا عن جواهرلال نهرو. ولعل الصفة الوحيدة المشتركة بينهما هي قصر قامتهما؛ ففيروز كان طوله خمس أقدام وست بوصات. ولكن على النقيض من نهرو كان فيروز بدينًا ذا شعر أسود كثيف. واتصف بالوسامة، ولكن سلوكياته لا تمت بصلة لسلوكيات عائلة نهرو الارستقراطية المهذبة. لم يكن فيروز مثقفًا، وكان طالبًا لا يبالي بدراسته شأنه شأن إنديرا، غير أنه كان يشترك مع إنديرا في عشقها للموسيقى الكلاسيكية وللزهور. ويرى البعض أن فيروز كان قاسيًا يحدث صخبًا وضجيجًا، في حين يرى البعض أيضًا أنه كان صريحًا على نحو محبب. وفي حقيقة الأمر فإنه بالطبع كان شخصًا عاطفيًّا، يحدث صخبًا وضجيجًا، ومقبلًا على الحياة بدرجة هائلة، ولديه شهية كبيرة للطعام والشراب والجنس.

ظل فيروز زير نساء طوال حياته، وهي حقيقة من الصعب أن تنسجم مع إمكانية إخلاصه لكامالا نهرو الزاهدة بالغة الرقة التي أصبحت في أيام مرضها متدينة للغاية، وفي حقيقة الأمر فإن المشاعر التي حملتها كامالا لفيروز غير واضحة. وقد جرى تفسير علاقتهما المثيرة للريبة على أنها أشبه بعلاقة الحب التي جمعت دانتي وبياتريس تلك المرأة الإيطالية العفيفة التي ألهمته كتابة الكوميديا الإلهية، حيث جرى تشبيه فيروز بعاشق كامالا الطاهرة الورعة. ومع ذلك قام أحد زعماء حزب المؤتمر ورفيق نهرو في السجن ويدعى مينو ماساني (الذي ترك حزب المؤتمر فيما بعد ولعب دورًا مهمًّا في تكوين حزب سواتانترا ذي الاتجاه اليميني) بترديد شائعات تفيد بوجود علاقة غرامية تجمع بين كامالا وفيروز الذي يصغرها باثني عشر عامًا.56 ولم يكن ماساني الوحيد في مدينة الله آباد الذي يعلم بأمر هذه الشائعات. ففي حقيقة الأمر وُضعت ملصقات على الجدران في المدينة تؤكد على وجود هذه العلاقة غير الشريفة، والمفارقة أن من وراء حملة تشويه السمعة هذه لم يكونوا ممن يتعاطفون مع البريطانيين، بل من أعضاء حزب المؤتمر.57

وفي حقيقة الأمر فإن الحديث عن وجود علاقة عاطفية تربط بين كامالا وفيروز هو أمر لا يصدقه عقل؛ نظرًا لحالة كامالا الصحية وأيضًا لقيمها وللانعدام المطلق للخصوصية في قصر آناند بهافان، وإن كان هذا لا يمنع أنهما سافرا معًا. وبالإضافة إلى ذلك فمن غير المحتمل أيضًا أن يكون فيروز قد تقدم لخطبة ابنة المرأة التي يرتبط معها بعلاقة عاطفية. والاثنان في نهاية المطاف كانا يعيشان في ريف الهند خلال ثلاثينيات القرن العشرين وليس في باريس خلال القرن الثامن عشر التي صورها الروائي دي لاكلوس في روايته «علاقات خطرة» مكانًا للعربدة والفسوق. ومع ذلك فإن نيران الشائعات التي قالت بوجود علاقة حميمية بين كامالا وفيروز لم تخمد قط.

ولو تنامى إلى سمع إنديرا أنباء هذه الشائعات المزعومة (سواء في ذلك الحين أو فيما بعد) فما كانت ستصدقها. فعندما التقت بفيروز للمرة الأولى في بهوالي، وبدأت في النظر إليه بعين الاهتمام بدا كأنه وجود أساسي ينبض بالحياة وسط عالم من المرض والموت في مصحة. وفيروز كان وسيمًا مفعمًا بالأمل ونافعًا ومخلصًا لكامالا بنفس قدر إخلاص إنديرا لها. وهكذا فقد كان اقترابهما أمرًا محتومًا. وكان فيروز لإنديرا بمنزلة حليف هي في أمس الحاجة إليه.

