إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثامن

الجبل السحري

ما إن وصلت إنديرا مع أجاثا هاريسون إلى مصحة «لي فرين»1 التي تقع أعلى أحد تلال قرية ليسين حتى خلدت للنوم. وعلى عكس الغرف الضيقة التي نزلت بها في كلية سومرفيل كانت غرفتها في لي فرين متسعة ذات هواء طلق، ونوافذ طويلة وشرفة تطل على جبال الألب. وفي الغرفة المجاورة لها كان يقيم زوجان هنديان ودودان من بومباي هما السيدة نانافاتي وزوجها المريض بالسل الرئوي. وفي اليوم التالي جاء الطبيب رولييه — وهو رجل متورد الخدين في الستينيات من عمره لم يسئ أبدًا إلى مريض — وفحص إنديرا. وأخبرها أنها غير مصابة بمرض، وإنما بندبة من أثر مرض ذات الجنب، لكن أقلقه «ضعفها الشديد»، الذي ظهر في «نحولها وافتقارها إلى العضلات». أوصاها مبدئيًّا بأن تلزم الراحة التامة في الفراش لثلاثة أشهر، وأشار بسرور إلى أن جميع أسرَّة مصحة لي فرين مزودة بعجلات، وأن إنديرا لن تضطر للبقاء وحيدة في غرفتها. كانت أبواب المصحة وأروقتها الواسعة قد صُممت خاصة للسماح للمرضى طريحي الفراش بالتنقل بأسرتهم للاختلاط بالآخرين.
وعندما انفرد رولييه بأجاثا هاريسون أطلعها باختصار على نظامه المعتاد في علاج السل الرئوي، الذي ستتبعه إنديرا، فقال إنه يشمل: «العلاج بالاستشماس، والراحة وممارسة التمارين لتقوية عضلات الصدر، والتغذية الجيدة». ظلت أجاثا مع إنديرا في ليسين لثلاثة أيام لتساعدها على الاستقرار في المصحة. فاشترت لها مذياعًا «لتظل على اتصال بالعالم»، واقترحت عليها أن تعكف على تأليف كتاب يضم رسائلها إلى أبيها، تتمة لكتابه «رسائل من أب لابنته». وفي الليلة السابقة على مغادرة أجاثا انهارت إنديرا وأعلنت أنها تشعر بأنها «حبيسة» المصحة. غير أن أجاثا كتبت إلى نهرو تطمئنه أنها تركت إنديرا في اليوم التالي مسرورة وهي في فراشها مرتدية «كابًا صوفيًّا بلون أحمر متوهج … كانت قد حاكته بنفسها».2
وبعد مغادرة أجاثا كتبت إنديرا برضا إلى أبيها في ٢١ ديسمبر تقول:
«هذا المكان ليس سيئًا على الإطلاق؛ فالغرف أنيقة جدًّا ومريحة والطعام طيب جدًّا. أقيم في غرفة باهظة إلى حد ما … بشرفة تطل على منظر رائع لجبل دنت دو ميدي. هذا المنظر تنعكس صورته في مرآة غرفتي أيضًا … وبهذا فإنني أراه بالفعل على كلا جانبي … ستعجب بالطبيب رولييه إن التقيته … فأجاثا كانت شديدة الإعجاب [به] … إنه يريدني أن أمكث هنا نحو ثلاثة أشهر، وقد وعد بأنني سأصبح بعدها مثالًا للصحة الجيدة! قال لي الطبيب رولييه: «أنت كالسيارة المتقنة الصنع، كل ما فيها من محرك وإطارات سليم، ولكن ينقصك الوقود الذي يساعدك على الحركة.» إنه يؤمن بأهمية ممارسة التمارين، كتمارين التنفس وما إلى ذلك … ويقول إن رئتي اليسرى أصغر بكثير من اليمنى … ولا يسعنا فعل شيء إلى أن يزداد حجمها بمساعدة تمارين التنفس … وهو يؤمن كذلك بالعلاج بالشمس … وبأهمية العمل اليدوي في تحسين الصحة، لذا من الجيد أنني تعلمت الحياكة … أملك جهاز راديو … وإلى الآن لا يصلني بالعالم خارج المصحة سوى الصوت الحاد للمذيع الألماني بمدينة بريمن وهامبورج … والأخبار بإذاعة بي بي سي.»3

كانت شكوى إنديرا الوحيدة هي أنها كانت تُنقل بسريرها إلى شرفة غرفتها لتمضي وقتًا طويلًا من النهار، حيث لا يساعد البرد الشديد على الكتابة أو الحياكة أو حتى قراءة كتاب.

ولكن ما نوع العالم الذي كان يحتجز إنديرا؟ حتى أواخر القرن التاسع عشر كانت ليسين الواقعة في أعالي جبال الألب فوق وادي الرون قرية زراعية صغيرة نائية. وكانت ستظل مغمورة تمامًا لولا قيام العالم الإنجليزي توماس مالتوس — قبل مائة عام — بإفراد ست صفحات كاملة في كتابه الشهير «مقال في مبدأ السكان» للحديث عن مناخ ليسين الصحي وارتفاع متوسط أعمار سكانها. وفي العقد الأول من القرن العشرين تحولت ليسين إلى مقصد رائج لمرضى السل الرئوي، وعام ١٩٣٩ كان عدد سكان ليسين قد وصل إلى ٥٦٩٨ نسمة، من بينهم ثلاثة آلاف مريض موزعين على سبعين عيادة ومصحة. كانت ثماني عشرة عيادة ومصحة منها يملكها ويديرها الطبيب أوجست رولييه، المدير العبقري لشئون لي فرين؛ أكبر وأفخم مصحة.

