إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل السابع

خبيرة الفراق

في صباح الثامن من مارس أدارت إنديرا المذياع في لابيلوز واستطاعت أن تميز صوت هتلر الحاد في بث مباشر. كانت لغتها الألمانية جيدة بما يكفي لفهم ما يقال؛ علمت أن القوات النازية تقترب من راينلاند. فكتبت إلى نهرو أن صوت هتلر بدا «مهددًا جدًّا»، وأن الفرنسيين قد أرسلوا بالفعل قواتهم إلى الحدود. تقول إنديرا: «كانت كراهية الألمان في بيكس … بالوضوح نفسه الذي كانت عليه في أي مكان آخر.»1 آنذاك باتت سويسرا ملاذًا لأوروبا التي كانت على شفا الحرب.
ما إن عادت إنديرا إلى الاستقرار في بيكس حتى اعتراها الحزن وأصابها الإحباط. كانت قد حاولت أن تعكف على المذاكرة لامتحان الالتحاق بجامعة أكسفورد، ولكنها عجزت عن التركيز. كان الحل الوحيد أمامها لتصرف عن ذهنها فكرة وفاة كامالا هو العكوف على قراءة كتاب مشوق، وهو ما كان مجديًا لساعة أو اثنتين؛ إذ كان بمنزلة تناول عقار مهدئ أو مخدر. كانت إنديرا منذ طفولتها واسعة الاطلاع وسريعة القراءة، وبحلول هذا الوقت كانت تلتهم الكتب واحدًا تلو الآخر. وهو الأمر الذي كانت ميل هيمرلين تجده مزعجًا. تقول إنديرا في هذا الصدد في رسالتها إلى نهرو: «الوحدة لا تناسبني، فهي تدفعني إلى الاستغراق في الكآبة. والكتب في رأي ميل هيمرلين تسبب لي الإحباط. فماذا عساي أن أفعل؟!»2
لم يكن بيدها حيلة، ولكن من حسن الحظ أن فتيات المدرسة ذهبن جميعًا في عطلة لثلاثة أسابيع إلى إيطاليا في أول أبريل، فزارت إنديرا في هذه الرحلة روما وفلورنسا ونابولي، وبومباي وصقلية. حكت إنديرا إلى نهرو بفتور أن روما خذلت كل توقعاتها، وقد زارت الفتيات مقر الفاتيكان وقابلن البابا، أما فلورنسا فرأت إنديرا أنها «ساحرة إلى أقصى حد». ولاحظ الجميع أنهن حيثما ذهبن، كانت صور «القائد (موسوليني) واضحة للعيان».3
في صقلية بدأ الحزن يتسرب من جديد إلى عقل إنديرا الذي كان قد تناسى أحزانه. ففي حين كانت سعادة بقية الطلاب بمشاهدة المعابد والمتاحف والكنائس الإغريقية «غامرة»، رأت إنديرا صقلية من منظور مختلف تمام الاختلاف. تقول إنديرا عن صقلية في خطابها لنهرو: «الناس هنا فقراء، والشوارع قذرة تملؤها العربات المتهالكة التي تجرها الخيول والعربات المكشوفة. يوجد شحاذون كثيرون … والناس ذوو بشرة داكنة، ويحدقون بنا كما لو كنا تحفًا غريبة، أما في القرى فنادرًا ما تجد السيارات؛ إذ عندما نمر بالسيارة يتصايح الناس ويهرعون للمشاهدة كما لو أنهم أمام أعجوبة. هذا ذكرني بالهند، لشد ما أشعر بالحنين إليها!» وحتى في الأطراف النائية من صقلية «تجد عبارات موسولينى مطبوعة بأحرف كبيرة على حوائط القرى».4
وعقب عودتها إلى بيكس توجهت إنديرا إلى إنجلترا لتخضع لامتحان الالتحاق بجامعة أكسفورد. سافرت إلى هناك عبر باريس حيث التقت بفيروز لأول مرة منذ وفاة كامالا قبل ثلاثة أشهر. وبعدها قصدت لندن حيث نزلت لبعض الوقت عند أجاثا هاريسون قبل أن تصل إلى أكسفورد في أواخر يونيو. وفي التاسع والعشرين من يونيو — وهو نفس اليوم الذي أدت فيه امتحان أكسفورد المرهق الذي استغرق سبع ساعات — كتب لها نهرو خطابًا من الهند يطمئنها قائلًا: «الامتحانات مزعجة. وكل ما يمكن أن يقال عنها هو أنها تدفعنا … إلى مواصلة السعي … ولكنها ليست مقياسًا حقيقيًّا لأي شيء مهم.»5

قد تكون كلمات نهرو هي التي عَزَّت إنديرا عندما تسلمت نتائج الامتحان وعلمت برسوبها، خاصة في الجزء الخاص باللغة اللاتينية. لم يكن أمامها خيار آخر سوى الانتظار إلى أن تخضع ثانية للاختبار، لكن كان واضحًا أن مدرسة لابيلوز — وهى أصلًا مدرسة لتعليم آداب السلوك في المجتمعات الراقية — لم تكن لتؤهلها لاجتياز امتحان المرة القادمة. اقترحت أجاثا هاريسون استشارة صديقتها القديمة بياتريس ماي بيكر، مديرة مدرسة بادمينتون للفتيات القريبة من بريستول. للتوصل إلى حل لهذه المشكلة، الآنسة بيكر — التي كانت شديدة الإعجاب بنهرو — التقت بإنديرا على الغداء وأقنعتها بالعودة معها فورًا إلى مدرسة بادمينتون لتنضم إلى الصف الدراسي السادس لدراسة اللغة اللاتينية حتى آخر الفصل الدراسي الصيفي. احتجت إنديرا بأن ملابسها وأغراضها كانت لا تزال ببيكس. ولكنها وافقت في النهاية، وفي الطريق إلى محطة قطار بادينجتون توقفت إنديرا والآنسة بيكر لشراء فستانين بعشرة شلنات، وبعدها استقلتا قطار الرحلة التالية إلى مدينة بريستول. وبذا تسجلت إنديرا في مدرسة حكومية إنجليزية راقية في شهر يوليو من عام ١٩٣٦، وهو الشهر نفسه الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية الإسبانية.

كانت الدراسة بمدرسة بادمينتون لإنديرا مختلفة تمامًا عن جامعة شانتينيكيتان أو أي مدرسة أخرى ارتادتها. لكن كانت مختلفة أيضًا عن مدرسة هارو التي درس فيها نهرو قبل أكثر من ثلاثين عامًا. لربما بدت بياتريس ماي بيكر ذات الثمانية والخمسين عامًا — بشعرها الرمادي الممتزج باللون النحاسي والمعقود إلى الخلف في شكل كعكة ومواظبتها على الاستحمام بالماء البارد وممارسة التمارين — نموذجًا تقليديًّا لناظرة المدرسة العانس، لكنها كانت أبعد ما تكون عن التقليدية. فقد كانت اشتراكية مخلصة لمذهبها، وداعية سلام، ومناصرة لحقوق المرأة، ونباتية. وقد حددت المبادئ التي تشبثت بها بقوة ملامح مدرسة الفتيات التي أدارت شئونها لما يقرب من أربعين عامًا. كانت بي إم بي — كما كانت تدعى (اختصارًا لاسمها؛ بياتريس ماي بيكر)، مع أن طالبات مدرستها كن طبعًا ينادينها ﺑ «الآنسة بيكر» — عضوًا مخلصة بعصبة الأمم وبنادي الكتاب اليساري، وقد نجحت في ضم الكثير من الطالبات الأجنبيات إلى مدرستها. كانت تعقد أسبوعيًّا مناقشات حول الأحداث الجارية على الصعيد الدولي، وتدعو اللاجئين من الحرب الأهلية الإسبانية للقدوم إلى بادمينتون لإلقاء كلمة، وتصطحب الطالبات في رحلات ميدانية إلى مصنع سجائر «ويلز» المحلي لتنبههن إلى ظروف العمل الحالية. وكانت مدرسة بادمينتون إبان الثلاثينيات ملاذًا أيضًا للطالبات من اللاجئين اليهود الألمان.

ولكن بياتريس بيكر — مع معتقداتها الثورية — أدارت مدرستها بقبضة من حديد. فما إن وصلت إنديرا إلى مبنى مدرسة بادمينتون الذي يتوسط حديقة من الأزهار، بدرابزين تعرش أحجاره نبات الوستارية وأشجار الطقسوس، حتى وجدت لائحة عريضة من القواعد معلقة بقاعة استقبال المبنى الرئيسي للمدرسة؛ مبنى نورثكوت المبرَّج الذي يعود إلى القرن الثامن عشر، تقول اللائحة:
  • (١)

    الجوارب يجب أن يغطيها دائمًا حذاء يصل إلى الركبة.

  • (٢)

    أثناء الفصل الدراسي يحظر على الطالبات ارتداء زي مخالف للزي المدرسي إلا في غرفهن. ويمنع منعًا باتًّا ارتداء الأزياء المخالفة في بريستول.

  • (٣)

    يمنع إحضار مساحيق التجميل إلى المدرسة.

  • (٤)

    يسمح لطالبات الصف السادس بالاستماع إلى المذياع في الأوقات الآتية: يوم السبت ابتداءً من الساعة السادسة مساءً إلى آخر اليوم، ويوم الأحد من الخامسة إلى السادسة مساءً، ومن الثامنة وأربعين دقيقة إلى التاسعة مساءً بقية أيام الأسبوع.

  • (٥)

    يسمح للطالبات المفوضات ومساعداتهن بالاستحمام كل ليلة شريطة إخلاء دورة المياه قبل التاسعة وخمس وأربعين دقيقة.

  • (٦)

    يسمح لطالبات الصف السادس باستخدام أحواض الاغتسال، وليس أحواض الاستحمام، شريطة إخلاء دورة المياه قبل التاسعة والنصف.

  • (٧)

    يحل موعد نوم طالبات الصف السادس في التاسعة مساءً في جميع أيام الأسبوع، عدا السبت فيكون في التاسعة والنصف مساءً.

وبالطبع وجدت إنديرا هذا المناخ المتزمت خانقًا، واشتكت إلى أبيها من «كل هذه القواعد والقوانين السخيفة».6
في أول أغسطس استطاعت إنديرا التملص من المدرسة التي بدأت تبدو لها كما لو كانت معتقلًا، وعادت إلى بيكس لاستعادة أغراضها، وفي الطريق إلى بيكس نزلت بباريس حيث أمضت يومين برفقة فيروز. ومعًا زارا قصر فيرساي «وسارا كثيرًا حتى شاهدا كل المعالم السياحية التي يزورها السياح الأمريكيون».7 وفي نهاية أغسطس عادا إلى لندن؛ حيث استأجرت إنديرا غرفة في العقار رقم ٢٤ من شارع فيرفاكس القريب من منطقة سويس كوتيدج، وهناك بدأت في تلقي دروس خصوصية في اللغة اللاتينية للاستعداد لامتحان الالتحاق بجامعة أكسفورد في سبتمبر. نقلت إلى نهرو في خطابها مدى سعادتها بالإقامة في لندن قالت فيه: «أنا … أعشق زحامها وحدائقها وكل ما فيها. لربما كان هذا لأنها المرة الأولى التي أعتمد فيها على نفسي تمامًا. أنام في غرفة صغيرة ولكن لديَّ المدينة بأكملها لأختبر الحياة فيها، ولا يوجد هنا من يزعجني؛ يمكنني الذهاب والمجيء وعمل كل ما يحلو لي متى شئت وكيفما شئت. أحيانًا … أشعر بالوحدة، ولكن هذا يروق لي.»8

في الواقع لم تذكر إنديرا في خطابها الحقيقة كاملة. فحياتها في لندن كانت أبعد ما تكون عن الوحدة. فعلى مقربة منها كان يسكن فيروز وشانتا غاندي — صديقتها القديمة من مدرستها بمدينة بونا في الهند، التي كانت تحمل نفس لقب فيروز لكنها لم تكن من أقاربه — تسكن بالإيجار في غرفة مقابلة لمدخل فندق بشارع فايرفاكس؛ الذي تقطن فيه إنديرا. كان ثلاثتهم يذهبون إلى الحفلات الموسيقية والمسارح ودور الأوبرا في منطقة كوفنت جاردن، وإلى هايد بارك كورنر للاستماع إلى من يلقون الخطب، وإلى مطعم هندي يقع في ١٢ جاور ستريت حيث عاش داروين فيما مضى، وإلى سوق في سوهو يبيع البان المستورد (وهو خليط يسبب الإدمان بعض الشيء، يتكوَّن من جوزة نبات التنبول والليمون الحامض واليانسون ملفوفين في ورقة شجر)، وقد وصل ثمنه الباهظ إلى ستة شلنات، كانت إنديرا وفيروز وشانتا يمضغونه ببطء حتى يبقى أثر جوزة التنبول في فمهم لأطول مدة ممكنة.

كان فيروز يحتل مكانة متميزة في قلب إنديرا، وعلمت شانتا غاندي بحب كل منهما للآخر. لكن فرانك أوبردورف ظل يهدد علاقتهما. ففي سبتمبر من العام نفسه زار أوبردورف إنديرا في لندن، وألح عليها للقدوم إلى ألمانيا في الكريسماس. فاحتارت إنديرا في أمرها لفترة قصيرة. لكن بعد مغادرته بوقت قصير كتبت إليه أنها لن تأتي إلى ألمانيا لرؤيته لأنها أدركت أنها لا تحبه، بل أضافت في قسوة أنها حتى لا تريد أن تحبه، «حتى لو كان آخر رجل على وجه الأرض».9 وبهذا أصبح طريق فيروز إلى قلب إنديرا خاليًا، لكنه أفضى إلى شانتا بسر، وهو أنه مع عزمه على الزواج من إنديرا فإنه يخشى أن تستخف به عائلتها وأن تمتصه عادات عائلتها وتقاليدها، فيصبح واحدًا منهم بدلًا من أن تتخلق إنديرا بعادات عائلته وتقاليدها. وأقلقه أيضًا تحفظ إنديرا وضبطها لنفسها وعدم قدرتها على إظهار عواطفها، فهي كما يقول: «لم تكن مستعدة للتضحية بهويتها المستقلة والاندماج مع هوية أخرى بالزواج.»10

جلست إنديرا لأداء امتحان الالتحاق بجامعة أكسفورد للمرة الثانية في أواخر شهر سبتمبر، واجتازت الجزء الخاص بمادة اللغة الإنجليزية والفرنسية والرياضيات. أما اللغة اللاتينية فلم تؤدِّ امتحانها لأنها أدركت أنها قد ترسب فيها ثانية نظرًا لأنها لم تحرز إلا تقدمًا بسيطًا بعد الدروس الخصوصية التي تلقتها في لندن. وبما أنها لم تجتَز اختبار اللغة اللاتينية فلم تتمكن من بدء الدراسة في كلية سومرفيل بجامعة أكسفورد في أكتوبر كما خططت. لذا لم يكن أمامها خيار سوى العودة إلى مدرسة بادمينتون وحشو رأسها باللغة اللاتينية التي صارت تمقتها تمامًا بحلول ذلك الوقت، للجلوس لامتحانها مرة أخرى في مارس.

