إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل السادس

في الغابة السوداء

«الصحبة على ظهر الباخرة ليست مشجعة على الإطلاق»، هكذا كتبت لوالدها بعد خمسة أيام من الإبحار فور أن دخلت الباخرة الإيطالية الكونت روسو البحر الأحمر. كانت معظم قمرات السفينة الخاصة بالدرجة الأولى مشغولة بالهنود الأغنياء، «والذين كانوا جميعًا يعانون مرضًا أو آخر وكانوا قاصدين فيينا لاستشارة … الأطباء.»1 أما البقية الباقية — المكونة من الإيطاليين والأوروبيين الأصحاء — فكانوا يبقون على مسافة بعيدة من المرضى الموجودين على متن السفينة.
لم تعرف إنديرا الكثير عن شخصيات الركاب الآخرين. فقد كتبت تقول: «كل يوم توجد إما حفلات راقصة متنوعة أو سينما أو أي شيء آخر [ولكني] لا أحضر هذه الأنشطة، وأنا واثقة أني لم أفقد الكثير، مع أن أمي تعتقد أني محبوسة في القمرة بسببها.»2 عندما وصلوا إلى قناة السويس انجذبت إنديرا لفكرة الذهاب إلى القاهرة وزيارة الأهرامات، ولكنها قررت ألا تفعل؛ لأن هذا يعني أن تترك والدتها يومًا كاملًا بليلته. ولكن إنديرا زارت بورسعيد مع مادان أتال، وانطلقا للحصول على رسائلهم من مقر شركة توماس كوك، ولكنهما ضلا الطريق في متاهة من الأزقة الضيقة المتعرجة، وفي النهاية وجِّهت إليهما دعوة لدخول متجر هندي، حيث قام الرجل السندي الجالس على طاولة البيع «بالتعرف عليَّ وسأل عن أمي وعنك». ثم قادهما بنفسه إلى شركة كوك، واصطحبهما للتسوق، ورافقهما في العودة إلى السفينة، حيث قدم إليهما ثلاثة علب من حلوى الملبن، وقدم باقة من الزهور لكامالا.3 ولم تستطع هوية إنديرا الاختباء حتى في شوارع بورسعيد المتربة التي تبعد آلاف الأميال عن منزلها. فقد كانت من عائلة نهرو.
كان هناك العديد من الرسائل التي بعثها والدها من سجن ألمورا ضمن الرسائل التي حصلوا عليها في بورسعيد. كان نهرو يريد أن يعرف بالطبع أحوال كامالا وإنديرا، ولكنه كان شغوفًا أيضًا بمعرفة رأي إنديرا في كتابه «لمحات من تاريخ العالم» الذي كان قد نُشر لتوه عندئذٍ. حرص نهرو على أن تكون هناك نسخة جديدة تمامًا بيد إنديرا في رحلتها من بومباي، ووقتئذٍ سألها عن أي الأجزاء في رسائله أعجبتها أكثر، وأخبرها عن تخوفه من أن تجد شرحه للاقتصاد مملًّا؛ «إنه موضوع جديد عليك وسيستغرق وقتًا حتى تستطيعي تقبله.»4 ومع دخولهم إلى البحر المتوسط كتبت له إنديرا: «أشتاق إليك كثيرًا. لا يوجد هنا من أتحدث إليه أو أتنزه معه، وعندما لا أكون مع أمي أشعر أنني وحيدة للغاية.»5 وبرغم شعورها بالوحدة والملل على ظهر السفينة ظل كتاب «لمحات من تاريخ العالم» كتابًا مغلقًا في قمرتها، وبعد ذلك ظل مغلقًا أيضًا في حجرات الفنادق والقطارات والنُّزُل في أنحاء أوروبا.

•••

نزل الجميع في ترييستي في ٣ يونيو. وأقلت عربة الإسعاف كامالا وإنديرا ومادان أتال إلى محطة القطار حيث انطلقوا في الحال في عربة نوم في القطار متجهين إلى فيينا. وعند وصولهم في تمام الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي قابلهم سوبهاس تشاندرا بوس — العضو الراديكالي البنغالي في حزب المؤتمر — الذي قادهم إلى فندق بريستول واستمر في زيارة كامالا يوميًّا أثناء إقامتهم في فيينا. وكان الزميل والصحفي الهندي نامبيار (أو نانو كما كانوا يدعونه) يصحب بوس في زياراته لكامالا. كان نامبيار — الصديق المخلص لأسرة نهرو وأخو زوج القائدة الوطنية سروجيني نايدو — واحدًا من المجموعات الهندية المنفية لوقت طويل في أوروبا. أما بوس فكان في الخارج منذ عام ١٩٣٣ فقط. وجاء إلى فيينا في الأساس بسبب حالته الصحية الضعيفة، ولكنه استغل منفاه في الدفاع عن استقلال الهند، وقد كان في ذلك الوقت مشغولًا في تكوين تحالفات مع الفاشيين الإيطاليين والألمان.

في ١٠ يونيو كتبت إنديرا لوالدها أنها اصطحبت كامالا مع مادان أتال لاستشارة العديد من الاختصاصيين الطبيين في فيينا، ولكنها بعيدًا عن هذه الزيارات لم تعرف الكثير عن المدينة. فكانت تبقى حتى تلزم كامالا، ولكن أيضًا لأنه «كان من المرعب الخروج بالساري. فالكل يستدير ويحدق ويرمقني من أعلى لأسفل حتى أشعر وكأني أريد أن تبتلعني الأرض أو أعود ركضًا إلى الفندق».6 في الوقت نفسه صممت كامالا على أن تستكشف إنديرا فيينا وأن تتجنب شعورها بأنها غريبة، فذهبت إنديرا إلى محل ملابس وابتاعت ثوبين، ثم ذهبت إلى مصفف الشعر لتقص شعرها. لم يعد الآخرون يحدقون في إنديرا عندما كانت تخرج في ثيابها الأوروبية وقصة شعرها القصيرة. أما بوس ونامبيار فقد انتقدا إنديرا لقيامها «بخلع الساري»، مع أنهما بالطبع كانا يرتديان الثياب الغربية بالخارج. ولكن نهرو كتب إليها: «أنا سعيد بأنك قصصت شعرك … إنه من الأفضل أن تلتزمي بارتداء الفساتين … فالساري … ليس رداء امرأة عاملة، بل هو رداء الكسالى.»7

لكن إنديرا لم تنظر أبدًا إلى الرداء من وجهة نظر وظيفية مطلقة. فقد كانت الملابس من وجهة نظرها تُمثل وسيلة من وسائل التنكر أو العرض، فكانت توفر لها إما الاختباء أو الظهور. لم تكن الخيلاء من سمات إنديرا، ومع ذلك فحسها الفني القوي — حساسيتها العالية لألوان الملابس وأنسجتها وملمسها — يعني أن الملابس دائمًا كانت تُمثل شيئًا مهمًّا للغاية لها، حتى إنها لم تكن تهمل أبدًا فيما يخص ارتداءها الثياب. ففي فيينا ترتدي الثياب وتصفف شعرها بما يسمح لها بالاختلاط. وفي أوقات أخرى في أوروبا ترتدي الساري حتى تكون مميزة وسط الجميع. وبعد ذلك بكثير في الهند تطور معنى الأثواب من الساري الذي كانت إنديرا ترتديه — بألوانه وخامته وتصميمه — إلى شكل معقد من أشكال التعبير الشخصي والتواصل السياسي.

