رابعًا: إلهيات أم إنسانيات؟
(١) مقدمة: الحقيقة والمجاز
(٢) العمليات الشعورية
إن ما وصفه القدماء على أنه «الذات والصفات والأفعال» هو في حقيقة الأمر «الإنسان الكامل». فكل المادة التي وضعها القدماء تحت هذا الاسم لا تشير إلى موضوع فعلي، بل تعبر عن موقف إنساني خالص تجاه موضوع مثالي. فما ظنه القدماء على أنه وصف موضوعي لحقيقة واقعة في الخارج هو في الحقيقة وصف ذاتي لشعور المتكلم أسقطه في الخارج ثم قفز من الشعور إلى العالم الخارجي بلا أدنى مبرر عقلي إلا عجزه عن تحقيق هذا الموضوع المثالي بالفعل كمشروع له في العالم الخارجي كنظام مثالي للعالم. وفي أحسن الأحوال يتم هذا الإسقاط بتحيز مسبق يفترض تطابق عالم الشعور والعالم الخارجي. وهو ناتج عن نقص في الوعي بالمسافة بين المثال والواقع، بين الوعي بالذات والوعي بالعالم. وفي أسوأ الأحوال يتم بلا وعي على الإطلاق وبالإغراق في عالم الشعور الخالص بعد أن فرغ من كل الموضوعات وامتلأ بالعواطف والانفعالات. ويكون الشعور حينئذٍ في موقف نرجسي خالص لا يرى إلا ما بداخله خارجه. ما ظنه القدماء إذن على أنه وصف لله بالفعل هو في الحقيقة وصف للإنسان. ولما كان الله هو الكامل جاء وصفه وصفًا للإنسان الكامل. ويحدث ذلك طبقًا لعمليات شعورية محددة. وتعني العمليات الشعورية ما يحدث داخل شعور المتكلم من صياغات عقلية للتجارب الشعورية التي يمر بها. فما دامت العبارات الكلامية لا تصف شيئًا موجودًا في الواقع، بل تعبر عن تجارب شخصية، فإنه لفهم هذه العبارات يتم إرجاعها إلى مصدرها في الشعور.
(٢-١) العلم المقلوب
إن المتأمل في علم الكلام أوَّلًا وفي الوحي ثانيًا، أي الكلام، ليرى بوضوح تام أن علم الكلام علم مقلوب، وفي هذا القلب تتحدد كل موضوعاته على نحو معين، وتصبح كل مشاكله مشاكل كاذبة. وتظهر الحاجة إلى إعادة وضع هذا العلم وضعًا صحيحًا حتى تحل مشاكله. فليست المسألة الإجابة على السؤال، بل وضع السؤال وضعًا صحيحًا. وقد تتبدد المشاكل كلها عندما يُعاد وضعها وضعًا صحيحًا. وكثيرًا ما تتحدد الإجابة كلها بطريقة وضع السؤال.
وإذا أتينا إلى علم الكلام نجد أنه قد قلب الاتجاه وجعل الكلام هو قصد الإنسان نحو الله. فبدل أن يحلل عالم الكلام الوحي باعتباره قصدًا من الله نحو الإنسان، فإنه يحلله باعتباره قصدًا من الإنسان نحو الله. فيجعل عالم الكلام الإنسان هو المرسل والله هو المرسل إليه! علم الكلام إذن خارج عن قصد الله بل هو مضاد له. فبدلًا من أن يفكر الإنسان في نفسه تشبُّهًا بالإله لأن الله يفكر في الإنسان بدليل إرسال الوحي، فكر المتكلم في الله وهو ما لم يفعله الله لأن الله لم يجعل نفسه موضوعًا لعلمه. وإذا تحدث عن نفسه في الوحي فإنما يتحدث للإنسان ولصالح الإنسان وتأكيدًا لقيم الإنسان ويصور الإنسان ولغته وفهمه وقدراته.
ولكن علم الكلام بعد تغييره لاتجاه الوحي وقلبه له من الإنسان إلى الله غير موضوع الوحي أيضًا، فبدل أن كان موضوع الوحي هو الإنسان صار موضوعه هو الله، أي أن عالم الكلام أرجع إلى الله كلامه فجعل الله غاية الكلام وموضوعه، وهذا مضاد لقصد الله وعلمه. فقصد الله هو الإنسان، وموضوع علمه هو الإنسان، في حين أن عالم الكلام جعل قصد الله هو الله وعلم الله هو الله. بعد أن أعطى الله الوحي إلى الإنسان رده عالم الكلام إلى الله. عالم الكلام هنا جاحد بنعمة الله ومضر بمصلحة الإنسان. جعل الله نرجسيًّا لا يرى إلا ذاته، وجعلها ذاتًا فارغًا بلا موضوع آخر غيره.
(٢-٢) من الكلام إلى الشخص
ولكن علم الكلام قلب الوحي من الكلام إلى الشخص، وجعل الكلام وصفًا لشخص المتكلم وهو الله. وبدلًا من أن يوجه الكلام إلى تغيير الواقع وتطويره، فإنه يقلبه إلى أعلى تثبيتًا وتأكيدًا وبرهانًا على شخص المرسل. قام علم الكلام إذن بعملية نفسية خطيرة وهو «التشخيص» في الحديث عن الكلام باعتباره شخصًا وليس كلامًا يدرس دراسة علمية من حيث الصوت أو الحرف أو اللفظ أو المعنى أو الرمز كما هو الحال في العلوم الإنسانية. حول علم الكلام إلى شخص، وتحدث عن «الله» وكأنه يتحدث عن شخص له كل صفات الشخص المادية كالبدن واليدين والرجلين والعينين أو المعنوية مثل العلم والقدرة والإرادة … إلخ. بدلًا من أن يكون الشخص صفة للكلام أصبح الكلام صفة للشخص. بدلًا من أن يكون الكلام هو الأصل والشخص هو الفرع أصبح الشخص هو الأصل والكلام هو الفرع. بدلًا من أن يكون الكلام هو موضوع العلم والشخص خارج عن نطاق العلم أصبح الشخص هو موضوع العلم الأوَّل والكلام خارج نطاق العلم إلا من حيث كونه صفة للشخص. ثم يدخل الشخص في نطاق المقدس ويصبح وصفه تابعًا لأسمى عواطف التعظيم والإجلال، ويكون كل تشابه بينه وبين الإنسان ضربًا من التطاول ونقصانًا في الاعتراف بالفضل وبالجميل، وتصبح مهمة الشهور هو التأليه المستمر لهذا الشخص والتعبير عن هذا التأليه بأسمى عبارات التقدير والإعجاب. ويتحول العلم إلى دين، والعقل إلى انفعال، والموضوع المدرَك إلى ذاتية فارغة.
