إنديرا: قصة حياة إنديرا نهرو غاندي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل التاسع

لا حياة عادية وسخيفة ومملة

ما إن وصلت إنديرا إلى بومباي حتى تسلمت تلغرافًا من المهاتما غاندي يطلب منها أن تحضر فورًا للقائه في مقر إقامته المعروف باسم «سيفاجرام أشرم» بالقرب من منطقة وردها. كان غاندي يعامل أفراد عائلة نهرو منذ زمن بعيد وكأنهم أفراد عائلته. ولم يكن قد قابل إنديرا منذ آخر مرة كانت فيها في الهند؛ أي منذ عامين. أما وقد عادت فقد أراد معاينتها وتقييم حالتها الصحية بنفسه. غير أن إنديرا رفضت الامتثال لطلبه، وأعلنت أنها ستذهب أولًا مع فيروز إلى مدينة الله آباد. ثم ستزور غاندي فيما بعد، لكن عندئذٍ وصلتها رسالة من أبيها يحثها فيها على الذهاب إلى بابو. فذهبت.

كان اجتماع شمل إنديرا وغاندي في سهول الهند الوسطى الجافة التي ضربها الفقر المدقع محرجًا؛ إذ اندفعت إنديرا إلى داخل صومعة غاندي البسيطة وهي ترتدي ثوبًا من الحرير وتضع أحمر شفاه. فأخبرها «الروح العظيمة» بأن ترتدي ثوب الخادي وتغسل وجهها. وجدت إنديرا الجو العام في سيفاجرام مشحونًا بالتملق و«الشجارات التافهة». كان مريدو غاندي يتشاجرون حول من سيقدم له الطعام، أو يحلب ماعزه، أو يحمل أوراقه، أو يكتب ما يمليه. ذات يوم أخذت السماء تمطر فجأة فهرعت إنديرا للخارج لجمع الملابس المغسولة، فوبخها أحد رجال الأشرم لأنها لمست ثياب غاندي. فمع أن غاندي نفسه — على حد تعبير إنديرا — لم يتغير بتاتًا، فكان يحيطه مجتمع من التابعين المتملقين، مجتمع سعدت إنديرا بتركه عندما غادرت بعدها بيومين إلى الله آباد.1
حظيت عودة إنديرا إلى الهند بتغطية صحفية واسعة. فعندما وصلت إلى الله آباد أجرت عدة مقابلات صحفية مع جريدة «ناشيونال هيرالد» التي يقع مقرها في لكناو، والتي أسسها نهرو عام ١٩٣٧، وأعيد نشر هذه المقابلات في الصحف القومية. وبذا قبل أن تزور إنديرا أباها في سجن ديهرا دون علم هذا الأخير — الذي كان يُسمح له بقراءة الصحف في فترة سجنه — أن ابنته لا تزال ضعيفة و«أفقر ما تكون إلى الصحة».2
وفي ٢٧ أبريل عام ١٩٤١ التقت إنديرا ونهرو في غرفة المقابلات الصغيرة بسجن ديهرا دون حيث تابعتهما عينا حارس السجن اليقظتين. كانت آخر مرة رأى أحدهما الآخر فيها عندما أبحرت إنديرا إلى إنجلترا عام ١٩٣٩. وكانت الهوة بينهما قد اتسعت أكثر من أي وقت مضى، وكاد ردم هذه الهوة يصبح مستحيلًا عندما قالت إنديرا لأبيها إنها تنوي الزواج من فيروز بأسرع وقت ممكن. وفي مذكراته بالسجن يذكر نهرو مدى الضعف الذي بدت عليه إنديرا، ومدى قلقه «على مستقبلها»، غير أنه وصف ما حدث أثناء مقابلاتهما على نحو ملغز وغامض، فيقول: «بعيدًا عن المشكلات الصحية ظهرت مشكلات أخرى. كنت سعيدًا جدًّا برؤيتها، ومع هذا انشغل عقلي بتلك المشكلات … لم تكن مشكلات يسهل حلها. كان لديها الإصرار والاعتماد على الذات، وهو أمر جيد. لكنها ما زالت … غير ناضجة … ومع هذا فلا بد أن لها خبرات … بعد أن تركتني، انشغل عقلي بالتفكير فيها، وفي تصاريف الحياة الغريبة.» وبعدها بعشرة أيام كتب نهرو في مذكراته: «كنت مشوش العقل ومضطرب البال، أفكر دائمًا وأتأمل في مسائل شتى تدور بالدرجة الأولى حول إندو. كانت ليالٍ مؤرقة.»3
بعد لقائهما في أواخر أبريل ظلت إنديرا بمنأى عن أبيها لقرابة شهر، كاتبته فيه لمرة واحدة فقط لتخبره بأنها لن تزوره في القريب «لأن الحر يرهقني تمامًا، والرحلة إلى سجن ديهرا دون طويلة وشاقة جدًّا».4 وأخيرًا، في نهاية مايو، بعثت إنديرا إلى أبيها رسالة وصفها بأنها «غاضبة وثائرة»، وهو ما دفعه إلى كتابة السطور الآتية التي تعبر عن ألمه في مذكراته في السجن، فيقول: «لا أستطيع حتى كسب ثقة ابنتي! … لقد ركنت إلى ذاتها؛ أبعدتها هذه العشرة الأعوام الأخيرة عني، وإلى الآن ينظر أحدنا إلى الآخر كغريبين … ما الحل؟ ما الحل؟»5

لماذا أزعج احتمال زواج إنديرا وفيروز نهرو إلى هذا الحد؟ يحتمل طبعًا أنه فكر في مدى قوة الأسباب التي تمنع هذا الزواج، سواء من الناحية العائلية أو الاجتماعية أو حتى السياسية. وكان إلى حد ما، يتفق مع هذه الأسباب؛ فمع إيمانه بالمساواة رأى أن فيروز لا يناسب إنديرا. ولم يهتم كثيرًا بأن فيروز لم يكن كشميريًّا أو حتى هندوسيًّا. فعلى سبيل المثال كان رانجيت زوج فيجايا لاكشيمي بانديت من ماهاراشترا، وراجا زوج كريشنا هاثيسينج كان جوجاراتيًّا، ومع هذا لم يعارض نهرو زواج هذين من أختيه. لكن رانجيت بانديت وراجا هاثيسينج كانا قد تعلما في جامعة أكسفورد، وكانا رجلين محنكين من أسرتين غنيتين. كان بانديت محاميًا وعالمًا بارزًا في اللغة السنسكريتية أيضًا، ومن ناحية أخرى كان هاثيسينج محاميًا ناجحًا. فبانديت وهاثيسينج كانا يبدوان بلا شك رجلين أرستقراطيين على الطريقة الإنجليزية.

أما فيروز فلم يكن ينتمي إلى أسر أو طبقات كريمة المحتد، ولم يكن له صلات أو معارف كتلك التي كان نهرو يقدرها، لم ينل فيروز شهادة جامعية، ولم يكن له وظيفة أو مصدر دخل ثابت. كان يعرف الكثير عن الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية والفن، ومن المرجح أنه تناول كتابات ماركس وغيره من واضعي النظريات الشيوعية بالتمحيص أكثر من نهرو. لكن شخصيته على النقيض تمامًا من شخصية نهرو. فهو صاخب وجامح ويكثر من السباب. أما نهرو، فعذب الكلام ورقيق لا يسب حتى لو أغضب. هذا بالإضافة إلى أن نهرو يرفض مثل الكثير من الآباء فكرة فقد ابنته، والشعور بأن أحدًا قد حل محله. ومما كان يمنع هذا الزواج أيضًا مسألة استمرار ضعف صحة إنديرا، وعدم استحسان فكرة الزواج والإنجاب لها من الناحية الطبية. وأخيرًا كان نهرو يذكر في ألم خوف كامالا وهي على فراش الموت من أن ترتكب إنديرا «خطأ حياتها» بالزواج من فيروز. كانت كامالا ترى أن فيروز غير مستقر وغير جدير بالثقة. وحتى إن كان نهرو قد صرف عن ذهنه فكرة إقامة كامالا علاقة مع فيروز، فمن المحتمل أن يكون قد طرأ على ذهنه أن فيروز قد تصرف تجاه كامالا على نحو يعوزه اللياقة.

وفي هذه المرحلة الحاسمة حاول فيروز نفسه التحدث إلى نهرو. فقطع الطريق إلى سجن ديهرا دون مع ابن عم كامالا، الطبيب مادان أتال. لكن عندما قدم نفسه في السجن رفض مسئولو السجن السماح له بمقابلة نهرو لأنه لم يكن من أقاربه. غير أنه سمح لمادان أتال بالدخول بصفته مستشار إنديرا الطبي. كانت إنديرا قد بدأت لتوها علاجًا بالحقن، وأراد مادان أن يحدث نهرو عن «العلاج والنظام الذي ستتبعه». كان كل ما استطاع فيروز عمله هو أن أرسل عندما عاد إلى الله آباد قفصًا من مانجو الألفونسو إلى نهرو يسترضيه به.

•••

وحتى تهرب إنديرا من حر السهول الشديد ذهبت في مايو إلى موسوري حيث استأجرت كوخًا من غرفتين «بحمامين صغيرين للغاية» لستة شهور. وفي نهاية ذلك الشهر زارت أباها ثانية في السجن. ووفقًا لنهرو جرت بينهما «مقابلة طويلة»، قال نهرو عنها: «بدا فيه أننا نقترب أحدنا من الآخر.»6 تصالحا بصورة ما، ولكن لم تطرأ أي تغيرات جذرية على مواقفهما. كانت إنديرا مصممة أكثر من أي وقت مضى على الزواج من فيروز. ووقتها — مثلما كانت حالها طوال حياتها — كانت الاعتراضات والعقبات لا تزيدها إلا عزمًا على ما تريد.
كانت إنديرا تريد طمأنة أبيها مع إيضاح موقفها الذي لا يقبل التفاوض. ولكن كما في الماضي، اختارت القيام بهذا الأمر عن طريق الخطابات بدلًا من المواجهة الشخصية. فكتبت إلى نهرو من موسوري تقول: «حبيبي، لقد صدمت تمامًا حينما رأيت مدى التغير الذي طرأ عليك منذ رأيتك آخر مرة. يجب ألا تسمح لهذه المسائل بإحباطك.» ثم ذهبت إلى التأكيد على أنه لا يوجد ما يستحق القلق. بل على العكس تقول:

«يتنامى داخلي إحساس بهناءة البال، لا يقدر أحد أو شيء على أن يفسده عليَّ أو يسلبه مني … يمضي أغلب الناس حياتهم في انتظار السعادة، ولكن كأسها دائمًا ما تبدو لهم بعيدة قليلًا عن متناولهم. ولا يملكون الشجاعة لمد أيديهم للإمساك بها. أما أنا فأمسكتها بكلتا يدي ونهلت منها، وتشربت بها كل خلايا عقلي وجسدي، وغمرتني بإحساس بالدفء والسكينة. إنني أنعم بالسعادة الآن وسأنعم بها إلى الأبد.»