•••

بحلول منتصف يونيو عام ١٩٣٥ كانت إنديرا وكامالا ومادان أتال قد غادروا فيينا إلى برلين حيث نُصحت كامالا بإجراء جراحة. وفي التاسع عشر أجرى البروفيسور أونفريشت عملية كي وإزالة للأورام الليفية الملتصقة والمتكونة في رئتيها. شاهد مادان أتال العملية المعقدة وكتب شرحًا مفصلًا بها إلى نهرو الذي أبهرته التكنولوجيا الطبية المتقدمة وكتب في مذكراته بالسجن يقول: «جرى إدخال مصباح كهربائي إلى الصدر عبر ثقب صغير، وهكذا شوهد ما بداخل الجسد، وأُدخلت أيضًا عدسة مجهر.»8 وبعد استئصال الأورام الليمفاوية الملتصقة في صدرها كان من المرجو أن تستطيع كامالا الاستفادة من إجرائها لجراحة استرواح الصدر التي كان من المفترض أن تجريها عندما كانت في بهوالي. أحالها الأستاذ أونفريشت إلى مصحة في بادن فيلر في جنوب غرب ألمانيا من أجل «إجراء جراحة استرواح صدري أخرى»، وبعد أسبوع من الجراحة غادرت كامالا ومادان أتال برلين مباشرة.

أما إنديرا فقد ظلت هناك من أجل تفصيل فساتين أخرى. هكذا أخبرت والدها، ولكن في حقيقة الأمر كانت إنديرا نفسها مريضة بآلام حادة في المعدة، مثلما كتب مادان أتال بالفعل إلى نهرو (دون علم إنديرا). خضعت إنديرا لفحص بأشعة إكس، وتناولت جرعة علاجية من مركب البزموت، وقيل لها إن عليها الخضوع لجراحة استئصال الزائدة الدودية. ولكن بعد رحيل والدتها ومادان أتال اختفت آلام معدة إنديرا فجأة وشعرت، لدهشتها، بأنها على ما يرام تمامًا. فأُلغيت عملية استئصال الزائدة الدودية، وحجزت لنفسها في فندق أدلون وقضت يومين من الإجازة في التسوق وزيارة حديقة الحيوان والتجول في الشوارع.

لكن جوًّا منذرًا بالسوء كان يجتاح برلين، وهو ما بدا لها «إيذانًا بالحرب». فقبل ثلاثة أشهر، وردًّا على معاهدة فيرساي، أنشأ هتلر وغورينغ القوات الجوية الألمانية (لوفتواف)، وبحلول يونيو كانت الطائرات تحلق فوق الرءوس طوال اليوم. وفي المساء «كانت الطائرات تحلق على مستوى منخفض وكان صوتها وأضواء البحث الصادرة منها تجعل النوم أمرًا صعبًا.»9 هذا بالإضافة إلى أن الصحف كانت تعج بأخبار خطط هتلر لضم النمسا. كانت إنديرا مثقلة بإحساس أن أمرًا ما مشئومًا سيقع.

•••

غادرت إنديرا فيينا وهي تشعر بالراحة لذلك واستقلت القطار الذي سيأخذها وكامالا بعيدًا إلى بادن فيلر في الغابة السوداء بالقرب من الحدود السويسرية والفرنسية. كانت المدينة — وهي منتجع توجد به ينابيع مياه ساخنة تشتهر بخصائصها العلاجية — لا تزيد عن كونها قرية عدد سكانها نحو أربعة آلاف نسمة مقسمين بين سكان دائمين وزوار مرضى. كان الرومان قد بنوا فيها حمامات وصل عمرها إلى ألفي سنة. وفي القرن الثامن عشر أُعيد اكتشاف الينابيع الحارة، ومنذ ذلك الحين وبادن فيلر تجذب إليها المعتلين والكسالى والأثرياء والمشاهير، والمحتضرين. حيث مات هناك عام ١٩٠٠ الروائي الأمريكي ستيفن كرين، وفيها أيضًا مات الأديب الروسي تشيكوف، أحد الكتَّاب المفضلين لكامالا، عام ١٩٠٤.

وجدت إنديرا كامالا تعيش في أكثر المصحات خصوصية في بادن فيلر وهي مصحة هانز فالديك، كانت كامالا ترقد في المصحة تحت رعاية دكتور ستيفان، وممرضة اسمها أنيت، ومرافقة بالأجر وهي امرأة ألمانية شابة مرحة اسمها لويز جيسلر. أصبحت كامالا وإنديرا مغرمتين بلويز ولم يمر وقت طويل على وصولهما إلى بادن فيلر حتى تركت إنديرا البنسيون الذي كان مادان أتال يقيم به وأقامت في حجرة مشتركة مع لويز في بنسيون إيرهاردت. كان العيب الوحيد في ذلك المكان أن السيدة إيرهاردت رفضت أن يستخدم النزلاء الحمام؛ إذ إن «النزلاء» — كما نقلت إنديرا عن صاحبة العقار لنهرو قولها — «لا يجب أن يستحموا في مكانها». لحسن الحظ، كان لكامالا حمامها الخاص في المصحة، ومن ثَم استطاعت إنديرا أن تستحم هناك عندما كانت تذهب لزيارتها.