والوحي من حيث هو كلام مكتوب بلغة البشر. ولا يهمنا الكاتب لأن الشخص خارج نطاق السؤال. لا يوجد أمامنا إلا الكلام. والكلام مكتوب بلغة معينة تطبق عليه قواعد هذه اللغة لفهمه. بل يتم التعبير عن الكلام أحيانًا بالصورة الفنية، أي بتشبيه إنساني خالص. فإذا ما تحدث عالم الكلام بالوحي فإن حديثه يكون كلامًا من الدرجة الثانية، أي كلامًا بكلام أو كلامًا عن كلام. كلامه إدراك لكلام الوحي وفهمه وتفسيره. وكل ما يقوله عالم الكلام يصبح قولًا من خلال إدراكاته وتصوراته. ولا وسيلة أمامه للخروج من عالمه إلى العالم الخارجي أو افتراض أي تطابق بينهما. كلام عالم الكلام مجرد تعبيرات إنسانية وعبارات وأقوال من صنعه يحددها مزاجه وشخصه وتربيته وثقافته وبيئته ومستواه الحضاري ولحظته التاريخية، بل وأهواؤه وانفعالاته ومصالحه وولاءاته، بل وقبيلته وجنسه وعنصره. ولا يكون له أي معنى إلا بالرجوع إلى مصدره. فهو لا يشير إلى موضوعات خارجية، بل يعبر عن مقاصد موجهة من ذات المتكلم. يكشف الكلام عن ذات المتكلم أكثر مما يشير إلى شيء موجود بالفعل. وهنا يقع التناقض والاستحالة. كيف يمكن التعبير عن المجرد الصوري الذي ليس كمثله شيء بلغة في نشأتها اتفاق تعتمد على الصورة الحسية وتقوم على التشبيهات؟ علم الكلام على هذا النحو ادعاء لأنه يظن أنه يصف شيئًا موجودًا بالفعل في حين أنه يعبر عن مقاصد شعورية خالصة. وعلم الكلام بهذا المعنى أيضًا يقوم على الغرور أو الجهل فيما يتعلق بالقدرة الإنسانية على التصور والحكم. فإذا كانت الذات المشخصة المؤلهة في عالم الإطلاق، فكيف بقدرة الإنسان المحددة بتربيته ومزاجه وثقافته وبيئته وأهوائه إصدار حكم عليها؟ كيف يمكن للنسبي إصدار حكم على المطلق؟
والسؤال الآن: هل التحليلات العقلية لهذه التجارب الشعورية النفسية والاجتماعية للسيطرة أو للاضطهاد، للسلطة أو للمعارضة عمل صحيح للعقل أم مجرد تبرير لهذه التجارب و«تنفيس» عقلي عنها بعد أن تحولت إلى أزمات نفسية وصدمات اجتماعية؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول أن القوالب العقلية لم تكن تحليلات علمية، بل كانت مجرد تبرير وصياغات عقلية للتجارب الشعورية. ويمكن أن يُقال إن العقل كان خادمًا لعواطف التأليه وأنه قدم مقولاته واستدلالاته من أجل التعبير عن هذه العواطف وإعطاء أساس نظري لها. ويمكن جمع هذه العمليات العقلية معًا في منطق متسق هو منطق الشعور.
(٣) منطق الشعور
تقوم معظم التحليلات العقلية على نمط فكري واحد في عدة صور يمكن التمييز فيها بين منطق التصورات الذي يقوم على القسمة ومنطق القضايا الذي يقوم على الإثبات والنفي للاستدلال. وقد يتداخل المنطقان معًا إذ يصعب التمييز بين التصور والتصديق. فالتصور تصديق ضمني، والتصديق يقوم على تصور.
(٣-١) منطق التصور
- (١) الشيء في نفسه والشيء في غيره:٢٠ وهو تحديد للشيء بالنسبة إلى نفسه ثم تحديده بالنسبة إلى علاقاته بغيره. وهو نمط فكري بديهي للتعريف بالشيء أوَّلًا ثم بعلاقته بغيره ثانيًا. بل إن مشكلة الذات والصفات لهي نتاج لهذا النمط العقلي. الذات هو الشيء في نفسه والصفات هو الذات في علاقاته مع غيره. وكذلك قسمة الشيء إلى جوهر وعرض، فالجوهر هو الشيء في ذاته والأعراض هي علاقات الشيء بغيره. وكذلك الواحد والكثير، فالواحد هو الشيء في ذاته، والكثير هو علاقاته بغيره. وهي أيضًا علاقة الاستقلال والتبعية، فالشيء في ذاته هو الشيء المستقل والشيء لغيره هو الشيء التابع. وهو نمط فكري يساعد على التعبير عن عواطف التأليه التي تبقي القسمة بين طرف أول وهو الذات المشخص وأطراف ثانية تكون أقل رتبةً منه وشرفًا.٢١ ويعتمد هذا النمط على طبيعة العقل ومبادئه الأولى مثل مبدأ الهوية والاختلاف.