في عام ١٩٠٣ قدَّم الطبيب رولييه — الذي كان جراحًا شابًّا في ذلك الحين — إلى ليسين مع خطيبته التي كانت تعاني سلًّا رئويًّا. وكان مرض خطيبته هو السبب فيما أصبح عليه. عندما شفيت خطيبته من السل الرئوي تزوجها وتحول من جراح إلى اختصاصي سل، وصار مناصرًا قويًّا وداعيًا ناجحًا بدرجة كبيرة إلى الانتفاع من الهواء الطلق والعلاج بالشمس — أو الاستشماس — في علاج السل الرئوي، نال درجة الأستاذية، وأدخل برامج علاجية أخرى حديثة إلى جانب نظام العلاج بالشمس مثل تمارين التنفس، وحركات الرقص الحديث الخاصة بالراقصة مارجريت موريس (التي تُمارس في الفراش) ونظام التغذية النباتية، والعلاج الوظيفي من نسج السلال والحياكة وأشغال الإبرة والطباعة. ووعد — وادعى — أن تحقق هذه الأنواع من العلاج معدل شفاء مرتفعًا.4
في الواقع كان السل الرئوي لا يزال إلى عام ١٩٣٩ يسمى «بالطاعون الأبيض»؛ فقد كان مرضًا عضالًا تسبب في قتل ما لا يقل عن مليون شخص سنويًّا في أوروبا وحدها.5 في عام ١٨٨٢ تمكن عالم ألماني يدعى «روبرت كوخ» من عزل بكتيريا السل العصوية، ولكن قبل اكتشاف المضادات الحيوية في الأربعينيات لم يكن السل الرئوي مرضًا يمكن اتقاؤه أو إضعافه أو علاجه. كان هذا المرض ينتشر في المناطق القذرة والمزدحمة التي تفتقر إلى الظروف الصحية الملائمة، لذا كان ضحاياه الأساسيون من الفقراء. وكان المرضى الموسرون — أمثال إنديرا نهرو — يسافرون إلى المصحات الجبلية، «كلاجئين إلى الإشراف الطبي»، حيث يخضعون لعلاج من الراحة التامة والتغذية المكثفة.6 كان المنطق الطبي وراء هذا العلاج هو أنه يحسن عمل الرئة ويمكنها من شفاء نفسها. كانت إضافة رولييه الفريدة لعلاج الاستشماس إلى أساليب معالجة السل الرئوي نابعة من اكتشاف أن أشعة الشمس تقتل بكتيريا السل العصوية. وصحيح أن أشعة الشمس كانت تخفف من حدة السل، بل تقضي عليه أحيانًا في الجلد وغيره من أجزاء الجسم المعرضة لها. لكنها كانت تعجز عن الوصول إلى الرئتين، وكانت ثلث حالات السل لدى رولييه لمرضى بالسل الرئوي.7
بنى رولييه — المعروف باسم «طبيب الشمس» — مصحة لي فرين عام ١٩١١ لتكون نموذجًا لمصحة العلاج بالاستشماس، ولكنها لم تكن تدعى مصحة. ولم تكن أي مصحة في ليسين تدعى بذلك أيضًا. كانت أغلب المصحات والعيادات في ليسين تسمى من باب التخفيف ﺑ «الفنادق» (مثل جراند هوتيل، وبيلفيدير هوتيل، وشاموسير هوتيل)، ولم يمنع هذا أن تتخذ بعض المصحات لها أسماء جذابة ورنانة مثل لي فرين (أي أشجار الدردار، إشارة إلى نوع الشجر الذي أحاط بها). ومما لا شك فيه أن لي فرين برواقها (الذي كانت تعرض فيه الأفلام وتقام فيه الحفلات الموسيقية وغيرها من الأنشطة الترفيهية) وحجرة طعامها وصالون السيدات وحجرة التدخين وقاعة البلياردو كانت أشبه بالفنادق الراقية منها إلى المستشفيات. فغرف الاستشارات والمعمل وغرف العمليات الصغيرة وقسم الأشعة تختبئ جميعًا في أحد أجنحة المصحة. وكانت غرف المرضى الفاخرة تقع في جناح آخر. كانت المصحة بأكملها مزودة بنظام التدفئة المركزية وذات نوافذ كبيرة تتدفق منها أشعة الشمس التي اشتهرت بها ليسين. وكان لأغلب غرف المرضى شرفات واسعة، حيث كانوا ينقلون يوميًّا لقضاء عدة ساعات من التعرض لهواء جبال الألب البارد وأشعة الشمس. وباستخدام مصعد كهربائي بإمكان المرضى الصعود إلى السطح، حيث توجد مَشْمَسَة كبيرة تطل على جبال الألب من كل اتجاه. تكلفت إنديرا مبلغًا باهظًا يبلغ ٢٥ فرنكًا في الليلة لتحصل على غرفتها ذات التدفئة المركزية (مع أن رولييه كان يصر على أن تبقى الغرف باردة والنوافذ مفتوحة أغلب اليوم) وأربع وجبات كبيرة يوميًّا إلى جانب الرعاية الصحية من الطبيب رولييه وطاقمه الطبي. كانت فحوصات الأشعة السينية والأنشطة كتمارين الرقص الخاصة بمارجريت موريس ودروس الطباعة تكلف مبالغ إضافية.8
كانت مصحة لي فرين كغيرها من مصحات مكافحة السل — كما جاء في وصف أحد المؤرخين — مكانًا «للآمال المؤجلة». وكان جوها العام مربكًا وغير معتاد، تبدو فيه الكثير من الأشياء على عكس حقيقتها. كانت مصحات علاج السل آنذاك تبدو في ظاهرها كمنتجعات عصرية، «حيث يلتقي المرء بأناس من طبقات راقية … وقد مكث فيها كثيرون لسنوات. وألفوا جماعات غريبة من مختلف الأجناس أغلبها من الشباب من الجنسين.»9 ولكن بعيدًا عن المظاهر كان أفراد هذه الجماعات يعانون غالبًا من عقدة المجذوم. كان السل مرضًا معديًا، لذا كانت الإصابة به وصمة. وكانت مصحة لي فرين كأغلب المصحات منعزلة جغرافيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا عن «العالم الواقع أسفلها».10 كذا كان نزلاؤها منعزلين عن الحياة القروية في ليسين. وكان المرضى فيها يلازمون الفراش لشهور وأحيانًا لسنين. ومع الوقت يصبحون مهووسين بدرجة حرارتهم (التي كانت تقاس أربع مرات يوميًّا) ووزنهم (المراقب بدقة). أما إحساسهم بالزمن فقد كان مشوهًا على نحو غريب، وبدا لهم لا متناهيًا ومتناهيًا في الوقت نفسه. كذلك كان إدراكهم الحسي مبالغًا من أثر مجيء الحمى ورواحها. وكان الطبيب رولييه وغيره من الأطباء نادرًا ما يذكرون كلمة «السل» المخيفة، هذا إن نطقوا بها. ذلك لأن السل كان يرتبط في الأذهان بالفقر والقذارة والافتقار إلى العادات الصحية المناسبة و«الدماء الفاسدة» (فكان يعتقد أنه وراثي)، والمصابون به يحاولون إخفاء إصابتهم بادعاء الإصابة بأمراض أقل ترويعًا وذات أعراض شبيهة، كذات الجنب على سبيل المثال.11
مع وجود هذه المصحات الكثيرة التي يعاني أكثر من نصف نزلائها السل «كانت قرية ليسين كلها مستشفى».12 ولكن مصحة لي فرين تميزت عن باقي المصحات لعدة أسباب. فقد كانت أرقى وأكثر مراكز العلاج في قرية ليسين تكلفة. وعندما كان المهاتما غاندي يجوب سويسرا عام ١٩٣١ زار لي فرين. وكان مبهورًا بالمداواة وأساليب العلاج المعتمدة على «الطبيعة»، وأراد أن يتعرف على نظام العلاج بالشمس الذي يقدمه الطبيب رولييه. وبعد زيارة غاندي للي فرين وثنائه عليها اجتذبت هذه المصحة أعدادًا هائلة من المرضى الهنود من بينهم أمير هندي شاب وصل مع كامل حاشيته، واستأجر طابقًا كاملًا من المصحة. وأخيرًا فقد انفردت لي فرين عن غيرها من المصحات لكونها تضم العديد من حالات السل غير الرئوي.13 شملت هذه الحالات سل العظام أو المفاصل أو الغدد أو الأطراف. كان مرضى السل الرئوي يتسمون عادة بالنحافة الرائجة، وبلون شاحب جذاب يزيد من حدته تورد الوجه من أثر الحمى. أما مرضى السل غير الرئوي فمظهرهم مشوه عادة بالعرج أو الإصابات القبيحة. وهؤلاء مثلوا نسبة كبيرة من مرضى لي فرين، ولأنهم كانوا يتبعون نظام رولييه العلاجي الذي يقضي بتعريض الجسم بالكامل لأشعة الشمس لفترات طويلة بمختلف الأحوال الجوية فقد كانوا في الغالب يتخففون جدًّا في ثيابهم، وبالتالي لم يكن بمقدورهم إخفاء تشوهاتهم.