وفيما بين الزيارتين اليوميتين لوالدتها تتجول إنديرا في المدينة، بين الفنادق والبنسيونات، والعيادات والمصحات. كانت تتنزه في حدائق فندق «كوربارك» حيث توجد فرقة موسيقية تعزف موسيقاها يوميًّا في الهواء الطلق. وكانت تمشي أيضًا في الريف، عبر الحقول والبساتين ومزارع العنب، وداخل غابات الصنوبر. يُقال عن بادن فيلر إنها أكثر منطقة مشمسة في ألمانيا؛ حيث هواؤها النقي كافٍ لشفاء أكثر المرضى ضعفًا. ولكن الغابات مظلمة مما ذكَّر إنديرا بالقصة الأسطورية التي كتبها الأخوان جريم التي حملت عنوان «هانسيل وجريتيل»، والتي قرأتها عندما كانت طفلة. لم تكن بادن فيلر مكانًا مناسبًا لشابة صغيرة ينتابها القلق بشأن صحة والدتها، ويعتريها الخوف بشأن صحتها هي نفسها. فقد كانت الأطلال الرومانية والغابة السوداء المحيطة (شفارتز فالد) لا تقل فيما تضفيه من شؤم عن أضواء البحث الصادرة من الطائرات المحلقة فوق الرءوس في برلين.

هذا بالإضافة إلى أن الأجواء الاجتماعية والسياسية لم تكن توحي بالسرور. كانت بادن فيلر صغيرة جدًّا مما أجبر إنديرا على الذهاب إلى فرايبورج للتسوق، حيث شاهدت ما وصفته ﺑ «كيفية التعامل مع اليهود». فقد صادقها زوجان ألمانيان كبيران في السن وأخبراها أنهما واثقان من كونها من «الجنس الآري الخالص».10 ولكن أسلوب هذين الزوجين كان استثنائيًّا. فإنديرا كانت تعلم جيدًا أن الهنود في عقول الألمان ينقسمون إلى طبقتين: السود واليهود. فأخبرت والدها أيضًا أن «هناك دعاية كبيرة ضد الهنود في الصحف بسبب السياسة الخارجية لإقامة صداقات مع بريطانيا. ومن ثَم لم يكن الأمر مقبولًا في بعض الأحيان.»11

لغرابة الأمر لم يعلق نهرو حول الموقف السياسي الأوروبي في خطاباته لإنديرا في بادن فيلر مع أنه كان أحد النقاد المبكرين والحادين فيما يخص موسوليني وهتلر في كتابه «لمحات من تاريخ العالم» (الذي لم تعبأ إنديرا بفتحه حتى تلك اللحظة). وبدلًا من هذا بعث لها نهرو خطابًا وعظيًّا آخر — الأقوى في كل ما بعث حتى ذلك الوقت — يسدي فيه النصائح بشأن صحتها، ردًّا على تقرير مادان أتال عن مرض إنديرا في برلين. فكتب إليها: «أنا لا أظن أنك على الأخص ستختلطين … بمعشر الأطباء.» وأعاد عليها عبارته القديمة التي اعتاد تكرارها أمامها بأن الصحة الجيدة تتحقق عن طريق «نسيان الجسد بدلًا من العناية به كثيرًا مثل نبات ينمو في الدفيئة». في الماضي كان نهرو قد أخبر إنديرا أنه يعتبر المرض «خطيئة»، والآن ها هو يقترح أن «الكلام عن الأمراض والمرض، إذا لم تكن هناك ضرورة، يجب أن يحظره القانون»، وحثها على قراءة رواية «إيرون» لصامويل بتلر التي يكون فيها المرض «جريمة، وكلما خَطُرَ المرض تغلظت عقوبته».

كذلك كان نهرو يعتبر نفسه مثالًا مضيئًا لابنته فيما يخص سلامة الصحة؛ إذ كتب لها قائلًا: «خلال السنوات العديدة التي قضيتها في هارو وكمبردج ولندن لم أقضِ يومًا في المنزل بسبب المرض. ولم أكن أعير صحتي انتباهًا كبيرًا. لقد كنت أعيش حياة طبيعية ببساطة وأزدري هؤلاء الذين غالبًا ما يعانون المرض أو يشتكون كثيرًا من علل جسدية.» وفي النهاية أضاف نهرو أن مادان أتال قد أخبره أن الأطباء الألمان الذين فحصوا إنديرا «كان رأيهم أنك لا تعانين مرضًا خطيرًا».12
كان نهرو وكامالا يشعران أن إنديرا لا يجب أن تبقى في جو بادن فيلر الكئيب، محاطة بالحالات المرضية المزمنة، دون أي نشاط غير زيارة والدتها والتجول في المنتجع والضواحي. ومن ثَم انطلقت إنديرا في يوليو إلى سويسرا. استقلت إنديرا سلسلة من القطارات وحدها من بادن فيلر إلى مولهايم، ومن مولهايم إلى بازل ثم إلى لوزان، مارة بذلك على بحيرتي بيل ونيوشاتل بمنظرهما الساحر. وبعد لوزان ظل الطريق قريبًا من بحيرة جنيف مع اتجاهه في المنحدر شرقًا إلى مونترو وقصر تشيلون. «وبالنظر إلى البحيرة الجميلة، المليئة بالبجع والنورس وسلاسل الجبال ومن ورائها القمم الجليدية لجبال دونت دي ميدي»، كتبت إنديرا إلى والدها معبرة عن كيفية تذكرها لحياتهما معًا في سويسرا في جبال الألب، منذ تسعة أعوام من ذلك الوقت، و«تذكرتك أنت وأمي واشتقت إليك». ومن مونترو انتقلت إنديرا إلى بيكس لزيارة مديرة مدرستها السابقة السيدة هيمرلين التي لم تكن قد رأتها منذ أن تركت مدرسة إيكول نوفيل منذ ١٩٢٧. كانت بيكس هي الأخرى مليئة بالذكريات، ودار بينها وبين والسيدة هيمرلين «حديث عن الأيام الخوالي (قد يعتقد المرء أني في الستين من العمر على الأقل) وعنك وعن بابو».13
بعد بيكس ذهبت إنديرا إلى أسكونا في جنوب سويسرا على بحيرة ماجيوري لحضور مؤتمر يحمل اسم «لقاء بين الشرق والغرب». وعن هذا المؤتمر كتبت إنديرا لنهرو تخبره أنه كان هناك جدول لما سيقوله «الكثير من الشخصيات المهمة التي وفدت من جميع أنحاء أوروبا»، من بينهم لفيف من أساتذة الجامعة أرادت إنديرا أن تناقش معهم إمكانية التحاقها بجامعة في سويسرا. ولكن نهرو عارض هذه الفكرة، فهو يريدها أن تلتحق بجامعة أكسفورد وبالفعل كتب لصديق غاندي المقرب تشارلز فرير أندروز يطلب منه أن يقوم ببعض الاستعلامات. وكان أندروز بدوره قد تحدث مع هيلين داربيشاير، مديرة كلية سومرفيل التابعة لجامعة أكسفورد، التي عبرت عن «أنها ترحب بالتحاق إنديرا إذا كانت مؤهلة لذلك».14 وهنا تكمن المشكلة، هل إنديرا مؤهلة؟ فمنذ المرة الأولى التي تطرقا فيها لموضوع كلية سومرفيل، وهي ونهرو يملؤهما القلق حيال امتحان الالتحاق بجامعة أكسفورد الذي كان على إنديرا اجتيازه.
وعندما ذهبت إنديرا إلى سويسرا في صيف عام ١٩٣٥ أخذت إنديرا معها نسخة ضخمة من كتاب «لمحات من تاريخ العالم». ولكنها كتبت إلى نهرو تقول: «غير ملائم تمامًا للسفر [فهو] … يشغل نصف مساحة حقيبة سفر صغيرة. ومع ذلك فقد أعجبتني الأجزاء التي قرأتها — ولكني لا أقرأ من البداية — مع أني أعتقد أن هذا ما يجب أن تكون عليه الحال مع كتاب في التاريخ.»15 كان هذا الرد المتميز بالفتور هو العائد الوحيد لوقت طويل لعمل نهرو الشاق الشغوف الذي وضعه في كتابه هذا لابنته.
وهناك في بادن فيلر في أغسطس كانت إنديرا قلقة حول صحة والدتها لدرجة لا تسمح لها باستكمال قراءتها المتقطعة لكتاب والدها. فقد كانت كامالا «نحيفة و… وضعيفة للغاية»، وكتبت إنديرا إلى والدها في قلق: «إن أمي دائمًا مجهدة بشدة ومنهكة بسبب … الحرارة المرتفعة على نحو مستمر، وهي لا تتحدث، وتستمع بصعوبة عندما يتحدث إليها شخص آخر.»16 وبرغم عدم تواصل كامالا وشرودها كانت إنديرا تذهب لرؤيتها كل صباح في المصحة ثم تعود مرة أخرى لزيارتها كل مساء. وبينما تمشي إنديرا في المساء عائدة إلى البنسيون الذي تقطنه «تشعر بأشجار الغابة السوداء تقترب وتحيط بها». كانت هناك عواصف رهيبة في منتصف الليل طوال شهر أغسطس، وعندما تعود إنديرا إلى غرفتها تجلس في حالة مزرية أقرب إلى الهلع وهي تستمع إلى صوت الرعد والرياح بينما ستائر غرفتها مغلقة. وبعد ذلك بسنوات عندما هبت عاصفة عنيفة على دلهي ذات مساء أخبرت أحد أصدقائها الذين هالهم رعبها: «منذ أن كنت في بادن فيلر وأنا لا أستطيع احتمال الرعد أو البرق أو صوت الرياح العالي في الأشجار … فقد كنت وحيدة في الغابة السوداء، أمي على فراش الموت … ولم أستطع أبدًا أن أحرر نفسي من هذا الرعب.»17

