أول الغيث
كان الجيش يسير نحو الشرق، كما أنَّ الجياد الستة التي تجرُّ مركبته، والتي كانت تبدَّل في كل مرحلة، كانت تحمل نابليون نحو الجيش. لحق به في العاشر من حزيران، وأمضى الليل في صلب غابة فيلكوفيسزكي في أملاك «كونت» بولوني؛ حيث أُعِد له جناح خاص لحلوله.
ولمَّا رأى القوقازيين القائمين على الشاطئ الآخر والأقفار اللامتناهية التي تقوم في وسطها موسكو المدينة المقدَّسة، عاصمة هذه المملكة التي تُذكِّر بمملكة يأجوج ومأجوج التي احتلها الإسكندر المقدوني، أمر نابليون بالسير إلى الأمام وسط الدهشة العامة والاستخفاف بكل العبارات الاستراتيجية أو السياسية. ومنذ صبيحة اليوم التالي اجتازت قواته النييمن.
وفي الثاني عشر، خرج مبكِّرًا من خيمته التي نُصبت ذلك اليوم عند منحدر من الضفة اليسرى، وراح يفحص بمنظاره تدفُّق جيوشه التي كانت تخرج من غابة فيلكوفيسزكي لتنتشر على الجسور الثلاثة المقامة على النييمن. وكان الجنود عارفين بوجود الإمبراطور، يبحثون عنه بأنظارهم، فإذا ما شاهدوا على المرتفع، أمام خيمته متنحيًا عن حاشيته، شبحَهُ وهو في «الرودنجوت» وعلى رأسه القبعة الصغيرة، ألقوا في الهواء بقلانسهم الوبرة وهم يصيحون: «عاش الإمبراطور!» وظلَّت القطعات تتدفَّق بلا انقطاع من الغابة التي كانت تخفيها وتمر منقسمة عن طريق الجسور الثلاثة إلى الضفة الأخرى.
«سوف نصل هذه المرة. آه! عندما يتدخَّل بنفسه يحمي الوطيس … باسم الله! … ها هو ذا … يحيا الإمبراطور … ها نحن أولاء في أقفار آسيا! بلد رديء رغم كل شيء.» «وداعًا يا بوشيه، سأحتفظ لك بأجمل قصر في موسكو.» «إلى اللقاء وحظًّا سعيدًا! …»
«هل رأيته، الإمبراطور؟ يحيا الإمبراطور … طور!» «إذا جعلوا مني حاكمًا للهند سأجعلك يا جيرار وزيرًا لكشمير، هذا مقرر.» «يعيش الإمبراطور! يعيش! يعيش! يعيش!» «يا للقوقازيين الأنذال، كيف يفرون؟! يحيا الإمبراطور! ها هو ذا! هل تراه؟ لقد رأيته مرتين كما أراك. العريف الصغير … لقد رأيته يعطي الصليب إلى واحدٍ من الكهول …» «يحيا الإمبراطور! …»
تلك كانت العبارات التي يتبادلها الشبان والكهول، أشخاص من كل نوع ومن كل المراكز الاجتماعية. وكانت الوجوه كلها تعكس فرحة واحدة لرؤية بدء الحملة المنتظرة بفارغ الصبر، وحماسًا واحدًا وتفانيًا واحدًا للرجل ذي الرودنجوت الرمادي الذي كان يُرى في الأعلى فوق المنحدر.
هتف البولونيون بدورهم: «يحيا!»
وفي غمرة حماسهم أفسدوا نظام الصف، وتدافع بعضهم بعضًا ليروه بشكل أفضل.
تأمَّل نابليون النهر ثم ترجَّل عن حصانه وجلس على لوح خشبي على جانب الشاطئ، ودون أن ينبس بكلمة حملوا له منظاره بإشارة منه؛ فأسنده على كتفِ واحدٍ من أتباعه، الذي هرع تملؤه الغِبطة، وراح يفحص الشاطئ المقابل، استغرق في دراسة الخريطة المنشورة على جذوع شجرة، ودون أن يرفع رأسه نطق ببضع كلمات، فحثَّ اثنان من مساعدي الميدان جوادَيْهما نحو الفرسان البولونيين. ولمَّا وصل أحدهما إليهم، سَرَتْ همهمة بين الصفوف: «ماذا قال؟ ماذا قال؟»
كان الأمر ينصُّ على البحث عن مخاضة وعبور النهر. سأل زعيم الفرسان — وكان رجلًا مسنًّا أنيق اللباس وهو مضرَّج الوجه يُتمتم من التأثُّر — المساعدَ عمَّا إذا كان يسمح له بعبور النهر سباحةً دون التفكير في المخاضة، ولقد التمس بذعرٍ ظاهرٍ خشيةَ أن يرفض ملتمسه، شأن الصبي الذي يسأل الإذن بامتطاء صهوة جواد، أن يُسمَح له بتنفيذ هذه المأثرة تحت بصر الإمبراطور. فأجاب المساعد بأن هذا لن يكون — ولا ريب — مستاءً من هذه الغَيْرة المفرِطة.
كان قانعًا منذ زمن طويل أنَّ وجوده في كل أركان العالم ابتداءً من أفريقيا وحتى أقفار موسكوفا، يُكهرِب كل الرجال ويثير فيهم جنون التضحية؛ لذلك فقد استحضر جواده وعاد إلى مخيَّمه.
وعلى الرغم من القوارب التي أُرسلت لإنقاذهم، فقد غرق حوالي أربعون فارسًا وارتدَّ معظمهم إلى الشاطئ. أما الزعيم وعدد من الرجال، فقد بلغوا بصعوبة الشاطئ الآخر، وما إن ظهروا هناك بثيابهم المبلَّلة بالماء حتَّى هتفوا: «فيفا!» وهم ينظرون إلى المكان الذي كان فيه نابليون، والذي لم يعد فيه، شاعرين بالسعادة.
وفي المساء، بين قرارين: الأول يهدِف إلى سرعة استقدام نقد زائف معدٍّ لإدخاله إلى روسيا. والثاني إعدام سكسوني عُثر معه على رسالة تحوي معلومات عن حركات الجيش الفرنسي، اتخذ الإمبراطور قرارًا ثالثًا ينص على تسمية الزعيم البولوني الذي اندفع في النهر دون أية ضرورة مُلحَّة، عضوًا في جوقة الشرف التي كان هو رئيسها.
إنَّ الذين يريدون الموت يتخلَّون عن تعقُّلهم أولًا.