•••

وفي أوائل يناير عام ١٩٤٠ كتبت إنديرا إلى نهرو أنها صارت تزن أربعة وثمانين رطلًا فقط، في حين أخبرها الطبيب رولييه بأنها يجب أن تزن على الأقل مائة وعشرة أرطال ليتناسب وزنها مع طولها الذي يبلغ خمس أقدام وبوصتين. لم تكن قد غادرت الفراش منذ وصولها إلى لي فرين، وبدأت تشعر بالإحباط. فكتبت إلى نهرو تقول: «كلما زاد مكوثي في الفراش زاد شعوري بالضعف، وقلت رغبتي في عمل أي شيء. تمضي الأيام برتابة مخيفة إلى أقصى حد، خاصة مع عدم وجود من يمكنني التحدث إليه.»14 كان جيرانها الودودون في الغرفة المجاورة — آل نانافاتي — قد رحلوا إلى مصحة أخرى بمونترو، وظلت إنديرا منعزلة عن بقية المرضى، وكان ذلك يرجع إلى حد ما إلى تداول نزلاء المصحة لمقال كتبه جون جونثر في مجلة «لايف» بعنوان «نهرو الهند» الذي تضمن صورًا لعائلة نهرو، الأمر الذي أشعر إنديرا بالخجل.
وصف الطبيب رولييه لإنديرا علاجًا يقضي بممارسة تمارين التنفس واتخاذ «وضعية الاستلقاء» التي تطلبت من إنديرا الاستلقاء على بطنها متكئة على ساعديها ومرفقيها ورافعة صدرها ورأسها. كانت هذه وضعية مناسبة للقراءة في الفراش، لكن لم تفلح وضعية الاستلقاء ولا تمارين التنفس في تحسين كفاءة رئتها أو في تخفيف آلامها الصدرية. ولم تشعر أنها أحسن حالًا بحلول فبراير. ففي التاسع من الشهر نفسه بعد قرابة شهرين من دخولها مصحة لي فرين كتبت إلى أبيها تقول: «لا يبدو أنه يوجد تقدم ظاهري في حالتي»، لكنها أضافت: «ولكنني بالطبع لا أعرف شيئًا عن حالة رئتي، فكل ما أعرفه هو أن آلام رئتي اليسرى لا تزال مستمرة.»15
لم يناقش رولييه إنديرا صراحة في حالتها أو المنحى الذي يتخذه مرضها. كانت إنديرا تقيم في مصحة شهيرة، يحيطها السعال ومرضى السل المشوهين من كل جانب. ومع هذا لم يكن الأطباء لينطقوا بكلمة «سل» قط. وكان هذا التكتم مقصودًا حسبما كان شائعًا وقتها. كان المنطق وراء هذا الغموض الطبي من الأطباء والممرضين هو خوفهم من أن يفقد المريض عزيمته على البقاء إذا علم أنه مصاب بمرض قد يتسبَّب في موته. ولكن تجنب مواجهة الحقيقة كان ذا أثر سلبي في حالة إنديرا وكثير من المرضى. فإنديرا تعلم أن والدتها توفيت بمرض السل، وأنها قد تعرضت لفترة طويلة للجراثيم المسببة للسل خلال مرض كامالا. كانت تعي جيدًا الأعراض التقليدية لهذا المرض، وتدرك أنها مصابة بالكثير منها: مثل فقدان الوزن والتعرق الليلي والسعال وصعوبة التنفس. هذا بالإضافة إلى أنها أدركت أن برنامج رولييه العلاجي في واقعه نفس العلاج الذي تلقته كامالا. حتى إن رولييه قد قلص بالفعل من فترات علاجها بالحمامات الشمسية، وفي الوقت نفسه حرص على أن تتعرض كثيرًا للهواء البارد المنعش. وفي هذا الصدد كتبت إنديرا إلى أبيها تقول: «من المعروف — حتى لأنصار العلاج الشمسي كالأستاذ رولييه — أن الشمس مضرة للرئة الضعيفة. لذا يسمح لي بأخذ حمام شمسي بمنطقة أسفل الردفين فقط لمدة لا تتجاوز النصف ساعة.»16 يقول رولييه في كتابه الشهير الذي حمل اسم «العلاج بأشعة الشمس» والذي يدرس في الجامعات إن «العلاج بالشمس» لا ينصح به للحالات المتأخرة من السل الرئوي التي تعاني الحمى، وفي لي فرين كثيرًا ما أصيبت إنديرا بالحمى.17
وكانت إنديرا ونهرو يسايران رولييه إلى حد ما في خداعه، فهما بدورهما لم يأتيا على ذكر كلمة «السل» في أي من رسائل أحدهما للآخر خلال المدة التي مكثت فيها إنديرا في لي فرين. كادت إنديرا تخبر فيروز بالحقيقة كاملة في رسائلها إليه، أما في رسائلها إلى والدها فلم تكتب إلا عن فقدانها الدائم للوزن واكتئابها المتزايد. فكتبت إليه عن الظلمة والكآبة اللتين ملأتا أفكارها. كانت تشعر بالضجر من ملازمة الفراش والمعاناة من الوحدة القاتلة. وحتى المناظر الطبيعية المؤثرة التي كانت تحدق فيها لساعات صارت تبدو لها كئيبة، ففي وصفها لها تقول إن «الشوارع غارقة في الوحل، والأشجار موحشة تعرت من أوراقها … وأسوأ ما في المنظر هو الضباب الكثيف … الذي يتصاعد من الوادي» ليحجب الجبال «ويلف كل شيء بالغموض».18
رأت سوزان رولييه — ابنة رولييه الصغرى التي كانت تدرِّس لإنديرا تمارين الرقص الحديث في الفراش مرة كل أسبوع — أن إنديرا متحفظة جدًّا، بل يصعب التقرب إليها. كانت إنديرا وسوزان في العمر نفسه تقريبًا، وسوزان مثل إنديرا عادت لتوها من إنجلترا حيث درست هناك الرقص الحديث لثلاثة أعوام في مدرسة موريس مارجريت للرقص، ولكنها لم تصبح هي وإنديرا صديقتين. كانت إنديرا — على حد وصف سوزان — «مغتمة جدًّا وحزينة» و«ميالة بشدة إلى العزلة»؛ إذ تتجنب المرضى الآخرين، وفيهم الهنود الذين كثروا بعد مغادرة آل نانافاتي للي فرين. لم تكن سوزان وطاقم التمريض الذي يضم أختها «أوديت» على علم بأن والدة إنديرا توفيت تأثرًا بإصابتها بمرض السل (مع أن الأستاذ رولييه كان حتمًا على علم بذلك)، ولم يعلمن أيضًا أنها تركت خطيبها في إنجلترا. ففيروز لم يزرها في لي فرين قط، ولم يزرها غيره، باستثناء شخص أو اثنين.19

كان من بين زوار إنديرا النادرين ليدي هيمرلين، ناظرتها السابقة ببيكس الواقعة في الوادي أسفل قرية ليسين. لم يكن لدى إنديرا سوى القليل لتقرؤه؛ إذ لم يتسنَّ لها إحضار أي كتب من إنجلترا. فطلبت من ليدي هيمرلين أن تعيرها كتاب نهرو «لمحات من تاريخ العالم»، وأخذت تقرؤه «من البداية» للمرة الأولى منذ نشره قبل خمس سنوات. كانت تعكف على قراءته بنهم كل يوم بعد الظهيرة وهي متخذة وضعية الاستلقاء على البطن في سريرها بشرفة غرفتها، فكان يخرجها من عالم لي فرين المنغلق، ويصلها بالعالم الخارجي ووالدها والهند.

لكن معنوياتها ظلت منخفضة جدًّا. شعر رولييه بالقلق من انخفاض وزنها المستمر — فقد صارت أقل من المطلوب بثلاثين رطلًا — فقرر دعم «عملية علاجها بالطبيعة» بإعطائها جرعات منتظمة من زيت كبد الحوت، وحمض الفيتيك الذي ذكرت إنديرا أنه قد ساعد في فتح شهيتها بعض الشيء. ووصف لها الطبيب رولييه إحدى طرق علاج السل القديمة، وهي «الحجامة» التي شاع استخدامها في القرن التاسع عشر. ولا عجب في أن إنديرا رأت أن هذا العلاج «لم يحدث ولو فارقًا ضئيلًا».20 فهي مريضة تحرص على اتباع العلاج بحذافيره؛ فكانت ترغم نفسها على تناول الأطباق الشهية والدسمة التي تأتي إليها في فراشها على صينية، وتتمدد على الفراش في وضعية الاستلقاء على البطن، وتتحمل البرد القارص في غرفتها، والصقيع في شرفتها، ولكن كل هذا لم يثمر إلا القليل. وفي هذا كتبت إنديرا إلى أبيها في أواخر فبراير تقول: «أمضيت شهرين في قرية ليسين، وأربعة ونصف في الفراش (مشيرة إلى المدة التي أمضتها في مستشفى برينتفورد). عندما وصلت إلى هنا في البداية حدد الطبيب رولييه لي مدة لا تتجاوز الثلاثة الأشهر … لأسترد عافيتي. أعتقد أن هذه المدة قد طالت … لو أنني رأيت أو شعرت فقط — أو لو رأى أو شعر الطبيب رولييه حتى — بأي تحسن في حالتي لكان بقائي في الفراش وكل شيء آخر غير مهم. لكنني أقول لو.»21

ومع مرور الوقت وامتداد الطريق إلى الأمل بلا منتهى بدأ القلق ينتاب إنديرا إزاء تكاليف علاجها الباهظة. إذ بلغ متوسط تكلفة علاجها الأسبوعية ١٨٠ فرنكًا. فأخبرها نهرو بألا تقلق لأن علاجها استثمار في مستقبلها وأن صحتها لا تُقدَّر بثمن. ولكن هو نفسه كان قلقًا. كان كريشنا مينون قد أخبره بأن الدار الناشرة لكتبه في لندن، دار ذا بودلي هيد، قد آلت إدارتها إلى إدارة أموال التفليسة، وأنه لن يحصل مستقبلًا على أي إيرادات من مبيعات مؤلفاته، وكان نهرو يسدد فاتورة علاج إنديرا من هذه الإيرادات.

كان رد فعل نهرو إزاء اكتئاب إنديرا ينم عن شهامة مماثلة لتلك التي صرف بها مخاوف إنديرا المالية. إذ أرسل إليها طردًا من الكتب، واقترح عليها أن يرسل لها تاكلي (مغزلًا) لتغزل عليه. كان نهرو مثل غاندي يجد الغزل «مريحًا جدًّا» للأعصاب، فأمل أن يهدئ الغزل من مخاوف إنديرا الصحية والمالية. فهو يقول لإنديرا: «مارسي الحياكة كما كنت تفعلين في إنجلترا. أو استمتعي بعمل أشغال يدوية بالورق المقوى. سمعت أن الأطفال في مدارس التعليم الأساسي يصنعون صناديق جميلة وأشياء أخرى باستخدام الورق المقوى. إنها وسيلة مشوقة لقضاء الوقت.» وأضاف بلا داع أنه في الوقت الذي أخذ فيه وزن إنديرا في الانخفاض مهما أكلت أخذ هو في الامتلاء على نحو قبيح. فيقول: «منذ بضعة أيام … وزنت نفسي، وصعقت عندما اكتشفت أن وزني وصل إلى ١٤٣ رطلًا … أي أكثر بثلاثة أرطال من أثقل وزن وصلت إليه.»22