•••

في نوفمبر عام ١٩٣٦ كانت الحرب الأهلية الإسبانية تدخل شهرها الرابع. وفي السابع من هذا الشهر كتبت إنديرا إلى أبيها وهي في مدرسة بادمينتون تخبره أن القوات الفاشية كانت تهاجم مدريد. وفي رسالتها تقول: «ماذا سيحدث بعد؟ … تبدو الفاشية كما لو أنها تنتشر انتشار النار في الهشيم.» وفي اليوم التالي نقلت لأبيها خبر غزو فرانكو لمدريد، ووصفت الأجواء بين طالبات مدرسة بادمينتون بأنها «مناهضة جدًّا للفاشية والحرب …» وأضافت: «لكن بوجه عام يبدو أن الإمبريالية تجري في دم هؤلاء الفتيات … مع أنهن يكرهن سماع ذلك. فهن يعشقن الملك، ويبدين إعجابهن ببالدوين، ومع أن شعبية إيدن آخذة في التدهور … فإن البعض لا يزال يعتبره آخر رسل السلام.»11 وعندما تنازل الملك إدوارد الثامن عن العرش في ديسمبر استمعت إنديرا إليه مع باقي فتيات المدرسة وهو يعلن الخبر عبر المذياع. بكت الكثيرات تأثرًا بخبر تنازله، أما إنديرا فقد كتبت إلى والدها في ابتهاج تقول: «ربما كانت هذه بداية نهاية الملكية في إنجلترا.»12
أراد نهرو لإنديرا أن تشعر بأنها جزء من الأحداث السياسية التي شغلت بال كل منهما. لذا كتب إليها في طريقه وهو مستقل القطار إلى ملطان يخبرها كيف أنه اكتشف وجود بوابة سُميت باسمها في إحدى القرى في السند. كانت إنديرا نفسها تقف على أعتاب مرحلة مهمة في تاريخ حياتها. فخلفها «ميراث من المشكلات والمصاعب» التي لا يسعها الهرب منها، حتى لو أرادت. وكي يحمِّلها نهرو المسئولية كان يقول لها: «ليس بمقدور أحد في عصرنا الحاضر أن يحظى بحياة سهلة خالية من المصاعب أو المشكلات. ولكن قد يقسم للبعض نصيب أكبر … من المشكلات والمصاعب مقارنة بالآخرين … وقدرك بسبب أسرتك … هو أن تحملي هذا العبء الثقيل.»13
والحق أن إنديرا كانت متلهفة للمضي قدمًا، لكنها ظلت عالقة في بادمينتون. وبمرور الشهور تزايد شعورها بالغربة، خاصة بين الفتيات الإنجليزيات من الطبقة الأرستقراطية، ومع ذلك فهي لم تصنع صداقات مع غيرهن، باستثناء ثلاث فتيات هنديات. ولم تنضم لأندية وجماعات المدرسة. وغاب اسمها تمامًا عن مجلة المدرسة، بعكس خريجة المدرسة الشهيرة إيريس مردوخ التي لمع اسمها في صفحات المجلة. وتعددت أوصافها بين: تلميذة ومفوضة ومناظرة وحائزة على جائزة أحسن مقال ومحررة مجلة المدرسة الأدبية. ومع أن إيريس لم تكن وثيقة الصلة بإنديرا — كما هي علاقة الجميع بإنديرا — فإنها أدركت أن إنديرا كانت «تعيسة جدًّا ووحيدة جدًّا وقلقة للغاية بشأن أبيها ووطنها، وكانت متخوفة بكل ما في الكلمة من معنًى من المستقبل».14
رأت بي إم بي بدورها كل ذلك في إنديرا، فحاولت أن تشركها في رحلة المدرسة السنوية إلى مقر عصبة الأمم المتحدة. لكن إنديرا لم تكن تريد العودة إلى جنيف — حيث عاشت من قبل مع والديها — مع مجموعة من فتيات مدرسة بادمينتون. ومع أن بي إم بي لم تكن أمًّا حانية لفتيات مدرستها مثل هيمرلين أو أجاثا هاريسون، فقد حاولت بطريقتها المباشرة الجادة أن تبدي تعاطفها تجاه إنديرا بسؤالها عما إذا كان البعد الشديد عن وطنها وأسرتها قد أصابها بالحزن. فردت عليها إنديرا بحدة: «لا أحبذ أن أكون بعيدة عن وطني في مثل هذا الوقت، ولكن عليَّ أن أتعرف على البريطانيين كي أحاربهم.»15
وبمناسبة عيد ميلاد إنديرا التاسع عشر أرسل نهرو إليها قصيدة مكتوبة باللغة السنسكريتية باسم ميجادوتا. عن هذه القصيدة تقول إنديرا لنهرو: «لا يمكنك أن تتخيل حجم السرور الذي أدخلته هذه القصيدة على قلبي؛ إذ شعرت فيها بشمس الهند ودفئها في هذا البلد الرطب الكئيب.» كانت إنديرا مشتاقة لوالدتها. وهي تقول لنهرو: «عندما توفيت أمي لم أستوعب في بادئ الأمر ما حدث، لكن بمرور الوقت، ومع كل يوم جديد، تعتصر حقيقة وفاتها قلبي أكثر فأكثر.» اعترفت بأنها شعرت كما لو كانت «ميتة»، مشيرة إلى أن هذه الكلمة هي الوحيدة التي تقترب من وصف المعنى الذي تريد أن تسوقه.16
وكاد الغيظ أن يقتلها لابتعادها لمدة طويلة عن فيروز الذي كان وقتها يدرس في مدرسة لندن للاقتصاد. شعرت بالإحباط عندما أخبرتها بي إم بي أنها لا تستطيع الذهاب إلى لندن لقضاء عطلة عيد الميلاد، وإنما بإمكانها الذهاب إلى كورنوال، لأن لندن ستضر بصحتها. وعارضت بي إم بي ذهاب إنديرا إلى سويسرا أيضًا حيث أرادت قضاء عطلة الكريسماس مع فيروز. ثم طلبت إنديرا من نهرو التدخل بالكتابة إلى بي إم بي لتأييد فكرة سفرها إلى لندن وسويسرا، وقالت له في رسالتها: «أعدك بأن أعتني بنفسي … لا أود الذهاب إلى كورنوال لقضاء العطلة مع غرباء.»17

سارت الأمور حسبما أرادت إنديرا، وأذعنت بي إم بي لرغبتها؛ ففي منتصف ديسمبر ذهبت إنديرا إلى لندن حيث أقامت لدى جمعية الشابات المسيحيات بشارع جريت راسل في بلومزبيري. وبعدها سافرت مع فيروز وشانتا غاندي إلى فينجن بسويسرا للتزلج على الجليد. كتبت إلى نهرو أنها برفقة «بعض الأصدقاء»، دون أن تكشف عن هوية هؤلاء الأصدقاء. كان قد مضى عام بالضبط على وفاة كامالا في بادن فيلر وذهاب إنديرا إلى فينجن للمرة الأولى برفقة فرانك أوبردورف، عندما حضر فيروز عشية رأس السنة فجأة بلا مقدمات. لكن الآن أصبح أوبردورف خارج الصورة وكانت كامالا قد توفيت.

في نهاية يناير عادت إنديرا رغمًا عنها إلى بادمينتون. وبدأت تقلق جديًّا بشأن امتحان اللغة اللاتينية الذي شارف ميعاده، وحاولت من بعيد متابعة انتخابات الولايات الهندية (التي أقرها قانون الحكومة الهندية لعام ١٩٣٥) بقراءة صحيفتي «مانشيستر جارديان» و«ذا تايمز». عارض نهرو الانتخابات التي اعتبرها بمنزلة مخدر استخدمه البريطانيون لصرف النظر عن مطالب أخرى أكثر أهمية. لكنه أدار الحملات الانتخابية بلا كلل في كل ربوع الهند، وعاش هذه المدة — كما كتب إلى إنديرا — «فيما يشبه الدوامة المتنقلة بين القطارات والسيارات واللقاءات».18
في منتصف مارس استقلت إنديرا القطار من بريستول إلى أكسفورد لحضور مقابلة طلب التحاقها بكلية سومرفيل. وفي المقابلة أخبرتها هيلين داربيشاير واثنتان من أساتذة التاريخ هما ماي ماكيساك ولوسي ساذرلاند أن المقالات التي كتبتها في امتحان الالتحاق بالجامعة كانت «مثيرة للاهتمام» و«ممتعة»، وأن لغتها الفرنسية ممتازة. أمَّا لغتها اللاتينية فقد حكمتا عليها بأنها «رديئة».19 وبعد أسبوع بالضبط عادت إنديرا إلى أكسفورد لتخضع من جديد لامتحان اللغة اللاتينية الذي صارت ترهبه بشدة، وكلمات ماي ماكيساك وهيلين داربيشاير تتردد في أذنيها، وعندما علمت باجتيازها الامتحان شعرت بالدهشة والسعادة الغامرة؛ إذ صار باستطاعتها الفرار من سجن مدرسة بادمينتون، وباتت تتطلع إلى مستقبلها في كلية سومرفيل.20
لكن كان عليها أولًا أن تقصد الهند. ولكي تفعل سافرت في أواخر مارس بالقطار إلى أمستردام، ومن هناك سافرت في ٣١ من يناير على متن إحدى الطائرات التابعة للخطوط الجوية الملكية الهولندية. كانت هذه هي المرة الأولى التي تسافر فيها بالطائرة. وبعد أربعة أيام وصلت إلى منزلها آناند بهافان في الله آباد، وحاولت أن تقاوم دموعها لأن كل شيء هناك يذكرها بكامالا.21 كان قد مضى عامان تقريبًا على مغادرتها هي وأمها لشانتينيكيتان بحرًا إلى أوروبا. كل شيء — وفي ذلك إنديرا نفسها — كان قد تغير تمامًا. فقد بلغت التاسعة عشرة من العمر وأصبحت أكثر حكمة وأكثر حزنًا لكنها كانت مغرمة سرًّا.

كذلك فقد تغير الوضع السياسي في الهند تغيرًا جذريًّا. إذ أحرز حزب المؤتمر انتصارات رائعة في انتخابات الولايات في فبراير. ففازت فيجايا لاكشمي بانديت وزوجها رانجيت في انتخابات الولايات الاتحادية، وصارت السيدة بانديت وزيرة، فكانت بذلك أول وزيرة في الإمبراطورية البريطانية. أما نهرو فقد أصابه التعب والإحباط. ففي أثناء الاستعداد للانتخابات — بين يوليو عام ١٩٣٦ وفبراير عام ١٩٣٧ — جاب نهرو جميع ولايات الهند وقطع ٥٠٠ ألف ميل إما بالقطار أو بالسيارة أو بعربة تجرها الثيران أو سيرًا على الأقدام، وخطب في نحو ثلاثين اجتماعًا يوميًّا، وتواصل مع عشرة ملايين شخص. وبعد الانتخابات أدى صعود حزب المؤتمر للسلطة إلى تدافع أعضائه عليها، مما خلق جوًّا من التوتر والانقسام داخل الحزب الذي صار نهرو رئيسًا له من جديد عام ١٩٣٧. وعقب وصول إنديرا إلى أرض الوطن كانت قوى نهرو المعهودة قد خارت تمامًا وأصبح طريح الفراش. كان بحاجة إلى الراحة، بل بحاجة إلى الابتعاد عن الهند وشئونها السياسية. وعندما استرد عافيته في أوائل مايو سافر مع إنديرا إلى بورما وشبه جزيرة الملايو وسنغافورة فيما أسمياه «عطلة عمل».

بدأت رحلة إنديرا ونهرو التي استغرقت شهرًا بداية مشئومة؛ إذ عندما وصلا إلى محطة هاوراه في كلكتا سقط أحد معجبي نهرو المتحمسين بين القطار والرصيف وبُترت قدمه، وصف نهرو مشهد القدم المبتورة بأنه «مشهد مروع»، وأضاف: «ومع هذا ومع ألمه الشديد فإن الرجل تشبث بي وسر لرؤيتي، بل أراد أن يضع رأسه عند قدمي.»22 وبعد أن أبحر نهرو وإنديرا من كلكتا انتحر أحد ركاب سفينتهما بالقفز من متن السفينة. بعكس نهرو كانت إنديرا تؤمن بالنذر والتنبؤات التنجيمية، فحاولت الوصول لدلالة ما حدث. كانت — بالطبع — مصدومة من هاتين الحادثتين، لكنها كانت أيضًا قلقة مما قد تحملانه من نذر لها ولأبيها.
وبعدما وصلت إنديرا ونهرو إلى رانجون أمضيا أسبوعين في التجوال في أنحاء بورما في «وسائل النقل المترفة». وفي هذا يقول نهرو لأحد أصدقائه: «لم نكن لنركب عربات الدرجة الثالثة أو سيارات الفورد القديمة المتهالكة، بل استعنا بالسيارات الباهظة أو الطائرات أو عربات السكك الحديدية المكيفة.»23 زارا معًا المعابد والأديرة، ولكن كما كانت الحال في سيلان قبل ستة أعوام ضاع معظم وقتهما بين «الحشود المتتابعة والمواكب والحفلات الرسمية الضخمة».24 ذابت إنديرا في حرارة بورما الاستوائية، وارتجفت بردًا في القطارات المكيفة، وعمومًا لم تتمكن من النوم جيدًا. وبحلول موعد إبحارهما من بورما كان حلقها قد بدأ يؤلمها وحرارتها مرتفعة.
في شبه جزيرة الملايو وسنغافورة لازمها الشعور بأنها ليست على ما يرام، وكانت حسبما قال نهرو: «بحال صحية سيئة جدًّا.» كان قد مضى أكثر من عام على افتراقهما في سويسرا بعد وفاة كامالا. والآن لم يكن بمقدورهما التواصل أحدهما مع الآخر، حتى مع كونهما خارج بلادهما وبعيدًا عن الضغوط الأسرية والتوترات السياسية. حاولا بلا جدوى إعادة توثيق عرى الصداقة الحميمية التي جمعت بينهما في الرسائل، عندما اعتاد كل منهما الإفضاء بمكنون قلبه للآخر. ولكن بلا فائدة. فإنديرا لم تنبس ببنت شفه عن فيروز لأبيها. وهو من ناحية أخرى لم يتحدث عن إجهاده من الصراعات السياسية داخل حزب المؤتمر ومع البريطانيين، ولم يعترف لها بأنه أحس بالكبر والهرم. وبعد عودة إنديرا إلى أوروبا كتب لها نهرو يحدثها عن الوقت الذي أمضياه معًا في الهند والشرق الأقصى قائلًا: «أليس غريبًا أنه على مدى كل هذه الشهور — بصرف النظر عن المحادثات المقتضبة عن الأنشطة اليومية — نادرًا ما دارت بيننا محادثة حقيقية؟ لقد شعرت بالفجوة التي اتسعت بيننا … ولم أتمكن من تجاوزها.» وأضاف أنه من تلك اللحظة فصاعدًا قد يكون من الأفضل لو كانت لقاءاتهما أقل.25
كان لنهرو سره الخاص. فمثل إنديرا كان يعيش قصة حب، وقد صار الأمر واضحًا لابنته في ربيع وصيف عام ١٩٣٧. كان التباعد الذي طرأ على علاقتهما يعود إلى حد بعيد لارتباط نهرو بعلاقة مع امرأة تدعى بادماجا نايدو، وهي علاقة بدأت بعد وقت قصير من عودة نهرو إلى الهند إثر وفاة كامالا. كانت بادماجا — ابنة صديقة نهرو القديمة سروجينى نايدو — تصغر كامالا بعام واحد فقط، ولكن بصرف النظر عن هذا التقارب في عمريهما كانت كامالا زوجة نهرو ونايدو عشيقته مختلفتين تمام الاختلاف في جميع النواحي الأخرى. فبعكس كامالا الرقيقة المتحفظة البسيطة العاطفية كانت بادماجا ضخمة الجسم معتدة بنفسها حسنة التعليم سريعة البديهة مفعمة بالحيوية ومتفتحة. ومع أنها كانت متحمسة لقوميتها فإنها تجنبت ارتداء الخادي الأبيض، واعتادت ارتداء الساري الحريري بألوان براقة كاللون الأخضر أو الذهبي أو البنفسجي، وتزيين شعرها بزهور كبيرة. وقد وصفها أحد الأصدقاء قائلًا: «ثمة شيء فيها يذكرني بزهرة عصفور الجنة.»26

