آراء المؤرِّخين
يؤكِّد كثير من المؤرخين أن معركة بورودينو لم ينتصر فيها الفرنسيون؛ لأن نابليون كان في ذلك اليوم قد أُصيب بزكام، ولولا ذلك لكانت ترتيباته قبل المعركة وأثناءها أكثر عبقريَّةً، ولانهارت روسيا كلها ولتغيَّر وجه العالم. إنَّ هذا التحليل بالنسبة إلى المؤرخين الذين يؤكدون أن روسيا تشكَّلت بإرادة رجل واحد هو بطرس الأكبر، وأن فرنسا قد انقلبت من جمهورية إلى مملكة، وأن الجيوش الفرنسية دخلت روسيا تبعًا لرغبة رجل واحد هو نابليون، إنَّ هذا التحليل الذي يؤكد أن بقاء روسيا قوية يرجع إلى إصابة نابليون يوم السادس والعشرين من آب بزكام عنيف؛ منطقي تمامًا بالنسبة إلى هؤلاء.
إن من الغريب أن يؤكِّد المرء للوهلة الأولى أنَّ مذبحة سان بارتيلمي، رغم أن شارل التاسع أمر بها، لم تكن — مهما كان تفكيره الشخصي — نتيجة لإرادته، وكذلك يبدو غريبًا الزعم بأن مجزرة بورودينو التي كلفت ثمانين ألف رجل، لم تنجم عن رأي نابليون الشخصي، رغم أنه أعطى الإشارة ورتَّب سير المعركة، بَيد أن الكرامة الإنسانية التي تؤكد أن كلًّا منا رجل يماثل في العظمة نابليون الكبير، إن لم يكن يتفوَّق عليه، تبيح هذا الزعم، والتحريات التاريخية تؤيده بوفرة.
لم يُطلِق نابليون في بورودينو رصاصة واحدة، ولم يقتل رجلًا واحدًا. لقد كان ذلك من صُنع جنوده؛ وبالتالي فإنه ليس بالذي قَتَل.
لقد قاتل جنود الإمبراطور لا لينفِّذوا أوامره، ولكن عن طيبة خواطرهم. لقد كان الجيش كله، أولئك الفرنسيون والإيطاليون والألمان والبولونيون المتعطِّشون المتعبون ذوو الثياب الخلقة، يشعرون تمامًا أمام ذلك الجيش الآخر الذي يقطع عليهم الطريق إلى موسكو، أن النبيذ قد صُفِّي فحان أن يشربوه، ولو أن نابليون منعهم عن مقاتلة الروسيين حينذاك لقتلوه ومشوا بعد ذلك إلى المعركة؛ لأنهم ما كانوا يستطيعون إلا أن يعملوا كذلك.
عندما قُرئ عليهم أمر نابليون اليومي الذي وعدهم فيه، مكافأةً على الجراح والموت، بأن تتحدَّث الأجيال الصاعدة عنهم قائلةً إنهم كانوا في المعركة الكبرى قرب جدران موسكو، هتفوا: «يحيا الإمبراطور! يحيا الإمبراطور!» عندما شاهدوا ذلك الغلام يخرق الكرة الأرضية بمقبض لُعبته الخشبية، وكما كانوا سيهتفون لأي حماقة يقولونها لهم. لم يعد لديهم شيء آخر يفعلونه إلا أن يهتفوا: «يحيا الإمبراطور!» وأن يذهبوا للقتال وينتصروا؛ كي يجدوا في موسكو الغذاء والراحة. وبناءً عليه لم يقتلوا أمثالهم استجابةً لأوامر سيدهم.
ونابليون نفسه لم يكن ذا أهمية في سياق المعركة؛ لأن أية نقطة من ترتيباته لم تنفَّذ؛ ولأنه نفسه ظل يجهل خلال المعركة ماذا دار فيها؛ وبالتالي فإن واقع قَتْل هؤلاء الناس أمثالَهم حدث دون تدخُّل من جانبه، ليس نتيجة لإرادة نابليون، بل بإرادة مئات الألوف من الرجال الذين ساهموا في الأمر، وكل ما كان لنابليون اقتصر على توهُّمه بأنَّ كل شيء يسير وفق إرادته؛ لذلك فإن مسألة معرفة ما إذا كان الإمبراطور قد أصيب بزكام أم لا، لا تشكِّل لمصلحة التاريخ أكثر من مدلول الزكام الذي يصيب أي جندي عادي.
ثم إن أولئك الذين يعتقدون أن نابليون لم يتخذ ذلك اليوم ترتيبات طيبة كعادته، وأن أوامره خلال المعركة كانت أقل حزمًا بسبب ذلك الزكام العتيد، يُخطئون كل الخطأ.
لقد كان نَص المعركة الذي نقلناه مماثلًا، إن لم يكن أفضل، لكثير من النصوص الأخرى التي رُبِحت كثير من المعارك بموجبها. والأوامر المعطاة خلال المعركة لم تختلف بكثير عن تلك التي تصدر عادةً ودائمًا. وإذن فإن هذا النص وتلك الأوامر لم تصبح خاضعة للنقد إلا لأن معركة بورودينو كانت المعركة الأولى التي لم يربحها نابليون. والعادة أن أجمل الترتيبات وأفضلها وأعمقها تبدو — إذا لم تجرَّ النصر — سيئة يأخذ علماء فن الحركات العسكرية بنقدها بلهجة مسموعة. والعكس صحيح، فما إن ينجم نصر ما فإن أسوأ الترتيبات وأكثرها خضوعًا للنقد تصبح ممتازة، ويشرع الكتَّاب الأعم شهرةً في تمجيدها وتعداد محاسنها في مجلَّدات عديدة.
ولقد كان ترتيب ويروذر في أوسترليتز مثالًا من هذا النوع؛ لقد انتقدوه وعارضوه بسبب كماله — ولا ريب — ودقة تفاصيله.
ففي بورودينو، قام نابليون بدوره بوصفه ممثل السلطة، كما أدَّاه في المعارك الأخرى، إن لم يكن أفضل من ذلك الأداء. إنه لم يأتِ أمرًا سيئًا بالنسبة إلى سير المعركة، ولقد انحاز إلى جانب أكثر الآراء حكمةً، فلم يفقد أعصابه، ولم يناقض أقواله، وظلَّ محتفظًا بهدوئه فلم يغادر ساحة المعركة، وقد أمكنته لباقته الكاملة وخبرته الكبيرة في شئون الحرب أن يلعب بهدوء دوره الشكلي كرئيس أعلى.