تجاهلت إنديرا رد نهرو عليها عندما كتب لها يقول: «السعادة هي بالأحرى شيء سريع الزوال، بل لعل الشعور بالإشباع أبقى منها.»7
وبعدها ثمة شيء ما أضعف ثقة إنديرا القوية وإيمانها بأنها يجب أن تكون من يرسم مستقبلها، وفي ذلك قرارها بالزواج من فيروز. غير أن طبيعة هذا الشيء ليست واضحة بالضبط، ففي الثاني من يونيو كاتبت نهرو من جديد، ولكنها كتبت له هذه المرة وهي «بين رحى الأسى والندم». فكانت لهجتها «أبعد ما يمكن عن لهجة فرض ما سيكون». وقالت إن نصيحة نهرو هي أقوى ما تركن إليه، فتقول: «كم أحتاجك، كم أنا ضالة تمامًا من دونك. لقد كنت في شدة الغطرسة والغباء. حاولت أن أشق طريقي بنفسي وأنا لا أعلم كيف أخطو.» وفي نهاية الخطاب أفضت إنديرا إلى نهرو بمكنون قلبها كما لم تفعل من قبل، لتكشف أثناء ذلك عن الصعوبات التي عانتها لأنها ابنة رجل عظيم. فتقول: «يبدو أنني قد بدأت أبصر أوجه جمالك وثرائك. في الماضي كان يصعب … الاقتراب منك؛ إذ كنت دائم الانشغال بعملك … وكنت أهابك جدًّا، فقد كنت تبدو لي شامخًا. أشعر بالضآلة الشديدة في وجودك، وأعتقد أنني كرهت هذا الإحساس لا شعوريًّا.»8
كان بإمكان هذه الرسالة التي تخلت فيها إنديرا عن تحفظها وأفضت فيها بما يعكس فهمها الصادق لذاتها أن تعيد الحميمية والدفء إلى العلاقة التي كانت موجودة في السابق بين الأب وابنته. فقد فتحت إنديرا فيها بابًا كان موصدًا من قبلُ، لكن لسبب ما خشي نهرو الدخول من هذا الباب. وبالتالي صارت إنديرا تبقي شكوكها بشأن زواجها من فيروز لنفسها. وقد تكون أدركت، حتى في ذلك الوقت المبكر من علاقتها بفيروز، أنه سيكون عليهما أن يواجها معًا الكثير من الصعاب. وبعدها بعدة أعوام، في مقابلة مع الصحفية الإيطالية أوريانا فالاتشي، كانت إنديرا صريحة على غير العادة في حديثها عن زواجها. قالت إنديرا لفالاتشي: «تشاجرنا كثيرًا. هذا صحيح. فنحن من طبيعتين متكافئتين في القوة، على ذات الدرجة من العناد، ولم يُرد أينا أن يستسلم للآخر. ويطيب لي النظر إلى هذه الشجارات باعتبارها … جعلت حياتنا مثيرة، صحيح أننا كنا سنحظى بحياة عادية دونها، لكنها كانت ستكون حياة سخيفة ومملة. ولم نكن نستحق حياة كهذه.»9
في يونيو ذهبت إنديرا إلى كالكتا لثلاثة أسابيع مع مادان أتال لتخضع ﻟ «فحص دقيق شامل» على يد الاختصاصيين الطبيين هناك، وفيهم الطبيب بيدهان شاندرا روي، الذي كان قائدًا في حزب المؤتمر وطبيبًا بارزًا. وحينما عادت إلى موسوري قدمت راجباتي كاول، جدتها لأمها، من دلهي للمكوث معها. اعترفت إنديرا لجدتها أنها ترغب في الزواج من فيروز، ولدهشتها لم تبدِ جدتها أي اعتراض. فمع أن الجدة آما — كما كانت إنديرا تدعوها — كانت هندوسية ملتزمة فقد قالت كما يأتي على لسان إنديرا فيما بعد: «بما أن فيروز وأنا لا نولي أهمية للدين فقد رأت أن ديانتينا ليستا مهمتين. أما إذا كنا متدينين فقد يكون للدين أهمية، وبما أن الحال ليست كذلك فليس له أهمية.»10
وفي ٦ يوليو زارت إنديرا والدها من جديد في سجن ديهرا دون، وفي اليوم التالي كتب نهرو إليها خطابًا طويلًا مليئًا بالنصائح التي كانت قد طلبتها منه الشهر السابق لكن لم تعد بحاجة إليها. بدأ نهرو الخطاب بقول فيه طمأنة لها: «لن أقف في وجه ما تختارينه لنفسك بأي وجه … زواجك … لن يكون إلا باختيارك.» لكنه انتقل بعدها إلى عرض ما قال إنه كان قد خططه لها منذ زمن. ذكر أنه كان يأمل أن تسافر إنديرا بعد الجامعة وتتعلم لغات أخرى:
«بعد أن تحصلي على التدريب العقلي وتتسع ثقافتك كنت أتوقع أن تعودي إلى الهند وتستكشفي أكثر الدول إذهالًا؛ الهند. وفي هذه المهمة أردت أن أساعدك شخصيًّا، وكنت أتوقع أن تساعديني أنت أيضًا إلى حد ما. فلا يوجد في الهند إلا القليلون جدًّا — على حد اعتقادي — ممن يقدرون على تقديم إسهامات مؤثرة، ليس في الحياة العامة فقط، بل في أي نشاط تقريبًا … أفضل مما أستطيع أنا. لقد رغب المئات، بل الآلاف، من الفتية والفتيات في الاشتغال بالسكرتارية لديَّ أو في الحصول بطريقة ما على هذا التدريب. ومع هذا فلم أشجع أحدًا قط على هذا وتحملت أعبائي وحدي لأنني كنت أتصور دائمًا أنك ستكونين من سيحتل هذا المنصب. وإلى أن تقبلي عليه فسيكون عليَّ أن أتركه خاويًا. فليس لأحد أن يأخذ مكانك. ولأن هذه الفكرة ظلت دومًا مسيطرة على عقلي كنت أكتب لك أكوامًا وأكوامًا من الخطابات عن التاريخ وغيره. أردت بهدوء وشيئًا فشيئًا، لكن بحزم، أن أضمن إعداد عقلك للفهم الشامل للحياة والأحداث؛ هذا الفهم الضروري لكل من يضطلع بمسئولية كبيرة. وبالطبع لم أكن أنظر إليك على أنك سكرتيرة أو تابعة لي طوال الوقت. كان هذا ليصير تصرفًا في غاية الأنانية مني. كنت أعلم أنك ستتزوجين يومًا، فأردت لك أن تضطلعي بهذا المنصب، ثم تمضي في حياتك الخاصة. ما أردت إلا أن أمنحك تدريبًا خاصًّا سينفعك نفعًا كبيرًا فيما بعد. كان تدريبًا يتوق الكثيرون إليه بشدة لكن دون أن ينالوه.»11

لكن بعدئذٍ استطرد نهرو في الخطاب: «يبدو أننا مختلفان تمامًا في تقدير أهمية الأشياء. وهو أمر مؤلم.» ثم عاد إلى عزم إنديرا على الزواج بأسرع وقت ممكن. كان لديه شعور قوي بأن عليها أن تتمهل قبل الإقدام على الزواج، ولإقناعها بأن هذا هو الأصلح أثار نقطة مرضها. كذلك كان واضحًا أنه يشعر أن زواجها سيقطع الطريق على تجارب أخرى قيِّمة: «الزواج أمر مهم في الحياة. فهو قد يبني حياة المرء أو يهدمها. ومع هذا فالزواج ما هو إلا جزء صغير من الحياة. فالحياة أكبر بكثير … إن صحتك في الوقت الحالي تشير إلى … أن عليك اجتناب الزواج لبعض الوقت، على الأقل لبضعة شهور … فإن العودة من أوروبا بصحة ضعيفة ثم الزواج فجأة ينمان عن ضرب من العجلة التي تنافي التفكير السليم.»

وفي النهاية أخبر نهرو إنديرا بأنه كان يريد منها أن تناقش هذه المسألة مع آخرين، ومنهم والدة كامالا راجباتي كاول وغاندي ونان بانديت وكريشنا هاثيسينج، وغيرهم من أفراد العائلة الراشدين، الذين رأى أنهم سيؤيدون رأيه. وقال لها: «تجنبي … قدر الإمكان الانشقاق عن معارفك القدامى وتقاليدك. فأنت لا تعرفين كيف سيكون الجُدد، وثمة احتمال كبير أن تجدي نفسك وحيدة. لا أقصد بذلك فيروز، وإنما أقصد المعارف الآخرين، وفيهم عائلة فيروز. بالطبع لا يتزوج المرء عائلة شريك حياته، ومع هذا فلا يمكن تجاهلها، وقد تكون تلك العائلة لطيفة أو غير لطيفة. أنا لا أعرف شيئًا عن عائلة فيروز أو المعارف الآخرين.»12 كانت رسائل نهرو الطويلة والتنقل بين كل أنحاء الهند لاستشارة أفراد الأسرة واحتمال معارضتهم هي تحديدًا السبب الذي جعل إنديرا ترغب في الزواج في لندن.

في أغسطس جاءت كريشنا هاثيسينج وولداها للمكوث لدى إنديرا بموسوري. وفي السابع من الشهر نفسه زارت إنديرا نهرو ثانية، وكانت تود أن تخبره أن حالتها المزاجية لا تسمح بالخوض في مسألة الزواج من فيروز مع عمتها، لكن أثناء لقائهما سمعا عبر راديو حارس السجن أن رابيندراناث طاغور قد مات، فأمضيا بقية الوقت في الحديث عن طاغور «المعلم الأعظم». وعادت كريشنا هاثيسينج إلى بومباي في أكتوبر دون أن تعرف شيئًا عن نية إنديرا في مسألة زواجها.