ظلت إنديرا مقربة من بادماجا ووالدتها سروجينى نايدو لسنين، وكان من المتوقع أن تظل وثيقة الصلة ببادماجا حتى آخر حياتها، لكن عندما علمت بشأن العلاقة التي جمعت بين بادماجا وأبيها انزعجت جدًّا، فقد بدت لها هذه العلاقة كما لو أنها خيانة لذكرى أمها، مع أن إنديرا وجدت هي الأخرى في علاقتها بفيروز ما ينسيها حزنها على أمها. وعندما أدركت إنديرا أخيرًا أنها مضطرة لمشاركة قلب والدها مع بادماجا فضلت الابتعاد، مما خلق «الفجوة» التي تحدَّث عنها نهرو.

ووفقًا لنان بانديت — أخت نهرو — فقد استمرت العلاقة بين نهرو وبادماجا لأعوام. لكن نهرو أخبر أخته أنه شعر بأن الوقت غير ملائم ليتزوج بادماجا لأن «إندو تألمت بما فيه الكفاية». وهو لم يشأ أن يسبِّب لها المزيد من الآلام.27
وبعد عدة أعوام شعرت إنديرا غاندي بالغضب الشديد عندما نشر الكاتب الرسمي لسيرة نهرو — سارفيبالى جوبال — الرسائل الغرامية التي أرسلها نهرو إلى بادماجا نايدو في كتاب «الأعمال المختارة» لنهرو.28 رأت إنديرا أن الرسائل كتبت بعفوية وأنها مشبوبة بالعاطفة وكاشفة جدًّا، وأنها تتيح فرصة نادرة للاطلاع على الجانب الضعيف والحسَّاس من نهرو. كان نهرو وبادماجا يلتقيان بصورة غير منتظمة. فطوال عام ١٩٣٦ كان نهرو يطوف الهند، في حين كانت بادماجا تنتقل في الأغلب بين حيدر آباد وكلكتا. لطالما وجد نهرو التعبير عن نفسه في الرسائل أسهل مما لو تحدث، وكان أغلب الوقت يكتب رسائله في وقت متأخر من الليل وهو في حالة من التعب والاستغراق في التفكير الحالم. ومن هنا كانت رسائله إلى «بيبى» (وهو الاسم الذي اعتاد نهرو وإنديرا أن يطلقاه على بادماجا) نابعة من قلبه وتحمل طابع الاعتراف. في إحدى رسائله إلى بادماجا يقول نهرو: «لا رغبة لي في أن أكون بلا رغبة»، ويضيف أنه خلف «قناع هذا الوجه الشاحب دائمًا» تكمن «كل أنواع الرغبة والأهواء والغرائز». وفي ربيع عام ١٩٣٧ قبل شهرين من عودة إنديرا إلى الهند كتب نهرو إلى بادماجا: «أنت في التاسعة عشرة من العمر (كانت — في الحقيقة — في السابعة والثلاثين من العمر، في حين كانت إنديرا هي التي تبلغ فعلًا التاسعة عشرة) وأنا؟ عمري مائة عام أو أكثر. فهل سأعرف يومًا مقدار حبك لي؟»29
وفي الحقيقة كان نهرو يعلم مبلغ حب بادماجا له، وقد صارت هذه مشكلة. إذ كانت بادماجا تتوقع من نهرو أكثر مما يمكنه منحها، فهو — كما أوضح — ومع مبادلتها الحب، تحتل أمور أخرى المقام الأول في حياته. وفي هذا يقول: «هؤلاء الذين أحبهم مضطرون للمعاناة … ليس حبي هو ما يزعزعني، بل هو طغيان عاطفة أو هاجس آخر … فحتى وأنا أضم من أحب بين ذراعي يشرد ذهني متناسيًا الحاضر، وأصير غريبًا … أنظر إلى العالم كما لو كنت منفصلًا عنه.»30
كان الألم الذي يسببه نهرو لبادماجا يؤرقه باستمرار. ففي خضم اجتماع لجنة عمل حزب المؤتمر كانت «صورتها هي كل ما يشغل باله»، ويقول لها عن الاجتماع: «وقاطعتني عيناك الحزينتان، حتى نسيت ما يجري حولي.»31 وقد أقلقه ذلك؛ فالشيء الوحيد الذي لم يكن نهرو مستعدًّا لتقديمه لأي امرأة (وفي ذلك إنديرا) هو التضحية بعمله ومسئولياته السياسية لإشباع رغبات واحتياجات شخصية. لذا اضطر هو وبادماجا للتوصل إلى نوع جديد من التفاهم. فمن ناحيتها توقفت عن مطالبته بمنحها أكثر مما يمكنه، الأمر الذي أطلق العنان لنهرو لمواصلة علاقتهما وهو يكن لها كل الامتنان والحب. وقبل عدة أيام من وصول إنديرا إلى الله آباد في أبريل عام ١٩٣٧ كتب نهرو إلى بادماجا: «كم تحركين مشاعري! … فوحده التفكير فيك يشعرني بالحيوية.»32 وحينما كان مع إنديرا في شبه جزيرة الملايو كتب لبادماجا يقول: «كم أتوق لسماع أخبارك … كم أتطلع لرؤيتك وضمك والنظر في عينيك.»33

•••

وعندما وصلت إنديرا ونهرو إلى كلكتا في نهاية رحلتهما إلى الشرق التي استغرقت شهرًا كانت إنديرا لا تزال مريضة، فاستشارا العديد من الأطباء، الذين أخبروا إنديرا أن التهاب حلقها راجع إلى التهاب شديد في اللحمية، التي يجب إزالتها جراحيًّا قبل عودتها إلى أوروبا. (كانت إنديرا قد خضعت في طفولتها لجراحة إزالة اللوزتين). معنى هذا أنها ستضطر لتأجيل موعد مغادرتها ولقائها بفيروز. فعادت إلى الله آباد واستراحت في منزلها لعدة أسابيع، ثم غادرت مع نهرو في أوائل أغسطس إلى بومباي حيث تقرر إجراء الجراحة. وبعد الجراحة أمضت فترة النقاهة في بيت عمتها بيتي هاثيسينج في بومباي في مالابار هيل.