- (٢)
الهوية والاختلاف: يتحول النمط الأوَّل إلى هذه الصورة الثانية. فبعد قسمة الشيء إلى الشيء في ذاته والشيء لغيره تأتي المقارنة بينهما. هل الشيء في ذاته هو هو أو هو غيره؟ هل الشيء في ذاته مساوي لذاته أم مخالف لغيره؟ لذلك حدث إشكال الصفات، هل الصفات هو الذات أم هي غير الذات؟ ثم حدث إشكال آخر في الكلام. هل القراءة هو الكلام أم غير الكلام؟ وهو ما يتفق مع الفكر الديني القائم على القياس التمثيلي، وقياس المثل بالمثل والبحث عن الهوية والاختلاف. وهذه أولى مراحل التفكير «البدائي» عندما يسأل الطفل عن أوجه الشبه والاختلاف بين الأشياء. وهي أيضًا من بديهيات الفكر كما هو معروف في المنطق في مبدأ الهوية والتماثل وإرجاع مبدأ الاختلاف أو التناقض إلى المبدأ الأوَّل حيث إنه نفي له.
- (٣) تصور شيء من شيء آخر: وهو تصور وفي نفس الوقت استدلال، وذلك لأنه عن طريقه يمكن إثبات الشيء باستنباطه من شيء آخر كاستنباط نتيجة من مقدمة. وتكون العلاقة بينهما علاقة توالد أو تبعية أو شرط. فمثلًا بعد إثبات العلم تستنبط منه الحياة لأن الحياة شرط العلم. ثم تستنبط منه القدرة لأنه لا يحدث العلم إلا لقادر. ثم من الحياة يستنبط السمع والبصر وإلا كان الحي مصابًا بآفة.٢٢ وهو نمط من الفكر الطولي الذي يولد الفكرة من فكرة أخرى كما هو معروف في الفكر الاستنباطي في المنطق والفلسفات العقلية بالرغم من رفض التسلسل إلى ما لا نهاية سواء من البداية أو من النهاية.
- (٤) إثبات الشيء عن طريق إبطال نقيضه:٢٣ ويمكن إثبات الشيء لا باستنباطه من شيء آخر بل بتحديد علاقاته مع غيره. والحقيقة أن إثبات الشيء عن طريق إثبات استحالة النقيض لا يعد إثباتًا للشيء بل هو فقط إبطال للنقيض. فقد يبطل النقيض دون أن يثبت الشيء. فإبطال أن الشيء أبيض لا يعني بالضرورة أنه أسود. وإبطال أن الشيء ميت لا يعني بالضرورة أنه حي. قد يكون هناك طرف ثالث لا هو الشيء ولا هو النقيض، فكثيرًا ما تجاوز الواقع هذه القسمة العقلية الصورية الحادة. وقد تكون هناك وسيلة للجمع بين الشيء ونقيضه من أحد الوجوه، وكثيرًا ما يؤكد الواقع ذلك. وقد يكون الشيء الواحد مثبتًا من وجه ومنفيًّا من وجه آخر على ما يشهد به الحس والمشاهدة. وقد تكون العلاقة بين الشيء ونقيضه علاقة جدل متبادلة، أي أن هناك حركة مستمرة من الشيء إلى نقيضه ومن النقيض إلى الشيء دون فصل بينهما. وفي النهاية أن إثبات الشيء عن طريق إبطال نقيضه إنما هو منهج جدلي خالص مهمته إفحام الخصم وليس إثبات الشيء، ويمكن للخصم استعماله أيضًا في تفنيد نفس الشيء باعتباره نقيضًا له.
- (٥) إبطال جميع أطراف القسمة إلا واحدًا: وأحيانًا يضع العقل قسم في أطراف عدة تبطل جميعًا ولا يبقى إلا طرف واحد هو المطلوب إثباته. وهو معروف في أصول الفقه باسم السبر والتقسيم.٢٤ وهو نفس النمط السابق ولكن النقيض هنا متعدد وليس واحدًا. وعيبه أن القسمة قد لا تكون جامعة مانعة. فقد يدخل طرفان تحت قسم واحد. وقد يند أحد جوانب الشيء خارج القسمة. كما أنه يصعب تغليف الواقع أحيانًا في قسمة عقلية. فالواقع واحد ومختلط ممتزج متحرك يعكس القسمة العقلية الثابتة المنفصلة.