•••

وفي ليلة ٣١ ديسمبر عام ١٩٣٤ كان جواهرلال وإنديرا مع كامالا (وفيروز) في بهوالي لاستقبال العام الجديد. ومن الغريب أنه مع وجود كامالا في المصحة ونهرو في السجن فإن معنوياتهما كانت مرتفعة وهما يتطلعان بأمل شديد لقدوم عام ١٩٣٥ وما يتلوه من أعوام. وفي اليوم التالي عاد نهرو إلى سجن ألموا وسجل في يومياته بالسجن الكلمات الآتية:
«لم يسبق لي أن قضيت مثل هذا الوقت الطويل والممتع مع [كامالا] … تحدثنا كثيرًا عن الماضي والحاضر والمستقبل … تركتها اليوم وهي مشبعة بالرضا وبالسلام … أدهشتني حقيقة كم نحن مرتبطان كل إلى الآخر، وكم تعني لي وأعني لها … ولإندو يبدو أنها تتكيف جيدًا مع الجميع في شانتينكيتان. وبصفة عامة فإنها تكبر وتنضج كما ينبغي … وفيروز، يا له من شخص حلو المعشر! فبدونه لتحول الأمر إلى كارثة … ولم يعد لديها [أي كامالا] سوى أصدقاء قليلين، في الحقيقة لم يعد هناك سوى فيروز والممرضة.»58
لكن عندما زار نهرو كامالا بعد ذلك في نهاية شهر يناير وجدها قد تغيرت كثيرًا، في البداية كانت لا تستجيب له فحسب فظن أن ذلك بسبب مرضها، ولكن فيما بعد قالت له، كما أخبر بنفسه، إنها «تريد أن تعرف الرب حق المعرفة وستركز كل تفكيرها في ذلك، واستعدادًا لهذا الأمر ينبغي لعلاقاتنا أن يعتريها بعض التغيير. يبدو أنني كنت أسير في درب بعيد عن طريق الرب». وقالت كامالا لنهرو إنها لن تقيم معه أي علاقة جنسية بعد ذلك؛ إذ إنها ترغب في الالتزام بعهد البراهمشاريا «العزوبة». ذهل نهرو من رفضها له، وخاصة بعد العلاقة الحميمية بينهما في ليلة رأس السنة. ولطالما غضب نهرو من التزام كامالا الديني لأن هذا الالتزام ليس ذا فائدة للدين نفسه، وأنه في الوقت نفسه «أصبح يشغل مكانًا أقل فأقل في ذهنها المعاد تشكيله. بدا الأمر كما لو كنتُ في طريقي لأن أفقدها، كانت تتسرب من بين أصابعي في الوقت الذي كرهت فيه هذا الأمر وشعرت باليأس». وإذا عدنا إلى سجن ألمورا نجد نهرو يكتب في اليوم التالي: «الوحدة في كل مكان. لا شيء يمكن أن أتعلق به: لا قوارب نجاة أو ألواح خشب طافية يمكن أن أتشبث بها في مواجهة الأمواج العاتية.» كان يغرق ولكن ما من شيء يستطيع فعله … سوى الجلوس في ثكنات السجن وحيدًا والتفكير في مدى الفظاعة التي يمكن أن تكون عليها الحياة.59
قد يساء تفسير مسألة رفض كامالا إقامة علاقة جنسية مع نهرو واتخاذ ذلك دليلًا على أنها كانت على علاقة عاطفية بفيروز، وخصوصًا عند النظر إلى ما حدث خلال الزيارة التالية لنهرو؛ إذ انتابت فيروز آلام شديدة في المعدة في المساء، واضطر نهرو إلى الجلوس معه وتمريضه طوال الليل بدلًا من قضاء الليل مع كامالا. وعن هذه الليلة قال نهرو: «كانت ليلة مرهقة لم أحظَ فيها إلا بقدر يسير من النوم.»60 غير أن إحدى الرسائل التي أرسلتها كامالا لصديقة مقربة لها تظهر أنها كانت تمر بمرحلة من التقوية لمعتقداتها الدينية. قالت كامالا في هذه الرسالة: «إن جواهرلال غاضب مني. لا يوجد أحد معي الآن إلا الرب. العالم شبكة وإذا وقع المرء في شراكها فلن يكون هناك سوى المزيد من الحزن والأسى. ولقد ارتكبت خطأً كبيرًا إذ قضيت … سنوات من حياتي وأنا ربة بيت. فإذا كنت قد بحثت عن الرب خلال تلك الفترة كنت سأجده.»61

وبعد أن زاد اعتلال صحتها وأصبح احتمال اقتراب موتها أمرًا حقيقيًّا لها نأت كامالا بنفسها عن «شبكة» العالم. وبدأت تدريجيًّا في التخلي عمَّا يربطها بالحياة وفي ذلك ما يربطها بزوجها وابنتها. وفي ذلك الحين بدأت كامالا تتصرف باعتبارها سترحل عن دنياهم. وباتت تفكر في أنها ستكون حرة عندما تموت. ولكن جواهرلال وإنديرا كانا لا يزالان غارقين في هذه الشبكة وانحنيا «للمزيد من الحزن والأسى».