في الحادي عشر من سبتمبر أبحرت إنديرا على متن السفينة «إس إس فيكتوري» المتجهة إلى أوروبا. كانت السفينة تغص بالطلاب الهنود — أكثرهم من الرجال — لكن كان هناك أيضًا امرأتان هنديتان هما: كاميلا تيابجي (المتجهة إلى كلية سانت هيو بجامعة أكسفورد) وأرونا موخيرجي. شعرت كاميلا التي لم تفارق عائلتها أو وطنها قط بالدهشة من الهدوء الذي اتسمت به إنديرا وهي تودع نهرو في ميناء «بالارد بيير» في بومباي. وعن هذا تقول أرونا: «كانت بالفعل متمرسة على الفراق. كنا نقف جنبًا إلى جنب على (سطح السفينة) نلوح بأيدينا مودعين. بدت متماسكة تمامًا، أما أنا … فلم أدرِ كيف أغالب دموعي.»34 وبعدها بأعوام كانت أرونا موخيرجى لا تزال تذكر إنديرا وقتما كانت على متن السفينة بقرطيها المتدليين وفصوصهما الخضراء، وكيف تنبأ طالب يقرأ الكف بحظها. تنبأ الطالب بأنها ستكون «مشهورة في العالم أجمع … وصاحبة منصب ذي جاه وسلطان».35 وعلى فرض صحة هذه القصة لم يكن العراف ليحتاج إلى معرفة كبيرة بالغيب ليتنبأ لابنة جواهرلال نهرو بمستقبل باهر. وقد تحدثت إنديرا نفسها عن الرحلة البحرية وقالت إنها كانت تقضي ما لا يقل عن ساعتين يوميًّا في حمام سباحة السفينة مرتدية ثوب سباحة برتقالي فاتح اللون. ونتيجة الشعور بالذنب ربما بسبب الفجوة الجغرافية والعاطفية التي صارت تفصل بينها وبين أبيها، والفتور الذي أظهرته وهي راحلة عنه، كتبت إنديرا إلى نهرو: «أفتقدك أشد الافتقاد، وأحبك حبًّا جمًّا، أكثر من أي وقت مضى.»36
وبعدما رست سفينة إنديرا في مرسيليا ذهبت مباشرة إلى باريس للقاء فيروز كما رتبا. كانت ستة أشهر قد مرت دون أن يرى أحدهما الآخر، وكانا وحدهما أخيرًا، بعيدًا عن فضول الأصدقاء والأهل والمعارف. كانت باكورة هذا الخريف الذي تجدد فيه لقاؤهما رائعة الجمال، شعرا فيها بطريقة ما كما لو كانا قد انفصلا عن الزمان. وكما هو متوقع عرض فيروز عليها الزواج من جديد، ولكن هذه المرة كان كل شيء قد تغير وبدا الأمر ممكنًا لإنديرا. وعن ذلك قالت إنديرا لأحد أصدقائها المقربين بعد عدة أعوام: «على درجات «باسيليقا» كنيسة القلب الأقدس، حسمنا الأمر أخيرًا … كانت باريس تستحم في أشعة الشمس الرقيقة، وبدت لنا شابة القلب ومبتهجة، ليس فقط لأننا كنا شابين نعيش الحب، بل لأن المدينة بأكملها كانت ممتلئة بالقلوب الشابة التي تحلت بروح الإجازة … كانت الحرب التي ستستتبع هذا القرار … غائبة عن ذهنينا.»37 لم يكن الأمر أن إنديرا استسلمت لرغبة فيروز في النهاية، بل كما قالت: «كنا أخيرًا متأكدين من قرارينا.»
وبعدها بأسبوعين وصلت إنديرا إلى كلية سومرفيل وهى «تشعر بالتوتر والقلق» حاملة معها «أكوامًا من المتاع» في عصر خميس بارد وممطر من شهر أكتوبر. كانت تكبر زميلاتها في الفصل؛ فصل عام ١٩٣٧، بعامين تقريبًا، وكانت الوحيدة التي تنحدر من أسرة شهيرة. والحق أن كثيرًا من زميلاتها كن يعلمن مسبقًا عند قدومهن إلى كلية سومرفيل أنهن «سيسعدن بصحبة ابنة نهرو». ساد شعور بالفضول حول «ابنة نهرو» بين الطالبات، وشعور بالارتياح لأنها بدت قلقة كبقيتهن، وشيء من الدهشة لارتدائها السترات الصوفية والتنانير والأحذية العادية مثلهن.38
خصصت لها غرفة بالطابق الأرضي في جناح بالمكتبة (كانت جميع غرف الطالبات فردية)، وكانت غرفتها مؤثثة بفراش ومنضدة ومقعد بمسند ظهر مستقيم. كما كانت بها مدفأة فحم، وكانت الطالبات يحصلن على دلو واحد من الفحم يوميًّا، الذي كان ببعض من الحظ يدفئ الغرفة من بداية المساء حتى موعد النوم. (شعرت إنديرا بالبرد دائمًا طوال مدة إقامتها بكلية سومرفيل). كان يفصلها عن دورة المياه ممر يضم عدة غرف، وكانت دورة المياه تحتوي على حوض واحد للاستحمام وآخر لاغتسال الثماني الفتيات اللاتي تشاركن الإقامة في الرواق. في حين قبعت المراحيض «في منطقة الظلمة الخارجية» خلف دورة المياه، وكانت باردة جدًّا.39
كان مقررًا أن تبدأ الدراسة يوم الإثنين التالي. وقبل حلول هذا الموعد كانت إنديرا وغيرها من طالبات السنة الأولى قد ارتدين الرداء الجامعي، والتقين كلٌّ على حدة بهيلين داربيشاير وأساتذتهن. وحضرن أول اجتماع لصاحبات الغرف المشتركة في مرحلة ما قبل التخرج، الذي حضرته جميع الطالبات المعنيات. ذهب معظم وقت الاجتماع — الذي عقد في الرابع عشر من أكتوبر عام ١٩٣٧ — في مناقشة قضية غريبة ومثيرة للجدل هي قضية طالبة السنة الثانية ماري بريجنولي التي ضبطتها صاحبة النزل في غرفة صديقها الحميم، وأبلغت سلطات الكلية بهذه المسألة. كان مصير صديق ماري بريجنولي قد تقرر بالفعل؛ إذ حصل على فصل مؤقت من الجامعة لمدة فصل دراسي واحد، كان بمقدوره بعده معاودة الدراسة بجامعة أكسفورد. أما ماري بريجنولي فأنزلت قوانين وقواعد كلية سومرفيل عليها عقوبة أثقل من صديقها، وهى الفصل النهائي والحكم على مستقبلها الأكاديمي بنهاية مشينة. فقُدم التماس احتجاجًا على عدم المساواة في عقاب ماري وصديقها الحميم، وقد خضع لمناقشة ساخنة في اجتماع صاحبات الغرف المشتركة. لم تؤخذ الأصوات، ولكن في نهاية الاجتماع وقَّعت معظم الحاضرات على الالتماس، وفي ذلك إنديرا نهرو. وبعدها قدم الالتماس إلى هيلين داربيشاير التي أشيع أنها متعاطفة مع ماري بريجنولي. هذا على عكس العميدة فيرا فارنل. وبعد عدة أيام ذاع خبر فصل ماري فصلًا مخزيًا.40
وفي الأسبوع التالي صارت إنديرا رسميًّا طالبة بكلية سومرفيل بزيها الأكاديمي ذي القلنسوة والقميص الأبيض وربطة العنق السوداء والتنورة السوداء. سار طلاب السنة الأولى في موكب من سومرفيل إلى مسرح شيلدونيان حيث أشرف عميد كلية باليول؛ إيه دي ليندساي — وهو اسكتلندي ضخم البنية محمر الوجه بساقين مشعرتين تبرزان من تحت ردائه — على مراسم «حفل غاية في الضجر والملل».41 وبعدها انهمكت إنديرا في الدراسة التي رأتها مرهقة وقاسية؛ فقد كان أمامها جدول مزدحم بالمحاضرات والدروس في المجالات الأربع التي كانت تدرس لها من أجل مجموعة الاختبارات الأولى. كانت تتلقى دروسًا في التاريخ بصحبة طالبة أخرى تدعى كاي دافيز في غرفة جلوس مدرِّستهما ماي ماكيساك. اشتمل مقرر التاريخ للسنة الأولى على التاريخ الروماني والأنجلوسكسوني وتاريخ القرون الوسطى، وعليهما كتابة مقال كل أسبوع وتقديمه لماكيساك وهي مؤرخة دساتير تتناول ما يكتبانه بالتحليل الدقيق أثناء الدرس. اشتكت إنديرا في الخطاب الذي أرسلته إلى أبيها في منتصف أكتوبر من أن الأساتذة يدفعونهن إلى العمل دفعًا كالعبيد، ولكن بعدها بعدة أسابيع كتبت له أنها بدأت تتكيف مع الوضع، وأنها وجدت العمل المتواصل طوال الصباح أسهل من ذي قبل.42
كانت الدراسة بكلية سومرفيل ستضنيها، ولكنها اكتسبت بالتدريج ثقة بأنها على قدر المسئولية. لم تكن إنديرا يومًا طالبة فذة، ولكنها كرست جهودها لتكون كذلك في سومرفيل؛ فكانت تستعد وتشارك في دروسها دائمًا. كانت مجدة في العمل وذكية وكانت تجيد الكتابة.43 ولكنها ظلت قلقة بشأن مستواها في اللغة اللاتينية، ولتقويم لغتها اللاتينية كانت تذهب أسبوعيًّا للتدرب على يد مدرس متقاعد ثقيل السمع يرتدي طقم أسنان. كان المدرس الوحيد الذي لا يعلم أنها ابنة جواهرلال نهرو، ولم تحاول أن تصحح له عندما كان يناديها باسم «الآنسة دنفر».
كان على إنديرا أن تجتاز مجموعة الاختبارات الأولى كي تتمكن من الانتقال إلى الدراسة للحصول على البكالوريوس في مادة التاريخ، فأصبحت طوال فصل الخريف الدراسي لا تكف عن القلق بشأن هذا الاختبار. كان بإمكانها أن تجلس للاختبار في أي وقت من السنة الأولى، لكن جميع طالبات السنة الأولى تقريبًا كن يسجلن له في أول فرصة في شهر ديسمبر. وفي أوائل نوفمبر — بعد أن أمضت إنديرا أقل من شهر في سومرفيل — كتبت إلى نهرو تقول: «بدأ شبح مجموعة الاختبارات الأولى يلوح.» وبعدها بعدة أسابيع كتبت: «بدأ الاختبار يقترب أكثر فأكثر، وأنا في رحى المراجعة.»44
وسرعان ما وجدت إنديرا نفسها وسط دوامة لا تنتهي من الأنشطة الاجتماعية والسياسية التي استغرقتها بين حضور اجتماعات ومحاضرات عامة وحفلات موسيقية وعروض مسرحية، فضلًا عن أعضاء المجتمع الجامعي البارزين الذين كانوا جميعًا متشوقين لمصادقة ابنة نهرو واستضافتها. وانضمت إنديرا إلى نادي العمل بالجامعة وإلى المجلس الهندي، وهو منظمة تضم الطلاب الهنود بجامعة أكسفورد (الذين بلغ عددهم عام ١٩٣٧ مائة طالب، مثلت النساء نسبة ضئيلة منهم). وفي ٨ نوفمبر وصفت إنديرا في خطاب إلى أبيها أحداث اليوم السابق. ذكرت أنها قضت الفترة الصباحية كلها في المحاضرات والدروس، وبعدها ذهبت في بداية فترة ما بعد الظهيرة إلى اجتماع نادي طبقة العمال.
«في تمام الثالثة والربع حضر باسل ماثيوز (وهو باحث بارز بجامعة أكسفورد) وزوجته ودعياني لشرب الشاي معهما. عدت في السابعة إلا الربع؛ في السابعة كنت أتناول العشاء — على مائدة الشخصيات الرفيعة بالجامعة — مع «دارب» (الناظرة هيلين داربيشاير، وأساتذة سومرفيل الآخرين)، وفي الثامنة والنصف كان عليَّ حضور اجتماع بالمجلس الهندي؛ إذ من المرتقب أن يلقي كريشنا مينون كلمة. وبعدها تناولت القهوة مع كريشنا ثم عدت إلى غرفتي في الحادية عشرة والربع في ميعاد حظر الدخول بالضبط. كان عليَّ أن أعد مقالًا عن تطور البرلمان لأقرأه على الفصل في العاشرة صباح اليوم التالي، ولكنني حتى الحادية عشرة والربع لم أكن قد قرأت شيئًا عن الأمر بعد. على كل حال أخذت أقرأ حتى الواحدة إلا ربعًا، ثم أخذت أكتب في المقال حتى الثالثة والربع صباحًا. أصبح النهوض من الفراش صباح اليوم التالي صعبًا، ولأنني نهضت متأخرة فاتني موعد التوقيع في السجل وفاتني الإفطار … ولكن مقالي حصل على علامة جيد جدًّا.»45
لم تكن إنديرا متفرغة للمشاركة في الحياة الاجتماعية العفوية بكلية سومرفيل؛ حيث تجتمع الطالبات لتناول الطعام، وفي المساء عندما تتردد الطالبات بعضهن على غرف بعض لشرب الشيكولاتة الساخنة أو شي ثمار أبي فروة على نيران المدفأة وأكلها. كانت هناك نوافذ زجاجية أعلى أبواب الغرف التي توجد بالمكتبة، وفي المساء كانت النافذة أعلى باب غرفة إنديرا مظلمة دائمًا لأنها كانت دومًا بالخارج.46 ولم تعتد غالبًا «تناول العشاء في قاعة طعام الكلية» كبقية الطالبات، إلا مرة في كل فصل دراسي عندما تدعى — كجميع طالبات كلية سومرفيل — لتناول وجبة العشاء بملابس رسمية على مائدة الشخصيات الرفيعة. على هذه المائدة تتعشى هيلين داربيشاير — التي كانت باحثة بكلية ميلتون والتي قد يكون العشاء الرسمي معها محطمًا للأعصاب لأنها كانت على حد قول إنديرا «تتفنن في التزام الصمت لمدة طويلة» في المناسبات الاجتماعية — والعميدة فيرا فارنيل التي وصفتها إنديرا بأنها «امرأة طويلة ونحيلة، تحت عينيها هالات مخيفة وداكنة». وأحيانًا يحضر على مائدة الشخصيات الرفيعة ضيف مرموق مثل الروائية دوروثى إل سايرز التي حضرت ذات مرة «متشحة بقطعة سوداء من القطيفة». وقتها كان قد نُشر لها حديثًا رواية «جودى نايت»،47 وهي قصة بوليسية تجري أحداثها في كلية سومرفيل. لكن الإنجليزية الوحيدة التي صارت صديقة مقربة لإنديرا في كلية سومرفيل هي كاي دايفس، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أنهما كانتا تحضران بعض الدروس معًا. بخلاف كاي دافيس كان هناك صديقتان أخريان كتبت إنديرا عنهما في خطاباتها بحماس، إحداهما كانت سورية تدعى ماري دمشقي، أما الأخرى فطالبة كفيفة من موريشيوس تدعى مونيك رافراي.
ولكن أهم من جمعتهم علاقة بإنديرا كانوا من خارج الجامعة، من الجالية الهندية وبالأخص من دائرة أصدقاء فيروز اليساريين في لندن. وفي الواقع شعرت زميلات إنديرا في كلية سومرفيل أنها تعيش حياة مزدوجة. ففي الكلية تبدو واهنة — لكن جميلة — ومتحفظة، تظهر عليها النحافة الشديدة عندما ترتدي بذلة صوفية وقميصًا، أو تنورة وسترة من قطعتين. كان واضحًا أن قلبها ينتمي إلى مكان آخر. فقد كانت الطالبات يلمحنها خارج الكلية وهى تهرع مساءً إلى اجتماع المجلس الهندي مرتدية الساري الحريري بألوان تنبض بالحياة، أو في محطة أكسفورد عندما تكون في انتظار القطار ليحملها إلى لندن لحضور وقائع اجتماع حزب المؤتمر الوطني الهندي.48
أثناء إقامتها بأكسفورد ظلت إنديرا على وعي شديد بدورها ومكانتها بصفتها ابنة نهرو، ولكنها كانت شخصية ذات حضور سياسي، وليس شخصية قيادية. فعندما تصل إلى المجلس الهندي أو اجتماع نادي طبقة العمال يصطف الأعضاء الهنود لتحيتها. لكنها لم تتحدث في أي نادٍ سياسي سوى مرة واحدة في اجتماع حزب المؤتمر الوطني الهندي في لندن، وتحت إصرار من السيد كريشنا مينون. وقد أخفقت فيها إخفاقًا ذريعًا؛ إذ تسمرت في مكانها من التوتر وعجزت عن الكلام، ولما تمكنت أخيرًا من فتح فمها أصدرت أصواتًا غير مفهومة، وصاح أحد الحضور: «إنها لا تتحدث، بل تصدر صريرًا.»49
ولكن إنديرا لم تسمح لهذه التجربة المهينة بكبح نشاطها الذي كان يحركه إخلاص صادق وشعور بالمسئولية. أخبرت إنديرا نهرو كيف وجه لورد زيتلاند — وزير خارجية الهند — بمنتهى العلو والتكبر خطابًا إلى جمهور المجلس الهندي بعنوان «رجاءً حاولوا أن تفهمونا»، وكيف أن الشيوعي الهندي بالم دات تولى الرد عليه في الأسبوع التالي في خطاب بعنوان «لماذا نفهم الحكومة البريطانية فهمًا دقيقًا؟» لكن لم تكن السياسة الهندية وحدها هي التي شغلت إنديرا؛ فقد عملت لمصلحة اللواء الدولي للدفاع عن إسبانيا في تسجيل أسماء المتطوعين، وعرضت إحدى أساورها للبيع في مزاد لجمع أموال للجمهوريين (جنت من بيعها خمسين جنيهًا استرلينيًّا)، وقاطعت المنتجات اليابانية في أكسفورد بعدما هاجمت اليابان الصين، وساعدت في تنظيم عرض خيري لراقص الفلكلور الهندي أوداي شانكار لجمع أموال لتقديم المساعدات الطبية إلى الصين. أما فيروز فقد كان أكثر نشاطًا، فمع خوف إنديرا عليه حاول الذهاب إلى إسبانيا للمشاركة في القتال، ولكن المخابرات البريطانية التي تراقب عن كثب جميع أعضاء حزب المؤتمر الوطني الهندي — وفي ذلك فيروز وإنديرا — احتجزت جواز سفره.50 في الحقيقة كان فيروز على وشك ترك كلية لندن للاقتصاد ليكرس نفسه ووقته بالكامل لأنشطة حزب المؤتمر الوطني الهندي وغيرها من الأنشطة السياسية.