(٣-٢) منطق التصديق
- (١) إثبات النقيضين: ويهدف إثبات النقيضين إلى الرغبة في احتواء الطرفين دون فصل بينهما، واختيار أحدهما ورفض الآخر. فليس أحد الطرفين بأولى من الآخر. وكل طرف له ما يؤيده وما يعارضه في عواطف التأليه. لذلك كان من الأحكم إثبات النقيضين دون البحث عن علاقة النقيضين لأن البحث يتضمن تحكيم العقل، والعقل يفصل ويحسم ويختبر، وهو ما لا تريده عواطف التأليه التي تريد حسم كل شيء واحتواء كل شيء. وما أعظم التعبير من خلال التناقض! ما أعظم أن يكون المؤله قريبًا بعيدًا، في كل مكان ومستو على العرش، وأن يكون القرآن محدثًا غير مخلق! وينطبق على العبارة المشهورة المستند إلى آية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ نفس القياس. فهي تثبت النقيضين لأن الذي ليس كمثله شيء لا يكون سميعًا بصيرًا، فالسمع والبصر أشياء. والسميع والبصير لا يكون ليس كمثله شيء لأن الذي ليس كمثله شيء لا يكون له سمع وبصر. فهي عبارة تثبت التنزيه في الجزء الأوَّل منها كما تثبت التشبيه في الجزء الثاني منها. إنها الحيطة الإنسانية التي تود الإمساك بالطرفين حتى ولو استحال التوفيق بينهما عقليًّا، والعبارات قادرة على مثل ذلك مثلًا: إنه ليس غبيًّا ولكنه ذكيًّا، ليس شجاعًا ولكنه ليس جبانًا، ليس مجتهدًا ولكنه ليس مقلِّدًا. وهي عبارات تدل على التشجيع أو الخوف من إصدار حكم أو التملق أو الرغبة في المساومة. وأحيانًا تهدف إلى تعميق الواقع وتخفيف الحكم عليه. فهي عبارات لا تدل على معنى بل تكشف عن عمليات شعورية وراء هذه الصياغات، وهو شائع في الحلول المتوسطة وفي الاتجاهات التي تجمع يبن الحلين المتعارضين. ويبدو ذلك أيضًا في خطابنا المعاصر في حياتنا القومية، مثل: نحن لم ننتصر ولكننا أيضًا لم ننهزم.٢٥
- (٢) نفي النقيضين: وهو مجرد قلب لإثبات النقيضين. ويفيد رفض الطرفين والحلين المتعارضين الذين يقتضي العقل الاختيار بينهما. فنفي كليهما يعني رفض الحلول العقلية واللجوء إلى عواطف التأليه الخام خشية أن تقل أو أن تهن. فمثلًا عبارة: «الصفات لا هي هو ولا هي غيره» تحصيل حاصل، تضع الفاعل في جملة مفعولًا في الأخرى، وتضع مفعول الأخرى فاعلًا في الأولى. فالاختيار الأوَّل يوقع في الشرك والاختيار الثاني يوقع في الخلق. وكلاهما حلان لا ترضى عنهما عواطف التأليه. كذلك مثل عبارة: «لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره»، فإنها لا تعبر عن معنى عقلي بل عن عملية شعورية صرفة القصد منها عدة أشياء: أوَّلًا: الرغبة في إثبات شيء فريد غير عادي لا يمكن وصفه أو التعبير عنه، إذ إن كل الحلول العقلية أقل منه. وهنا تكون عواطف التأليه أزمة نفسية لا يمكن التعبير عنها في صياغة عقلية لها معنى. ثانيًا: التعبير عن صراع الشعور طرفي التنزيه والتشبيه، فهو نفي للشبه وللمساواة التماثل داخل التجسيم، ونفي للصورية المطلقة داخل التنزيه. ثالثًا: العجز عن قول شيء موجب لأنه لا يوجد ما يُقال. فهي أزمة انفعالية تعبر عن نفسها في هذه الصورة اللغوية. رابعًا: الإيحاء بالسر والغموض، وهو البديل عن الوضوح والتعبير السليم، وطالما كان السر أحد مغريات الفكر الديني. خامسًا: العجز عن أخذ المواقف ومحاولة مسك العصا من الوسط نقصًا في الشجاعة وتخوفً من الحسم.٢٦
- (٣) إثبات الشيء ونفي صفاته: وهو نمط فكري يجمع بين إثبات النقيضين ونفيهما. فإثبات الشيء اختيار عقلي، ولكن تسارع عواطف التأليه فتنفي ما أثبته العقل خشية الوقوع في التحديد، والعواطف تحب الإطلاق. فهو أشبه بخطوة إلى الأمام يقوم بها العقل ثم خطوة إلى الخلف تقوم بها عواطف التأليه. وفي النهاية تكون الحصيلة أنه لا يوجد ما يُقال. فمثلًا عبارة: «إنسان دون أن يكون جسمًا» تثبت الشيء وتنفي صفته. فالإنسان لا بد وأن يكون جسمًا، ولا يوجد إنسان لا جسم له. لقد حكم العقل بالإثبات والعاطفة بالنفي. ونضع أمثال هذه العبارات طرفي النقيض معًا دون إيجاد العلاقة بينهما، رغبةً في التوسط وعدم التوسط أو إحساسًا بأن الحقيقة في إيجاد مركب للموضوع ونقيضه دون أن تدري كيف. فتضع الموضوع بجوار نقيضه دون أن تتحقق الحركة بينهما. هي عبارات تدل على رغبة في الإيمان وعلى نقص في التحليل العقلي. عبارات تتوالى على شيء واحد يثبت أوَّلًا وينفى ثانيًا، أي أنها مجموعة قضايا مثبتة ومنفية في آن واحد.