•••

وفي أوائل مارس شعرت إنديرا أنها أفضل بعض الشيء، وسمح لها رولييه بمغادرة الفراش والسير لربع ساعة في وقت العصر في المشمسة على السطح، ثم الجلوس في الاستراحة في الطابق السفلي. وسمح لها أيضًا بأن تأخذ حمامًا حقيقيًّا مرة كل أسبوع. وصار يومها يسير على نفس نظام المرضى المسموح لهم بالمشي كالتالي: الإفطار في السابعة والنصف، ثم الاستلقاء على البطن في السرير في شرفة الغرفة صباحًا، يعقبه احتساء الشاي في الحادية عشرة صباحًا، ثم تناول الغداء في الواحدة بعد الظهر، وبعد ذلك يأتي دور «علاج الصمت» من الثانية إلى الرابعة بعد الظهر، وفي أثنائه ترقد إنديرا بلا حراك على الفراش في غرفتها. ويمنع الكلام أو القراءة في هذا الوقت، ولضمان هدوء المكان كان الطريق أمام المصحة يغلق لساعتين، ويمنع المزارعون المحليون من العمل في الحقول القريبة من لي فرين. وفي الرابعة بعد الظهر يقدَّم الشاي، ثم في الرابعة والنصف تذهب إنديرا للتمشية قليلًا، وبعدها تجلس في الاستراحة لتحيك حتى السادسة مساءً. يعقب ذلك تناول العشاء في السابعة، وبعده تستمع إنديرا إلى الراديو. وعندما يحين موعد النوم أخيرًا في التاسعة يؤتى إليها بكوب من الحليب على صينية. وبعدها تُظلم ممرات المصحة طوال الليل، وتطفئ إنديرا نور المصباح المجاور لسريرها وتحاول النوم. مرت إنديرا هناك بليالٍ سيئة؛ إذ كثيرًا ما تستيقظ شاعرة بالظمأ الشديد والسخونة من أثر الحمى.23

وسرعان ما اكتشفت إنديرا أن النظام اليومي الذي يتبعه المرضى القادرون على المشي في لي فرين بنفس رتابة الشهور التي مكثتها في الفراش. فلكي يصبح المريض قادرًا نفسيًّا على الحياة في المصحة، عليه الاختلاط بغيره من المرضى وممن هم في المصحة؛ لبناء العلاقات أو الاستماع إلى القيل والقال أو تكوين مشاعر قوية تجاه الممرضين والأطباء. باختصار كان عليه أن يدير ظهره للحياة خارج المصحة، وينظر بجدية إلى الحياة بداخلها، وهو ما لم تتمكن إنديرا من فعله. فلم تكن مهتمة بما يجري بلي فرين. ولم تكوِّن صداقات وطيدة هناك. وأهم ما يشغلها هناك هو استلام خطابات — فيروز من لندن ونهرو من الهند — والاستماع إلى نشرات أخبار هيئة الإذاعة البريطانية.

غير أن موعد وصول البريد كان غير ثابت، فقد تمر عليها أيام، بل أسابيع دون أن تردها أي رسائل. أما نشرات الأخبار فتذاع عدة مرات يوميًّا وإنديرا تتابعها عن كثب. وفي أوائل ربيع عام ١٩٤٠ بدأت ملامح الحرب الزائفة تنقشع. ففي نوفمبر عام ١٩٣٩ قام الاتحاد السوفييتي — الذي كان قد وقع معاهدة عدم اعتداء مع ألمانيا النازية — بغزو فنلندا، وانتصر عليها في نهاية الأمر بعد أن خرج ظافرًا من حرب الشتاء الشرسة في مارس عام ١٩٤٠. فكتب نهرو في الهند مقالًا بجريدة «ناشيونال هيرالد» يتعاطف فيه مع الشعب الفنلندي في محنته. وأرسل لإنديرا القصاصة التي تحوي المقال. عارضت إنديرا آراءه في المقال بشدة وفندت الأسباب في خطاب مطول أرسلته إليه. في الخطاب حمَّلت إنديرا سياسة بريطانيا الخارجية على مدى ثماني سنوات مسئولية التسبب في تحالف روسيا مع ألمانيا وغزو فنلندا. كانت تتبنى وجهة نظر متعصبة ومؤيدة للاتحاد السوفييتي ترى أنه لا يزال يعارض النازية والإمبريالية، وأن مطالبه تجاه فنلندا كانت مبررة. وأدانت أيضًا السياسة البريطانية التي أيدت فنلندا عسكريًّا في الوقت الذي رفضت فيه تقديم العون في السابق لإسبانيا الجمهورية. تقول إنديرا: «هل كان سبب [امتناع بريطانيا عن مساعدة إسبانيا] هو أن فرانكو — كما وصفته ليدي إيرونسايد في حفل معين [حفل اللورد لوثيان] — رجل شديد التهذيب؟»

كان كلام إنديرا هذا تمهيدًا — ليس إلا — للفكرة الرئيسية في خطابها. فقد ذكَّرت نهرو في الخطاب بقيام قوات الجناح الأيمن الفنلندية بقيادة البارون مانرهايم بقمع وذبح ١٥ ألف شيوعي في إحدى الثورات الشيوعية عقب الحرب العالمية الأولى. واستطردت تقول ساخطة: «هذه هي الديمقراطية التي تمد لها قوى العالم الإمبريالية يد العون … كل هذا الكلام عن فنلندا المسكينة يشعرني بالاشمئزاز. فهل يقلل صغر حجم دولة من حجم الجرائم التي ترتكبها حكومتها، فتصبح ممارساتها القمعية والدكتاتورية أقل وطأة وحدَّة؟»24

لم تظهر هذه الرسالة مدى حرص إنديرا على متابعة تفاقم الموقف الأوروبي المشتعل فحسب، بل كانت أيضًا إشارة واضحة إلى أحد المواقف الفكرية التي اختلفت فيها إنديرا مع أبيها. مما يدل على أن لاسكي ومعجبي نهرو الآخرين في لندن كانوا مخطئين بشأن إنديرا. فهي أكثر من مجرد مردد ضعيف لآراء أبيها. في هذا الخطاب وقفت إنديرا على طرف النقيض من نهرو. وقد ظهر اعتدادها برأيها بوضوح من قبلُ عند اعتراضها على زيارة لوثيان، الزيارة التي لم تتوقف عن الشكوى منها كما هو واضح من إشارتها إلى ليدي إيرونسايد في الخطاب. غير أنها كانت لا تكتفي بالتعبير عن مقتها لتشمبرلين فحسب، بل تتكلم بسخرية عن السيد «أتلي» وأعضاء حزب العمال الذين أسمتهم خلفاء «هيو دالتون» في العالم. فمن وجهة نظرها، لم تكن بريطانيا الاستعمارية تستطيع أن تفعل شيئًا بطريقة صحيحة وسرعان ما ستجر الهند إلى الحرب.

ولم يكن واضحًا إلى أي مدى كان ميل إنديرا إلى التعاطف مع الشيوعية واليسارية مبنيًّا على تفكير ودراسة واعية. فهي شديدة التأثر بفيروز وأصدقائه وزملائه الراديكاليين في لندن، الذين أكثرهم من الشيوعيين. كان استياء أهل الفكر من سياسات روسيا وستالين قد بدأ بلا شك عام ١٩٣٩، لكنه لم يسرِ إلى كل اليساريين. وإنديرا — مثلها مثل العديدين من أعضاء الرابطة الهندية — لا تزال تؤمن بالاتحاد السوفييتي، حتى بعد محاكمات ستالين الصورية، وتحالف الاتحاد السوفييتي مع النازية. بدا الاتحاد السوفييتي برئاسة ستالين هو البديل الوحيد في ضوء أن أفضل ما قدمته الديمقراطيات البرلمانية هو ما أسمته إنديرا ﺑ «الإمبريالية العالمية» وتشمبرلين وسياسات التهدئة. وحسبما ذكر أحد المؤرخين ظل عدد لا بأس به من أنصار مؤيدي الشيوعية على ولائهم للاتحاد السوفييتي، وقد أسدت «مكانة مفكري الغرب — وسذاجتهم — خدمة كبيرة لستالين».25
لم يرد نهرو على خطاب إنديرا عن روسيا وفنلندا، ولكنه كتب إليها في النهاية عن اكتئابها في مصحة لي فرين، أو بالأحرى عن عجزه عن نصحها بما يجب عليها فعله. فيقول عن حياته الحافلة بالأنشطة المستمرة والتنقل بين الحشود «… ربما جعلني ذلك أفهم الحشود بعض الشيء … [لكنني] ما زلت غير قار على فهم الأفراد.» فلطالما ضحى بعلاقاته الشخصية ليكون على قدر مسئولياته السياسية، مما أشعره بأنه «فشل في أصعب اختبارات الحياة»، ويستطرد: «لقد طاردني هذا الإحساس بالفشل في كل ما أقوم به. فإذا كانت ثقتي بنفسي ضعيفة إلى هذا الحد، كيف لي أن أنصح أي شخص؟ … لذا اعلمي يا عزيزتي أنني آخر من يمكنك طلب نصيحته. سأهبك أي شيء فور أن تطلبيه، ولكن لا تأتيني طلبًا للنصيحة، فأنا مشوش البال، يعوزني صفاء الذهن.»26 كان نهرو أكثر صراحة في هذا الصدد مع كريشنا مينون عندما اعترف له قبل شهور بأن «عقله معتل جدًّا».27 آلم هذا الخطاب إنديرا، لكنه أقلقها بدرجة أكبر، فكتبت تقول: «لقد أذهب عني (خطابك) أي صفاء أو سعادة شعرت بها. وملأني بالحزن، وفوق كل شيء ملأني بالرغبة الشديدة لأكون معك.»28