•••

وفي السادس من ديسمبر بدأت اختبارات المجموعة الأولى التي كانت إنديرا ترهبها بشدة، واستمرت لثلاثة أيام. وفور انتهائها قصدت إنديرا لندن، ثم ذهبت مع فيروز وشانتا غاندي إلى «جارميش بارتنكيرشن» في ألمانيا للتزلج. وزاروا «إنزبروك» وقضوا يوم رأس السنة بميونيخ، حيث زاروا المتحف الألماني. كتبت إنديرا إلى أبيها أنه يوجد قبالة الشارع من المتحف الألماني «معرض معادٍ لليهودية» تتدفق عليه حشود الناس. وتصف إنديرا المعرض فتقول: «ظهرت في اللوحات الإعلانية وفي مدخل المعرض صور عملاقة ليهودي بشع الخلقة يحمل حقيبة نقود في يد، وخريطة الاتحاد السوفييتي والمطرقة والمنجل (شعار الاتحاد السوفييتي) في اليد الأخرى … أشعرتني تلك الصور بالتقزز. كانت بكل ما في الكلمة من معنى مثيرة للاشمئزاز.»51
وبعيدًا عن ألمانيا — وبالتحديد في الله آباد — أصيبت جدة إنديرا وعمتها الكبرى سواروب راني نهرو وأختها الأرملة بيبى آما («الساحرة الشريرة» من طفولة إنديرا) بسكتة دماغية مميتة في يناير عام ١٩٣٨. وقبل أن تعود إنديرا من ألمانيا إلى كلية سومرفيل وتقرأ التلغراف الذي أرسله إليها والدها علمت بخبر وفاة جدتها وعمتها من الصحف في محطة فيكتوريا في لندن. قد تكون الصدمة التي خلفها خبر وفاة جدتها وعمتها الكبرى فيها هي ما خفف من وقع الخبر السيئ الذي ينتظرها في أكسفورد؛ لقد رسبت في اختبارات المجموعة الأولى، وهي مضطرة إلى الخضوع لها من جديد في مارس.52
شعرت إنديرا بالإحباط عقب الرسوب في هذه الاختبارات؛ فتقريبًا اجتاز الجميع عداها الاختبارات من أول محاولة. وبهذا أدركت أنها ستضطر فعلًا إلى ألا تألو أي جهد في الاستذكار. فقللت من أنشطتها الاجتماعية والسياسية، وعكفت على الاستذكار في غرفتها مساءً، وكما هو متوقع هبطت معنوياتها. تقول إنديرا في خطابها لأبيها المرسل في أواخر يناير: «لقد بدأ الفصل الدراسي الجديد، ويا له من فصل! لكم سيكون شاقًّا … أخشى أنني قد فقدت حماستي للجامعة، ولم تعد الحياة في أكسفورد — كما هي في حقيقتها — تستهويني.»53 أخذت تعاستها تتزايد، وفقدت الكثير من الوزن، وظهرت هالات داكنة تحت عينيها. وشيئًا فشيئًا بدأت تعتاد ارتداء الملابس الهندية بدلًا من الغربية. كانت وحيدة برغم صداقتها لماري دمشقي وكاي ديفيس. تذكر جينيفر واين التي لم تكن على علاقة وثيقة بإنديرا كيف أن الطالبات كن يشرن إلى إنديرا قائلات: «ها هي ابنة نهرو» عندما يلمحنها تسير بخفة في فناء الجامعة حاملة دفاترها … «نحيلة كالعصا، تظهر كطيف بعيد وهي مرتدية الساري الجميل … غامضة … لم تكن عدوانية وإنما ببساطة انعزالية.»54 إلى جانب اختبارات المجموعة الأولى كان القلق يساور إنديرا بشأن علاقتها بفيروز. فقد ظلت خطبتها لفيروز سرية لا يعلم عنها أحد سوى شانتا غاندي. لكنها بدأت تقلق بشأن رد الفعل في الهند، وخصوصًا رد فعل عائلتها إن ذاع السر. ومن المحتمل أن معرفتها بوجود صديقات لفيروز في لندن55 كان بدوره أمرًا مقلقًا.
في مارس عام ١٩٣٧ تقدمت إنديرا لاختبارات المجموعة الأولى من جديد، في نفس اليوم الذي غزا فيه هتلر النمسا. وكانت المفاجأة أن اجتازت امتحان اللغة الفرنسية والقانون الدستوري والتاريخ والاقتصاد السياسي، ولكنها لم تجتَز امتحان اللغة اللاتينية. وهو ليس بالأمر المستغرب. فطالبات جامعة أكسفورد درسن اللغة اللاتينية لسنوات في المدارس قبل الالتحاق بالجامعة، أما إنديرا فلم تتعدَّ مدة دراستها للغة اللاتينية سوى سبعة شهور أخذت تحشو فيها رأسها بها بمدرسة بادمينتون. لو كانت حصلت على تعليم إنجليزي — وهو ما كان ممكنًا لو أنها درست في المدارس التبشيرية الممتازة التي أدارها البريطانيون في الهند — لاجتازت هي أيضًا امتحان اللغة اللاتينية. ولكنها درست في جامعة شانتينيكيتان لغة ميتة أخرى هي السنسكريتية، التي سببت لها نفس القدر من المشكلات. استمر امتحان اللغة اللاتينية ثلاث ساعات، وكان مبنيًّا على نص لاتيني يعود إلى القرون الوسطى اجتهدت إنديرا في دراسته لفصلين دراسيين كاملين. وتضمن الامتحان أيضًا ترجمة فقرة من نص لم ترَه إنديرا من قبل، وهي ما تسببت في رسوبها للمرة الثانية.56 لكن كان عليها — إن رغبت في البقاء بكلية سومرفيل — أن تخضع للامتحان للمرة الثالثة في شهر يونيو، وتلك كانت فرصتها الأخيرة.
وفي هذه المدة كتب نهرو إلى إنديرا يخبرها بأنه يخطط لزيارة أوروبا في أوائل الصيف، الأمر الذي أثار في نفسها مشاعر مختلطة. ومع هذا شرعت هي وكريشنا مينون وأجاثا هاريسون على الفور في التخطيط لزيارته لإنجلترا. وقد انزعجت إنديرا عندما علمت أن والدها كان مدعوًّا لقضاء أسبوع بمنزل فيليب هنري كير، المركيز الحادي عشر لمنطقة لوثيان والمعروف باسم اللورد لوثيان. كان اللورد لوثيان صحفيًّا وسياسيًّا محنكًا ووكيلًا لوزارة الخارجية الهندية في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين. وكان شديد الإعجاب بنهرو، ومع اختلافه معه حول قانون الحكومة الهندية لعام ١٩٣٥ اعتادا تبادل المراسلات الودية لعدة أعوام. وأسعده استعراض سيرة نهرو الذاتية، وعندما حضر إلى الهند عام ١٩٣٧ التقى بنهرو في اجتماع ودي بالله آباد. غير أن اللورد لوثيان كان عضوًا في منظمة كليفيدين سيت التي أيدت سياسة التهدئة لرئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين. وفي الحقيقة كان اللورد لوثيان قد كتب إلى الآغا خان أنه على ألمانيا أن تتبع سياسة أكثر هدوءًا، وإلا فستتحالف مع إيطاليا واليابان ضد الإمبراطورية البريطانية، «وهو ما سيروق تمامًا لجواهرلال نهرو».57
في أواخر أبريل كتبت إنديرا إلى نهرو بخصوص الرحلة التي يعتزم القيام بها إلى إنجلترا، تقول:
«الأمر الوحيد الذي يقلقني بشأن زيارتك لإنجلترا هو أنك تعتزم المكوث لدى لوثيان … فلوثيان ليس مجرد عضو عادي بحزب المحافظين. إنه عضو بارز بمنظمة كليفيدين سيت؛ المنظمة عينها التي أجبرت إيدن على الاستقالة، ويُعرف أعضاؤها بأنهم أصدقاء هتلر في إنجلترا. إنه فاشي بكل ما في الكلمة من معنًى، ولا يتحرج على الإطلاق من كونه كذلك. حتى إنه امتدح غزو هتلر للنمسا … إن مكوثك لديه بمنزلة تمضية عطلة نهاية الأسبوع مع هتلر أو موسوليني. سيخلف هذا انطباعًا سيئًا في كل من يؤمن ولو قليلًا بقضايا اليساريين أو لديه ذرة من التعاطف مع الهند وحزب المؤتمر في هذا البلد … هذا مع الأخذ في الاعتبار أن لوثيان يقف ضد كل ما تمثله وتؤمن به، وستجد كل من ستقابلهم في منزله على نفس الشاكلة، مجموعة من أعضاء حزب المحافظين والفاشيين المتعصبين. أخشى أنني متمسكة برأيي بخصوص هذه النقطة، وإن ذهبت، فسيكون على اللورد لوثيان أن يعذرني لعدم مصاحبتي لك … أتمنى أن تعيد النظر في المسألة وأن تعدل عن رأيك.»58

كانت هذه أول واقعة مدونة تعارض فيها إنديرا أباها معارضة صارخة، وتحاول أن تؤثر على قراره. ولكنه لم يتقبل الأمر بصدر رحب.

رد قائلًا: «أعلم بشأن منظمة كليفيدين سيت، وأعلم بأنشطة لوثيان المناصرة للفاشية ولهتلر. وأعتقد أنها أنشطة خطيرة … ولكن بعد إمعان التفكير قررت أن أقبل دعوته.» واستطرد نهرو مذكرًا إنديرا بمكانتها قائلًا:
«أنا أكثر من مجرد قائد بارز لجماعة أو حزب. فأنا أحتل مكانة خاصة في الهند ومكانة دولية معينة … وإنني أتقن عملي ولست حديث عهد بالقضايا الدولية. وخبرتي تقتضي أن أقرر بنفسي ما ينبغي لي فعله وما لا ينبغي … وأنا واثق بقراري بقبول دعوة لوثيان، وليس لديَّ أي نوع من الغموض بهذا الشأن. وإذا كنت على درجة من ضعف الشخصية قد تدفعني للتأثر بآرائه، فأنا إذن غير أهل لما أنا عليه … أشعر بضرورة قبول دعوته. ولقد قبلتها بالفعل. وسأكون آسفًا إن لم تتمكني من مصاحبتي.»59
صعق هذا الجواب إنديرا، ولكنها احتفظت برباطة جأشها:
«عزيزي، لم أفترض ولو للحظة في نفسي الحق لتوجيه أفعالك، ولم أرمِ حتى إلى أنك لا تتابع سياسات وممارسات لوثيان، فأنت بالطبع الوحيد القادر على البت فيما ينبغي فعله. إنما كنت أعبر عن رأيي الشخصي في المسألة. وأخشى أنني ما زلت على رأيي. يؤسفني أن أكون بعيدة عنك ولو حتى ليومين، ولكن لا أظن أنني سأحتمل المكوث مع لوثيان. ومن ناحية أخرى لا أريد أن أبدو فظة، لذا أرى أن أفضل ما يمكنني فعله … هو أن أتدبر أمر دعوتي لدى بعض الأصدقاء في عطلة نهاية الأسبوع التي ستمكث فيها عند لوثيان.»60

وكان هذا ما قامت به بالفعل، فكتبت رسالة قصيرة إلى اللورد لوثيان تعتذر فيها بأدب عن قبول دعوته. وما لبثت أن بعثت رسالتها حتى تسلمت رسالة حارة منه يطلب فيها منها أن تؤجل ما ارتبطت به من مواعيد سابقة، وأن تتفضل بالقدوم مع أبيها إلى عزبته الإليزابيثية الطابع؛ بليكلينج هول في نورفولك.

كان من المقرر أن تؤدي إنديرا اختبارات المجموعة الأولى من جديد في ٢١ من يناير. والرسوب هذه المرة يعني أنها لن تتمكن من دراسة التاريخ وستضطر لترك الدراسة في أكسفورد. كانت صديقتها ماري دمشقي — التي تتلقى معها دروس اللغة اللاتينية مع نفس المدرس المسن الأصم — قد مرت بهذا الموقف بالفعل؛ إذ رسبت في امتحان يونيو وعليه فصلت من الجامعة. ولكن إنديرا قررت في النهاية ألا تخضع للامتحان. ذلك لأنها لم تكن على استعداد لتحمل عواقب الرسوب للمرة الثالثة، التي من شأنها أن تفضي بمستقبلها الجامعي إلى نهاية مخزية ومفاجئة. وكانت هذه النهاية المخزية ستتزامن مع زيارة نهرو لإنجلترا. لم تشاور إنديرا أباها بشأن عدم أدائها للامتحان، بل كان كل ما فعلته هو أن كتبت له تقول: «الحياة هنا في الشوط الأخير من الفصل الدراسي مليئة بالضغوط ومنهكة. ثم إن مشكلتي مع اللغة اللاتينية لا تزال قائمة. أشعر وسط كل هذا برغبة شديدة في النوم لأسابيع … سوف أذهب إلى لندن صباح الثلاثاء ٢١ من هذا الشهر (يوم اختبارات المجموعة الأولى) وأمضي اليوم كله في أوثر فراش لدى أجاثا (هاريسون) لأستعيد … حيويتي استعدادًا لاستقبالك.»61
كانت بحاجة إلى الراحة. تشعر بالتوعك منذ عودتها من ألمانيا في يناير. فقد لاحظ أصدقاؤها أنها صارت أنحف وأن الهالات تحت عينيها صارت داكنة أكثر وأن بشرتها صارت تبدو شاحبة وهو دليل على ضعف صحتها، وتعاني سعالًا مستمرًّا. لم تشتكِ يومًا من شعورها بأنها على غير ما يرام. لكنها صارت بحلول أواخر ربيع عام ١٩٣٨ غاية في الإرهاق الجسدي والنفسي، وقررت في اللحظة الأخيرة أن تتغيب عن امتحان اللغة اللاتينية في اختبارات المجموعة الأولى.62