ظلت إنديرا في موسوري إلى آخر نوفمبر. ووفقًا لمذكرات نهرو لم تكن بحال جيدة، فكانت تبدو «معتلة الصحة وضعيفة». ولكنها لم تكن في عجلة من أمرها للعودة إلى آناند بهافان لأن نان بانديت وأسرتها كانوا وقتها يقيمون هناك. كتب نهرو في مذكراته كيف أن إنديرا عارضت خطة عمتها لإقامة حفل عيد ميلاد لها، وكيف أنها «تريد بالكاد أن تمكث في آناند بهافان، فجل ما تريده من هناك هو أن تجمع ثيابها وما إلى ذلك لتذهب إلى واردا ثم بومباي. أو أي مكان آخر غير آناند بهافان».13 فبالنسبة لإنديرا، لم تكن جراح الماضي تندمل قط، إضافة إلى أنها لم تكن لتنسى أو تصفى سريرتها تجاه أحد. فحتى بعد مضي ما يقرب من ستة أعوام على وفاة كامالا، ومرور أكثر من عقد على يوم أن سخرت نان بانديت من كامالا ووصفت إنديرا بأنها «دميمة وغبية»، ظلت إنديرا على عدائها لنان بانديت، رافضة أن تغفر لها.
عندما عادت إنديرا إلى الله آباد من موسوري في نوفمبر عكفت على تنفيذ نصيحة والدها بالتماس آراء العائلة والأصدقاء، وهي مصممة طوال الوقت على المضي فيما تريد. فأولًا ذهبت لرؤية غاندي من جديد في سيفاجرام. وكان هذا اللقاء محرجًا كسابقه. فمثل نهرو نصحها غاندي ألَّا تتعجل الزواج، وهو غير معتاد أن يأنف أحد من اتباع نصيحته. لكن إنديرا ظلت على عنادها، فسألها غاندي عن حقيقة مشاعرها الجنسية تجاه فيروز، وأكد لها أن الانجذاب الجنسي ليس أساسًا للزواج. وعندما أكدت له إنديرا أن حبها لفيروز أعمق من ذلك بكثير، اقترح غاندي عليها أن تتعهد هي وفيروز باتباع فلسفة البراهماشاريا الزوجية (النذر بالعفة)، والإمساك عن ممارسة الجنس بعد الزواج. فرفضت إنديرا — التي أغضبتها هذه النقطة — رفضًا باتًّا قائلة: «يمكنك أن تطلب من اثنين ألا يتزوجا … لكن إذا تزوجا، فمن غير المنطقي أن تطلب منهما الإمساك عن ممارسة الجنس، فهذا سيتسبب في المرارة والتعاسة.»14
ما إن اقتنع غاندي بأن إنديرا لن يثنيها شيء عن موقفها حتى وافق على زواجها من فيروز، غير أنه أصر على مناقشة أمر الزواج مع فيروز أيضًا الذي أكد له أنه لن يتزوج هو وإنديرا إلا بموافقة نهرو.15 وفوق ذلك أصر غاندي على أنه إن أصبح الزواج حقيقة واقعة، فعليهما ألا يقيما حفل زفاف صغيرًا وبسيطًا كما خططا؛ إذ قال لهما: «ستكون هناك معارضة لهذا الزواج، فإن تم في هدوء فسيقول الناس إنه تم دون موافقة العائلة … لذا عليكما بدعوة الناس.»16 وحتمًا كان زفاف ابنة جواهرلال نهرو ليكون حدثًا مهمًّا على المستوى القومي، لا بد أن يُحتفل به علنًا.
بعد أن حظيت إنديرا بموافقة غاندي ذهبت إلى بومباي للقاء عمتها كريشنا هاثيسينج، وأفضت لها أخيرًا بمسألة زواجها من فيروز. وكما هو متوقع حثتها كريشنا على أن تتمهل في قرارها، وأن تلتقي بالمزيد من الرجال قبل أن تستقر مع فيروز، ونصحتها أيضًا بأن تحاول الزواج من شخص من خلفية مماثلة. مع أنها هي نفسها تزوجت من شخص يدين بالجينية — من خارج طائفة الكشميريين البراهمانيين — بعد علاقة غرامية قصيرة. فلم يكن رد إنديرا على اعتراضات عمتها كريشنا إلا أن قالت: «ولمَ عليَّ الانتظار؟ لم تستغرقي سوى عشرة أيام لتقرري الزواج من راجا بهاي، وأنا أعرف فيروز منذ سنوات. فلمَ عليَّ الانتظار، ولمَ عليَّ أن ألتقي بمزيد من الرجال؟»17
وفي النهاية عادت إنديرا إلى الله آباد لمواجهة خصمها القديمة نان بانديت التي كانت تعتد بدرجة شديدة بعائلتها الأرستقراطية، وتعتبر فيروز بالتأكيد «من العامة». اقترحت نان على إنديرا بأسلوب فج أن تقيم علاقة مع فيروز بدلًا من الزواج منه. أحنق هذا الاقتراح إنديرا؛ إذ شعرت أنه مهين لها هي وفيروز. وهكذا باتت الحياة في آناند بهافان في غاية التوتر.18

حينما استشارت إنديرا الجميع كما توجب عليها استسلم نهرو لرغبتها ووافق على الزواج، لكنه طلب من إنديرا وفيروز الانتظار إلى أن يطلق سراحه من السجن. وعام ١٩٤١ كان لا يزال أمامه ثلاثة أرباع مدة سجنه. لكن عندئذٍ أطلقت السلطات البريطانية سراحه فجأة في ٤ ديسمبر مع غيره من قادة حزب المؤتمر المسجونين. وبدا أخيرًا أن إنديرا وفيروز قد فازا في حربهما للزواج.

غير أن هذه الحرب لم تكن كل ما شغل إنديرا وفيروز منذ عودتهما من إنجلترا. ففي ربيع عام ١٩٤١ كان كلاهما ناشطًا سياسيًّا. كان فيروز عضوًا في اتحاد أصدقاء الاتحاد السوفييتي، وقد نظم معرضًا للاتحاد السوفييتي بلكناو. وكان هو وإنديرا أيضًا مشتركين في اتحاد طلاب عموم الهند الذي انقسم إلى جناحين أحدهما يناصر حزب المؤتمر والآخر يناصر الحزب الشيوعي الهندي. خطبت إنديرا أمام الجناح الشيوعي في لكناو، وفي ديسمبر حضرت المؤتمر السنوي للاتحاد الشيوعي لطلاب الأقاليم المتحدة.19

بالإضافة إلى ذلك كانت إنديرا وفيروز أنشط من أي وقت مضى في حركة النضال القومي. وقد علما — كغيرهما من القوميين — أن النضال من أجل استقلال الهند سيتأثر بلا شك بالعالم الأكبر المنغمس في الحرب. ففي ٧ ديسمبر عام ١٩٤١ تعرض ميناء بيرل هاربر للقذف بالقنابل، فدخلت الولايات المتحدة الحرب. وعلى مدى الشهور التالية أخذ الجيش الياباني يتقدم بانتظام في جنوب شرق آسيا، وبنهاية يناير كان قد طرد القوات البريطانية من شبه جزيرة الملايو. وفي ١٥ فبراير عام ١٩٤٢ سقطت القاعدة الإمبراطورية البريطانية العظيمة في سنغافورة في أيدي اليابانيين. وكانت جاوة وسومطرة ورانجون قد احتُلت في أوائل مارس، فصار الطريق مفتوحًا أمامهم لاحتلال الهند.

لكن حتى هذه التطورات الخطيرة لم تفلح في حجب الأضواء عن ملحمة زواج سليلة نهرو. ففي ٢١ فبراير جاء في الصفحة الأولى من صحيفة «ذا ليدر»، أهم صحف الله آباد، مقالة بعنوان «خطوبة الآنسة إنديرا نهرو»، وفي اليوم التالي ذكرت الصحف في جميع أنحاء الهند أن إنديرا ستتزوج قريبًا من فيروز غاندي. وقد أثار نبأ هذا الزواج عاصفة من الجدل، فقد كانت كل الآراء تقريبًا تعارض هذا الزواج.

كان نهرو في كالكتا عندما نشرت صحيفة «ذا ليدر» الخبر، لكنه أصدر فور عودته إلى بلدته بيانًا عامًّا نشر في صحيفة «بومباي كرونيكال» وغيرها من الصحف على النحو التالي:
«تناقلت الصحف خبر خطبة ابنتي إنديرا إلى فيروز غاندي. ولأن أسئلة وجِّهت لي في هذا الصدد، أود أن أؤكد صحة هذا الخبر. الزواج مسألة شخصية وعائلية، تمس بالدرجة الأولى الطرفين المقدمين على الزواج وعائلتيهما. ومع ذلك فأنا أعلم أن عليَّ نظرًا لارتباطي بقضايا الشأن العام أن أثق في أصدقائي الكثيرين وزملائي والشعب عامة. لطالما اعتقدت أنه مع أن من حق الآباء وواجبهم نصح الأبناء في مسألة الزواج، فالاختيار والقرار الأخير يجب أن يرجع إلى الطرفين المعنيين. فإن تم التوصل إلى هذا القرار بعد دراسة متأنية يجب تنفيذه، وليس للآباء أو غيرهم الوقوف في وجهه. حينما تأكد لي أن إنديرا وفيروز يريدان الزواج قبلت بقرارهما عن طيب خاطر، وقلت لهما إن هذا الزواج قد حظي بمباركتي. كما بارك المهاتما غاندي — الذي أعتز برأيه لا في قضايا الشأن العام فقط، بل في المسائل الشخصية أيضًا — عرض الزواج ذاك. وكذلك وافق عليه أفراد عائلتي وأفراد عائلة زوجتي طواعية. ففيروز غاندي هو شاب بارسي وصديق وزميل لنا منذ عدة أعوام، وأتوقع أن يخدم وطننا وقضيتنا بفعالية وكفاءة. وأؤكد أنني كنت سأوافق على أي شخص يقع عليه اختيار ابنتي، وإلا كنت خائنًا للمبادئ التي أعتنقها. آمل وأرجو أن يكون هذا الزواج رفقة حقيقية في الحياة وفي القضايا الكبرى التي نعتز بها … سيقام حفل الزواج في غضون شهر تقريبًا في الله آباد.»20

أصدر غاندي بدوره بيانًا يؤيد به الزواج في صحيفته؛ صحيفة «هاريجان» التي أعيدت طباعتها في جميع أنحاء البلاد. لكن حتى بمباركة غاندي لهذا الزواج، لم تخف حدة الجدل والهجوم على زواج إنديرا وفيروز «المختلط»؛ إذ كان هذان الأخيران بزواجهما يستهينان بعادتين أصيلتين في الزيجات الهندية. ولا تزالان قائمتين إلى يومنا هذا. فهما لم يقبلا بزيجة تقررها لهما عائلتاهما، وفوق ذلك سيتزوجان من خارج ديانتهما. وقد كانت أسرة نهرو تعد لسنوات الأسرة الأشهر في الهند. فالكل يعشق نهرو وكامالا لأن زيجتهما كان ينظر إليها على أنها الأمثل، وهي زيجة تمت باختيار الأهل. وشتان بين تحدي عوام الناس للأعراف وتحدي الشخصيات الشهيرة لها. فزواج إنديرا وفيروز كان سابقة ليست موضع ترحيب.

تدفقت على آناند بهافان آلاف الرسائل والبرقيات بعضها كان بذيئًا وأكثرها عدائي والقليل منها مهنئ. ونوقش أمر هذا الزواج في الصحف، وتحدث عنه عدة مواطنين بارزين. وحسبما ذكرت إنديرا بعدها بعدة أعوام، «كانت البلاد بأسرها تعارض الزواج».21

لكن فيروز وإنديرا مضيا في قرارهما بشجاعة. وبعد مشاورة العلماء الهندوس اختير يوم ٢٦ مارس لإقامة حفل الزواج. كان هذا التاريخ بالذات مبشرًا؛ إذ يوافق عيد «رام نافمي» الذي يحتفل فيه بميلاد الإله راما بطل ملحمة رامايان. إلا أنه لم يكن مناسبًا من الناحية السياسية؛ إذ كان مقررًا أن يصل وفد بريطاني يرأسه السير ستافورد كريبس إلى الهند يوم ٢٢ مارس حاملًا عرضًا من تشرشل بخصوص «الشأن الهندي». وحتمًا سيصير نهرو والكثير من المدعوين مشغولين جدًّا بالتفاوض مع بعثة كريبس.