في ربيع عام ١٩٤٠ كان نهرو في الخمسين، في حين كانت إنديرا في الثانية والعشرين من العمر، فهو من ناحية عالق في أواسط العمر، وهي من الناحية الأخرى كانت نظريًّا في مقتبل العمر، ولكنها تعيش في انتظار «الآمال المؤجلة». كان العالم على شفا الحرب، وفي الهند بدا الاستقلال أملًا بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى، فقد اختلف أعضاء حزب المؤتمر فيما بينهم، واشتد خلافهم بدرجة أكبر مع حزب الرابطة الإسلامية الذي ينتمي إليه محمد علي جناح. ولكل هذه الأسباب كان كلٌّ من إنديرا ونهرو مستغرقًا في مشاكله الخاصة وغير قادر على عون الآخر؛ فمن ناحية يشعر نهرو بالفشل، ومن الناحية الأخرى إنديرا حزينة على فراقه. وكانت عدم قدرتهما على التواصل أحدهما مع الآخر آنذاك بمنزلة نقطة تحول في علاقتهما. فلم يكونا يتصارحان أو يفضيان أو يركن أحدهما إلى الآخر بذات الدرجة مجددًا. فمنذ تلك اللحظة حرصا على ألا ينقضا ميثاقًا ضمنيًّا بينهما بألا يتصارحا.

ولكن ماذا عن فيروز؛ هل كان بمقدوره أن ينجح حيث فشل نهرو؛ هل استطاع أن يمنح إنديرا الأمل أو يسرِّي عنها؟ على الأرجح أنه حاول، غير أن رسائله إلى إنديرا خلال تلك المدة — وبعدها — تتسم بالتحفظ، مما يستدعي التأمل في طبيعة ومدى دعمه لإنديرا.29 لا شك أن ابتعاد فيروز عن إنديرا قد آلمها جدًّا، ومن المؤكد أن عدم وصول الرسائل بانتظام كاد يدفعها إلى الجنون. غير أن فيروز قد أظهر بلا شك تفهمًا لوضع إنديرا وحاول التسرية عنها. وحتى مع بداية الحرب بدا لفيروز المتفائل أن علاقته بإنديرا ذات مستقبل مشرق وواعد. لكن من الناحية الواقعية كان شبح مرض إنديرا يمثل تهديدًا خطيرًا لعلاقتهما. وأسوأ ما قد يحدث هو أن تموت إنديرا كوالدتها. وحتى إن بقيت على قيد الحياة فقد يظل مرضها الموهن المزمن يعتصرها. لذا كان مرضى السل يُنصَحون بعدم الزواج، وإن كانوا متزوجين بالفعل يُنصَحون بعدم الإنجاب. وآنذاك كانت إنديرا ترغب في كل من الزواج والإنجاب بشدة. وقد دل تفاني فيروز في مساعدة كامالا في الهند وسويسرا على أن مرض إنديرا لم يكن ليجعله يتراجع عن عزمه على الزواج منها. لكن المسألة لم تكن رهنًا برغبة فيروز وإنديرا فحسب. فإلى جانب الأطباء كان الكثير من أفراد عائلتيهما ممن يعارضون زواجهما سيتخذون من مرض إنديرا ذريعة للوقوف في وجه هذا الزواج.
بنهاية مارس كانت إنديرا قد أمضت الثلاثة الشهور التي شرط رولييه أن تمكثها في ليسين لتسترد عافيتها، لكنها كانت أبعد ما تكون عن مثال الصحة الذي وعدها رولييه بأن تصبحه. فكتبت إلى نهرو تقييمًا صريحًا لمدى «تحسن حالتها الصحية»، وقالت فيه:
«لا شك لديَّ في أنني صرت أفضل حالًا عما كنت عندما وصلت إلى هنا … ولكن لست أفضل بكثير. فأنا أبدو أفضل بعض الشيء، وأتنفس على نحو أفضل. أما وزني فقد اكتسبت ثلاثة أرطال ليصبح وزني خمسة وثمانين رطلًا. قبل شهر بدأت أغادر الفراش لخمس عشرة دقيقة في فترة بعد الظهيرة، والآن صار بإمكاني أن أمكث خارجه لساعتين ونصف الساعة، وفي هذه المدة أخرج للتمشية قليلًا. لكن من جانب آخر لا يزال الإرهاق الدائم الذي اعتدت الشعور به يلازمني، شهيتي ليست في تحسن؛ فما زلت أتناول القليل من الطعام بعد لأي، ولا أنام جيدًا على الإطلاق.»30
كما هو متوقع أخبر رولييه إنديرا بأن عليها فقط أن تمكث في لي فرين ثلاثة شهور أخرى، غير أنه صارح ليدي ماهاراج سينج (التي كان ابنها المصاب بالسل يعالج في إحدى مصحات مونتانا) والتي حضرت لزيارة إنديرا بأنه يريدها أن تمكث في الواقع لعام آخر في لي فرين. ولما أعلمت ليدي سينج إنديرا بهذا ارتعبت هذه الأخيرة على نحو يمكن تفهمه من فكرة البقاء حبيسة في مصحة لي فرين حتى ربيع عام ١٩٤١. هذا بالإضافة إلى أن الطبيب رولييه لم يكن واثقًا من تمام شفاء إنديرا بحلول هذا الوقت. وعندما غادرت إنديرا سويسرا في النهاية أخبرها رولييه بأنها ستحتاج إلى الإقامة لسنتين على الأقل بين جبال الهند. فلاح أمامها شبح حياة طويلة من العجز.31
بعدما باحت ليدي سينج لإنديرا بتقييم رولييه الحقيقي لحالتها الصحية بدأت إنديرا تخطط لمغادرة لي فرين بأي ثمن، حتى لو اقتضى الأمر مخالفة نصيحة الأطباء. فأخبرت نهرو بأن لديها رغبة قوية — تكاد تكون ملحة — في الذهاب إلى الهند؛ رغبة «تستبد» بها. وأضافت أنها ترى أن مرضها يعود في جزء كبير منه إلى أسباب نفسية، فتقول: «أعتقد أن إرهاقي وأرقي يعودان في الأغلب إلى حالتي العصبية.» ولم تكن حالتها العصبية هذه بالطبع إلا نتاج «الشهور التعسة» التي أمضتها في لي فرين والضجر الذي لا يحتمل «لمجموعة مرضى لي فرين القليلين الذين يمضون وقتهم في القيل والقال، ولا يتحدثون عن شيء أهم من الطعام والغرباء الذين يمرون بالشارع أسفل منهم.»32
لم يشجع نهرو إنديرا على مغادرة لي فرين مطلقًا. وأخبرها بأنه لا بد أن تكون «الكلمة الأخيرة» للأطباء. لذا طلب من الطبيب بهانداري بلندن والطبيب جيفراج ميهتا — وهو طبيب هندي بارز — مكاتبة رولييه. كان نهرو واثقًا من أنهما — مثل الطبيب رولييه — سيحثان إنديرا على البقاء قدر استطاعتها في لي فرين … إذ إن الإقدام على أي شيء من شأنه إضاعة التقدم الذي أُحْرِز سيكون ضربًا من الحماقة. أما نهرو نفسه فقد كتب إليها يقول: «أتمنى بشدة لو أراك، ولكنني لست بالحمق الذي يدفعني إلى السماح لأماني بالتدخل في علاجك. لا شك أن علينا إرساء أساس صحي قوي هذه المرة، وإن كان لا بد لنا من الخطأ، فعلينا أن نقترف خطأً لا نندم عليه. فأنت تعلمين جيدًا أن الرئة الضعيفة أو غشاء الجنب يتطلب وقتًا طويلًا ليقوى.»33
كان شبح أن تلقى إنديرا نفس مصير والدتها كامالا يطل من بين أسطر خطاب نهرو. لم يكن نهرو على استعداد للقيام بمجازفات فيما يتعلق بصحة إنديرا، مهما كانت رغبتها في مغادرة مصحة لي فرين؛ لذا استعان بآراء متخصصين في الطب وقائمة طويلة من الضرورات التي بدأها بعبارة «علينا أن» لإقناعها. وأصر أيضًا في خطابه على أن «الصحة ليست جسدية فقط. إنما هي نفسية أيضًا إلى حد بعيد. أنت تشتكين من توتر أعصابك. وكل منا يشكو إلى درجة ما من توتر أعصابه. لكننا لا نسمح لأعصابنا بالتحكم فينا … لذا عليكِ أن تعزمي على أن تديري ظهرك للخوف والتوتر. ولتعلمي أن الأمر ممكن، وقد حُقِّق من قبل.»34
وفي أواخر أبريل حضر الطبيب بهانداري من لندن إلى ليسين لرؤية إنديرا، ومناقشة حالتها الصحية مع الطبيب رولييه. وبعد المناقشة كتب بهانداري إلى نهرو أنه وصل هو والطبيب رولييه إلى القرار نفسه، وهو أنه يجب على إنديرا المكوث في لي فرين لبضعة شهور أخرى على الأقل.35 أحبط هذا القرار إنديرا، فكتبت إلى نهرو معترضة، لكن نهرو أساء تفسير رغبتها في مغادرة سويسرا. فمع أنه سلَّم بأن «حياة المصحة … مرهقة ذهنيًّا» — حتى إنه سألها: «هل قرأتِ رواية الجبل السحري التي ألفها توماس مان؟» — كان يرى أن السبب الحقيقي وراء لهفتها للعودة إلى الهند هو إحساسها المفرط بالواجب تجاهه ورغبتها في أن تعاونه وتؤازره. ولا شك أنها رغبت في القيام بذلك، ولكنها ترغب أكثر من أي شيء آخر في أن تجتمع بفيروز من جديد؛ لا سيما بعد مرور خمسة شهور دون لقاء. كذلك منحها نهرو عن غير قصد سببًا آخر لتغادر لي فرين؛ إذ أقر في ربيع عام ١٩٤٠ أن تدبير أموال علاجها صار مع كل شيء مشكلة؛ لأن الحرب أوقفت إيرادات مبيعات كتبه. وفي الواقع حتى نهرو لم يكن واثقًا من قدرته على تسديد أجور خدم آناند بهافان للشهر التالي.36
لكن كان أكثر ما آلم إنديرا وسط كل هذا الجدل حول الموعد الأمثل لتغادر لي فرين هو عجز نهرو عن طمأنتها ومد يد العون إليها. ففي أوائل مايو كتب لها صراحة عن آرائه ومشاعره في خطاب استهله بقوله: «ليس من السهل الكتابة عن هذه الأمور، خاصة مع وجود الفضوليين [من المراقبين] الذين يتفحصون رسائلنا.» واستطرد يقول: «من الواضح أنك اضطررت لاحتمال الكثير من المشاكل والصراعات الداخلية.» ولكنه أكد أن: «هذه الصراعات لا بد من مواجهتها دون انتظار مساعدة من أحد. فليس بمقدور أحد أن يساعدك، وبالطبع ليس بمقدوري أنا ذلك، مهما حاولت … فأنا لا أعرف حتى كيف تفكرين، مع أنني قد أستطيع أن أحاول التخمين في بعض الأحيان. لقد كنت على حق إذ أخبرتني ذات مرة بمدى جهلي بك. هذا صحيح تمامًا … فقد صار جهل أحدنا بالآخر يتزايد باطراد، وحتى حب كل منا للآخر لم يثمر أي تفاهم. كم أنت غريبة عني، ولعلك أنت أيضًا لا تعرفين الكثير عني.»37