•••

في ١٤ يونيو وصل نهرو إلى جنوة حيث استقبله كريشنا مينون. وفي اليوم التالي سافر الاثنان إلى برشلونة في الوقت الذي كانت فيه الحرب الأهلية الإسبانية مستعرة، ونزلا ضيفين على الحكومة الجمهورية. وبعدها بأسبوع استقلا الطائرة إلى لندن، حيث اجتمع شمل نهرو وإنديرا في منزل أجاثا هاريسون. ثم انتقلا للإقامة في شقة بالإيجار في شارع سانت جيمز الذي وصفه نهرو لأخته نان بانديت بأنه «جيد، ولكن الإقامة فيه مكلفة». ويشرح ذلك فيقول: «فنحن ندفع تسعة جنيهات أسبوعيًّا مقابل الإقامة في شقة مكونة من غرفتي نوم وغرفة معيشة.»63
كان كريشنا مينون قد وضع جدولًا حافلًا بالأنشطة التي سيقوم بها نهرو في لندن، يبدأ باجتماع عام للترحيب بجواهرلال نهرو في قاعة كينجزواي، حيث سيلقي كلٌّ من بالم دات وهارولد لاسكي وإيلين ويلكينسون كلمته على المنصة، وسيقدم المطرب والمغني الأمريكي ذو الأصول الأفريقية بول روبسون حفلًا موسيقيًّا للترحيب بنهرو. ألقى نهرو خطبًا في لجنة المساعدات الإسبانية بقاعة رويال ألبرت وميدان ترافلجار، وشارك في سلسلة من لقاءات الرابطة الهندية، وحضر أحد اجتماعات نادي الكتاب اليساري، وتناول الغداء مع رئيس تحرير مجلة «نيوستاتسمان» بمجلس العموم البريطاني، وعقد نقاشات مع أعضاء الحزب الشيوعي وقادة حزب العمال، وفيهم كليمنت أتلي. وخطب نهرو في معهد «تشاثام هاوس» الذي وصفه بأنه «مركز بارز ومشهور متمسك بمبادئه»، حيث قام «بأدب وهدوء بامتداح كبار الهنود البريطانيين وغيرهم على نحو مغالٍ فيه حتى احمرت وجوه الحاضرين وصاروا في شدة الانزعاج».64
وفي أول عطلة نهاية أسبوع يقضيانها في لندن قام نهرو وإنديرا بما سمَّاه نهرو «رحلة حج»، شملت تناول الشاي مع السيدتين البالغتين ثمانين عامًا؛ سيدني وبياتريس ويب. أخبر نهرو أخته أن كلتا السيدتين كانتا «في أقصى درجات النشاط الذهني». كانت سيدني ويب تعاني «صعوبة في الكلام، أما بياتريس،» فكانت «حاضرة الذهن على نحو مذهل»، وعندما اصطحبت نهرو وإنديرا للمشي «كانت تسير بسرعة وعلى نحو جيد». أعجب نهرو بجمال مضيفته بياتريس ويب، فعنها يقول لأخته: «كانت جميلة في شبابها، ولا تزال كذلك.»65 وكتبت بياتريس ويب عن نهرو وإنديرا في مذكراتها: «أمضى نهرو رئيس حزب المؤتمر الهندي وابنته الجميلة بضع ساعات هنا يوم السبت … إنه أعظم مثال للأرستقراطي المهذب والمثقف؛ فهو يكرس نفسه لنجدة ضحايا الاضطهاد، سواء العرقي أو الطبقي.» ولكن بياتريس شككت في قدرته على أن يكون قائدًا ثوريًّا.66
وفي أواخر يونيو أمضى نهرو وإنديرا عدة أيام مع «ستافورد كريبس» عضو البرلمان البريطاني من حزب العمال في ضيعته الريفية؛ جودفيلوز بمنطقة جلوسيسترشاير.67 التي سيتضح فيما بعد أنها كانت تجربة أمتع بكثير من حضور الحفل المنزلي الذي كان اللورد لوثيان سيقيمه في عطلة نهاية الأسبوع يومي التاسع والعاشر من يوليو. ومع أن إنديرا بثت حيرتها لصديقتها كاي دافيس من كلية سومرفيل في أمر دعوة اللورد لوثيان فإنها وافقت في النهاية على مضض على مصاحبة أبيها إلى عزبة اللورد لوثيان.68 كان لوثيان قد دعا مجموعة من صفوة القوم للقاء نهرو وإنديرا، وفي ذلك عضو البرلمان المحافظة نانسي أستور (أول امرأة تُنتَخب عضوًا بمجلس العموم البريطاني) والجنرال ويليام، والليدي إيرونسايد، والسير آرثر سالتر عضو البرلمان من أكسفورد، وتوماس جونز المستشار الرئيسي لرئيس الوزراء وستانلي بالدوين. وافق الحفل أسوأ توقعات إنديرا. فعنه قالت: «أكرم اللورد لوثيان ضيافة المدعوين، لكن المحادثات التي دارت في الحفل كانت مثيرة للاستفزاز إلى حد يفوق الوصف، سواء لاستهانتها بالفظائع التي تُرتكَب في حق اليهود … أو لتناولها لنضالنا من أجل الحرية باحتقار شديد.» وعلى مائدة العشاء جلست إنديرا إلى جانب ليدي أستور التي انهالت على الاشتراكية بسيل مطول من التقريع، ثم التفتت إلى إنديرا وقالت: «ليتك تتزوجين من مهراجا، عندها ستحل مشكلة الهند.»69
وفي الليلة السابقة لبدء إنديرا ونهرو جولتهما في أوروبا أسدى هارولد لاسكي — الذي حضرت إنديرا محاضراته أحيانًا مع فيروز في كلية لندن للاقتصاد — نصيحته الشهيرة إلى إنديرا بعدم مصاحبة والدها في جولته. كان لاسكي وقتها واحدًا من القلائل الذين فطنوا إلى أن مكانة نهرو وعبقريته وحضوره القوي كانت عوامل تهدد بحجب الضوء عن إنديرا. لذا قال لها: «أصغي إليَّ، إن شخصيتك ما زالت في طور التكوين، وإذا لازمت أباكِ فلن تكوني أكثر من تابع. لذا يحسن ألا تصاحبيه. عليك أن تشقي طريقك بنفسك.» كانت هذه النصيحة تنم عن بصيرة نافذة وتحمل في طياتها تحذيرًا مستقبليًّا، لكن إنديرا لم تكن في مزاج يسمح بتلقي الأوامر. وأرادت أن تكون مع والدها طوال مدة وجوده في أوروبا وفي أغلب سفرياته. فانزعج لاسكي من تجاهلها لنصيحته، وحول هذا الأمر تقول إنديرا إنه انتقد فيها ما سماه رغبتها الوجلة في الذوبان في شخصية أبيها. وقال إنه أهدر عليها الكثير من وقته، وكانت النتيجة أنها أدارت ظهرها لنصيحته. وافترق هو وإنديرا وهما متخاصمان.70
لقد خيبت إنديرا أمل آخرين غير هارولد لاسكي. فقد اعتبرتها السيدة لاسكي «فتاة صغيرة ضعيفة الشخصية وخجولة، لا يبدو عليها أنها تحمل أي آراء سياسية»، بينما يصفها ريجينالد سورينسون عضو البرلمان من حزب العمال بأنها «صورة طبق الأصل من أبيها … فهي بالفعل ابنة أبيها.»71 أما كريستين تولر— زوجة الشاعر اليهودي إرنست تولر — فقد كانت من القلائل آنذاك الذين رأوا في إنديرا ما يميزها. فبعد أن زارت إنديرا ونهرو على الغداء كتبت كريستين إلى نهرو تقول عن إنديرا: «أريد أن … أخبرك بمدى سعادتي بلقائها. فهي ليست جميلة فحسب، ولكنها أيضًا في غاية البراءة … تبدو لي كزهرة صغيرة قد تعصف بها الرياح بسهولة، ولكنني لا أظنها تخشى الرياح.»72
وفي منتصف يوليو عبر نهرو وإنديرا القنال الإنجليزي الذي يربط إنجلترا ببقية أوروبا، القارة التي قال عنها نهرو في خطابه إلى بادماجا نايدو إنها: «تهرع بأقصى سرعة إلى طرق الشيطان.»73 فزارا فرنسا وميونيخ (حيث رفض نهرو لقاء الضباط النازيين) وتشيكوسلوفاكيا والمجر. وفي باريس حضرا مؤتمر السلام العالمي الذي شهد مظاهرات احتجاجًا على قذف المدنيين الإسبان بالقنابل. كان منظمو المؤتمر قد منعوا «لا باسيوناريا» البطلة الإسبانية العظيمة دولوريس إباروري — قائدة الحزب الشيوعي بإسبانيا — من إلقاء كلمة في المؤتمر، لذا عندما رآها الحاضرون تأثروا جميعًا وانهالت دموعهم، واستقبلوها باللهفة والهتاف. كانت تشيكوسلوفاكيا تعيش أزمة حقيقية؛ إذ كانت تتوقع بين لحظة وأخرى أن يهاجم النازيون منطقة السوديت الغربية. وفي براغ نزل نهرو وإنديرا في الفندق نفسه الذي نزل فيه وفد رونسيمان الذي أرسله رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشمبرلين. آنذاك بدا على وجوه أبناء تشيكوسلوفاكيا — على حد قول إنديرا — «أنهم يشعرون بالحصار. الكآبة الشديدة تحاصرهم من كل جانب … لقد ساد شعور حاد بالأسى تقشعر منه الأبدان». كانت إنديرا تشعر حينها بالإرهاق التام؛ فتقول: «أخبرني الجميع أنني أبدو بحال سيئة، وكنت وقتها في غاية النحول، ولكن لأن برنامجنا كان مزدحمًا جدًّا شعرت بأن عليَّ أن أصمد.»74
لكن إنديرا انهارت تمامًا عند وصولها هي ونهرو إلى بودابست، وأُودعت المستشفى لمدة أسبوعين للإصابة بحالة حادة من مرض ذات الجنب، المرض الرئوي نفسه الذي كان بداية نهاية كامالا نهرو في بهوالي عام ١٩٣٤. وفي هذا الوقت العصيب حضرت نان بانديت (التي لم تتفق قط مع إنديرا) إلى بودابست على متن أول رحلة إلى أوروبا. وفي بداية سبتمبر سافر نهرو وإنديرا وبانديت جوًّا إلى لندن. أُودعت إنديرا مستشفى برينتفورد في مقاطعة ميدلسكس في اليوم نفسه — ١٥ سبتمبر — الذي سافر فيه نيفيل تشمبرلين إلى بيرختيسجادن لدعوة هتلر إلى عقد تسوية سلمية. كان التعب قد أعيا إنديرا، وانخفض وزنها إلى خمسة وثمانين رطلًا، ولكن هذا لم يمنعها من القلق بشأن مساعي تشمبرلين، فتقول: «لا أنفك أشعر بأنه لا يعتزم خيرًا وبأنه سيخلف فوضى … فيما يخص تشيكوسلوفاكيا.» وبعدها بستة أيام أرسلت خطابًا آخر إلى نهرو في فندقه بلندن تقول فيه: «ألا يصيبك الوضع في أوروبا بالاشمئزاز؟ … كنت متأكدة أن تشمبرلين لا ينوي خيرًا عندما سافر إلى ألمانيا، ولا أستبعد أن تكون صاحبتنا نانسي (أستور) هي صاحبة هذه الفكرة النيرة.»75
وقد أثبتت الأيام صحة توقعات إنديرا. انتهت أزمة تشيكوسلوفاكيا باستيلاء هتلر على منطقة السوديت بموجب مؤتمر واتفاقية ميونيخ. قال نهرو عنها إنها كانت «آخر وأبغض ما قام به تشمبرلين في إطار سياسة التهدئة»؛ وفيما بعد وصف نهرو الاتفاقية بأنها «اغتصاب لتشيكوسلوفاكيا قامت به ألمانيا بمؤازرة إنجلترا وفرنسا».76

ومع بداية أكتوبر بدأ الفصل الدراسي بكلية سومرفيل، لكن مرض إنديرا الشديد منعها من الذهاب إلى أكسفورد، حتى لو كانت مشكلتها مع امتحان اللغة اللاتينية في اختبارات المجموعة الأولى قد حُلت، وهو ما لم يحدث. كان الأطباء بمستشفى برينتوود قد نصحوها بالاستراحة لفصل دراسي واحد على الأقل لتتعافى في مناخ صحي. وهو ما يعني الابتعاد عن لندن وأكسفورد، وألح نهرو عليها للعودة معه إلى الهند لتتعافى في أحد المنتجعات الصحية على التلال. كانت وقتها مترددة جدًّا حيال الانفصال عن فيروز، لكنها كانت أيضًا متخوفة من أن يكون لها نفس مصير أمها. أرعبتها نوبات المرض التي أصابتها، وكانت لا تزال صغيرة تعيش قصة حب وتأمل أن تطول أمامها الحياة. لذا أبحرت إنديرا مع والدها من مرسيليا إلى الهند في بداية شهر نوفمبر، وقد توقفا أثناء رحلتهما في القاهرة لزيارة الأهرامات على الأقل، وفي ١٧ نوفمبر عام ١٩٣٨ وصلت إنديرا ونهرو إلى بومباي، قبل عيد ميلادها الحادي والعشرين بيومين.

وأعقبت هذه المدة خمسة شهور — بدت أحيانًا لإنديرا كخمسة أيام — وفي أحيان أخرى كخمسة أعوام؛ فتشابه الأيام كان يسرع من الوقت تارة، ويثقله تارة. وغالبًا ما كانت إنديرا تمضي وقتها بين الجبال، لكن قبل كل شيء توجهت إنديرا إلى الله آباد. حيث سجلت اسمها — عندما بلغت سن الرشد في عيد ميلادها؛ يوم ١٩ نوفمبر — لعضوية حزب المؤتمر بمقره في سواراج بهافان.

وبعدها بأسبوعين قصدت مدينة ألمورا في أقصى شمال المقاطعات الاتحادية مع عمتها كريشنا هوثيسينج وابنيها الصغيرين هارشا وأجيت. لم تكن ألمورا بعيدة عن بهوالي حيث المصحة التي أخذت صحة كامالا في التدهور فيها قبل أن تذهب إلى أوروبا قبل أربع سنوات. وكانت ألمورا أيضًا هي مقر سجن نهرو خلال الشهور الأخيرة التي قضتها كامالا في الهند. والمدينة قائمة على سلسلة من الجبال وتطل على الجانب الداخلي لسلسلة جبال الهيمالايا، شوارعها مرصوفة بالحصى وبيوتها الخشبية المنحوتة بدقة مزدانة بلوحات جدارية من التراث الهندي. ومع انتصاف الشتاء كان الثلج يعزل المدينة عن العالم الخارجي ليتركها نظيفة وهادئة.

هناك مكثت إنديرا في كوخ مؤجر يدعى «سنو فيو» حيث شعرت بأنها علقت في المكان والزمان. أزعجتها عمتها وابناها باستمرار، فمن ناحية كانت عمتها تثرثر طوال الوقت، ومن ناحية أخرى لم يكف ابنا عمتها عن إحداث ضجيج والإلحاح للعودة إلى بومباي. أصيبت إنديرا بسعال شديد وارتفعت حرارتها. فعزت ذلك إلى عدم كفاية قطع خشب المدفأة في الكوخ الذي كان أكثر برودة من غرفتها بكلية سومرفيل. ومع أن إنديرا كانت تقيم في مناخ صحي ومع أنها اتبعت لائحة التعليمات التي أرسلها إليها نهرو (عن طول خبرة بأنظمة المصحات) لم تتحسن صحتها، في هذه اللائحة الأخيرة وجه نهرو إلى إنديرا النصائح الآتية:
  • (١)

    أن تقيس حرارتها ليلًا ونهارًا.

  • (٢)

    أن تستريح لثلاث ساعات بعد الظهر، وقبل وبعد الوجبات.

  • (٣)
    أن تحصل على مزيد من الراحة إذا شعرت بالتعب. وأيضًا أن تحصل على الراحة إذا ارتفعت حرارتها.77

وزاد بُعد إنديرا عن فيروز من معاناتها. كان نظام البريد يتسم بالبطء الشديد ولا يمكن الاعتماد عليه. فكان على رسائل فيروز أن تعبر المحيط العريض، وبعدها تستغرق أسابيع عدة، أو حتى شهورًا لتجد طريقها إلى أعلى جبال ألمورا المغطاة بالثلج. وحينما تصل في النهاية تضطر إنديرا إلى قراءتها خلسة، بعيدًا عن عمتها الفضولية. وقتها ساور إنديرا شعور بالندم المرير لعودتها إلى الهند.