٢٧ كما يمكن إثبات شيء ثم تنفى عنه أية مشابهة بينه وبين الشيء المعروف بهذا الاسم وجعله شيئًا فريدًا يشترك في الاسم دون الاشتراك في المُسَمَّى، مثل: «جسم لا كالأجسام». فالجسم معروف، ولكن الجسم الذي لا كالأجسام مجهول. الجسم حكم العقل ونفي المشابهة حكم العاطفة. هذا، فضلًا عما في ذلك من قضاء على اللغة. وكيف تستعمل لغة أسماءها ثم لا تنطبق على مسمياتها؟ وكيف لنا العلم بهذه المسميات الجديدة؟٢٨ وقد يثبت الشيء ثم يخصص النفي بأنه نفي للمشابهة بين هذا الشيء وبين عالمنا هذا وما به من أشياء متشابهة. لما كان الشيء هو الشيء الإنساني يسارع النفي وينفي المشابهة مع الشيء الإنساني بالذات كنفي لما يحدث في الشعور. فالنفي دليل على أن ما يحدث في الشعور هو عكس المنفي، أي المشابهة، ولا ينفي المشابهة. فالقائل: «لست أسود» قد يكون أسود ينفي السواد عنه! ومثل ذلك كثير «يعلم لا كعلمنا»، «يرى لا كرؤيتنا»، «يسمع لا كسمعنا» … إلخ.٢٩ وقد تكون الرغبة في إثبات التنزيه معًا وفي نفس الوقت مجرد تحصيل حاصل.٣٠
- (٤) إثبات العلم بشيء والجهل به: ويعني ذلك أن العقل يثبت شيئًا ثم تأتي العاطفة وتنفي ما يثبت العقل. يثبت العقل التعين، ثم تأتي العاطفة وتثبت اللاتعين. يثبت العقل الكم والعاطفة تنفي الكيف. وهو نمط فكري مبني على النمط السابق من إثبات شيء ونفي صفاته مثل يستوي على العرش بلا كيف. فإذا كان الاستواء لدينا معلومًا، فكيف يكون الكيف مجهولًا؟ لذلك كان موضوعًا للإيمان الخالص، أي هو موضوع اقتضته العاطفة ولا يستطيع العقل أمامه الحكم بشيء وإلا كان مبتدعًا. هي عبارات لا تفيد شيئًا. التجسيم الذي يجهله البشر إثبات للعلم وللجهل في آن واحد. وهذا نفي للعلم وتأكيد للسر، ونفي للوضوح، وإنكار لسلطان العقل.٣١
- (٥) إثبات شيء بشيء هو نفس الشيء: يرمي هذا النمط الفكري إلى مجرد الحركة العقلية وإصدار حكم، ولكنه يعود من جديد ويعرف الشيء بالشيء كمن يعرف الماء بالماء والهواء بالهواء. وذلك مثل عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته. فهي عبارات تدور حول المشكلة ولا تحلها كمن يقوم بخطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام وإحجام، قول وصمت. وذلك تعبير عن فعل الشعور: التشبيه والتنزيه، أو الإثبات والنفي.٣٢
- (٦) تحديد شيء معلوم بشيء مجهول: وذلك مثل تعريف الإنسان بالملاك أو تعريف الإنسان بالله. إذا وضع العقل موضوعًا تأتي العاطفة وتضع محمولًا. وهو معروف في المنطق بعدم جواز تعريف شيء بشيء آخر يحتاج إلى تعريف أو ضرورة كون المعرف به أوضح من المعرف. فالعقل يضع المشكلة وهو غير قادر على حلها نظرًا لأنها موضوعة وضعًا لا شرعيًّا مغتربًا ولا يجد حلًّا إلا في اللجوء إلى العاطفة والغوص فيها هروبًا منها وإيهامًا بحلها دون أن يقوم العقل ذاته بتصحيح السؤال والعود إلى العالم من أجل الإجابة عليه وإيجاد حل له.٣٣
- (٧) تفسير شيء بشيء آخر يحتاج إلى تفسير: وذلك أيضًا نوع من تفسير شيء معلوم بشيء مجهول. ولكن المجهول هنا ليس على الإطلاق، بل مجهول يمكن معرفته بشيء آخر لا يكون هو الشيء الأوَّل وإلا وقعنا في الدور من جديد. فإذا قلنا مثلًا: «المقتول ميت بأجله» يكون السؤال: وما هو الأجل؟ فهذا وضع لسؤال خاطئ ثم هروب من الإجابة إلى عواطف الإيمان. وكل سؤال يضعه العقل وضعًا خاطئًا نتيجة لاغتراب الإنسان في العالم فإنه لا يجد له إجابة إلا بالغوص في عواطف الإيمان. فالإجابة العقلية تستدعي تصحيح السؤال الخاطئ وذلك بالعود إلى العالم وقضاء على الاغتراب فيه.٣٤
- (٨) السجع العقلي: ويعني ذلك صياغة عدة عبارات لا تدل على شيء، والتي هي أقرب إلى «المط» اللغوي منها إلى العبارات التي تفيد معنى، وكأن الألفاظ ليس لها ثمن يمكن الاستكثار منها بلا حساب، مثل اليد التي يمسك بها. ففيم اليد إن لم تكن للمسك بها؟ أو مثل: مكتوب في مصاحفنا. وأين الكتابة إن لم تكن في المصاحف؟ أو مثل: الحي الذي لا يموت. وماذا يفيد الحي إن لم يكن الذي لا يموت؟ هذا التكرار هو السجع العقلي، أي الرغبة في قول شيء دون أن يكون هناك شيء يُقال، فيستخرج من العبارة بطنها وجوفها وأحشاؤها دون أن تضيف جديدًا على العبارة الأولى.٣٥
- (٩) السجع اللغوي: ويعني ذلك صياغة عدة قضايا تقوم على الاشتقاق اللغوي من أجل إكمال عناصر القضية دون إفادة أي معنى، مثلًا: «يعدم المعدوم في حال عدمه معدومًا» عبارة لم تقل شيئًا إلا أنها اشتقت من لفظ «عدم» اسم مفعول واسم فعل من أجل صياغة قضية مركبة. هنا يدور الفكر على نفسه باستعمال الألفاظ.٣٦ فإذا ما ضاقت اللغة العادية تشتق لغة غريبة وألفاظ جديدة غير الألفاظ الشائعة كي توحي بأنها تعبر عن معاني جديدة وهي لا تعبر عن شيء، وكأن اللفظ الجديد بنفسه قادر على كشف معاني جديدة وذلك مثل الكيفوفية والحيثوثية والأحموقية وهي لا تزيد كثيرًا عن الكيف أو الكيفية والحيث والحيثية والأحمق أو الحمق. وهو ما زال سائدًا في فكرنا المعاصر خاصةً عند مفكري الشام.٣٧