وفي الوقت نفسه انشغلت إنديرا بعاصفة عاطفية هبت عليها في شانتينكيتان. إنه فرانك أوبردورف، الألماني الذي يدرس لها اللغة الفرنسية بالجامعة، الذي صارحها بحبه، ووجدت إنديرا نفسها للمرة الأولى في حياتها منجذبة لرجل. لم يكن حبًّا من ذلك النوع الذي يحدث في سن المراهقة. فقد كانت إنديرا ناضجة تبلغ من العمر سبعة عشر عامًا وأوبردورف في منتصف الثلاثينيات. وقد التقى أوبردورف مع طاغور في أمريكا الجنوبية عام ١٩٢٢ وجاء للتدريس في شانتينكيتان عام ١٩٣٣. بدا واضحًا أنه أحب إنديرا لشخصها وليس لأنها تنتمي إلى عائلة نهرو. وربما كان هو أول رجل ينظر إليها باعتبارها إنسانة. ظلت إنديرا تردد على مسامعه مرارًا وتكرارًا أنها إنسانة عادية في كل شيء باستثناء مصادفة «ميلادها وكونها ابنة لرجل رائع وامرأة استثنائية»، وفي حقيقة الأمر فإن هذه الكلمات تعبر عن تقييم لاذع ودقيق للنفس.62
وفي مارس عام ١٩٣٥ أصدر المشرف الطبي على مصحة بهوالي تقريرًا بشأن حالة كامالا. جاء في التقرير أن وزنها زاد من ٧٧ رطلًا إلى ٩٤ رطلًا في حين انخفض نبضها من ١٢٠ إلى ١٠٠ نبضة في الدقيقة، واستقرت درجة حرارتها في المساء عند ٣٧.٧٤، وتحسنت شهيتها وقدرتها على الهضم، وقلت نوبات عدم قدرتها على التنفس. ولكن في الوقت نفسه كان هناك ما يسوء. فالأطباء كانوا لا يزالون «يتوقعون إصابتها بمرض السل … وأظهرت صور الأشعة التي أُجريت على صدرها … انخفاضًا جزئيًّا في كمية الهواء الموجودة برئتها اليسرى، وأظهرت أيضًا وجود التصاقات في الجزء العلوي من التجويف الصدري، إضافة إلى وجود السوائل حتى مستوى الضلع الرابع في الجزء القاعدي.»63 وجعلت هذه الالتصاقات من المستحيل مواصلة الاسترواح الصناعي، وهكذا تحولت كامالا إلى العلاج بالنوردولين، وأُخبرت أنه إن لم يطرأ على حالتها تحسن بعد استخدامها النوردولين فسيتعين عليها السفر لأوروبا وإجراء جراحة.64
لم تكن حالتها قد تحسنت بحلول شهر أبريل وبات من المحتم أن تسافر للخارج. كانت هذه المسألة صعبة؛ إذ كان نهرو خلف جدران السجن ولم يكن قادرًا على مصاحبتها. وعندما علم نهرو بالأمر تطرق إلى مسألة أن تصاحبها ابنتها في رحلتها للخارج، غير أن إنديرا لم تكن تريد الرحيل عن شانتينكيتان، وكتبت إليه تقول: «لست حريصة على الذهاب … وإن كان هذا لا ينفي أنني أرغب في أن أكون بجوار أمي، ولا سيما أثناء إجرائها الجراحة.»65 لم يكن لدى إنديرا الرغبة في الرحيل عن قصر السلام أو ربما عن فرانك أوبردورف أو كليهما.
وفي ١٣ أبريل، عندما كانت إنديرا تتدرب على أداء أول رقصة بمفردها في أحد عروض الرقص الكلاسيكي الهندي المستمدة من ولاية مانيبوري، استدعاها طاغور إلى مكتبه وكان قد تسلم لتوه برقية من نهرو، أخبرها طاغور بحالة أمها السيئة وأن عليها الذهاب على الفور إلى أوروبا بأسرع ما تستطيع. وعندئذٍ توجهت من فورها إلى سكن الطالبات وحزمت حقائبها. غادرت شانتينكيتان في اليوم التالي واستقلت القطار إلى كلكتا ثم إلى بهوالي. وبعد ذلك بأسبوع كتب طاغور رسالة إلى نهرو يقول فيها: «ودعنا إنديرا بقلوب مثقلة … فقد كانت مصدر زهو لهذا المكان … وإن جميع أساتذتها — بصوت واحد — يمدحونها وإنني أعرف أنها محبوبة للغاية لدى زميلاتها الطالبات. وكل ما أرجوه أن تتحسن الأمور وأن تعود إلينا لتستأنف دراستها.»66 غير أن صفحة شانتينكيتان في حياة إنديرا ستطوى دون رجعة.