ومع أن زواج إنديرا لقي احتجاجًا على مستوى البلاد وصلت إلى آناند بهافان في الأسابيع والأيام السابقة على زفافها هدايا من جميع أنحاء البلاد. و«صارت غرفة إنديرا مزدحمة بأوراق تغليف الهدايا التي تصدر خشيشًا وشرائط ساتان تبرز منها هدايا من الفضة والكريستال، وأحيانًا علب مجوهرات مبطنة بالقطيفة تحوي حليًا مرصعة بالجواهر. على أن أغلب هذه الهدايا أعيد تغليفها بعناية وإعادتها إلى مرسليها لأنهم لم يكونوا معروفين للعائلة.22
كان يوم ٢٦ مارس ذا شمس ساطعة وسماء صافية. بدأ حفل الزفاف مبكرًا، قبل أن ترتفع الحرارة. وفي التاسعة صباحًا نزلت العروس من غرفتها وهي ترتدي — في إشارة ذات مغزًى — ثوبًا من الخادي نسج يدويًّا من خيوط غزلها نهرو في السجن إلى ساري مصبوغ باللون الوردي، وحواشيه مطرزة بزهور فضية رقيقة. كانت ترتدي في معصميها إكليلًا من الزهور اليافعة وأساور زجاجية ملونة شفافة بدلًا من المجوهرات الذهبية الثقيلة المعتادة. لم تبدُ إنديرا بهذا الجمال من قبل، ولا بهذه الحال الجيدة منذ فترة طويلة جدًّا؛ كانت تبدو طويلة ورشيقة وبشرتها لم تعد صفراء شاحبة، بل اكتست ﺑ «لون ذهبي كلون القمح اليانع»، وكانت ملامحها الجميلة أقرب إلى صورة خطت على عملة إغريقية.23 كان فيروز يرتدي الزي الأبيض التقليدي لأعضاء حزب المؤتمر، وهو الخادي الشيرواني وسروال شوريدار، وارتدى إكليلًا من الزهور.
أقيمت مراسم الزواج في آناند بهافان في الهواء الطلق تحت فسطاط يظلل شرفة مزينة بالخضرة في الطابق الأرضي. التفت إنديرا ونهرو وفيروز حول النيران التي تُشعل تقليديًّا في الزفاف فوق لوح من الرخام. وأشار الوثار الخالي إلى جانب نهرو إلى غياب كامالا. وجلس المدعوون على البسط أو الكراسي حول الشرفة، ومن ورائهم من بعيد بامتداد آناند بهافان، وقف في حر الصباح مئات المتفرجين غير المدعوين. كان من بين الحشد مصور من مجلة أزياء أمريكية. وحضر أيضًا أمريكي آخر هو نورفين هاين الذي كان مدرسًا شابًّا بكلية كريستيان إيوينج، وقد بذل جهدًا كبيرًا ليصور الزفاف بعدسة كاميراته الفيلمية قياس ٨ ملليمتر.24
كانت المراسم التي جمعت بين فيروز وإنديرا في الزواج غير تقليدية وغير قانونية. فوفق القوانين الاستعمارية البريطانية بالهند لا يسمح لاثنين من ديانتين مختلفتين بالزواج أحدهما من الآخر إلا إذا تخليا عن ديانتيهما. ومع أن إنديرا لم تكن قط ممارسة لهندوسيتها، وفيروز لم يكن بارسيًّا ملتزمًا، فقد تردد كلاهما في التوقيع على إشهار يفيد بأنهما لا ينتميان لأي دين. قبل سبعة أعوام واجه ابن عم إنديرا بريج كومار نهرو المشكلة نفسها عندما أراد أن يتزوج من زوجته اليهودية المجرية فوري. وكما هي العادة استشار بريج كومار نهرو آنذاك المهاتما غاندي وأخذ بنصيحته. وتزوج بريج كومار نهرو من زوجته وفقًا للطقوس الهندوسية في مراسم أجراها أستاذ من جامعة دلهي يدعى «كالا» كان قد ابتكر سلسلة من الطقوس هي — حسبما قال — الطقوس الفيدية الأصلية للزواج. ومع أن قوانين الهندوسية تمنع الهندوس من الزواج من خارج ديانتهم فلم تتطلب الطقوس الهندوسية الجهر بالعقيدة، ويعني هذا أن بمقدور غير الهندوس المضي في مراسم الزواج الهندوسي. لكن القوانين، سواء البريطانية أو الهندوسية، لم تكن تعترف بمثل هذا الزواج، ومن هنا كانت زيجتا بريج كومار نهرو وإنديرا غير قانونيتين.25
وكما في زيجة بريج كومار نهرو أجرى طقوس زواج فيروز وإنديرا البروفيسور كالا واتبع نفس المراسم التي اتبعها سابقًا في زواج بريج كومار نهرو بالضبط، فيما عدا تلاوة سطر سنسكريتي اختارت إنديرا أن تتلوه لصداها السياسي في أحداث عام ١٩٤٢: «إن كان في أركان الأرض الأربعة من يجرؤ على حرماننا من حريتنا فليعِ كلامي جيدًا! ها أنا ذا سيفي في يدي، ومستعد للمقاومة إلى الرمق الأخير! أدعو أن يغمرنا نور الحرية من كل جانب.»26 استغرقت مراسم الزواج ساعتين، وكانت قصيرة وبسيطة وفقًا للمعايير الهندية. وطوال الوقت امتلأ الهواء بعبق البخور وتلاوة الكاهن وأزيز السمن الصافي المسكوب بملعقة فضية على النيران.
في البداية جلست إنديرا في الشرفة إلى جانب نهرو. ولما حان موعد كانيادان — وهب الأب ابنته للزواج — عبرت إلى الجانب الآخر من النار وجلست إلى جانب فيروز. أهدى فيروز لإنديرا صرة من الملابس، وأطعمته هي لقمة من الطعام ليرمزا بهاتين اللفتتين إلى أنهما سيعنيان بحاجات أحدهما الآخر الجسدية. ثم ربط بين معصميهما بإكليل من الزهر. زاد البانديت من أجيج النيران بأن سكب عليها المزيد من السمن الهندي، ونهضت إنديرا وفيروز لأداء طقس «سابت بادي» الذي يقضي بالسير حول النيران المقدسة لسبع مرات مع ترديد نذور سنسكريتية بالإخلاص أحدهما للآخر ولمجتمعهما والعالم.27 وضعت إنديرا قدمها على حجر لتقسم يمينًا غليظة، ثم وُضع البانديت على جبهتها البيندي الأحمر الذي تضعه الهندوسيات المتزوجات على جباههن. الآن لم تعد هناك رجعة في زواج فيروز وإنديرا. وأمطر العروسان ببتلات الزهور فيما اندفع أهلاهما وأصدقاؤهما لمعانقتهما وتهنئتهما.
اتبع الزفاف في الأغلب الطقوس والممارسات الهندوسية بدقة، غير أنه أسفل الخادي الشيرواني المعتاد ارتداؤه في شمال الهند ارتدى فيروز خيط أجداده البارسيين،28 ربما فعل ذلك استرضاءً لوالدته التي كانت معترضة على الزواج ومع هذا حضرت الزفاف. (حتى إن نورفين هاين استطاع مع خجلها من الكاميرا أن يظهرها في فيلم الزفاف). لكن من ناحية أخرى كان ارتداء فيروز للخيط البارسي المقدس أول عمل يدل على أن شخصيته لن تذوب في العائلة الشهيرة التي صاهرها.

تجوَّل المدعوون في حدائق آناند بهافان طوال مدة ما بعد الظهيرة، وبعدها في أول المساء حضروا عشاء الزفاف. التقط نورفين هاين أهم مشاهد حفل العشاء وفيه مشهد المدعوين الذين جلسوا في صف طويل لتناول وجبة بسيطة من خبز الشاباتي والخضروات الطازجة، لم يحضر العشاء أعداد لا حصر لها من الأقارب والجيران والأصدقاء فحسب، بل حضر أيضًا أغلب قادة حزب المؤتمر (وفي ذلك سروجيني نايدو وابنتها بادماجا)، وعدد لا يحصى من موظفي حزب المؤتمر المحليين وإيف ابنة العالمة الشهيرة ماري كوري، التي لم يكن حضورها متوقعًا.

وكان واضحًا أن عددًا من الشخصيات المهمة قد تخلفت عن حضور زفاف إنديرا. فجدة إنديرا راجباتي كاول التي ظلت تراسل نهرو بشأن الزفاف لأسابيع مرضت ولم تستطِع القدوم.29 ولم يحضر المهاتما غاندي إذ كان في ٢٦ مارس مسافرًا إلى دلهي للقاء السير ستافورد كريبس. وكثيرًا ما زُعم أن كريبس نفسه كان مدعوًّا لحضور الزفاف، لكنه حقيقة لم يزر الله آباد إلا فيما بعد. ففي يوم الزفاف كان في دلهي يشتري ثيابًا خفيفة لتساعده في تحمل حرارة الهند وهو ينتظر وصول غاندي.30 وفات الزفاف رئيس حزب المؤتمر مولانا أبو الكلام آزاد لأن قطاره تأخر في الوصول، لكنه تمكن من الوصول إلى آناند بهافان في الوقت المناسب للانضمام لحفل العشاء.
لم يتوقف نشاط حزب المؤتمر السياسي حتى في يوم زفاف إنديرا. التقى قادة الحزب قبل حفل العشاء بوقت قصير في قاعة استقبال الطابق الأرضي في آناند بهافان للتمهيد لاستراتيجيتهم تجاه بعثة كريبس. في عام ١٩٤٢ كان موقف بريطانيا في المفاوضات ضعيفًا؛ إذ كانت قواتها المسلحة قد تكبدت خسائر فادحة في الشرق الأقصى في الوقت الذي كان تشرشل يتعرض فيه لضغط متزايد من الولايات المتحدة لإيجاد تسوية للوضع الهندي. ولهذا السبب أرسل تشرشل ستافورد كريبس الذي كان وقتها قد صار حاملًا للأختام الملكية وعضوًا بمجلس الحرب لدلهي في محاولة يائسة لإحراز تقدم في المفاوضات مع حزب المؤتمر لمواجهة الغزو الياباني الوشيك. كان مفاد عرض تشرشل هو أنه إن أبدى حزب المؤتمر استعدادًا لمساندة بريطانيا في جهودها الحربية فستمنح الهند السيادة الكاملة بعد الحرب؛ بعبارة أخرى كان عرضًا «يمني الهند بالآمال في الغد في مقابل الحصول على تعاونها اليوم».31

بدأت المفاوضات في ٢٥ مارس — في اليوم السابق لزفاف إنديرا — واستمرت لثمانية عشر يومًا أخرى. خلال هذه المدة جاء كريبس الذي كانت إنديرا ونهرو يذكرانه من زيارتهما لإنجلترا للمكوث في آناند بهافان لعدة أيام. ولأنه كان نباتيًّا متزمتًا (وهو ما جعله محببًا لدى غاندي) وجد كريبس أنه النباتي الوحيد في منزل نهرو، ولأن سوق الله آباد لم يكن بها سوى القليل من الفاكهة والخضروات أرسل آل نهرو طلبًا لإحضار البطيخ من كابول، والعنب من كويتا.

ومع أن بعثة كريبس كان يُتطلع إليها بلهفة فقد أسفرت عن «أكبر إحباطات عام ١٩٤٢».32 ففي ٩ أبريل رفض حزب المؤتمر بعد مداولات عرض إنجلترا، ووضع الاستقلال الفوري للهند شرطًا أساسيًّا لمساندة إنجلترا في الحرب. فعرض بعثة كريبس — على حد وصف غاندي — كان في مجمله مثل «شيك مؤجل الدفع مسحوب على بنك متعسر».