لم يكن هناك من يشارك إنديرا مخاوفها. فعن فيروز كتب أنه يود لو يقنع عمته بإرساله إلى كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، ولكن شيئًا لم يتم. وفي الوقت نفسه ظهر فرانك أوبردورف في أوروبا، غير أن سبب ظهوره غير واضح؛ فقد يكون قد ذهب إلى هناك متبعًا إنديرا، وقد يكون فعل ذلك لكونه في إجازة من شانتينيكيتان. كان أوبردورف على اتصال بها، ولكنه لم يكن قد قابلها. ومن الواضح أنه لم يستطِع الذهاب إلى بادن فيلر (ولم يعرف أي من كامالا أو مادان أتال بوجود أوبردروف) وكانت كامالا مريضة بشدة لدرجة لا تسمح لإنديرا بتركها.

وفي أواخر أغسطس، حدثت المعجزة — التي من شأنها أن تبدأ سلسلة الأحداث التي قادت إلى إطلاق سراح نهرو من السجن — في شخص أميا شاكرافارتي. السكرتير السابق لرابيندراناث طاغور. كان شاكرافارتي — الذي قابل نهرو وكامالا عندما جاءا إلى شانتينيكيتان — يدرس في ذلك الوقت في كلية باليول في أكسفورد. وجاء إلى ألمانيا في إجازة، وعندما عرف من الصحف أن كامالا في بادن فيلر قرر زيارتها. صُدم شاكرافارتي بحالة كامالا وتحدَّث بصراحة مع الأطباء المسئولين عن حالتها والذين أخبروه أن حالتها «ميئوس منها» و«إذا كان زوجها يود زيارتها وهي لا تزال على قيد الحياة، فعليه أن يستقل أول طائرة». كذلك كان شاكرافارتي قلقًا حيال إنديرا التي وجدها «في حالة مزرية»، والهلع يساروها على والدتها.

غادر شاكرافارتي مباشرة إلى لندن كي يستشير أجاثا هاريسون، وهي ناشطة اجتماعية من أعضاء جمعية الكويكرز في الخمسين من عمرها زارت الهند مرتين، وانضمت تحت تأثير غاندي وشكَّلت بِناء على طلبه مجموعة المصالحة الهندية للعمل في إنجلترا من أجل استقلال الهند. ومن ثَم، بعث شاكرافارتي وأجاثا هاريسون برقية إلى دكتور ستيفان في بادن فيلر وطلبا منه أن يعلم نائب الملك في دلهي بمدى خطورة حالة كامالا. ثم كتبا خطابًا عاجلًا إلى وزارة الهند في لندن.18 وبعد عدة أيام تلقت أجاثا هاريسون خطابًا من إنديرا (التي لم تكن قد قابلتها بعد) تقول فيه إن دكتور ستيفان قد بعث برقية إلى نائب الملك ورئيس وزارة الهند في لندن ولورد زيتلاند ووالدها، وقالت إن كامالا لم تكن أحسن حالًا: «لا تزال تعاني الحرارة المرتفعة، وغير قادرة على تناول أي طعام مما يجعلها أكثر ضعفًا.»19
بعد قراءة خطاب إنديرا كتبت أجاثا إلى المهاتما غاندي عبرت فيه عن قلقها بشأن كامالا وإنديرا، ثم قررت الذهاب بنفسها إلى بادن فيلر لترى هل بإمكانها أن تقدم أي شيء لهما. وكانت النتيجة أنها وجدت كامالا «مريضة على نحو ميئوس منه وضعيفة بشدة» ووجدت إنديرا «شخصًا مثيرًا للشفقة، مع صغر سنها كبيرة بتجربة المعاناة بما يفوق عمرها».20 تأثرت أجاثا كثيرًا بالمزيج الغريب في شخصية إنديرا الذي يجمع بين الوحدة والاعتماد على النفس، وتكوَّنت بين السيدتين — إحداهما إنجليزية غير متزوجة في أواسط العمر والأخرى مراهقة هندية قلقة — رابطة متينة استمرت طويلًا.