إحدى الرسائل التي وصلت إنديرا في أواخر ديسمبر كانت من أسفل جبال ألمورا، أرسلها نهرو الذي كان آنذاك يتبع جدولًا سياسيًّا منهكًا. كانت هذه الرسالة على النقيض تمامًا من تلك التي بعثها إليها أيام دراستها في بادمينتون يحدثها فيها عن ميراثها من المشكلات والمصاعب. فبعد أن أعيا نهرو التعب وأفاق من حلمه كتب إلى إنديرا وهو على متن قطار مسرع من بومباي إلى الله آباد:
«كنت أتمنى أن تضطلعي عندما تكبرين … بدور جريء فيما يدعى بالحياة العامة بالهند، وأن تحملي هذا العبء الثقيل عن كاهلي، وأن تسهمي في بناء الهند التي لطالما حلمنا بها. أردتك أن تهيئي نفسك ذهنيًّا وبدنيًّا لهذه المهمة الشاغلة. ولكنني لم أعد متأكدًا من رغبتي في ذلك الآن، فلا أريدك أن تختبري آلام هذه التجربة وإحباطاتها … بالنسبة لي لم يعد هناك مهرب ولا ملجأ … فلماذا أشجع من أعتز بهم على الدخول في هذه التجربة الصعبة.»78

لم تجب إنديرا على الرسالة لأنها كانت تتوقع زيارة من والدها في ألمورا في أوائل يناير. وما كاد يصل حتى أخبرته أنها تشعر بتحسن، وأنها مصممة على العودة إلى إنجلترا بأسرع ما يمكن. كانت مصرة على العودة مع نهرو إلى الله آباد بنهاية الشهر، وحجتها التي لا تتغير هي ضرورة عودتها إلى أكسفورد قبل بداية الفصل الدراسي الصيفي. كان الدافع الحقيقي وراء إلحاحها بالطبع هو رغبتها في أن تكون مع فيروز. تحدث نهرو مع مادان أتال ابن عم كامالا وطبيبها وصارحه بأنه لا يشعر بأن صحة إنديرا قد تحسنت أو أنها قد أصبحت قوية بالقدر الكافي الذي يسمح بالعودة إلى إنجلترا، بالإضافة إلى أنه يرفض بشدة فكرة عودتها إلى أوروبا التي كانت — على حد قوله — «على شفا هاوية». فقد بات اندلاع الحرب أمرًا حتميًّا. لكن إنديرا ظلت على عنادها بشأن العودة إلى إنجلترا، وهذه المرة تحدت نهرو حتى حصلت على مبتغاها. وفي أبريل عام ١٩٣٩ ذهبت إلى مومباي ثم أبحرت إلى أوروبا على متن السفينة إس إس ستراثيرد.

وبعد أن رست سفينتها في مرسيليا توجهت إنديرا إلى باريس، وهناك كانت الإضاءة كثيرًا ما تنقطع ليلًا أثناء الغارات الجوية، و«عواء صفارات الإنذار … يُسمَع من بعيد». وعندما وصلت إنديرا إلى لندن بدت لها بدورها في حالة من التأهب للحرب، ووجدتها قد اكتسبت شكلًا «في غاية القبح». فعلى عمود نيلسون وخارج دور السينما وعلى نوافذ المتاجر «منشورات مرعبة» تحمل مثل هذه العبارات: «علينا أن نكون مستعدين» و«الخدمة العسكرية — سجل اسمك الآن» و«هل أديت واجبك نحو وطنك؟» و«كيف تخدم وطنك؟» كما كانت لافتات إجراءات الوقاية من الغارات الجوية معلقة في جميع الأماكن العامة.79

مكثت إنديرا في غرفة لدى جمعية الشابات المسيحيات في بلومزبيري لتكون على مقربة من فيروز الذي كانت تلقاه بصفة تكاد تكون يومية. كان فيروز وقتها قد ترك الدراسة في كلية لندن للاقتصاد، وعمل لدى مجلس مقاطعة لندن، والمعهد الملكي للشئون الدولية. لكنه كرس الجانب الأكبر من وقته لأنشطة الرابطة الهندية بقيادة كريشنا مينون؛ أكثر المنظمات تطرفًا بين المنظمات في بريطانيا التي تنادي باستقلال الهند. واضطلع بأنشطة أخرى، منها أنه أصدر بمفرده مجلة الرابطة الهندية الأسبوعية. ثم بدأت إنديرا نفسها تخصص جزءًا من وقتها لمكتب الرابطة الصغير في شارع ستراند الذي لا يبعد كثيرًا عن جمعية الشابات المسيحيات. وبصفتها ابنة نهرو كان وجودها مهمًّا ومقدرًا. ومع ذلك انتهى بها الحال إلى القيام بالأعمال المكتبية المملة، مثلها في ذلك مثل بقية المتطوعات من النساء.

وفي هذه المدة — في ربيع وأوائل صيف عام ١٩٣٩ — سنحت الفرصة لإنديرا لتتعرف جيدًا على كريشنا مينون الذي سيصير شخصية مؤثرة في حياتها على مدى الخمسة والثلاثين عامًا المقبلة. ولد فينجاليل كريشنان كريشنا مينون في كيرالا عام ١٨٩٦، وكان الابن الأكبر لإحدى أسر نير العريقة التي تنتمي لطائفة الدرافيديين من طبقة السودرا. وكان ثيوصوفيًّا في شبابه مثل نهرو، وأثناء دراسته في كلية بريزيدنسي بجامعة مدراس أصبح تحت رعاية الكاتبة البريطانية «آني بيسانت» التي تكفلت بنفقات سفره إلى إنجلترا للدراسة عام ١٩٢٤. كان مينون يعتزم قضاء ستة شهور فقط في إنجلترا، لكن انتهت به الحال إلى البقاء فيها ثمانية وعشرين عامًا. وفي لندن كان أحد ألمع الطلاب الذين درسوا على يد المفكر والسياسي الشهير هارولد لاسكي بكلية لندن للاقتصاد، حيث تخرج حاصلًا على أعلى تقدير. انضم مينون إلى حزب العمال عام ١٩٣٠، وعمل عضو مجلس بلدة سانت بانكراس في لندن لما يزيد عن عقد. ودرس القانون، وحصل على ترخيص العمل بمهنة المحاماة من هيئة ميدل تمبل عام ١٩٣٤، وهو العام نفسه الذي حصل فيه على درجة الماجستير من جامعة يونيفرسيتي كوليدج في لندن.

عام ١٩٣١ غيَّر مينون اسم كومنولث الرابطة الهندية ليصبح الرابطة الهندية فحسب، وصارت هذه الرابطة إلى جانب السعي نحو استقلال الهند هما الدافعين المحركين لحياة مينون. ولكي يحصل على الأموال اللازمة لدعم الرابطة عمل مينون محررًا صحفيًّا في البداية لدى «دار نشر بودلي هيد» التي تولت نشر سيرة نهرو، ثم عمل بعدها في دار بينجوين للنشر التي أسسها بالاشتراك مع ألين لين. وبذل راتبه كله للرابطة؛ فكان هو من استأجر غرفة مكتب الرابطة الضيق بشارع ستراند، واشترى جميع معدات وتجهيزات المكتب. في البداية كان ينام على منضدة في مكتب الرابطة حتى لا يضطر إلى الإنفاق على سكن. ويتجلى إخلاص مينون للقضية الهندية في عبارة قالها أثناء زيارته للصحفي روميش ثابار. فيومها فتح صهر ثابار — وهو «رجل شديد التهذيب والاحترام» — الباب لمينون، ودعاه للدخول ثم سأله عما يعمله لكسب رزقه. فأجاب مينون بسرعة: «أنا لا أعمل لكسب رزقي. وإنما أعمل من أجل استقلال الهند.»80
في لندن سرعان ما جذب مينون جماعة من الأتباع من شباب الهند الراديكالي مثل فيروز غاندي وبي إن هاكسار الذي درس الأنثروبولوجيا الاجتماعية بكلية لندن للاقتصاد على يد مالينوفيسكي وكان وقتها يدرس القانون بهيئة لينكولن القانونية، والصحفي نيكيل شاكرافارتي الذي كان قد جاء لتوه من أكسفورد، وموهان كمارامانجالام خريج جامعة كامبريدج، الذي سيقدر له فيما بعد أن يكون واحدًا من أعضاء مجلس الوزراء الذي ستترأسه إنديرا، وملك راج أناند الذي كان يكبرهم قليلًا، والذي نُشِرَ له روايتان في غاية الروعة عن الطبقات الدنيا في المجتمع الهندي هما «المنبوذون»، و«كولي». كان مينون معلمًا لافتًا للانتباه بقامته الطويلة وجسده الهزيل وشعره الأشعث وعينيه الشبيهتين بعيني الصقر. وقد وصفته ماري سيتون — وهي سيدة إنجليزية كانت تعمل لدى الحزب — بأنه رجل «وسيم جدًّا كأنه تمثال نُحت على عجالة … لكن النظر إليه مخيف. لو اصطبغ شعره باللون الأحمر بدلًا من لونه الأسود لبدا كأن النار تشتعل فيه.»81

كان مينون رجلًا حاد الذكاء متقد العاطفة، لكنه يفتقر إلى المهارات الاجتماعية. في عام ١٩٣٥ أصابه انهيار عصبي إثر فشل علاقته بامرأة إنجليزية تدعى باربارا ماكناميرا. حدث ذلك بالضبط قبل زيارة نهرو وإنديرا للندن في نوفمبر عام ١٩٣٥. وفي الحقيقة غادر مينون فراشه بمستشفى سانت بانكراس خلافًا لنصيحة الأطباء ليلقى نهرو وإنديرا بمحطة فيكتوريا. صحيح أن مينون قد تعافى من الانهيار العصبي، إلا أنه أصبح رجلًا ساخرًا، فاقد الثقة في كل شيء، يعتمد على المنشطات والمهدئات إلى حد بعيد ليواصل حياته.

بعد الانهيار العصبي الذي أصيب به اتسمت حياته بالتنقل بين سلسلة من الفنادق الرخيصة بمدينة كامدن. وتحول إلى عدو للمرأة وأقسم ألا يتزوج أبدًا، مع أن كثيرًا من النساء اللاتي عملن في الرابطة الهندية — مثل ماري سيتون وأليس ثورنر — وجدنه رجلًا شديد الجاذبية. غير أنه كان منعزلًا لا يظهر مشاعره، فيبدو بالفعل كما لو أنه يفتقر إلى الحياة الشخصية أو الاجتماعية. صار يعيش بصورة أساسية على شرب الشاي الثقيل ويتبعه مباشرة بشرب اللبن الدافئ، ويتناولهما أحيانًا مع الكعك أو البسكويت. فلم يكن مستغربًا أن يصاب — إلى جانب مرض سل الكلى والسعال الدائم — بعسر الهضم المزمن. ووصل دأبه على العمل إلى حد الهوس، فلم يعد يحتاج إلا إلى القليل من النوم. لكنه كان كثير الإصابة بنوبات الإغماء، وأحيانًا يتمدد في الفراش لأيام بسبب معاناته من نوبات الصداع النصفي.82
وقد تفاوتت آراء الناس في مينون طوال حياته. فمنهم من كان يعشقه ومنهم من كان يبغضه. أما نهرو فكان يثق به تمامًا، وهو ما حير الكثيرين وجعله هو شخصيًّا يأسف فيما بعد، فقد كان يعتمد عليه ويأتمنه على أسراره أكثر من أي شخص آخر، بل حتى أكثر من إنديرا وبادماجا نايدو.83 أما إنديرا فكانت مشاعرها تجاهه مختلطة. فعلى عكس فيروز وغيره من أتباع وأعوان مينون لم تتأثر بهيبته، وكانت تستاء من أسلوبه الفظ المتسلط. ولم تنسَ له قط أنه كان السبب في إحراجها في أول خطبة سياسية لها يوم أن أصدرت أصواتًا تشبه الصرير. هذا إلى جانب أنها انتبهت لطبيعة نوازعه الشيطانية المضطربة. ولكنها من جانب آخر كانت معجبة بإخلاصه التام لقضية استقلال الهند، وبالطريقة التي أدار بها شئون نهرو في إنجلترا، وفي ذلك الترتيبات المالية التي قام بها لتوفير نفقات إعالتها، التي اعتمدت في أغلبها على عائدات مبيعات كتب نهرو.

لعب مينون دورًا أيضًا في علاج إنديرا في ربيع عام ١٩٣٩. طلب من الطبيب بى سي بهانداري — وهو صديق مقرب لنهرو — أن يدبر لإنديرا موعد استشارة مع اختصاصي الأمراض التنفسية الشهير الطبيب هيربرت بشارع هارلي. أجرى الدكتور هربرت كشفًا وفحصًا بالأشعة السينية لإنديرا، ثم أخبرها بظهور ظل على رئتها اليسرى في صورة الأشعة السينية، وأعلمها بضرورة أن «تتنبه جيدًا لنفسها»، وطلب منها أن تجري فحصًا بالأشعة السينية كل ستة شهور. لم يأتِ أحد على ذكر الإصابة بالسل، ولكن من الواضح أنه كان يمثل تهديدًا محتملًا على صحة إنديرا.