- (١٠) الخلط بين الأسماء: ويعني ذلك افتراض أن الأسماء قد اختلطت، وأن كل اسم يفيد مسمى آخر، ومِنْ ثَمَّ يجب أن يحل إشكال الأسماء. فمثلًا بالنسبة إلى الصفات يسأل: هل تفيد كل صفة معناها أم أنها تفيد معنى غيرها؟ هل تتغاير الصفات؟ هل تعني حي قادرًا أو تعني قادر حيًّا؟ هذا نوع من المشاكل الوهمية التي يخلقها المتكلم من أجل خلق فرصة يعبر به عن نشاطه العقلي المختزن وراء عواطف التأليه. كيف تكون الحياة هي القدرة حين يسأل هل معنى حي أنه قادر؟ هل الصفات متغايرة أو واحدة؟ وإذا كانت واحدة فلم تغايرت الأسماء؟ فإثبات الوحدة يعطي الفرصة لأن يكون المؤله أعظم من البشر الذين تتغاير لديهم الصفات وإثبات التغاير بديهية لا تحتاج إلى تأكيد.٣٨
- (١١) تجاوز الممكن إلى المستحيل: وهنا يقوم العقل بافتراض شيء ممكن ويتساءل إذا كان المؤله قادرًا عليه أو على جنسه. وبطبيعة الحال تكون الإجابة بالإثبات ليس فقط لأنه قادر عليه فالقدرة على الممكن أمر سهل بل لإثبات تدخل القدرة المطلقة في كل شيء حتى في الممكنات الإنسانية المحضة.٣٩ فالإثبات هنا يقوم على عدم الاكتفاء بالحد الأدنى والذهاب إلى الحد الأعلى حتى يثبت الحد الأدنى بطريق الأولى. والقدرة على المستحيل تثبت القدرة على الممكن بطريق الأولى. فالاستدلال هنا يأتي من الأعلى إلى الأدنى، من الأكثر إلى الأقل.
- (١٢) تجاوز المستحيل: ويعني ذلك وضع عدة مشاكل تدل على الاستحالة على الأقل بالنسبة إلى الإنسان، ثم تجاوزها للتعبير عن أقصى قدر ممكن من عواطف التأليه. وتكون المستحيلات مثل العلم بالأشياء قبل كونها، الجمع بين الأضداد، القدرة على الظلم وهو افتراض تناقض بين النظر والعمل أو بين الفكر والوجود. فيمكن السؤال مثلًا: هل يطير الإنسان؟ وتكون الإجابة بالطبع لا. وتكون النتيجة ولكن الله يطير. أو مثل هل يستطيع الإنسان أن يعلم ما لا يكون؟ فتكون الإجابة بالطبع لا. وتكون النتيجة ولكن الله قادر على علم ما لا يكون. هذه العبارات من شأنها الاعتراف بالعجز الإنساني من أجل إثبات قدرة المؤله المطلقة. والمطلوب إجابة تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال، وليست إجابة عقلية عن مشكلة واقعية.٤٠ فهذه التساؤلات كلها مثل هل الله لم يزل عالمًا بالأجسام؟ هل المعلومات معلومات قبل كونها؟ هل الأشياء أشياء لم تزل أن تكون؟ ليس المقصود منها إعطاء إجابات عقلية بنعم أو لا، بل تجاوز الحدود الإنسانية للوقوع نهائيًّا في الوهم والخيال، في دائرة العواطف والانفعالات. لما كان الإنسان لا يستطيع أن يعلم الأجسام إلا بعلم بعدي بعد أن توجد الأجسام، إلا أن المؤله هو القادر على العلم بها علمًا قبليًّا قبل أن توجد. وحتى هذا التصور للتعظيم والإجلال إنما هو تصور إنساني خالص. فالإنسان لديه حدس بالأشياء قبل حدوثها، ويعلم بعض الموجودات علمًا قبليًّا دون تجربة، وتكون الأشياء في ذهن الفنان قبل أن تخلق أعمالًا فنية.
- (١٣) الخلط بين حكم الواقع وحكم القيمة: ويعني ذلك أن عديدًا من العبارات لا تهدف إلى وصف شيء في الواقع، بل إلى مجرد التعبير الإنشائي تعبيرًا عن عواطف التأليه وذلك مثل: ما مقدار الله؟ مقداره أحسن الأقدار. أين يوجد؟ يوجد في كل مكان. ومثل العبارات التي يحكم بها على الأشياء بأفضل وأعظم وأجل، وهي صياغات أفعل التفضيل والمبالغة.٤١ وهنا يكون الحكم مجرد ارتفاع بالنفس وصعود بالروح، وكلما كان الموضوع متعاليًا كان أكثر تعبيرًا عن الألوهية التي تتجلى في النهاية في التعالي المستمر كعملية شعورية خالصة.
- (١٤)
قلب العالم الإنساني: وهنا تأتي عبارات عدة ليس المقصود منها وصف واقع أو حتى التعبير عن عواطف التأليه، بل مجرد نفي كل ما يوجد في العالم الإنساني من وقائع وقلبه رأسًا على عقب. فإذا كان الإنسان يفعل لغاية فأفعال المؤله ليست لغاية. وإذا كان الإنسان يفعل لغرض فأفعال المؤله منزهة عن الغرض. وإذا كان الإنساني خضع للأهواء فالمؤله لا يخضع للأهواء. ويمكن الاستطراد في هذا القلب إلى ما لا نهاية. وهي العبارات التي تظهر في الطريق السلبي في التعبير عن عواطف التأليه والتي تنفي مظاهر النقص عن المؤلَّه.