•••

في أبريل عام ١٩٤٠ غزت ألمانيا الدنمارك والنرويج، وفي ١٠ مايو — في اليوم نفسه الذي حل فيه ونستون تشرشل محل نيفيل تشمبرلين في رئاسة وزراء إنجلترا — اجتاحت ألمانيا هولندا وبلجيكا ولوكسمبورج. وبالتالي صارت معابر البحر المتوسط مغلقة، واضطرت السفن في الهند إلى السفر إلى أوروبا عبر طريق رأس الرجاء الصالح. ويعني هذا أن البريد سيصل على نحو أبطأ وأقل انتظامًا. فكتب نهرو إلى إنديرا: «الحواجز بيننا تتزايد، وهذا العالم الصغير الضيق الذي انكمش بفضل الطيران ونحوه وصار الوصول إلى جميع ربوعه سهلًا … ترامت أطرافه من جديد … ليبعدك أكثر عني.» فكتبت إنديرا إلى أبيها في العاشر من مايو «رسالة طمأنة قصيرة عاجلة»، مع أنها كانت تعلم: «ستفقد هذه الرسالة مغزاها وقت وصولها إليك.» تقول إنديرا في هذه الرسالة: «لا تقلق عليَّ يا حبيبي.» لكنها أضافت أن مدينتين سويسريتين قد تعرضتا للقذف بالقنابل صباح ذلك اليوم، وفي هذا قالت: «يقال إنه كان خطأً غير مقصود.»38
وبعدها بأسبوع كتبت إنديرا من جديد إلى أبيها تقول: «لا ينشغل بالك ولا تقلق عليَّ … سأكون بخير حال. وأضافت ما يدل على دقة معرفتها بذاتها: «فأنا لا أتجلد إلا في وقت الأزمات.» ثم أطلعت إنديرا أباها على خططها. فذكرت أنها «ما لم، وحتى تشترك سويسرا في الحرب» ستمكث في ليسين. فإن حدث واشتركت سويسرا في الحرب فسيتعين عليها — حسبما قيل لها — أن تغادر ككل الأجانب. كانت قد اتصلت بالقنصل البريطاني لترتيب الحصول على تأشيرة للعبور عبر فرنسا، حتى إذا ما اضطرت لمغادرة سويسرا اتجهت مباشرة إلى إنجلترا، وحاولت ركوب إحدى السفن المتجهة للهند «عبر طريق رأس الرجاء الصالح طبعًا». لكن ما كان يقلق إنديرا «بعض الشيء» هو أنها قد تستنفد أموالها ولا تقدر على دفع آخر فواتير علاجها في لي فرين. كانت قد كاتبت كريشنا مينون تخبره بالأمر، وهو الذي كان يواظب على إرسال المال إليها من لندن، لكن في حال ما إذا اضطرت لمغادرة سويسرا قبل أن يتمكن كريشنا من إرسال المال، فستلجأ إلى الاقتراض للذهاب إلى إنجلترا.39
استشرت الحرب كالنار في الهشيم، وصارت الآن تهدد الحدود السويسرية. ففي أواخر مايو بدأ إخلاء القوات البريطانية لميناء دونكيرك. وفي ١٤ يونيو سقطت فرنسا في يد الألمان، ثم في ٢٢ من الشهر نفسه وقَّع الفرنسيون هدنة مع ألمانيا. وبعدها — على حد قول إنديرا — «صارت الحرب فجأة قاب قوسين أو أدنى من إنجلترا»، وبالفعل بدأت معركة بريطانيا في ١٠ يوليو. وبدا أن اجتياح القوات الألمانية لإنجلترا هي الأخرى لم يكن إلا مسألة وقت. ومع أن الحرب كانت تحاصر إنجلترا من كل جانب فإنديرا كانت متلهفة إلى الذهاب إليها، سواءً بموافقة رولييه أو من دونها؛ والسبب هو — كما اعترفت بعدها بزمن طويل — «أن فيروز كان وقتها في لندن التي كانت تتعرض يوميًّا لقذف القنابل، وقد شعرت بأنني يجب أن أكون إلى جانبه».40
وفي شهري يونيو ويوليو من عام ١٩٤٠، توقفت الاتصالات البريدية تمامًا، فبعثت إنديرا خلال هذه المدة برقيتين مشفرتين لنهرو تقول له في إحداهما: «لا تقلق، أنا على ما يرام»، وفي الأخرى: «أنا بخير.» وحينما تسنى لها أخيرًا أن ترسل له خطابًا في نهاية يوليو كتبت تصف له مدى تسمم الجو العام في لي فرين وقتها. فتقول: «في لي فرين، تشاجر اثنان من الإسبان من أجل فرانكو، وصرخ اثنان من الفرنسيين مطالبين بالديكتاتورية العسكرية، حتى قبل أن يؤلف بيتان (رئيس الحكومة التعاونية الفيشية) حكومته … وبالغت أسرة رولييه في مديح الإمبريالية، الفرنسية والإنجليزية. فكانت النتيجة أنني لم أعد قادرة على التفوه بأي كلمة عن أي موضوع.» في الواقع كانت إنديرا تجد الجو العام في المصحة لا يطاق، حتى إنها أوشكت على مغادرتها حالما افتُتح طريق عبر البرتغال إلى لندن. لكنها لم تفعل، وبررت ذلك بقولها: «كنت أخشى المرض من جديد … حتى إنني لم أرغب حتى في المخاطرة. لذا، ها أنا ذا (في ليسين).»41
استغرق هذا الخطاب ثلاثة أشهر ليصل إلى نهرو في الهند، وأثناء هذه المدة لم تتسلم إنديرا رسالة واحدة من نهرو. نظريًّا كانت الاتصالات البريدية قد عادت إلى العمل، لكن العديد من الرسائل قد تأخر أو ضاع. وفي ١٠ من سبتمبر أبرق نهرو لإنديرا قائلًا: «لا تردني أي رسائل. الوضع هنا [في الهند] يتفاقم بسرعة ويقترب من مرحلة الأزمة. من المحتمل أن أستأنف قريبًا رحلتي القديمة (في السجون).»42 لكن اعتقاله كان بعد شهر، حيث قبض عليه في ٣١ أكتوبر عام ١٩٤٠ بتهمة إلقاء خطب تحريضية. وتمت محاكمته سريعًا وحُكم عليه للمرة الثامنة بالسجن لأربع سنوات في سجن جوراكبور.