عندما تلقى نهرو برقية دكتور ستيفان في سجن ألمورا كتب في مذكرته في السجن: «إذن هذه هي النهاية.» وفي ٤ سبتمبر أطلقت حكومة الهند سراحه قبل انقضاء فترة عقوبته مراعاة لظروفه؛ إذ غادر نهرو بعدها على الفور ليبدأ رحلته الجوية إلى أوروبا؛ من دلهي إلى كراتشي، ثم بغداد والقاهرة، ثم مستقلًّا طائرة بحرية من الإسكندرية إلى برينديزي حيث استقل قطارًا إلى بازل. وفي بازل التقى بسوباس تشاندرا بوس، حيث ركبا معًا إلى بادن فيلر، ووصلا في ساعة مبكرة من صباح يوم ٩ سبتمبر، فقط بعد خمسة أيام من مغادرة نهرو لسجن ألمورا.

كتب نهرو إلى أخته نان بانديت قائلًا: «لقد راعني رؤية كامالا، فقد تغيرت كثيرًا إلى الأسوأ.» منذ آخر مرة ودعها في بهوالي منذ أربعة أشهر. أما الآن فكانت كامالا تعاني ارتشاحًا بلوريًّا، وكانت حرارتها تصل إلى ٤٠٫٢ درجة مئوية. كانت شبه محمومة ومصابة بالغثيان وغير قادرة على تناول أي طعام، وبعد رؤية زوجته كانت لنهرو محادثة طويلة مع دكتور ستيفان التي «كانت أبعد ما تكون عن التفاؤل».21
كان اجتماع شمل نهرو وإنديرا من جديد هو البلسم لأعصابه المدمرة بعد إطلاق سراحه المفاجئ من السجن، وانتقاله إلى أوروبا، وصدمة رؤية حالة كامالا. وهَدَّأ اجتماع شملهما من روع إنديرا. ففي اليوم التالي وجدت أجاثا هاريسون نهرو وإنديرا واقفين معًا بالخارج في الهواء الطلق: «كانت إنديرا متشبثة بذراعه، ومن حين لآخر تمسح برأسها على كتفه ويبدو أن بعضًا من «السنين» التي لاحظتها [عليها] قد انسابت بعيدًا وأصبحت شخصًا مختلفًا.»22
لأكثر من شهر بعد وصول نهرو إلى بادن فيلر ظلت كامالا مريضة بشدة. وفي أواخر سبتمبر ارتفعت حرارتها إلى ٤١٫١ درجة مئوية. وبدأ دكتور ستيفان في إصدار تقارير عن حالتها الصحية لوكالة أنباء رويترز التي كانت بدورها ترسلها إلى الهند. واستدعي اختصاصي في مرض السل من فرايبورغ قال: «إنه مع خطورة الحالة فهناك فرصة للتعافي.» ولكن، كما أشار نهرو في أحد خطاباته إلى أخته، بالرغم من أن بارقة الأمل التي أتى بها جلبت بعضًا من «الراحة … لم يحقق لنا هذا الكثير».23
وفي كل صباح كان نهرو وإنديرا يقطعان المسافة من بنسيون إيرهاردت إلى المصحة في جو من الكآبة. كانت كامالا معظم الوقت في غاية الضعف لدرجة لا تجعلها قادرة على التحدث، لذلك كان نهرو يقرأ لها ولإنديرا بصوت عالٍ رواية «الأرض الطيبة» للروائية الأمريكية بيرل بك. ثم كان الأب والابنة يعودان كلٌّ إلى غرفته في البنسيون، وكلٌّ إلى أفكاره المتشائمة. حاول نهرو أن يقوم بمراجعات لسيرته الذاتية، ولكنه وجد نفسه يفكر مليًّا بكامالا وزواجهما. لقد بدأت صورة كامالا تتشكل في عقله بجانب رؤيته للهند. فلم تعد مجرد فرد، لقد أصبحت «رمزًا للمرأة الهندية نفسها … تشوبها أفكاري حول الهند على نحو غريب … محيرة للغاية ومليئة بالغموض».24

في أواخر أكتوبر كتب نهرو لصديق له أن صحة كامالا انتقلت فجأة في «منعطف إلى التحسن» «ليس ملحوظًا» ولكنه ظل سببًا للراحة. كان التوتر الذي صاحب مرض كامالا قد استنفد قواهما، وبناءً على هذا الهدوء الجزئي قررا زيارة لندن في نهاية الشهر في رحلة قصيرة نظمتها أجاثا هاريسون وزيارة كلية سومرفيل في أكسفورد أيضًا. وما إن وصلا إلى محطة فيكتوريا حتى وجدا حفل استقبال يضم أجاثا وبرتراند رسل وهوراس ألكسندر وعضو البرلمان العمالي إلين ويلكينسون وكريشنا مينون (الذي كان قد أتى مباشرة إلى المحطة من مستشفى سانت بانكراس حيث كان يُعالج من انهيار عصبي). وتظهر إنديرا في إحدى صور استقبالهم في فيكتوريا شاحبة بعينين غائرتين ممسكة بباقة ضخمة من الأزهار وتحاول رسم ابتسامة على شفتيها.

أقام الاثنان في فندق مونتريال المطل على قوس الرخام ثم بدآ على الفور في مباشرة مجموعة من التجمعات واللقاءات السياسية. وفي كل مكان ذهبا إليه كان الناس يحتفلون بنهرو، أو كما وصف هو في خطاب لنان بانديت: «كان الناس على مختلف أشكالهم يلتفون حولي محاولين التودد لي.»25 وبرغم وقتهم المحدود استطاع نهرو وإنديرا أن يشاهدا أربع مسرحيات هي: «روميو وجوليت»، و«١٠٦٦ وكل ذلك»، «الليل آتٍ لا محالة»، و«الحب أثناء تلقي إعانة البطالة» بالإضافة إلى نسخة جديدة من فيلم «حلم ليلة صيف» قام ببطولته جيمس كاجني وأوليفيا دي هافيلاند.
وفي ٥ نوفمبر ذهبا إلى أوكسفورد حيث كانت لهما مقابلة ودية مع مديرة كلية سومرفيل، هيلين داربيشاير، وعميدة الكلية، فيرا فارنيل، التي ناقشوا فيها تقديم إنديرا لطلب التحاق للسنة الدراسية التالية التي ستبدأ في أكتوبر عام ١٩٣٦. وها هي مشكلة امتحان الالتحاق تلقي بظلالها ثانية، ثم قررت المديرة والعميدة في كلمات اجتماع اللجنة الدراسية الذي استغرق وقتًا قصيرًا في اليوم التالي أنه «نظرًا لمرض والدتها الخطير في سويسرا فإن الآنسة نهرو لن يكون بمقدورها أن تفي بالشروط التي يجب على الطلاب الهنود أن يكونوا مؤهلين بها في الهند للالتحاق بالدرجة التعليمية الأعلى. واتُّفق على أن يُسمح للآنسة نهرو بالدخول للامتحان [الالتحاق] في مارس ١٩٣٧ وستؤدي في الوقت نفسه [أي بدءًا من أكتوبر ١٩٣٦] الامتحان العام الخاص باللغات الحديثة والتاريخ.»26 بمعنى آخر كانت هيلين داربيشاير تود تيسير لوائح الدخول لإنديرا، أو على نحو أكثر دقة لابنة جواهرلال نهرو.