وعقب الزواج انتقلت إنديرا وفيروز للسكن في بيت صغير مؤجر في عقار رقم ٥ بشارع فورت رود في الله آباد. لم يكن لدى فيروز وظيفة آنذاك، وعلى ما يبدو لم تمثل النقود في هذه المرحلة مشكلة. (فمما لا شك فيه أن جزءًا كبيرًا من هدايا الزفاف جاء في شكل أموال نقدية). غير أن فيروز كان قد جنى بالفعل بعض المال على مرات متفرقة بكتابة مقالات مصورة من حين لآخر للصحف والمجلات، مستوحيًا فكرة تلك المقالات من مجموعة الصور الضخمة التي يملكها. ويبدو أنه باع بعض وثائق التأمين، مع أنه لم يكن قط — كما قيل عنه كثيرًا — بائع وثائق تأمينية.

وفي أواخر مايو مع بدء الحر الشديد ذهبت إنديرا وفيروز إلى كشمير لقضاء شهر عسل متأخر. وهناك في سريناجار نزلا ضيفين على القائد الكشميري المؤثر الشيخ عبد الله. وفي الثالث من يونيو كتبت إنديرا إلى نهرو تقول: «نحن نمضي وقتًا رائعًا.» بدأت إنديرا وفيروز رحلتهما إلى لداخ، وزارا بهالجام، ومنطقة سونمارج (مرج الذهب) التي تقع على مرتفع كبير وتحيطها الأنهار الجليدية والنسور. وعن رحلاتها إلى تلك المناطق كتبت إنديرا إلى أبيها تقول: «أنا في غمرة السعادة لاستكشاف كشمير.» ثم ذهبت إنديرا وفيروز في رحلة شاقة لأربعة أيام على ظهور الخيل إلى نهر كولاهوي الجليدي، وعندما عادا إلى سريناجار أمضيا «ثلاثة ليالٍ مقمرة رائعة على ظهر مركب للسكنى». ومن مدينة موهانمارج كتبت إنديرا إلى نهرو تقول:
«حقًّا إن كانت هناك جنة على الأرض لا بد أنها هذه … لا يوجد في سويسرا ما يضاهي هذه المنحدرات المليئة بالزهور، ولا هذا النسيم العطر … ولا هذه المياه الجارية التي تسكب في النفس عقار النسيان والطمأنينة … وبما أنني لا أستطيع أن أحصي لك أوجه جمال موهانمارج أرسل لك تذكارًا من زهرتين صغيرتين؛ زهرة لا تنسني، وزهرة إيدلفايس. وهما تكثران هنا إلى جانب نبات شقائق النعمان وعشب الحوذان وزهرة الخف الهولندية والكثير من الزهور التي تدعى هنا بزهور الألب.»33

ظلت إنديرا وفيروز محرومين من الإذاعة ومن الصحف في كشمير لشهرين، ولم يصلهما إلا القليل من الرسائل. فشعرا بالحرية التامة وبالانفصال عن العالم الذي تركاه خلفهما؛ عالم السياسة وعالم الحرب الأكبر منه. وقد صار شهر عسلهما في كشمير علامة فارقة طوال مدة زواجهما المضطرب، فكان بمنزلة ذكرى دائمة لا تخبو بمر الأيام. ومرة تلو الأخرى في الأعوام التالية تعود إنديرا إلى كشمير، إما مع فيروز أو بمفردها لتحاول أن تستعيد جنتها من جديد.

•••

في يوليو عام ١٩٤٢ اجتمعت لجنة المؤتمر العاملة في صومعة غاندي، سيفاجرام أشرم، وأصدرت قرارًا يقضي بأن تسلم الحكومة البريطانية جميع السلطات السياسية إلى الهند دون أي تأخير. فإن لم تنفذ الحكومة البريطانية قرار «تحرير الهند» فسيرفض الشعب الهندي مساندة بريطانيا في جهودها الحربية. ولم يكن تحرير الهند يعني أن يرحل كل المواطنين البريطانيين — أو حتى الجيش البريطاني — فورًا عن الهند، بل يعني أن يتسلم الشعب الهندي المهام الحكومية. وتقرر عقد اجتماع للجنة حزب المؤتمر لعموم الهند لمناقشة القرار في أوائل أغسطس. وفي لندن تابع مجلس الحرب هذه التطورات بترقب، وفوض نائب الملك لورد لينليثجو في القبض على قيادات حزب المؤتمر كلها وتطبيق سياسة القمع الشامل إن استدعى الأمر ذلك.

ما إن عادت إنديرا وفيروز إلى الله آباد حتى قصدا اجتماع لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في بومباي. وحضرا الاجتماع مع المئات غيرهم في حديقة جواليا تانك في مساء ٨ أغسطس، عندما اقترح جواهرلال نهرو قرار تحرير الهند. حظي القرار بموافقة كاسحة، وبدأ من جديد الصراع الجماعي من أجل الحرية بقيادة غاندي. وفي حين أعلن غاندي في الاجتماع أن الوقت «قد حان للتحرك الجاد»، قال نهرو: «إنها ساعة الصفر في العالم.»

وفي بومباي مكث نهرو وإنديرا وفيروز بشقة آل هاثيسينج بقصور ساكينا بشارع كارمايكال. وفي ليلة ٨ أغسطس لم يعودوا إلى الشقة قبل العاشرة مساءً. وبعدها تناولوا عشاءهم في وقت متأخر، وظلوا يتسامرون حتى الواحدة صباحًا. وبعدها بعدة ساعات، في الخامسة والربع من صباح ٩ أغسطس، دخلت إنديرا غرفة نهرو وأيقظته برفق قائلة: «لقد جاءت الشرطة.» حزمت إنديرا حقيبة نهرو فيما حلق هو ذقنه واغتسل. ثم تناولا الإفطار على مهل، وبعدها كتب نهرو خطابًا إلى البنك يمنح فيه إنديرا الحق في التصرف في حسابه. وعندها فقط ذهب إلى غرفة المعيشة لملاقاة رقيب الشرطة الذي قرأ عليه مذكرة اعتقاله، وأمره هو وزوج أخته راجا هاثيسينج بمصاحبته.

تبعت إنديرا وفيروز وكريشنا هاثيسينج ضباط الشرطة وهم يصحبون نهرو وزوج أخته إلى الخارج، في البداية وقفوا بلا حيلة يشاهدون نهرو وهاثيسينج وهم يقحمون على عجل داخل سيارتي أجرة. وبعدها قفزوا بسرعة إلى سيارة أحد الأصدقاء، وتبعوا سيارتي الأجرة وهما تسيران «في الصباح الباكر البارد والمدينة لا تزال تصحو». وحين وصلوا إلى مركز شرطة فيكتوريا في بومباي مضت سيارتي الأجرة أمامهم، في حين أوقفت الشرطة سيارة إنديرا وفيروز وكريشنا عند مدخل المركز. كان هناك زحام كبير واتضح أنه قبض على عدد كبير من رجال حزب المؤتمر. لم يكن هناك سبيل لأن تلقي إنديرا ومن معها نظرة أخيرة على نهرو وهاثيسينج قبل أن يُدفع بهم إلى القطارات لتحملهم إلى حيث لا يدري أحد.34

نُقل نهرو إلى حصن أحمد نجار وهو حصن مغولي بُني في القرن السادس عشر يقع بأحد أطراف إقليم بومباي النائية. ويحتوي على خندق مائي وجسر متحرك، لطالما استخدم البريطانيون هذا الحصن لاعتقال السجناء السياسيين لما به من تدابير أمنية قصوى. وفيه كانت الهيئة العليا للجنة حزب المؤتمر العاملة بكاملها معتقلة وفيهم: أساف علي، وأبو الكلام آزاد، وشنكارو ديو، وناريندرا ديف، وبي سي غوسيه، وجي بي كريبالاني، وسيد محمود، وهاريكريشنا ماهتاب، وجوفيند بالاب بانت، وفالابهبهاي باتيل، وباتابهي سيتارامايا. كانت هذه آخر وأطول مدة سجن قضاها نهرو؛ إذ امتدت لعامين وعشرة شهور. أما غاندي وزوجته كاستوربا وسكرتيره وطبيبه وسروجيني نايدو، فقد سيقوا إلى قصر أغاخان في بونا الذي كان سجنًا فخمًا بالمقارنة بحصن أحمد نجار.

وبعد القبض على لجنة حزب المؤتمر بستة أسابيع عمت حركات الإضراب والمظاهرات البلاد. وبدت الهند موشكة على بدء حالة من العصيان المسلح والفوضى؛ فقُطعت خطوط التلغراف والتليفون وأُشعلت النيران في المباني العامة، ونُسفت خطوط السكك الحديدية والطرق والجسور. فكان هذا أخطر تهديد يواجهه الحكم البريطاني للهند منذ ثورة الهند عام ١٨٥٧. وبنهاية عام ١٩٤٢ كان قد قبض على أكثر من ستين ألف شخص. وقام نائب الملك لورد لينليثجو — وهو رجل كان نهرو يصفه بأنه «ثقيل الوزن والفهم، جامد كالصخر يفتقر إلى الإحساس كالصخر تقريبًا» — بالتغلب على بلادته وبعث ببرقية إلى تشرشل. لكن هذه القلاقل لم تزعزع تشرشل الذي أعلن: «لم أصبح رئيسًا لوزراء الملك لأشرف على انهيار الإمبراطورية البريطانية.»35
وفي ١٠ أغسطس صدرت مذكرة لاعتقال فيروز لأنشطته كمتطوع بارز بحزب المؤتمر. فتنكر فيروز في هيئة جندي بريطاني من أصل هندي في زي عسكري للتملص من الشرطة. لكنه خشي أن يُتعرَّف عليه في الله آباد، لذا استقل إحدى الشاحنات المتجهة إلى المدينة المليئة بالجنود البريطانيين والهنود الإنجليز. ولما كانت خدعة تنكر فيروز قد انطلت على هؤلاء الجنود، فقد حذروه قائلين: «إن السكان المحليين اللعناء كانوا سيقطعونه إربًا إن قبضوا عليه وحده وهو أعزل.»36 وبعدها بعدة أيام وصل فيروز إلى لكناو حيث انضم إلى حركة المقاومة السرية.

وبعد ذلك عاد فيروز إلى الله آباد حيث أقام في عدة نزل خاصة بأعضاء حزب المؤتمر، وأضاف إلى تنكره شاربًا. وفي هذه الأثناء قادت إنديرا في آناند بهافان أنشطة خاصة بحركة تحرير الهند، وبحلول هذا الوقت كان قد قُبض على نان بانديت وأُرسلت إلى سجن نايني. تُركت إنديرا في منزل آناند بهافان مع بنات نان بانديت الثلاث ومربيتهم الصينية السيدة تشو. وكان معهم أيضًا في آناند بهافان لال بهادور شاستري (الذي شغل فيما بعد منصب رئيس وزراء الهند) والذي كان مختبئًا في غرفة علوية مغلقة بالمنزل حيث كانت إنديرا تصعد له بصواني الطعام ليلًا. قيل للخدم إنه قريب لنهرو مريض، في حين شغل المنزل المجاور منزل سواراج بهافان ضباط الجيش الذين أبقوا على آناند بهافان تحت رقابة مشددة. وفي آخر يوم في شهر أغسطس جاءت الشرطة إلى آناند بهافان للقبض على شاندراليكها بانديت التي تبلغ ثمانية عشر عامًا والتي بلغت لتوها سن الرشد وصارت ناشطة في تظاهرات المؤتمر بالله آباد. وساقتها الشرطة إلى سجن نايني لتنضم بذلك إلى والدتها.