وجدت إنديرا في بهوالي فيروز وبالطبع كامالا، أخبرها فيروز أنه يحاول تدبر وسيلة للذهاب معهما إلى أوروبا. وفي الوقت نفسه كتب نهرو من سجن ألمورا إلى ابنته «رسالة وداع» على الرغم من أنه سوف يراها في بهوالي عند الرحيل. قال نهرو في هذه الرسالة: «إنني أود أن تغادري الهند وأنت في حالة ذهنية صافية ويحدوك الأمل. وفي عمرك هذا يجب أن تنشئي في سعادة وإلا فإن شبابك ستثقله الهموم والقلاقل … وإنني لا أريدك أن تصبحي عدوانية أو ساخطة.»67
وبالنظر إلى الظروف لم يكن من المنطقي أن يتوقع المرء أن إنديرا ما إن ترحل عن الهند حتى تغمرها روح الشباب وتشعر بالأمل وتصبح خالية من الهموم. لقد أُبعدت إنديرا عن أول فترة في حياتها نعمت فيها بالسلام والبعد عن صخب السياسة. لم تكن ترغب في الرحيل عن شانتينيكتان والذهاب إلى أوروبا. فقد كان أبوها يقبع خلف قضبان السجن وأمها تعاني مرضًا شديدًا. وبالإضافة إلى ذلك فقد أُلقيت مسئولية كبيرة على عاتق إنديرا حتى بالرغم من أن ابن عمها الطبيب مادان أتال سيسافر للخارج معهما. وقد كتب نهرو في خطاب لها: «أنت من سيتخذ جميع القرارات هناك … أريدك أن تتولي [مسئولية] الترتيبات سواء فيما يخص حجز غرف الفنادق [أو] حجز الإقامة في القطار … عليك أن تعتادي على تدبر أمورك وحدك.»68
ذهب نهرو إلى بهوالي في ١٥ مايو ليودع كامالا وإنديرا، وبينما يجلس أمام فراش كامالا كتب تاريخًا طبيًّا مفصلًا عنها ليأخذه معه إلى أوروبا ليطلع عليه الجراحين والأطباء هناك. لم يكن هذا اللقاء الأخير حميميًّا أو حتى يتسم بالعاطفة المشبوبة. لقد تم على مرأى ومسمع سواروب راني وبيتي هاثسينج اللتين حضرتا إلى بهوالي لتصطحبا كامالا للمنزل. ورحل الجميع بالسيارة إلى مدينة الله آباد ظهر ذلك اليوم. وفي مذكراته التي كتبها في السجن قال نهرو: «ودعتهم وسرعان ما بدأت رحلتي إلى ألمورا. ذهبت عبر الطريق السريع بينما ذهبت هي عبر الطريق البطيء. ترى هل سنلتقي مرة أخرى؟ وأين؟»69

وبعد ذلك بعدة أيام استقلت إنديرا وكامالا القطار إلى بومباي ومعهما فيروز الذي كان عندئذٍ يخطط للسفر إلى أوروبا. وفي بومباي زاروا غاندي الذي أرسل لجواهرلال رسالة في ألمورا يخبره فيها أنه لم يسبق له رؤية كامالا بمثل هذا القدر الكبير من الإيمان، غير أن هذه الرسالة لم تسرِّ عن عقل نهرو الذي يتبع مذهب اللاأدرية. وفي ٢٣ مايو أبحرت كامالا وإنديرا ومادان أتال إلى ألمانيا على متن الباخرة «كونتي روسو» التي يعني اسمها «الكونت الأحمر». واستقل فيروز القطار عائدًا إلى مدينة الله آباد وهو عازم على أن يتبعهم بأسرع ما يمكن.