وبالمثل شعرت إنديرا في مصحة لي فرين بأنها حبيسة، وأرادت الخروج منها بشدة. وفي نهاية أكتوبر وجدت في نفسها القوة الكافية لتعلن للطبيب رولييه عزمها على مغادرة لي فرين خلافًا لنصيحة الأطباء. كان كريشنا مينون قد أرسل إليها بعض المال، فدفعت فاتورة علاجها، وفرت بسرعة إلى مدرسة ميل هيمرلين بلا بيلوز في بيكس. وهناك بذلت إنديرا جهودًا خارقة للوصول إلى إنجلترا قبل إغلاق حدودها. كان الطريق الوحيد الآمن لإنجلترا يمر عبر فرنسا وإسبانيا والبرتغال. وكانت تحتاج إلى تأشيرات عبور لكل هذه الدول. وكان يتعين عليها أن تشتري تذكرة طيران من لشبونة إلى إنجلترا. انتظرت إنديرا تأشيرة البرتغال لأسابيع في بيكس. وهناك كانت الكهرباء تنقطع ليلًا من العاشرة إلى السابعة صباح اليوم التالي، وكان الطعام والملبس مقننين.

وبنهاية نوفمبر كانت كل أوراق سفر إنديرا جاهزة أخيرًا، فاستقلت حافلة من جنيف سارت عبر فرنسا إلى الحدود الإسبانية، ثم إلى برشلونة. وهناك أمضت الليل ثم استقلت طائرة إلى لشبونة، وعندما وصلت إلى مطار لشبونة في اليوم التالي احتُجزت لنصف ساعة كانت — على حد قول إنديرا — «سيئة إلى أقصى حد»، لأن أحد ضباط الشرطة «قال بمجرد إلقاء نظرة على صورة جواز مروري … إنني لست صاحبة الصورة، وبالتالي لا يعقل أن يكون ذلك جواز سفري»، وهذا دليل على الأرجح على التغير الكبير الذي طرأ على شكلها منذ إصابتها. ظلت قرابة شهرين حبيسة في لشبونة تنتظر رحلة إلى إنجلترا. وفي رسالتها إلى نهرو — الذي كان قد نقل إلى سجن دهرا دون — تقول: «البرتغاليون في غاية الفقر والقذارة. يسير الكثير من النساء والأطفال حفاة الأقدام، ويكثر الشحاذون. ويبصق الناس في كل مكان. ويكثر الصياح والباعة الجائلون على نحو مرعب … يبدو لي كما لو أنني بالهند.»43 وكل يوم كانت إنديرا تقف في طابور أمام أحد مكاتب السفر الجوي لحجز تذكرة إلى إنجلترا، فيطلب منها أن تعود في اليوم التالي. كانت تفكر في تجربة السفر بحرًا، لكن في إنجلترا عارض كل من فيروز وكريشنا مينون والطبيب بهانداري هذه الفكرة، لتعرض الكثير من السفن للغرق. وفي النهاية نجح فيروز في الحصول على تذكرة طيران لها.

•••

وفي يوم رأس السنة عام ١٩٤١ سافرت إنديرا أخيرًا بالطائرة من لشبونة إلى بريستول، حيث كان بانتظارها فيروز، الذي لم تكن قد رأته منذ أكثر من عام. وعلى الفور استقلا القطار إلى لندن، ومباشرة قصدا شقة فيروز المكونة من غرفة واحدة بمنطقة سانت جونز وود. وفي اليوم التالي أرسلت إنديرا لنهرو برقية تقول فيها: «وصلت ليلة البارحة. أنا بخير. ليس لديَّ خطط مؤكدة.»44

في الواقع كانت إنديرا قد خططت بالفعل لأن تمكث مع فيروز في لندن إلى أن يتمكنا من الوصول إلى الهند بحرًا. صارت السفن تسافر في قوافل مصاحبة بالحراسة، وظلت معابر البحر المتوسط مغلقة، فكان الحل الوحيد أمام إنديرا للوصول إلى الهند هو المرور عبر جنوب أفريقيا وطريق رأس الرجاء الصالح، وهو الطريق القديم الذي كان يسلكه تجار شركة الهند الشرقية والمبشرون قبل افتتاح قناة السويس. كانت الغواصات الألمانية قد أغرقت الكثير من السفن، ومع ذلك كانت قائمة الانتظار طويلة للحصول على حق مرور.

في صباح الثالث من يناير دق جرس هاتف بي إن هاكسار في شقته بمنطقة بريمروز هيل. فإذا بفيروز على الهاتف يقول: «إندو هنا! هل يمكنك القدوم والطهو لنا؟» كان هاكسار وقتها قد صار محاميًا تحت التدريب في «لينكولن إن»، لكن أصحابه كانوا يقدرون طهوه الرائع للأطعمة الكشميرية بقدر ما قدروا أفكاره وراديكاليته. كان يعيش على مقربة جدًّا من فيروز؛ لذا قصد في المساء شقة فيروز في العقار رقم ٢٠ بشارع آبي رود لإعداد وجبة شهية ودسمة. وهناك وجد إنديرا نحيفة وشاحبة لكن «مشرقة»، يبدو عليها الفرح الغامر لأنها بصحبة فيروز. ولم تحاول إنديرا وفيروز التظاهر بخلاف حقيقة مكان إقامتها أو بشأن ترتيبات مبيتها في شقته الصغيرة التي تملؤها الكتب.45

بالطبع لم يكن نهرو على علم بمكان إقامة إنديرا بلندن. كانت وسيلة الاتصال الوحيدة بينهما تتمثل في برقيات مقتضبة، كان أحدهما يرسلها إلى الآخر كل أسبوعين عبر أجاثا هاريسون. فلعله كان يظن أنها تقيم مع أجاثا أو الطبيب بهانداري.

كانت هذه المدة لإنديرا وفيروز مفعمة بالحماسة والعواطف المتقدة. كان قد مر على خطبتهما سرًّا ما يقرب من أربعة أعوام، تخللها الكثير من القلق والفراق. والآن اجتمع شملهما أخيرًا من جديد، وصارا وحدهما بعيدًا عن أسرتيهما وأغلب أصدقائهما. وقد زاد من تعلقهما أحدهما بالآخر أنهما اجتمعا في عالم يعيش حربًا. ففي يناير عام ١٩٤١ كانت القنابل لا تزال تمطر لندن. وقد حدث ذات ليلة أن فوجئت إنديرا وفيروز عقب خروجهما من محطة مترو أنفاق بيكاديللي بأن المحطة قد تعرضت للقصف قبل دقائق قليلة.46 وفي فبراير ازدادت حدة الغارات مع وصول عدد الطائرات الألمانية المهاجمة للمدن البريطانية إلى ٧٠٠ طائرة حربية شنت غارات متزامنة ليلة تلو الأخرى.

كانت الصور التي التقطها فيروز لإنديرا في لندن هي أكثر صورها جمالًا وإفصاحًا. إنها صور حميمية جدًّا، تفضح علاقة الحب بين ملتقطها ومن التقطت له. فمع هزالها الشديد كانت تبدو أبعد ما يكون عن المرض، بل بدت متوردة. في إحدى الصور كانت تسدد نظرها — على نحو مثير — إلى الكاميرا، مباشرة إلى فيروز الذي كان يلتقط صورتها، في حين أمالت رأسها بعض الشيء، ونظرت بثبات إلى الكاميرا بعينين تشعان دفئًا. كان التحفظ والتردد الباديان جدًّا عليها في جميع صورها تقريبًا وهي شابة والوجه الخالي من التعبير الذي أظهرته في الكثير من صور مرحلة نضجها قد تبددت تمامًا في هذه الصور. فلا يمكن لأي شخص يرى هذه الصورة أن يشك في أن العلاقة التي تجمعها بفيروز علاقة غرامية.