(٤) تكوين القضايا
لما كانت كل هذه الأبنية العقلية إنما تعبر عن أوضاع نفسية واجتماعية وبالتالي كانت كل القضايا حول الذات والصفات إنما تكشف عن مضمون نفسي واجتماعي وكانت أقرب ما تكون إلى التعبيرات الإنشائية التي تعبر عن مواقف انفعالية منها إلى قضايا خبرية تصدر أحكامًا على واقع أصبح من السهل تتبع نشأة هذه القضايا وكيفية تكوينها ابتداءً من التجارب الإنسانية الحية النفسية والاجتماعية التي يعيشها الإنسان.
لذلك كان سؤال القدماء عن الأوصاف والصفات والأسماء بصيغتين الأولى مثبتة والثانية منفية، مثل: هل الله محسن؟ هل الله غير محسن؟ هل الله عادل؟ هل الله غير عادل؟ هل الله رحيم؟ هل الله غير رحيم؟ هل الله صادق؟ هل الله غير صادق؟ هل الله حليم؟ هل الله غير حليم؟ … إلخ. وهذا يعني أن كل صفة مرتبطة على نحو ما بالصفة المضادة وأن الإحسان وغير الإحسان واجهتان لواقعة واحدة. وأن العدل وغير العدل شيء واحد من وجهتين مختلفتين وهكذا. فما هو وجه الارتباط بين الشيء ونقيضه؟ وما هو وجه الصلة بين الضدين؟
وقد ظهر هذا البناء الشعوري في كل القضايا التي يعبر بها الإنسان عن آماله وطموحاته أو عن فشله وإحباطاته. وهي العبارات التي اخذ في المجتمع المتدين معاني دينية، بل وتكون علمًا هو علم الكلام أو علم العقائد. فلو قمنا بإحصاء شامل لكل ما قيل عن الله، وما صدر من عبارات وقضايا تجعل الله موضوعًا في قضية أو مبتدأ في جملة فإنها لا تتعدى نوعين من القضايا: الأولى قضايا إيجابية مثل الله موجود، الله عالم، الله قادر، الله حي، سواء كان المحمول من أوصاف الذات الست أو من الصفات السبع أو من الأسماء التسعة والتسعين، وفي هذا النوع من القضايا يوصف الله بصفة في صيغة الإثبات. والثاني قضايا سلبية مثل الله غير معدوم أو غير حادث أو غير فان، أو ليس في محل، أو مخالف للحوادث، أو ليس اثنين أو ثلاثة إذا ما نفينا أضداد أوصاف الذات. أو أن الله ليس جاهلًا، وليس عاجزًا، وليس ميِّتًا، وليس أصمًّا، وليس أعمى، وليس أبكمًا، وليس خاضعًا للأهواء إذا ما نفينا أضداد الصفات السبع. أو ليس ظالمًا، وليس قاسيًا، وليس حربًا، وليس مقهورًا، وليس صغيرًا، وليس ناسيًا، وليس بخيلًا … إلخ إذا أخذنا أضداد أسماء الله التسعة والتسعين. في العبارات الأولى نثبت له صفات الكمال، وفي العبارات الثانية ننفي عنه صفات النقص. ولا يوجد طريق ثالث كما هو معروف في الفكر الديني، وهو طريق التمثيل. فالحديث عن الله بطريق القياس وضرب الأمثال وشتى أنواع المجاز والاستعارة والكناية هي صور فنية ترجع في حقيقة الأمر إلى النوعين السابقين من القضايا، القضايا الموجبة والقضايا السالبة، القضايا المثبتة والقضايا المنفية. «فالله نور» مجاز ولكن الصياغة قضية موجبة. وكذلك «الله ليس ظلامًا» مجاز ولكن صياغتها قضية سالبة.
(٤-١) القضايا الموجبة
- (١) الله عالم: تعني أن الإنسان يود أن يكون عالمًا، فالعلم أحد المثل الإنسانية، ومن مِنَّا لا يودُّ أن يكون عالمًا ويريد أن يكون جاهلًا؟ ولما كان الإنسان لا يستطيع تحقيق هذا الهدف وهو العلم في حياته نظرًا لأنه جاهل أو نصف متعلم فإنه لا يستطيع أن يكون عالمًا على الإطلاق. ومع ذلك لا يتخلى الإنسان عن الرغبة في العلم كمثل أعلى مطلق أو كفاية قصوى أو كهدف أسمى فيثبته نظرًا كموضوع مثالي أي أنه يتحقق تحقُّقًا صوريًّا فارغًا من غير مضمون، فيصبح العلم ذاتًا وموضوعًا في آن واحد، هدفًا مشخصًا. وفي هذا النوع نحو الغاية تتشخص ذات الإنسان وتتحجر وتثبت لغياب حركة التحقق منها حتى تتضخم وتصبح ذاتًا مطلقًا في تحول الوعي بالذات إلى وعي مطلق. وفي حالة وصف هذا الذات المشخص، وهو الذات المثالية المتعالية، فإن الإنسان لا يجد أمامه إلا الأهداف السامية والغاية القصوى التي تشخصت من قبل فيصفها بها، يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، يصف ذاته بمثله، ونفسه بغاياته. وسرعان ما تجد الصفات مشجبًا لها في الذات. ومِنْ ثَمَّ يقول الإنسان: الله عالم. فمعنى الله عالم لا يأتي من تحليل اللغة والانتقال من اللفظ إلى المعنى إلى الأمام بل من تحليل الشعور والانتقال من المعنى إلى اللفظ إلى الوراء. فدلالة القضية فيما قبل تكوينها وليس بعد التكوين. فالله هو الوعي بالذات، والعلم مثله الأعلى. ولكن الظروف الاجتماعية التي يعيشها الإنسان تجعل الوعي بالذات مغتربًا، والمثل