ومع أن أبواب كلية سومرفيل قد فتحت ذراعيها لها فقد ظلت إنديرا متخوفة من امتحان الالتحاق، خاصة جزأه المتعلق باللغة اللاتينية، وكذلك كان نهرو. هذا بالإضافة إلى أن نهرو كان قلقًا من احتمال أن تدفع إنديرا ضريبة مرض كامالا من دراستها إذا حاولت أن تستعد للامتحان في ذلك الجو الحزين المشحون في بادن فيلر. واقترح أن تعود إنديرا إلى مدرسة إيكول نوفيل في سويسرا — مكان تحبه — للاستعداد لامتحان الالتحاق بسومرفيل.

من ثَم عادت إنديرا ثانية إلى مدرسة مدام هيمرلين في بيكس بعد وقت قصير من عودتهما إلى بادن فيلر في آخر نوفمبر. من الناحية النظرية كانت تلك فكرة جيدة، ولكن إنديرا ما لبثت أن شعرت «بالغربة» هناك؛ لأنها كانت أكبر عمرًا بكثير من الطلاب الآخرين وأصغر بكثير من المعلمين. وكان من الطبيعي بعد سفرها وعيشها وحيدة في ألمانيا وسويسرا أن تجد الحياة في المدرسة مضجرة. كان يومها مقسمًا إلى فترات للدروس والأنشطة الأخرى، ولم يكن هناك الكثير من وقت الفراغ لكتابة الخطابات أو القراءة أو التنزه المنفرد. وكانت تستاء مما تعتبرها ساعات ضائعة في الدروس الإلزامية الخاصة بالغناء والرسم والحياكة وأشغال الإبرة. ولكن حالتها تحسَّنت على نحو طفيف عندما انهمرت الثلوج في ديسمبر وأصبح بمقدورها ممارسة رياضة التزلج من جديد، على نحو أقل إتقانًا بعد فترة انقطاع عن ممارستها بلغت تسع سنين. أما ما كان أكثر إبهاجًا لها فهي أخبار فيروز التي عبر فيها عن أنه يأمل أن يصل إلى أوروبا قبل نهاية العام، وأنه سيذهب مباشرة إلى بادن فيلر لرؤية أسرة نهرو قبل الذهاب إلى لندن.

في الوقت نفسه، هناك في المصحة، كانت حالة كامالا قد ازدادت سوءًا على نحو خطير. فقد عاد إلى صدرها الارتشاح البلوري، بالإضافة إلى ارتفاع حرارتها وإصابتها بحالة أشبه بالهذيان. أزال الأطباء السائل من رئتيها عن طريق مضخة ماصة، ولكن العملية لم تُحدث تأثيرًا كبيرًا. قضى نهرو معظم الأيام نهارًا وليلًا بجوارها. وفي المساء كان يجلس حتى وقت متأخر في النُّزُل يراجع سيرته الذاتية التي تعهد كريشنا مينون — الذي لم يكن فقط يُدير الرابطة الهندية في لندن ولكن كان أيضًا رئيس تحرير دار بودلي هيد للنشر — بنشرها من خلال دار النشر.

وفي ٢١ ديسمبر وصلت إنديرا من بيكس إلى بادن فيلر لقضاء عيد الميلاد مع والديها. وقد صدمها مرأى والدتها بهذا الضعف والمرض، وكتبت في يأس إلى مديرة مدرستها، مدام هيميرلين، في بيكس أن «أمي … تقريبًا في غير وعيها. فهي تتعرف على أي شخص بصعوبة وتتحدث في ألم كبير ومن الصعب علينا أن نفهم ما تقول، فكلماتها غير واضحة بالمرة. لم تأكل أو تشرب أي يوم في اليومين الأخيرين غير ملعقتين صغيرتين من عصير أو شاي. ولا يمكنك أن تُجبريها حتى لا تقع في خطر الاختناق. لا يوجد ما يمكن عمله سوى الدعاء».27 وفي يوم عيد الميلاد كتب نهرو لصديقه القديم سيد محمود في لهجة تشع كآبة: «يبدو المستقبل مظلمًا. [فكامالا] ضعيفة وهزيلة على نحو مرعب وإذا لم يكن باستطاعتها اكتساب القوة فلن يكون بمقدورها مقاومة المرض.»28 كان نهرو وإنديرا يتساءلان كم من الأيام قد تبقى لكامالا. بالنسبة لنهرو، وربما أيضًا لإنديرا، «كان مشهد الشتاء الهادئ» في الغابة السوداء «بعباءته البيضاء من الثلوج يبدو … وكأنه هدوء الموت البارد».29

كان لدى نهرو سيرته الذاتية لمراجعتها، وكان أيضًا يبقى على اتصاله بالتطورات السياسية هناك في الهند، ولكن إنديرا لم يكن هناك ما يشتت انتباهها من ترقب ما بدا في ذلك الوقت الموت نهاية والدتها المحتومة. ومن ثَم حثها نهرو على الذهاب للتزلج. ولكن إنديرا اعترضت لأنها لا تريد ترك كامالا. صمم نهرو، وبعد ذلك تلقت إنديرا خطابًا في السر من فرانك أوبردورف. ومع اعتراضها الأول على ترك والدتها كتبت إنديرا الآن إلى السيدة هيميرلين في مدرسة إيكول نوفيل وطلبت منها أن تبعث إليها معدات التزلج الخاصة بها (التي كانت قد تركتها في المدرسة) إلى بادن فيلر. ومع حث نهرو المستمر لها على الذهاب للتزلج لبعض الأيام رتبت إنديرا سرًّا للقاء فرانك أوبردورف في وينجن، منتجع في جانجفراو في سويسرا.