كان غموض عالم فيروز وإنديرا — متعة الحياة على المحك — بمنزلة خلفية مهمة لعلاقتهما. لذا رأت إنديرا أن عليهما الزواج في لندن قبل العودة إلى الهند، وربما كان هذا القرار عائدًا جزئيًّا إلى أنهما كانا يقيمان معًا بالفعل كرجل وزوجته، وإن لم تكن تعبأ بالأعراف الاجتماعية. فهي ابنة شهيرة لرجل شهير، ووقتها كان العام عام ١٩٤١. لم يكن الوضع ملائمًا.

بالإضافة إلى ذلك كان في عودتهما إلى الهند وهما متزوجان مزية كبيرة. كان زواجهما سيصبح أمرًا واقعًا. فقد علما أن بانتظارهما الكثير من الجدل والمعارضة لو لم يقدما على هذه الخطوة. ألحت إنديرا بشدة على فيروز لإتمام إجراءات تسجيل الزواج في إنجلترا. لكن فيروز نبهها إلى أنهما سيجرحان نهرو بعمق إن قاما بذلك،47 وكان هذا سببًا قويًّا. أضف إلى ذلك أن نهرو (وغيره) ربما يشكون أن فيروز قد أرغم إنديرا بصورة ما على الزواج منه في إنجلترا خشية أن تتعرض للإثناء عن ذلك في الهند. لكن إنديرا كانت عازمة على المضي في قرارها.
مرضت إنديرا في ذلك الوقت فتعلقت مسألة الزواج. ففي فبراير بدأت تعاني «ارتفاع الحرارة المعتاد وتملكها خوف شديد من عودة ظهور مشكلتها القديمة من جديد».48 فاستشارت الطبيب بهانداري الذي اكتشف وجود ارتشاح في رئتيها. لم يكن هناك أدنى شك في رغبة فيروز الصادقة في الزواج من إنديرا مع ظروف حالتها الصحية غير المستقرة. علم كلاهما أن مرضى السل يُنصَحون بعدم الزواج، النصيحة التي جعلت إنديرا أكثر إصرارًا على الزواج. لكن في أوائل مارس ومع استمرار معارضة فيروز لفكرة تسجيل الزواج في لندن تمكنا في آخر لحظة من حجز مضجعين على ظهر إحدى السفن البخارية المتجهة إلى الهند. وبحلول هذا الوقت كانت حمى إنديرا وأعراض مرضها الأخرى قد زالت إلى حد بعيد، وتحسنت صحتها بدرجة تسمح لها بالسفر.49 فتأجَّل الزواج.

•••

في ١٠ مارس أبحر فيروز وإنديرا على ظهر السفينة سيتي أوف باريس، وهي سفينة لنقل الجند تسافر ضمن قافلة طويلة من السفن. خصص قبطان السفينة لإنديرا كابينة لها وحدها؛ لأنها لم تكن قد تعافت تمامًا. لم تتسم الصحبة والجو العام على ظهر السفينة بالود. فبالإضافة إلى الجند كان على متن السفينة الحاكم العام للمستعمرات البريطانية في بورما، ومجموعة من مسئولي الحكومة البريطانية الذين أدانوا القوميين الهنديين، وقد حدثت «مشادات حامية» بين هؤلاء الأشخاص من ناحية وفيروز وإنديرا من ناحية أخرى. ذكرت إنديرا فيما بعد أنها تعرضت هي وفيروز آنذاك «للإذلال طوال طريق العودة إلى الوطن».50
وأثناء مرور سفينة إنديرا وفيروز بساحل أفريقيا الغربي كانت تسقط بصفة منتظمة قذائف أعماق أحدثت ضوضاء تصيب بالصمم، و«ترج الكيان كله».51 وفي ٢٠ مارس عبرت السفينة خط الاستواء. وصار الحر أشد حتى من حر السهول الهندية في فصل الصيف. التزمت السفينة بإطفاء الأنوار طوال الليل. وكان الحر في الكبائن أشبه بحر الموقد لدرجة يتعذر معها المكوث فيها، حتى بعد غروب الشمس، فكانت إنديرا وفيروز يجلسان على سطح السفينة في الظلام يتحدثان حتى يغالبهما النعاس في وقت متأخر في الليل.

وفي نهاية مارس وصلت سفينة فيروز وإنديرا إلى طريق رأس الرجاء الصالح، ورست ليوم واحد في مدينة كيب تاون. فنزلت إنديرا وفيروز إلى الشاطئ وزارا البرلمان هناك، حيث التقيا بالجنرال سموتس الذي كان قد صرَّح في خطاب مؤخرًا أن لون بشرة الفرد بمنزلة جواز مروره. وبعدها أبحرت سفينة سيتي أوف باريس إلى ديربان، حيث توقفت عن الإبحار لأسبوع.

وفي ديربان عثرت إنديرا بالمصادفة على صوتها السياسي. فهناك رحبت بها الجالية الهندية الكبيرة ترحيبًا حارًّا وحماسيًّا بصفتها ابنة نهرو، وأقامت على شرفها حفل استقبال رسمي، طُلب إليها أن تلقي كلمة فيه. ولأنها كانت تذكر أداءَها الكارثي في لندن رفضت الحديث، غير أنها وافقت على الجلوس على المنصة. وحتى ذلك الحين نزلت إنديرا في غرفة بأحد الفنادق اسْتُؤْجرت لها هي وفيروز لتغتسل قبل التجول في ديربان. فدق أحد الحمالين في الفندق باب غرفتهما ليعلمهما بقدوم زائر. طلبت إنديرا إبلاغ الزائر بأن يلقاهما في استراحة الفندق، فرد الحمال بلا تحرج بأن هذا الأمر غير ممكن لأن الزائر هندي. كانت إنديرا وفيروز فاتحي البشرة، وكانا بالطبع ما زالا مرتديين ثيابهما الإنجليزية، فسألته إنديرا في غلظة: «وماذا تحسبنا؟» فقال الحمال «إنه لا يهتم بجنسيتنا … لأننا لا نبدو هنديين، لذا فلا بأس.»52 فغادرت إنديرا وفيروز الفندق على الفور.

وأثناء تجوال إنديرا وفيروز في ديربان هالتهما الظروف المعيشية البائسة التي شاهداها في أحياء الأقليات السوداء المعزولة القذرة. كانت في سوء أحياء الفقراء في كلكتا وبومباي، كما أنها لم تكن مبنية على أساس من التمييز العنصري فقط بل التمييز ضد الفقراء أيضًا. وفي مساء ذات اليوم عندما وصلت إنديرا إلى قاعة السينما المقام فيها حفل الاستقبال على شرفها كانت تستشيط غضبًا مما قد رأياه مبكرًا في ذلك اليوم. تقبلت في برود تحيات الانحناء وأكاليل الزهور من مجموعة الهنود الأفارقة، ولدهشة الجميع أصرت على عكس المتوقع على إلقاء كلمة.

بدلًا من التعبير عن امتنانها لكلمة رئيس المجلس المرحبة بها تحدثت إنديرا بانفعال عن اضطهاد جنوب أفريقيا البيضاء للسود، الذي شبهته باضطهاد هتلر لليهود. وقالت: «قد لا يحدث الأمر اليوم، وقد تمر عشرة أو عشرون عامًا، لكنهم [الأفارقة السود] في النهاية هم من سيحكمون هذا البلد.» وذهبت في حديثها إلى إدانة خنوع الهنود للبيض بجنوب أفريقيا، ولا مبالاتهم بمحنة الغالبية السوداء. لم تكن هذه هي الكلمة التي توقعها الجمهور، لذا حين فرغت إنديرا من خطابها بدلًا من التصفيق ساد القاعة صمت ممتزج بالذهول. وطوال الأيام الباقية التي أمضتها إنديرا وفيروز في ديربان تحاشتهما الجالية الهندية هناك.53

كان خطاب إنديرا في ديربان هو أول عمل سياسي تقدم عليه بنفسها ودون إعداد مسبق. ولدهشة الجميع وفي ذلك إنديرا نفسها كشف هذا الموقف عن قوة كامنة وجرأة بداخلها. ثبت أن إنديرا كانت بالفعل كما وصفتها كريستين تولر قبل ثلاثة أعوام في لندن قائلة: «لا أظنها تخشى الرياح.» ومنذ ذلك الحين صارت إنديرا لا تتردد إن كان لديها ما تقوله. فإن حرك مشاعرها أمر ما خرجت منها الكلمات انفعالية وفصيحة أحيانًا.

ومن مدينة ديربان أبحر فيروز وإنديرا بالباخرة شمالًا باتجاه المحيط الهندي، مرورًا بمدغشقر وجزر سيشيل إلى بحر العرب، وفي ١٦ أبريل عام ١٩٤١ وصلا أخيرًا إلى بومباي. وهذه المرة كانت إنديرا عازمة على البقاء في الهند. فقد كانت لا تزال شابة تعيش قصة حب، على وشك أن تكتسب هوية جديدة؛ إنديرا غاندي.