وفي هذه الأثناء عندما علمت هيلين داربيشاير بعودة إنديرا إلى إنجلترا أرسلت إليها من لندن تعرب عن أملها هي ولوسي ساذرلاند (معلمة التاريخ الخاصة بإنديرا) في أن تعود إنديرا إلى كلية سومرفيل لقضاء ما تبقى من الفصل الدراسي الحالي. هاتفت إنديرا طبيبها الدكتور بهانداري لتستشيره في إمكانية تلبية رغبة دارب (هيلين داربيشاير). فكان جوابه هو أن غمغم: «مستحيل». على كل حال ذهبت إنديرا فعلًا إلى كلية سومرفيل في زيارة لليلة واحدة. وتصف إنديرا استقبال دارب لها فتقول: «كانت لطيفة جدًّا، إذ قبلتني على كلا وجنتي، وطلبت إليَّ اختيار الغرفة التي أود أن أمكث فيها في شهر أكتوبر.» وبعد أن استقبلت هيلين داربيشاير إنديرا أخبرتها بأنها هي ولوسي ساذرلاند تعتقدان أن عليها — بدلًا من استكمال الدراسة لنيل درجة شرفية في التاريخ — أن تدرس لنيل شهادة في الإدارة الاجتماعية والإدارة العامة، والتي من شأنها أن تؤهلها لشغل منصب إداري في الحكومة أو في أي منظمة دولية. والأهم من ذلك هو أن هذه الشهادة لم تتطلب درجة علمية معينة ولا الإلمام باللغة اللاتينية.84 كان هذا هو الحل الذي توصلت إليه هيلين داربيشاير لمشكلة إنديرا العويصة بعد رسوبها مرتين في امتحان اللغة اللاتينية ضمن اختبارات المجموعة الأولى. كان واضحًا أن القائمين على كلية سومرفيل مترددون بقدر إنديرا نهرو بشأن تحمل مخاطرة جلوسها للاختبار وفشلها فيه للمرة الثالثة والأخيرة.
حث الطبيب هيربرت من شارع هارلي والطبيب بهانداري إنديرا على قضاء عطلة صيفية مريحة في سويسرا قبل العودة إلى كلية سومرفيل في أكتوبر، وقد أسعدت هذه الوصفة الطبية إنديرا وفيروز. فغادرت إنديرا لندن في ٢٤ من مايو إلى منتجع ستانشتاد الصحي الواقع على بحيرة لوسيرن الذي أوصى به الطبيب بهانداري. وبعدها بشهر قصدت منتجع بيرجينستوك القريب من منتجع ستانشتاد (الذي زكاه أيضًا الطبيب بهانداري)، وهناك أتى فيروز ومكث معها في فندق بارك. وفي بيرجنستوك كتبت إنديرا إلى نهرو خطابًا تخبره فيه بمدى شعورها «بالوحدة القاتلة»، وكيف أنها أحست بمقدار اعتمادها عليه، لكنها ألحقت بالخطاب مجموعة من الصور التي التقطها فيروز بكاميراه من طراز لايكا التي أظهرت بوضوح أنها لم تكن وحيدة. ووصفت لنهرو كيف أنها تسلقت هي وفيروز جبل يوخ إلى ارتفاع ٧٣٠٣ أقدام فوق سطح البحر، وإلى قمة يوخستوكلي التي تزيد عن الارتفاع السابق ﺑ ١٣٠٣ أقدام.85
كانت هذه من المرات النادرة التي أتت فيها إنديرا على ذكر فيروز، فطوال الخمسة الأعوام ونصف العام التي أمضتها إنديرا في أوروبا كان فيروز إما معها أو على اتصال دائم بها، ومع هذا لم يرد ذكره في رسائلها إلى أبيها سوى مرتين أو ثلاث. والأعجب من ذلك أنها باحت لأبيها بأن فيروز كان معها في سويسرا؛ مع أنهما كانا بمفردهما. والأوصياء على إنديرا — سواء أجاثا هاريسون أو كريشنا مينون في لندن أو هيلين داربيشاير في أكسفورد — بمنأى عنهما. كاتب فيروز نفسه نهرو، وألحق بخطابه صورًا كثيرة على شرائح عرض ملونة، يشرح فيروز لنهرو في خطابه كيفية مشاهدة شرائح العرض المرسلة. فيقول: «الصور بالألوان. لكي تتمكن من رؤيتها بوضوح ما عليك سوى وضعها أمام مصدر ضوء … ويمكنك أيضًا عرضها على الشاشة.» صنف فيروز شرائح العرض بدقة، وكتب معلقًا على إحداها: «مدينة لوسيرن كما تبدو ليلًا من نافذة إندو في بيرجنستوك.» وأضاف ملاحظة تفيد أن مدة عرض الصور تبلغ خمس ساعات ونصف الساعة. من الواضح أن خطابي إنديرا وفيروز بالإضافة إلى الصور والشرائح المرفقة كانت تحمل رسالة خفية إلى نهرو، التي أقر نهرو بتسلمها عندما أجاب فيروز قائلًا: «إنها حقًّا صور رائعة، وإذا صدق ظني وكنت أنت من التقطها، لكان لزامًا عليَّ أن أهنئك.»86
مكثت إنديرا وفيروز في بيرجينستوك قرابة شهر قبل العودة إلى إنجلترا في أغسطس. وقتها قررت إنديرا أن العودة إلى أكسفورد ستكون «بلا جدوى»، وأنها تريد المساهمة في بعض الأعمال التطوعية في الحرب. لذا قصدت مركزًا للتجنيد في لندن، وهناك نصحها القائمون عليه باستكمال دراستها في كلية سومرفيل قبل المباشرة في أي أعمال، غير أنهم أخبروها بأنها إن كانت مصممة على الشروع فورًا في هذه الأعمال فبمقدورها المشاركة في التمريض أو الانضمام إلى «جيش الأرض النسائي» (الذي مارس الزراعة عوضًا عن الرجال المشاركين في الحرب) أو تأدية غير ذلك من الخدمات.87 كانت إنديرا مصممة على الشروع فورًا في تلك الأعمال، لكن عندما أخضعها الطبيب هيربرت لفحص الأشعة السينية من جديد عارض بشدة قيامها بأعمال تطوعية، غير أنه أخبرها أن بإمكانها العودة إلى كلية سومرفيل إن ظلت حالتها الصحية مستقرة. فلاح أمامها من جديد شبح الذهاب إلى أكسفورد، والابتعاد عن فيروز.
قبل أن تتخذ إنديرا قرارًا رتب كريشنا مينون وإلين ويلكينسون لها أن تمضي شهر سبتمبر مع عائلة أستاذ يدعى ماكميلان يعيش في قرية «بن» بمقاطعة باكينجهامشير. وفي أغسطس وقعت ألمانيا وروسيا معاهدة عدم اعتداء، في حين وقعت بريطانيا معاهدة مع بولندا. وفي أواخر صيف ١٩٣٩ بدت الحرب وشيكة أكثر من أي وقت مضى، وكان هذا أحد الأسباب التي دفعت مينون وأجاثا هاريسون وإلين ويلكينسون للإسراع بإخراج إنديرا من لندن. هذا بالإضافة إلى أن طبيب شارع هارلي — هيربرت — أوصى إنديرا بالذهاب إلى قرية بن، وكما قالت إنديرا لنهرو: «حيث الهواء … أفضل قطعًا منه في لندن.»88 ولكن يحتمل أيضًا أن يكون أحد أسباب التعجيل بخروج إنديرا من لندن هو علاقتها بفيروز التي أصبحت وقتها — مع أنهما عملا جاهدين على إخفائها — واضحة للعيان، خاصة لمينون الذي كان يعمل إلى جانب فيروز في الرابطة الهندية. وبهذا فإخراج إنديرا من لندن لم يكن ليبعدها عن موطن الخطر فحسب، بل كان سيبعدها عن فيروز أيضًا.
وفي ٢ سبتمبر في اليوم التالي لغزو هتلر لبولندا واليوم السابق لإعلان إنجلترا وفرنسا الحرب على ألمانيا كتبت إنديرا إلى نهرو تخبره أن قرية بن بدأت بالفعل تكتظ بالأطفال الذين هُجِّروا من لندن. وتحكي إنديرا لنهرو في خطابها كيف أنها خلال الثلاثة الأيام الماضية — وهي التي كرهت دومًا استخدام الإبرة والخيط — ظلت تحيك الستائر الحاجبة للشمس والأغطية لهؤلاء الأطفال.89 وتطوعت إنديرا للعمل في المخازن العسكرية. لكنها كانت تتطلع إلى الوظائف الشاقة الحافلة بالإثارة التي تستغرق كامل وقتها، لكن رغباتها هذه قوبلت كلها بالرفض من الطبيب هيربرت والطبيب بهانداري وأجاثا هاريسون. فوافقت على مضض على العودة إلى جامعة أكسفورد لتدرس لنيل شهادة في الإدارة الاجتماعية والإدارة العامة. وقد أرسلت إليها الكلية قائمة بالمتطلبات الضرورية التي يجب أن تحضرها مع بداية الفصل الدراسي في ١٦ أكتوبر، شملت هذه القائمة قناع غاز وكشافًا كهربائيًّا وأقمشة معتمة للنوافذ. ومع نهاية سبتمبر كانت الجامعة قد أصدرت بطاقة هوية وقسائم طعام لإنديرا.

وفي بداية أكتوبر قبل موعد عودتها إلى كلية سومرفيل بأسبوعين أصيبت إنديرا ببرد شديد سرعان ما تطور إلى نوبة حادة من مرض ذات الجنب. وارتفعت درجة حرارتها إلى ٣٩٫٥ درجة مئوية، وانخفض وزنها من اثنين وتسعين رطلًا إلى سبعة وسبعين رطلًا. كانت تعاني آلامًا حادة في صدرها الذي كان محتقنًا بالسوائل. تدبرت أجاثا هاريسون أمر نقل إنديرا في عربة إسعاف من قرية بن إلى مستشفى برينتفورد. وبناءً على ذلك ألغيت خطط عودة إنديرا إلى جامعة أكسفورد، ونصحها اختصاصي شارع هارلي الطبيب هارلي والطبيب بهانداري وجميع أطباء مستشفى برينتفورد بالذهاب إلى إحدى مصحات سويسرا حالما تتحسن حالتها بما يكفي لمغادرة المستشفى.

لم يأتِ أحد على ذكر مرض السل الرئوي، ولكن احتمال إصابتها بهذا المرض أقلق الجميع، وفي ذلك إنديرا نفسها. كانت أجاثا هاريسون تزور إنديرا يوميًّا في مستشفى برينتفورد، وفي مكاتبة سرية بين أجاثا هاريسون ومعاون غاندي — سي إف أندروز — تقول أجاثا: «إنديرا لا تزال مريضة … احتمال الإصابة (بالسل الرئوي) وارد … ولكنني أعتقد أنها إن حصلت على الرعاية الجادة الآن فستستعيد صحتها وتعود إلى سابق عهدها.» ولكن ليتحقق هذا كان على إنديرا الذهاب إلى سويسرا، وفي ذلك تقول أجاثا هاريسون لنهرو إن الحصول على تأشيرة الذهاب إلى سويسرا وتأشيرة الخروج من إنجلترا لم يكن وقتها بالأمر اليسير. أمضى فيروز — الذي وصفته أجاثا بأنه «مساعد مخلص كالكلب الوفي» — أيامًا كاملة بالمفوضية السويسرية، في حين حاولت أجاثا هاريسون ممارسة تأثيرها في مكاتب السفارة الهندية والحكومة البريطانية.90
تطلب كل هذا وقتًا طويلًا، فظلت إنديرا في مستشفى برينتفورد إلى يوم عيد ميلادها الثاني والعشرين؛ يوم ١٩ نوفمبر عام ١٩٣٩، ويومها سُمح لها بالنهوض والحصول على «أول حمام حقيقي» منتظم منذ مرضها منذ خمسة أسابيع. لم يُسمح لها بالبقاء طويلًا في الحمام، ولكن هذا الحمام ظل مع ذلك حدثًا جليًّا،91 إذ كان يحظر عليها مغادرة الفراش، حتى عندما تدوي صافرات إنذار الغارات الجوية.

وأخيرًا في أوائل ديسمبر كان جواز سفر إنديرا وتأشيرة خروجها من بريطانيا وتأشيرة دخولها إلى سويسرا جاهزين. أراد نهرو من إنديرا أن تذهب إلى دافوس حيث تقع أحداث رواية «الجبل السحري» للكاتب الإنجليزي توماس مان عن إحدى مصحات مرض السل الرئوي. ولكن غاندي كتب إلى أجاثا هاريسون والطبيب بهانداري أنه من الأفضل لإنديرا أن تذهب إلى مصحة الطبيب أوجست رولييه بقرية ليسين بين جبال الألب الفرنسية السويسرية. كان غاندي نفسه قد زار الطبيب رولييه في قرية ليسين عام ١٩٣١، وقد أثار إعجابه استخدام نظام الاستشماس (المعالجة بأشعة الشمس) لعلاج السل الرئوي، ويستلزم هذا النظام التعرض لساعات طويلة لأشعة الشمس طوال السنة، حتى في منتصف الشتاء. كان غاندي قد حاول قبل ذلك — ولكن بلا جدوى — أن ينصح بتجربة العلاج بالحمامات الشمسية مع كامالا، والآن كان يكرر لنهرو وأجاثا هاريسون النصيحة نفسها من أجل إنديرا. ومن ثَم استقر الرأي على اتباع نصيحة غاندي.

سافرت إنديرا وأجاثا جوًّا إلى باريس في صباح يوم ١٤ ديسمبر عام ١٩٣٩. استراحتا في أحد الفنادق ليوم كامل، وبعدها استقلتا القطار الليلي إلى جنيف. وفي وقت مبكر من يوم ١٥ ديسمبر سافرتا إلى ليسين، وهي قرية صغيرة في أعلى جبال الألب تشبه القرى المذكورة في قصص الأطفال. كانت آخر مرحلة في الرحلة استقلال قطار ذي عجلات مسننة لتسلق منحدرات جبال الألب مرورًا بأحزمة الأشجار إلى قمتي جبلي دنت دو ميدي ومون بلون ذوَي الحواف. ومع حلول الظلام وصلتا إلى عالم غارق في الثلج الأبيض والمرض والموت.

fig4
جواهرلال نهرو وكامالا نهرو يوم زفافهما ٨ فبراير ١٩١٦.
fig5
صورة في أحد الاستوديهات لإنديرا نهرو في عامها الأول مع والديها.
fig6
إنديرا في السادسة من العمر مع المهاتما غاندي عام ١٩٢٤. ويبدو غاندي هزيلًا وضعيفًا من أثر الصيام لكنه سعيد.
fig7
عائلة نهرو عام ١٩٢٩ تقريبًا، في الصف الأمامي: ساراب راني، وموتيلال وكامالا، وفي الصف الثاني: جواهرلال نهروفيجايا لاكشمي بانديت وكريشنا هاثيسينج وإنديرا ورانجيت بانديت.
fig8
جواهرلال نهرو وإنديرا (في الثالثة عشر من العمر) وكامالا نهرو في ثوب الخادي الأبيض الخاص بحزب المؤتمر أمام قصر آناند بهافان عام ١٩٣١.
fig9
منزل سواراج بهافان الفخم؛ مقر إقامة موتيلال نهرو المكون من اثنين وأربعين غرفة، حيث ولدت إنديرا يوم نوفمبر عام ١٩١٧.
fig10
قصر آناند بهافان الفخم، الذي كان ثاني أصغر مقر أقامت فيه عائلة نهرو، انتقل إليه موتيلال نهرو مع عائلته عام ١٩٣٠.
fig11
إنديرا (الخامسة من اليمين) وبعض الطالبات يحطن برابيندراناث طاغور في سانتينيكيتان.
fig12
إنديرا بشعر مموج بعد وقت قصير من وصولها إلى سويسرا مع والدتها المريضة ١٩٣٥.
fig13
نهرو وإنديرا التي تبدو نحيلة وتحيط الهالات الداكنة بعينيها في طريقهما إلى إنجلترا حيث ستلتحق بكلية سمرفيل في سبتمبر عام ١٩٣٧.
fig14
إنديرا (الثالثة من اليسار في الصف الرابع) مع زميلاتها في السنة الأولى بكلية سمرفيل في جامعة أكسفورد.