وطوال الشهر التالي التقت إنديرا وفيروز على مرات متفرقة مستترين عادةً تحت جنح الليل في منازل أصدقائهما كمنزل طبيبة إنديرا الجديدة في الله آباد، وهي امرأة تكبر إنديرا ببضعة أعوام تدعى فاتسالا سامانت. ولأن مذكرة اعتقال فيروز كانت لا تزال قائمة كان في مجيئه إلى آناند بهافان مخاطرة كبيرة. إذ كان يدير جهاز إرسال لاسلكي غير قانوني خاص بمحطة راديو حركة المقاومة السرية التابعة لحزب المؤتمر التي كانت تنظم عمليات قطع خطوط التلغراف في الله آباد وتدير حركة العصيان المدني المحلية.

في أوائل سبتمبر هوجمت إنديرا بعصي الشرطة أثناء مشاركتها في احتفالية قومية لرفع الأعلام في كلية كريستيان إيوينج، التي كانت قد التقت فيها هي وكامالا بفيروز لأول مرة قبل أحد عشر عامًا. وبعدها بعدة أيام بلغها أنها ستُعتقَل عما قريب، فأقسمت ألا تذعن لهذا. وفي ١١ سبتمبر نُظم اجتماع عام في الله آباد ببرج الساعة خططت إنديرا لإلقاء خطبة فيه. وحضر فيروز أيضًا الاجتماع من بعيد وهو متنكر. وفي اليوم المحدد احتشد ما يزيد عن ثلاثة آلاف شخص ببرج الساعة في الخامسة مساءً. وقبل أن تنهض إنديرا لإلقاء خطبتها بوقت قصير، وصلت عربة محملة برجال الشرطة المسلحين. وحينما صوب ضابط منهم سلاحه بالقرب من إنديرا اندفع فيروز للأمام صارخًا فيه ليخفض سلاحه. وهب الحشد للدفاع عن فيروز وإنديرا. لكن الشرطة أطبقت على كل هؤلاء، وقبضت على إنديرا وفيروز وعدد من المحتشدين ووضعتهم في شاحنة.37
وفي مساء اليوم نفسه كانت نان بانديت في ثكنة السيدات بسجن نايني عندما وصلت «إندو» التي كانت «تغطيها الكدمات وآثار الضرب وبعض ملابسها ممزقة».38 كان سجن نايني — الذي زارت فيه إنديرا أباها لمرات عدة في الماضي — له بوابة مهيبة شبيهة ببوابة الحصن، لكنه من الداخل كان شبيهًا بنوادي الإنجليز الرياضية لكثرة ما به من حدائق ونافورات بامتداد الأراضي الواسعة المعتنى بها جيدًا. غير أن ثكنة السيدات التي أودعتها إنديرا كانت ضيقة وحارة ومزدحمة. شغلت ست سيدات غرفة واحدة فقط نوافذها مغطاة بالقضبان، وكانت المراحيض الواقعة في أقصى الغرفة منفصلة بستائر. كانت السجينات ينمن على مراتب على الأرضية الحجرية. ولم يتمتعن بأي خصوصية وهناك الكثير من الجلبة.39
ومع أن السجن غير مريح فقد كان مرحلة انتقالية لا بد أن تمر بها إنديرا. فتقريبًا كل من عرفته كان قد سُجن. وكانت هي — كما ذكرت بعدها بعدة سنين — قد عقدت العزم على دخوله. فالسجن كان نتاج كفاحها أو ثمرته. حتى إنها قالت: «لولاه … لظل شيء ما ناقصًا … لقد شعرت بالسعادة عندما قُبض عليَّ.»40

في ١٩ سبتمبر حكم على فيروز بالسجن لعام في سجن نايني وبدفع غرامة قدرها ٢٠٠ روبية إن تأخر في دفعها فسيتحتم عليه قضاء ستة شهور إضافية في السجن. أما إنديرا فلم توجه إليها تهم، بل اعتقلت بلا محاكمة وفقًا ﻟ «قانون الدفاع عن الهند.»

طوال الستة الأسابيع الأولى من مدة سجن إنديرا كانت مريضة ومصابة بالحمى. وفقدت الوزن من أثر النظام الغذائي في السجن الذي يقتصر على العدس والأرز غير الطازجين. وبعدها ارتقت إنديرا وعمتها وابنة عمتها إلى سجناء «من الفئة الأولى»، وتحسَّنت صحة إنديرا لتناول الطعام الأكثر تغذية الذي يشمل البيض واللبن. ومُيِّزت عن بقية السجناء بإمكانية النوم في فناء السجن لتفادي الحر.

من المدهش وسط هذه الظروف أنه لم يقع بين إنديرا وعمتها في السجن سوى القليل من الصدامات التي لا تُذكَر. كانت نان بانديت مكتئبة قبل انضمام ابنتها وإنديرا إليها، لكنها ابتهجت حينما وصلتا إلى السجن. أطلقت إنديرا وابنة عمتها ليكها أسماءً على الأجزاء الصغيرة التي خُصصت لهما في الثكنة. أطلقت ليكها على الجزء الخاص بها اسم «بيان فينو» [أي مرحبًا باللغة الفرنسية] لأنه كان يطل نوعًا ما على البوابة الرئيسية. في حين سَمَّت الجزء الخاص بأمها باسم «المطل على الحائط»، ذلك لأنه لم يكن يطل على شيء سوى حائط. أما إنديرا فقد أطلقت على جزئها الصغير اسمًا غريبًا هو «تشيمبورازو». وسمت إنديرا وليكها المنطقة العامة ذات الفرش الزرقاء التي وصلتهن من آناند بهافان باسم «غرفة الاستقبال الزرقاء». في الواقع كانت إنديرا وليكها تسميان كل ما في الثكنة تقريبًا، فكانتا تدعوان قطة السجن «مهيتابل» وتسميان إحدى صغارها «بارفاتي». في حين أسمتا مصباح السجن «لوسيفر»، وقنينة زيت الشعر التي فقدت غطاءها باسم «روبرت، الإيرل مقطوع الرأس».

كانت نان وليكها وإنديرا تكتبن مذكراتهن في السجن، لكن إنديرا كانت تكتب مذكراتها باللغة الفرنسية «لئلا يتمكن أحد من النظر إليها خلسة». كان يُسمح لإنديرا بلقاء فيروز مرة كل أسبوعين إلى أن نُقل إلى سجن فايزاباد في مارس، وفي عيد ميلاد إنديرا الخامس والعشرين في ١٩ نوفمبر ١٩٤٢ التقت هي وفيروز للمرة الثانية. وأثناء المقابلة اختلست ليكها النظر إلى مذكرة إنديرا — التي كانت تعلمها الفرنسية في السجن — وتمكنت ليكها من قراءة العبارة التالية المكتوبة بالفرنسية: «زوجي هنا وأنا في منتهى السعادة.»41

أفقد انتهاك الخصوصية والضوضاء الدائمة في الثكنات إنديرا قدرتها على الاحتمال. كانت معتقلة مع ست مسجونات سياسيات أخريات، وخارج فناء السجن مباشرة كانت السيدات المتهمات بالسرقة والبغاء والقتل يتسكعن ويحدثن جلبة شديدة. وبعد شهر أو نحوه في السجن أعلنت إنديرا أنها لا ترغب في التكلم مع أحد ولا أن يكلمها أحد قبل الخامسة مساءً من كل يوم، وبهذا استطاعت أن تحصل لنفسها على بعض العزلة وسط الآخرين.

غير أن فترة العزلة هذه انقطعت مع انضمام طفلة حديثة الولادة تدعى سارالا إلى الثكنة. كانت سارالا ابنة سجينة سياسية تدعى كالافاتي ميشرا زوجة أحد موظفي المؤتمر، لكنها نفسها كانت غير متعلمة. وصفت نان بانديت كالافاتي بأنها «أكثر الشخصيات التي قابلتها غموضًا». رأت إنديرا أن كالافاتي أم غير مسئولة، لذا قررت أن تعتني بطفلتها. وسرعان ما صارت شديدة التعلق بالطفلة حتى إنها أرادت أن تتبناها، والمدهش في الأمر أن والدة الطفلة لم تمانع في التخلي عنها لإنديرا، لكن عندئذٍ تدخلت نان بانديت وقالت لإنديرا: «لقد تزوجت لتوك وسترزقين بأطفالك. كيف سيكون شعورك تجاه هذه الطفلة عندما يصبح لديك أسرتك الخاصة؟»42
في أواخر نوفمبر في حصن أحمد نجار تسلم نهرو رسالة من حكومة الولايات الاتحادية تخبره بأن الطبيب المدني بسجن نايني فحص إنديرا وقال إن «صحتها بوجه عام ليست جيدة.»43 كان هذا أول خبر يسمعه نهرو عن ابنته منذ اعتقالها. إذ لم يُسمَح لكل منهما بالاتصال بالآخر، ولم يكن لديهما أي صلة بالعالم الخارجي. لذا لم يعرفا بالمجاعة التي تفشت في البنغال، ولا باعتكاف غاندي على الصوم لثلاثة أسابيع في السجن. وفي أوائل ربيع عام ١٩٤٣ سُمح لهما أخيرًا بالرد على الرسائل التي تصلهما، لكن لم يُسمح لأي منهما بابتداء المكاتبة.
وفي ٢٥ مارس سُمح لإنديرا أخيرًا بمكاتبة أبيها وتحطيم جدار الصمت الذي فُرض على علاقتهما لسبعة شهور. فكتبت تقول: «كل هذه الشهور وأنا أنتظر وأنتظر إلى أن فقدت الأمل في تسلم أي رسالة منك. وكل هذا الوقت وأنت بدورك تنتظر على بُعد أميال. أنت خلف مجموعة من الجدران وأنا خلف مجموعة أخرى.»44 حكت له عن الطفلة سارالا (التي كانت قد غادرت السجن بعد إطلاق سراح أمها)، وعن قراءاتها في السجن، لكتابات بالزاك، وروسو، وجون ستيوارت ميل، ورواية توماس دي كوينسي التي تحمل اسم «اعترافات مدمن أفيون إنجليزي» بالإضافة إلى غيرها من «الكتب القديمة» … وتقول إنديرا: «دائمًا ما أنوي القراءة، لكن بطريقة أو بأخرى أجد نفسي لا أنفك عن تأجيلها.»45 وكانت تقرأ في السجن للكتَّاب المعاصرين أمثال جورج برنارد شو، وأبتون سينكلير، والروائي الصيني لين يوتانج. وفي خطاب لاحق وصفت إنديرا لنهرو النظام الغذائي «من الفئة الأولى» الذي تتمتع به، وكيف أنها صارت تنام في الخارج بما أن موسم الحر قد بدأ. وحكت له عن شعورها بالفرح عند الاستيقاظ ليلًا ومشاهدة نجوم كوكبة الدب الأكبر وهي مبعثرة فوقها وكأنها تواسيها وترعاها.46

صارت إنديرا ونهرو يكتبان أحدهما للآخر مرة كل أسبوع (وكان هذا أقصى عدد سُمح به من الرسائل) إلى أن يُطلق سراح إنديرا. كان مراقبو الحكومة يقرءون كل هذه المراسلات، وأحيانًا يقتطعون صفحات كاملة منها، خاصة إن كانت تشير إلى ظروف السجن، أو إن خرج أي منهما عن الشواغل الشخصية.