غادرت إنديرا بادن فيلر في ٢٧ ديسمبر. وبعد يومين ظهر فيروز غاندي في بادن فيلر دونما سابق إنذار، مما سبب الدهشة لكامالا ونهرو. في ٣١ ديسمبر تبع فيروز إنديرا في وينجن. وليس من الواضح ما حدث بينهما بعد لقائهما في وينجن بعد سبعة شهور من الانفصال. هل قابل فيروز منافسه الخفي (أم أنه لم يعرف حتى بوجود أوبردورف)؟ وهل كانت هناك مواجهة — أو انفجار — مع إنديرا؟ وهل كان هناك ما انكسر بينهما أو تقرر على نحو وثيق؟ كل ما هو معروف بدقة أن فيروز غادر وينجن في الليلة نفسها، عشية رأس السنة، وأنه ذهب إلى بادن فيلر وبقي هناك بدلًا من الذهاب إلى لندن، كما كانت خطته الأساسية.30
حاولت كامالا بعد وصول فيروز غير المتوقع إلى بادن فيلر واتباعه لإنديرا إلى وينجن أن تناقش مستقبل إنديرا مع نهرو، وهي محادثة تمت في حضور نامبيار الذي حضر إلى بادن فيلر لزيارة كامالا ورؤية نهرو في أوائل يناير ١٩٣٦. وحسبما قال «نانو» أخبرت كامالا زوجها أنها قلقة للغاية حول علاقة إنديرا بفيروز، وقالت إنها لا تريد أن تتزوج إنديرا فيروز لأنها متأكدة من أنه شخصية غير مستقرة. ولم تعتقد كامالا أن فيروز سيدخل في أي وظيفة ويُحقق مكانة تدعم إنديرا. حاول نهرو تهدئتها وطرد مخاوفها. ولكن عندما غادر الغرفة التفتت كامالا إلى نانو قائلة: «لن تستمع إنديرا لأحد سواي. فأنا أستطيع أن أبعدها بلطف عن فيروز. ولكن نهايتي محتمة. وجواهر لن يرشد إندو. بل سوف … يسمح لها بارتكاب خطأ حياتها.»31

لمَ هو «خطأ حياتها؟» بالطبع كانت كامالا تعرف فيروز أكثر من نهرو (وربما أكثر من إنديرا)، وكانت لها فكرة أفضل عن شخصيته. ولكن لا يوجد أي دليل على أنها أظهرت أي تحفظ عليه قبل هذه الثورة. وبالطبع أيضًا كانت كامالا تستطيع أن تتوقع اعتراض العائلة والنطاق الاجتماعي على زواج «مختلط» بين كشميرية من طائفة البراهمة ورجل بارسي مجوسي.

وأيًّا كان السبب أو الأسباب خلف قلقها الشديد حول علاقة إنديرا وفيروز، لم ينسَ نهرو، مع عدم مبالاته الظاهرية في ذلك الوقت، استغاثة كامالا.32

•••

استيقظت إنديرا في بيكس في صباح يوم أحد في يناير ١٩٣٦، وهي تشعر، كما عبرت لوالدها، «باختلاج غريب في القلب». لم تستطِع أن تحدد ما إذا كان «يدل على الفرحة أم الحزن» ولكنها «قررت أنه من الأفضل دائمًا افتراض أنه شعور بالفرحة». فبعد السبات الذي كانت تعيشه، في بحر من المسئولية لشهور وحيدة، كان شعور قوي بالحيوية الشديدة يغمرها، نوع من الابتهاج واليقظة القوية تولد داخلها، ربما هو نتاج من مشاهد الموت والحب في حياتها. «أستلقي في الفراش حتى التاسعة»، هكذا كتبت إنديرا، «أفكر في جميع ما كان في الماضي وما ستجلبه السنون. أفكر فيك وفي أمي. شعرت بهدوء غريب … ومنذ ذلك الحين وبقي داخلي هذا الشعور. أحب كل شيء — حتى رياح الجنوب الفظيعة — وأشعر بسعادة وتفاؤل كبير نحو كل الأشياء.»33

ومما لا شك فيه أن ميلاد هذه المشاعر من السعادة والهدوء كان نابعًا من وصول فيروز غاندي إلى أوروبا. ولكن اكتشاف هذا المخزون من الأمل والحيوية في ذلك الوقت العصيب كان سبيلًا أيضًا لكشف موطن من مواطن قوة شخصيتها. ففي حقيقة الأمر أصبحت قدرتها على بعث روحها من جديد — أو بدقة أكبر من وجهة نظرها الشعور بأنها تستعيد نفسها من جديد — نموذجًا مستمرًّا لشخصيتها أنقذها في أكثر الظروف صعوبة فيما تلا ذلك من السنين. ومع أنها كانت غالبًا تظهر هشة وضعيفة، كان جوهرًا قويًّا مرنًا يقبع داخلها، فلا تنهار أبدًا.

مع ذلك كان هناك القليل في الأيام الأولى لعام ١٩٣٦ مما يبعث على البهجة لإنديرا، وتقريبًا لم يكن هناك أي مما يدعو للتفاؤل. فلم يعد باستطاعة فيروز تأجيل ذهابه إلى لندن أكثر من ذلك، وبدأ نهرو في الحديث حول العودة إلى الهند، في الوقت نفسه كانت حالة كامالا المرضية تنذر بالخطر، وحالتها النفسية تهبط مع صعود حالة ابنتها. ومع أن كامالا لم تكن في حالة تسمح بالحركة فقد صرحت عن رغبتها في مغادرة بادن فيلر والذهاب إلى سويسرا. لقد أصبحت الغابة السوداء مكانًا مخيفًا لها هي الأخرى، خاصة بعد موت أحد المرضى الذي كان قد أصبح صديقها، وهو أيرلندي شاب بعث لها الأزهار وزارها وكان في حالة صحية أفضل بكثير مما كانت عليه كامالا حتى انهارت حالته فجأة وتوفي.

لكن حركة كامالا كانت تُمثل خطورة طبية وكذلك كانت تعد في وقت غير مناسب؛ إذ إن نهرو، الذي كانت زيارته لباريس مرتبة في ذلك الوقت، لن تكون باستطاعته الإشراف على عملية النقل بنفسه. ومع ذلك غلب رأي كامالا، ربما بسبب إصرارها على رغبتها بأن تكون قريبة من إنديرا في بيكس. رحل نهرو إلى باريس وفي ٣١ يناير، انطلقت كامالا وممرضتها أنيتا ومادان أتال بعربة الإسعاف إلى عيادة سيلفانا في لوزان، التي تبعد أقل من ساعة عن إنديرا التي ذهبت لزيارة والدتها في اليوم التالي. في ذلك الوقت شق فيروز طريقه إلى لندن، ولكن خلال أيام كان هو الآخر في لوزان. عاد نهرو من لندن إلى سويسرا ليلة عيد زواجه العشرين هو وكامالا في ٨ فبراير ١٩٣٦.

وبدأت رحلة الكفاح الأخيرة؛ في لندن كان نهرو قد عرف أنه قد انتخب ليكون رئيسًا جديدًا لحزب المؤتمر. ومع عودة نهرو ثانية مع كامالا إلى لوزان كان ممزقًا بين اختيار البقاء معها ورفض رئاسة الحزب أو تركها والعودة للهند وقت اجتماع حزب المؤتمر السنوي. لكن كامالا حثته على الذهاب قائلة إن بإمكانه دائمًا العودة إلى سويسرا، وعلى غير رغبة منه حجز نهرو تذكرة سفر إلى الهند يوم ٢٨ فبراير. بعد ذلك، وبعد أن تم التنظيم لكل شيء، وجد نهرو أن «كامالا لم تكن تحب فكرة تركي لها تمامًا. ومع ذلك لم تكن لتسألني أن أغير من خططي».34
لم تكن إنديرا هي الأخرى تريده أن يذهب. وكانت تزور والديها (وفيروز) في عطلة نهاية كل أسبوع في لوزان وكتبت لهما في ١١ فبراير: «إنه لمن الجميل رؤيتكما أنتما الاثنين … وأعتقد أن أسبوع فترة طويلة للغاية للانتظار [لأراكما مجددًا] … لقد اكتسبت كل الصفات السيئة للطفل الوحيد، وأشعر أنني أعتمد عليكما كثيرًا. ولا أعرف ما سأفعل عندما أكون وحيدة تمامًا.»35 ذهبت إنديرا في عطلة الأسبوع التالي وكذلك في ٢٤ فبراير في زيارة أطول لوداع والدها الذي كان لا يزال سفره مقررًا في الثامن والعشرين.
كان جو الأسرة في إطاره المعهود ولكنه كان موحشًا؛ فها هي مأساة نهرو المتمثلة في الواجب السياسي وقت الحرب والحاجات الشخصية، صراع دائمًا ما انتصر فيه الواجب. بعد وصول إنديرا بوقت قصير في الرابع والعشرين من فبراير بدا وكأن كامالا تسحب نفسها عمن حولها، إنديرا ونهرو وفيروز. فقد أصبحت بعيدة ومنعزلة ولم تكن تستجيب إليهم إلا فيما ندر. كان الشيء الوحيد الذي رفع من معنوياتها قليلًا هو خطاب من مرشدها الروحي في كالكتا السوامي (المرشد الديني) ابهيانانداجي الذي قرأه نهرو لها. كتب نهرو للسوامي عما فعله خطابه إذ «منحها الهدوء والسعادة ونسيان الألم لوهلة … ولكن جسدها، بعد هذا الكفاح الرهيب الطويل الذي خاضه، بدا وكأنه قد استنفد كل قواه وينهار … ولا أحد يعلم ما هي قادرة على فعله الآن، ولكن في الواقع تبدد الأمل».36

ارتفعت حرارة كامالا أكثر فأكثر، وبدأت في الهلوسة مصممة على أن شخصًا ما يناديها. وبناءً على نصيحة أطبائها ألغى نهرو رحلته، ولكن الأوان كان قد فات.

ماتت كامالا في تمام الساعة الخامسة من صباح يوم ٢٨ فبراير، نفس اليوم الذي كان نهرو يخطط فيه للرحيل. كان كلٌّ من إنديرا ونهرو بجوارها لحظة وفاتها، وفيروز أيضًا. كان وجود فيروز حاسمًا في أصعب لحظة في حياة إنديرا. فقد عملت مشاركته لها في وفاة والدتها وحزنها الشخصي العميق على خلق قدر كبير من الألفة والثقة بينهما. وبعد هذا الحدث بأعوام كثيرة قالت إنديرا إن فيروز «كان دائمًا موجودًا من أجلي». كان هذا سببًا قويًّا للوقوع في هواه، وسببًا أدعى للموافقة على الزواج به. فقد اختفى كل من في حياة إنديرا، وفيهم كامالا. فبعد وقت قصير سيكون والدها قد رحل. ولكنها لن «تُترك وحيدة تمامًا»؛ إذ شكَّل فيروز جزءًا دائمًا من حياتها.

•••

في عصر يوم الثامن والعشرين بعث نهرو ببرقية إلى أجاثا هاريسون في لندن يقول: «ماتت كامالا هذا الصباح. نهرو.» وبدورها أبلغت أجاثا الصحف البريطانية والشخصيات السياسية القوية، وأصدقاء نهرو في بريطانيا. ثم في نهاية اليوم الطويل كتبت إليه: «أرجوك حادثني إذا كان هناك أي شيء [أستطيع القيام به] فأنت … تعلم أن إنديرا لها أصدقاء هنا.»37 كان هذا وعدها بأن تعتني بابنته في أوروبا.
بعد يومين من وفاة كامالا أُحرقت جثتها في محرقة لوزان. عاد فيروز إلى لندن وذهبت إنديرا ونهرو إلى مونترو لقضاء العديد من «الأيام السوداء»، كما وصفها نهرو، قبل سفره إلى الهند. كان نهرو «محطمًا»، لم يكن يستطيع التفكير على نحو سليم.38 وتبدد تفاؤل إنديرا وأملها. كان عام تقريبًا قد مر منذ مغادرتها بيتها إلى الغابة السوداء، وكانت هذه هي نهاية تلك الرحلة؛ في منتجع ساحر مليء بالحيوية وكأنه يسخر من حزنها. منذ تسعة أعوام، كانوا هناك مع كامالا، وطاردت إنديرا أشباحهم السعيدة حينها. وفي ٥ مارس، افترقت هي ونهرو — دونما حديث حول ميعاد لقائهما القادم — في محطة مونترو. استقلت إنديرا القطار إلى بيكس وحدها.
في اليوم التالي بدأ نهرو رحلته الجوية إلى الهند مع جرة تحوي رماد كامالا، وشعور بأن «أحلامنا الوردية قد ماتت هي الأخرى وتحولت إلى رماد».39 وعندما هبطت الطائرة في بغداد بعث برسالة إلى ناشره في بودلي هيد في لندن، الذي كان يعد لنشر سيرته الذاتية. لم تكن هذه الرسالة سوى برقية قصيرة تحمل الكلمات التي ستتصدر سيرته الذاتية وهي إهداء لكتابه قال فيها: «إلى كامالا التي لم تعد معنا.»