بمرور الوقت في السجن ومع تحسن صحة إنديرا ارتفعت روحها المعنوية، وظلت مبتهجة حتى بعد نقل فيروز إلى سجن فايزاباد وإطلاق سراح عمتها وابنة عمتها ليكها. هذا إلى جانب أن وزن إنديرا قد زاد؛ ففي أوائل ربيع عام ١٩٤٣ كانت تزن خمسة وتسعين رطلًا، أي أكثر مما كانت تزن في لي فرين بعشرين رطلًا. وفي أواخر أبريل كتبت إنديرا لنهرو تقول: «في عيد النوروز ارتديت ساريًا جديدًا وكنت مبتهجة طوال الوقت الذي قضيته بمفردي.»47 غير أنها انزعجت عندما بلغها من والدة سارالا أن الطفلة فقدت الكثير من وزنها، وتبكي كثيرًا، وظهر عليها بوضوح أنها تفتقد التدليل الذي أغدقته إنديرا عليها في السجن. فشعرت إنديرا بالندم الشديد على اقتناعها برأي نان بانديت وعدم تبنيها لسارالا. كانت سارالا — على حد قول إنديرا لأبيها — طفلة مفعمة بالحيوية والذكاء، لكن إنديرا صارت موقنة بأنها ستتعرض للإهمال وستشب لتصبح «متبلدة كأمها».48

•••

أُطلق سراح إنديرا من سجن نايني في ١٣ مايو عام ١٩٤٣، بعد مدة سجن قدرها ٢٤٣ يومًا. وفي رحلتها بالسيارة بمحاذاة نهر يومانا إلى الحي المخصص لسكنى البريطانيين في مدينة الله آباد وآناند بهافان، أفاض عليها العالم الخارجي بما حرك مشاعرها. فحتى في الحر الشديد (ومع وصول درجة الحرارة إلى ٤٧ درجة مئوية)، «بدت لها مدينة الله آباد المتربة خضراء وجميلة». فبعدها بسنوات عدة قالت: «أسوأ ما في السجن هو أن كل شيء كان بلون الطين. لذا بعدما خرجت منه لم أستطِع أن أنال كفايتي من الألوان، وكنت أشعر برغبة في لمس كل ما أراه. فبعد خشونة العيش الشديدة، كان لا بد لي أن ألمس الأقمشة الناعمة.»49 لكن فيما تمتعت حواسها ذابت هي في الحر. وفي آناند بهافان، تابعت إنديرا ما تعوَّدته من النوم في الهواء الطلق، وأرسلت في طلب حلاق الأسرة الذي قص شعرها قصيرًا مثلما كانت تفعل في أوروبا وهي مراهقة. وفي ذلك كتبت إلى والدها تقول: «توقع الجميع أن يبدو شكلي بشعًا، لكنني آثرت الراحة والهروب من الحر على المظهر.» وفي الحقيقة ثبت في النهاية أن مظهرها في هذه القصة ليس سيئًا على الإطلاق.50
وفي ٢١ مايو زارت إنديرا فيروز في سجن فايزاباد، وأبلغت أباها أن فيروز محتجز في الحبس الانفرادي و«يبدو خائر القوى». وقد حكت زوجة سجين آخر أنها رأت إنديرا تبكي عندما حان لها أن تغادر. وأثناء عودتها إلى الله آباد أُصيبت إنديرا بحمى وسعال وآلام صدرية، فأودعتها طبيبتها في الله آباد فاتسالا سامانت المستشفى لأربعة أيام. وبعد خروجها من المستشفى ظلت مصابة بالحمى، ووجدت صعوبة في التخلص من السعال. ولم تفلح زيارة سارالا لها مع أمها في إبهاجها. كتبت إنديرا إلى نهرو تقول إن «أسوأ مخاوفها» قد تحققت، فالطفلة الصغيرة قد انكمشت وعادت إلى جسدها النحيل «بدلًا من أن تمتلئ وتسمن كما يفعل كل الأطفال. لم تبدُ حتى على الذكاء نفسه الذي كانت عليه». رتبت إنديرا لأن ترتاد أم سارالا مدرسة، لكنها لم تعلق الكثير من الآمال على أن تحصل سارالا على المزيد من الرعاية والتحفيز من والدتها.51 وفي هذه الأثناء تسلمت إنديرا ونان بانديت أمرًا بالإقامة الجبرية في كهالي؛ منزل آل بانديت على التلال القريبة من ألمورا، والبقاء هناك حتى إشعار آخر. كانت إنديرا ونان بانديت ستذهبان إلى هناك بسرور — حيث الجو أبرد بكثير — ما لم تأمرهما الحكومة البريطانية بذلك. وفي ظل هذه الظروف رفضت كلتاهما الذهاب إلى هناك. كانت كلتاهما على وشك أن تُعتقلا من جديد، لكن عندها فحص الجراح العام إنديرا وسحب مذكرة اعتقالها نظرًا لحالتها الصحية السيئة. (في حين أُرسلت نان بانديت إلى السجن من جديد). وفي يونيو ذهبت إنديرا إلى بومباي حيث استشارت الاختصاصيين الطبيين وجرى فحصها بالأشعة السينية. وفي ١٠ يوليو أُطلق سراح فيروز من سجن فايزاباد، وبعدها مباشرة قصد بانتشجاني في جنوب بونا حيث تقضي إنديرا عطلة مع آل فاكيل، أساتذة مدرستها السابقين. أمضت إنديرا وفيروز بقية عطلة الصيف في بانتشجاني وعادا إلى الله آباد في أواخر أغسطس.
بحلول ذلك الوقت كانت نان بانديت تقيم في آناند بهافان بعد أن أُطلق سراحها من السجن للمرة الثانية، على حين ظل زوجها رانجيت بانديت في السجن في باريلي. ومع أن نان وإنديرا استطاعتا التعايش في ثكنة السيدات المزدحمة في سجن نايني فقد وجدتا الإبقاء على حبل الود والعلاقات الطيبة بينهما في منزل الأسرة الكبير مستحيلًا. كانت علاقتهما متوترة على الدوام، تتفجر فيها ثورات الغضب باستمرار. ذات يوم، فجأة وبلا مقدمات، أعلنت نان بانديت لإنديرا أنها تخطط للانتقال إلى بيت آخر. وكتبت لنهرو تخبره بقرارها. حينما قرأ نهرو خطاب نان بانديت، وهو بعيد في حصن أحمد نجار، صعقته الدهشة من قرارها.52 فكتب إليها يرجوها أن تعيد النظر في قرارها. يقول في خطابه لها: «هل فقدنا حتى القدرة على التماسك والتكيف مع أمور الحياة التافهة، إن كان الأمر كذلك فماذا عن المهام الكبرى التي أخذناها على عاتقنا حتى صارت جزءًا من كياننا؟» شعر نهرو أن رحيل نان عن آناند بهافان سيبرز للعلن الشقاق الذي وقع في العائلة. فذكر أخته بوالدهما موتيلال والبيت العامر الذي كان ربًّا له. وتوسل إليها ألا تنزل بمرتبة آناند بهافان إلى «رمز للخواء».53
انزعج نهرو من فكرة رحيل أخته عن منزل الأسرة، لذا ضغط على إنديرا لترسل لعمتها تترجاها أن تبقى في آناند بهافان. فأطاعت إنديرا أباها وأرسلت إلى عمتها رسالة قصيرة تقول فيها: «أتمنى حقًّا ألا ترحلي … هل يمكن من فضلك أن تعيدي التفكير في قرارك؟»54 لكن نان بانديت صممت على قرارها. وفي أوائل نوفمبر عام ١٩٤٣ انتقلت للسكن في الله آباد في منزل صغير بالإيجار، تاركة لإنديرا وفيروز ملكية منزل آناند بهافان الذي اجتهدا في «ترتيبه وإعادته إلى جماله وبهائه». تولت إنديرا تنظيف وتهوية وإعادة طلاء المنزل من الداخل، في حين تولى فيروز العناية بالحديقة ليعيد إليها بهاءها الذي كانت عليها أثناء حياة موتيلال نهرو.
وفي نوفمبر قرر نهرو — وهو لا يزال في السجن — كتابة وصيته. وكان وقتها في الرابعة والخمسين من العمر، ولم يكن قد فكر قبل ذلك في القيام بهذا؛ يعود ذلك إلى حد ما إلى أنه لم يتعامل في حياته — على حد تعبيره — «إلا مع ممتلكات محدودة»، وكان غير واثق «من أنه سيكون لديه ما يورثه عند موته. وكان هذا هو السبب» — على حد قوله — «في أنني لم أؤمِّن قط على حياتي.»55 كان نهرو قد طُبع على عدم الاكتراث للمال وعدم البراعة في التصرف فيه، ومع أن طبائعه في المعاملات المالية لم تتغير فإنه صار قلقًا على مستقبل إنديرا. وقد عبر عن قلقه ذلك في مذكراته في السجن، ففيها يقول: «إن زواجها غير القانوني بمعنى الكلمة من وجهة نظر القانون الحالي قد يتسبب في مشكلات.»56 كان يريد أن يستوثق من أن إنديرا ستجد ما ترثه منه. لذا يقول في الوصية التي كتبها في السجن: «تكون ابنتي الوحيدة إنديرا بريادارشيني زوجة فيروز غاندي هي وريثتي الوحيدة التي أترك لها كل ممتلكاتي وأصولي وأمتعتي.» ولم يكن يملك الكثير ليخلفه لها. فلم يكن لديه سوى منزل آناند بهافان ومحتوياته وبعض الاستثمارات والأسهم (وإن كانت قيمتها قد نقصت كثيرًا منذ وفاة موتيلال نهرو) ومبلغ نقدي صغير (كان بدوره قد نقص كثيرًا).
كانت رغبة نهرو في ضمان أن تكون إنديرا هي وريثته الوحيدة هي السبب الذي دفعه إلى كتابة هذه الوصية. وربما خشي نهرو — استنادًا إلى التوتر الذي ساد العلاقة بين إنديرا وعمتها نان بانديت — أن يشب خلاف قانوني بينهما بعد وفاته. إلا أنه عندما عكف على كتابة وصيته ضمن فيها شروطًا أخرى، ظهرت أهمية اثنين منها فيما بعد. لم يترك نهرو شيئًا لأختيه، لكنه ذكر في وصيته أن منزل آناند بهافان «يجب أن يظل مفتوحًا دائمًا» لهما، وأن بإمكانهما «المكوث فيه متى شاءتا وللمدة التي ترغبان فيها.» وذكر بوضوح أنه لا يريد أن تقام له جنازة ذات طقوس هندوسية، فيقول: «لا أريد أن تؤدى أي طقوس دينية من أجلي بعد موتي.»57

•••

في يوم رأس السنة لعام ١٩٤٤ كانت إنديرا طريحة الفراش. وآنذاك كتبت إلى نهرو تقول: «لا أشكو شيئًا بعينه، لكن كل ما في الأمر أنني أفقد الوزن، وأبدو بحالة سيئة، وينتابني إحساس بشع.» (وفي حقيقة الأمر كانت وقتها حاملًا لكنها لم تكن تُعرَف ذلك بعد). وفجأة جاءتها مكالمة تليفونية مضطربة من عمتها نان بانديت من لكناو، حيث كان زوجها رانجيت يرقد في أحد المستشفيات. كان رانجيت قد مرض بشدة في سجن باريلي، فنقلته سلطات السجن — لكن بعد تأخير — إلى مستشفى لكناو. وسرعان ما نهضت إنديرا من فراش مرضها وقصدت لكناو مع فيروز في اليوم التالي.

وبعدها بأسبوعين مات رانجيت بانديت وهو في الرابعة والأربعين من العمر. وكان من الممكن إنقاذه من الموت الذي يرجع بشكل مباشر إلى الظروف والمعاملة السيئة التي تلقاها في السجن. وبحلول ذلك الوقت كانت إنديرا وفيروز قد عادا إلى الله آباد تاركين أرملة رانجيت؛ نان بانديت وحدها تمامًا لتحاول مواجهة هذه الكارثة. كانت ابنتاها الكبيرتان تدرسان في إحدى جامعات أمريكا وأختها في بومباي ونهرو في السجن. عادت نان بجثة رانجيت إلى الله آباد حيث زاد التقارب بينها وبين إنديرا وفيروز اللذين صدمتهما وفاة رانجيت. وأقلعا عن كل أنشطتهما لمواساة نان التي بدت لأول مرة في حياتها ضعيفة ومحطمة. وقد أقرت نان نفسها بأنها لم تكن لتقدر على تجاوز أزمة وفاة رانجيت بدون إنديرا وفيروز.58
في أعقاب وفاة زوج عمة إنديرا وأوائل شهور حملها كانت محطمة جسديًّا ونفسيًّا، و«على وشك الانهيار تمامًا». فكانت تخلد إلى الفراش وتوقفت عن الكتابة لأبيها حتى أواخر فبراير. حينها وجدت صعوبة في تفسير هذا الانهيار، فتقول: «لا يسعني سوى تفسيره بأنه إنهاك شديد للغاية، كنت متعبة جدًّا لدرجة أن عقلي وجسدي رفضا العمل، حتى إنني لم أستطِع الراحة ولا النوم ولا الأكل … لم أشعر حتى أنني حية على الإطلاق … شعرت كما لو أن ظلامًا مرعبًا أو خواءً قد استولى عليَّ.» ارتاحت حينما عرفت بحملها وعزت — على الأقل — جزءًا من انهيارها إليه. أخبرت نهرو أن طبيبتها فاتسالا سامانت أرادت منها الذهاب إلى بومباي لتكون تحت رعاية وإشراف الطبيب إن إيه بوراندار، وهو طبيب نساء وتوليد مشهور، والإقامة مع كريشنا هاثيسينج إلى أن تضع طفلها في أواخر أغسطس أو أوائل سبتمبر.59
منذ أن كانت إنديرا مريضة في مصحة لي فرين، وهي تُنصَح مرارًا وتكرارًا بألا تنجب أطفالًا. لكنها، كما ذكرت بعد عدة سنوات: «كنت أرغب دومًا في الإنجاب، لو كان الأمر بيدي، لأنجبت أحد عشر طفلًا، لكن زوجي هو الذي لم يرِد سوى اثنين.» غير أن الأطباء في سويسرا ولندن والهند رأوا أن عليها ألا تنجب «ولو طفلًا واحدًا». كان هذا الرأي — على حد قولها — «يستفزني ويثير غضبي».60 وكما كانت الحال في أغلب حياتها، كانت العوائق التي تقف في وجهها لا تزيدها إلا إصرارًا. وعلى كل حال كان حدسها في مسألة الإنجاب مصيبًا. فمع أن حملها بدأ بداية متعثرة فقد استمر بنجاح.
كان نهرو قد استخدم حجة خطر الإنجاب على صحة إنديرا كجزء من سعيه لإقناعها بعدم الزواج. لكن عندما أخبرته بحملها كان متفائلًا بعض الشيء، ومسرورًا لها بلا شك. كتب نهرو في مذكراته بالسجن: «أنا مسرور لأنها ستُرزق بطفل، مع أن هذا سيلقي عليها بعبء كبير، ومخاطره واضحة … لكنها تحب الأطفال، وأظن أن احتمال ألا تنجب لخطورة هذا على صحتها كان يضايقها … غير أنه ينبغي عند تحمل هذه المخاطرة الاستعداد لها بكل الاحتياطات الممكنة.»61
في مارس ذهبت إنديرا للمكوث مع آل هاثيسينج في شقتهم ببومباي. (في حين ظل فيروز في الله آباد ليشرف على أنشطة حزب المؤتمر المحلية ويدير شئون آناند بهافان). ولما اشتد وهج شمس الصيف في بومباي قامت إنديرا مع آل هاثيسينج وآل فاكيل بزيارات طويلة إلى ماثيران (منتجع صيفي صغير بالقرب من بومباي) وماهاباليشوار حيث جاء فيروز وانضم إلى إنديرا لبعض الوقت. وقصدت إنديرا بونا حيث التقت بغاندي الذي كان قد أطلق سراحه لتوه من قصر أغاخان. فكتبت إلى نهرو تقول: «عندما وصلت كان (غاندي) جالسًا يغزل، فابتسم لي ابتسامة عريضة وربت عليَّ كالعادة، إلا أنها كانت تربيتة أخف بكثير. كان يبدو شاحبًا وضعيفًا ومتعبًا جدًّا.»62 لم يكن قد مر على موت زوجته كاستوربا سوى ثلاثة أشهر، وكان هو في فترة نقاهة من مرض شديد. وقتها كان في الخامسة والسبعين من العمر تقريبًا، أضعفه السجن والصيام على مر الأعوام، وأشعره موت كاستوربا بالوحدة والعزلة.

•••

في ربيع عام ١٩٤٤ بدأ نهرو وهو لا يزال سجين حصن أحمد نجار كتابة آخر أعماله؛ كتاب «اكتشاف الهند». كان هذا الكتاب هو الوحيد بين كتب نهرو الذي نعلم أن إنديرا قرأته بعناية لأنها راجعت نسخة ما قبل الطباعة لأبيها. في بادئ الأمر كان الكتاب هو المجلد الثاني لسيرة نهرو الذاتية، ويضم فصلًا شديد الخصوصية عن علاقة نهرو بكامالا وموتها في سويسرا. لكن الكتاب تطور إلى شيء لا يمكن وصفه بسيرة ذاتية بالمعنى الحرفي لها، بل أصبح يكشف عن الكثير. تناول كتاب «اكتشاف الهند» تاريخ الهند القومي، ووصفه سونيل خيلناني بأنه كتاب عن رجل صنع نفسه بنفسه. ففي الكتاب يصف نهرو رحلة الاكتشاف التي تحول فيها من رجل استقى الثقافة الغربية «ولازمه عبء ماضيه الإنجليزي» إلى رجل هندي.63
وكان هذا التحول هو لب القصة في الكتاب، لكن من وجهة نظر إنديرا تكمن أهمية الكتاب في نظرة نهرو إلى الهند. فمع أن نظرة نهرو إلى تاريخ الهند كانت رومانسية واعتمدت اعتمادًا واسعًا على تحليلات المستشرقين البريطانيين، كان يرى أن تاريخ الهند — ومستقبلها بالتبعية — قابل للتكيف والاندماج والشمول، فيشبه تاريخ الهند ﺑ «الرَّق العتيق الذي نُقشت عليه طبقة فوق طبقة من الأفكار والتأملات، ومع هذا لم تنجح طبقة في إخفاء أو محو آثار سابقتها تمامًا». ففي الهند «وحدة جوهرية» لم تدمرها قط أي «انقسامات سياسية أو كوارث أو نكبات».64 كانت هذه النظرة الشاملة إلى الهند و«وحدتها» مع ما بها من تعدد واختلاف هي أهم ما ورَّثه نهرو لابنته.

•••

وفي الوقت الذي عكف فيه نهرو على كتابة «اكتشاف الهند» كانت إنديرا — التي كانت حاملًا في الشهر السادس آنذاك — عاكفة على قراءة عدد كبير من الكتب المتخصصة في كيفية العناية بالأطفال. أعجبها بوجه خاص كتاب إيه إس نيل بعنوان «الطفل المشكلة»، ورؤيته لمدرسته الشهيرة «المدرسة الحرة»؛ مدرسة سمرهيل في سوفولك. كتبت إنديرا إلى والدها تقول: «من وصف نيل لطريقته في التعامل مع الأطفال تبدو هذه الطريقة كأنها الوحيدة للتعامل معهم … يقول نيل إن الطفل إن لم يجبر على التعلم … قد يتعلم فيما بعد، لكنه يتعلم أسرع وتدوم استفادته لوقت أطول. ويقول إنه يجب ألا يُفرض على الطفل أي نوع من الانضباط.» فرد نهرو بأن شكك في جدوى الطريقة التي يقترحها نيل عند تربية الأطفال غير صعبي المراس أو غير المضطربين، وحث إنديرا على تذكر أنه لا يجب للطفل أن يكون سعيدًا فحسب، بل يجب له أيضًا أن يصبح في حياته «كائنًا اجتماعيًّا يعيش في سلام مع الآخرين ويتعاون معهم».65

وفي أواخر يونيو أجرت إنديرا الفحص الطبي للشهر السابع من الحمل، وبدأت تبحث عن المستشفيات ودور الرعاية المناسبة في بومباي. ووقتها كانت تذهب لزيارة الطبيب مرة كل أسبوعين. وفي الوقت الذي يفصل بين كل زيارة وأخرى كثيرًا ما تذهب في زيارة قصيرة إلى بونا أو ماهاباليشوار للهروب من حر الصيف. كانت صحتها أفضل مما كانت عليه لأعوام؛ ومع اقتراب موعد ولادتها تشعر بالحيوية والسعادة والأمل. وفي الشهر الثامن من الحمل تحولت إلى طبيب توليد آخر يدعى «فيثال ناجش شيرودكار» الذي وعدها بتوليد الطفل بنفسه. (في حين رفض الطبيب بوراندار أن يعدها بذلك).

وفي منتصف أغسطس جاء فيروز إلى بومباي ليكون إلى جانب إنديرا عندما تضع طفلها. وفي وقت مبكر من مساء التاسع عشر من الشهر نفسه شرعت إنديرا في كتابة رسالة إلى نهرو، لكن قاطعها زائر جاء للتحدث معها هي وفيروز. وفي الثالثة من صباح اليوم التالي استيقظت وأرادت إنهاء خطابها إلى أبيها، لكنها خشيت أن توقظ فيروز، لذا استلقت في الفراش والليل ينحسر تستمع إلى جسدها.

وعند الفجر شعرت أنها على وشك الولادة. فأيقظت فيروز واتجها في الصباح الباكر البارد مع كريشنا هاثيسينج إلى دار رعاية بيل فيو القريبة. واتصلوا بالطبيب شيرودكار ليستدعوه. كانت إنديرا جائعة مع أنها كانت في أولى مراحل المخاض، فتناولت إفطارها من الخبز المحمص. وبعدها وصل الطبيب شيرودكار. وبعد ولادة سهلة جدًّا لم تستغرق وقتًا، جاء طفل إنديرا إلى العالم — وكان صبيًّا (كما توقعت إنديرا) يزن ستة أرطال ونصفًا بكتلة كثة من الشعر الأسود — في تمام الثامنة واثنتين وعشرين دقيقة صباحًا.