الأعلى لا يتحقق فيتشخص كلاهما ويتأله بعيدًا عن الذات وخارج العالم فيؤله الإنسان ذاته المغتربة ويقدس صفاته ومُثله التي لم تتحقق، ويصفها بأعز أمانيه حرصًا عليها وتمسكًا بذكراها حنينًا إليها ومناجاةً لها. فإذا ما تغيرت الظروف، واسترد الإنسان وعيه بذاته وقضى على اغترابه وحقق مثله الأعلى في العلم فإنه يكون متعلمًا لا جاهلًا ويقضي على الأمية في حياته وحياة أمته وهي ليست فقط الجهل بالقراءة والكتابة بل أيضًا الأمية الثقافية والحضارية والمدنية. حينئذٍ لا يطلق عبارة «الله عالم»، بل يقول «أنا عالم» ومجتمعي مجتمع علم، وحياتي يسودها العلم، وتقوم على أساس العلم. ولما كانت هذه الظروف لا تتغير من تلقاء نفسها بل بفعل الأفراد والجماعات، بحركة الطلائع وثورة الجماهير، فإن العبارات والقضايا والأحكام عن «الله» تكون مشروطة بمدى إحداث هذا التعبير. فالأولوية هنا للتوحيد العملي على التوحيد النظري.٦١
- (٢)
الله قادر: وتعني أن الإنسان يودُّ أن يكون قادرًا، فالقدرة مثله الأعلى، وهدفه الأسمى، وغايته القصوى. ولكنه لا يستطيع نظرًا للموانع العديدة والظروف الاجتماعية التي يعيشها والمواقف التي يجد نفسه فيها، فالقدرة لها حدود من طبيعتها أو خارجها. ومع ذلك فالإنسان لا يتخلى عن القدرة كهدف أعلى وكامل بعيد، فيتحول الهدف إلى حلم، والغاية إلى ثمن. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في العالم فإنه يقتطع جزءًا من وعيه بالذات ويجعله وعيًا مطلقًا في حركة فارغة نحو الإمام المسدود، أي نحو الأعلى المفتوح، وعيًا فارغًا من الوعي، وعيًا خارجيًّا مطلقًا يغرق الإنسان والعالم فيه. ولما أراد الإنسان الحديثَ عن هذا الوعي المطلق ووصفه ومناجاته، فإنه لم يجد في جعبته إلا مثله العليا. فوصف أعز ما لديه بأغلى ما لديه، وقدَّم للضيف العزيز أفضل ما لديه من باقات الزهور وأطباق الطعام، فوصف نفسه بنفسه، وتحدث عن وعيه بصفاته وقال: «الله قادر». فإذا ما تغيرت الظروف وأصبح الإنسان قادرًا بالفعل على تحقيق مثله الأعلى وقضى على ظروف العجز وموانع القدرة فإن القدرة تصبح واقعًا ملموسًا، عيانيًّا مشاهدًا، وتتوقف عن أن تكون حلمًا. وفي نفس الوقت يسترد الإنسان ذاته المغترب، ويعود الوعي المطلق من خارج العالم إلى وعي بالذات داخل العالم. وبعد أن كان الوعي منغلقًا على نفسه يغوص في عواطف الإجلال والتعظيم والتأليه فإنه يصبح وعيًا بالذات ووعيًا بالعلم ووعيًا بالآخرين. ومِنْ ثَمَّ لا يحتاج الإنسان إلى وصفه لأنه مشاهد بالعيان، تجربة حية مباشرة. ولكن الذي يغير ظروف العجز إلى ظروف القدرة هي الذات نفسها في حركتها الواعية وقدرتها على فك هذا الحصار، ابتداءً من نقاء الطلائع وتجنيد الجماهير، ومِنْ ثَمَّ يصبح المجتمع كله قادرًا وبالتالي لا يقولن أحد «الله قادر».
- (٣)
الله حي: وتعني أن الإنسان يريد أن يكون حيًّا وأن يحافظ على حياته لأنه يتنفس ويشعر. فالحياة الكاملة مثله الأعلى، وهدفه الأسمى، وغايته القصوى. وما أكثر ما قرأ عن الحياة ورأى فنًّا يعظم الحياة، وما أكثر ما ينفعل لشعار «الفن للحياة» أو «الحياة للحياة». ولكن الإنسان ميت بالفعل، لا غذاء ولا كساء ولا مأوى. لا يتنفس إلا التراب، ولا يتحرك إلا بحساب، ولا يشعر بشيء أو يشعر ويخفي شعوره. ولدى أدبائنا الشبان تظهر تجارب الموت والغم والقرف والعدم والضياع. ويقارن الإنسان شعبه الميت بالشعوب المجاورة الحية فيحزن ويغتم ويزداد موتًا على موت. بل كثيرًا ما يتمنى الموت وهناء القبر، فالموت سكون وهدوء وطمأنينة، حتى أصبحت الحضارة كلها حضارة الموت لا ترى الحياة إلا بعد الموت. ومع ذلك لا يريد الإنسان أن يتخلى عن الحياة كمثل أعلى لم يتحقق، ويظل محافظًا عليه فيتجسد ويتحجر ويتجمد ويتحول إلى حياة وكفن، إلى كنز دفين يحرص عليه، يحزن على ضياعه، ويتغنى بلحظاته. ولما كان الإنسان ذاتًا مغتربًا في العالم، لا وجود له ولا بقاء، فإنه يقتطع من ذاته ذاتًا أخرى يضع فيها وعيه بالذات ويجد فيها بديلًا عن العالم الضائع، وطرفًا آخر للحوار بعد غياب كل الآخرين، ويقذف بها خارج العالم، فتصبح الذات المطلق بفعل حركتها الخاوية، من الذات إلى الذات، فارغًا من غير مضمون، موضوعًا للتأليه، وكيانًا للإجلال والتعظيم. فإذا ما أراد الإنسان أن يتكلم ويعبر فإنه يصف هذا الذات ويناجيه ويتصل به ويتعبده ويسأله ليجيب، ويدعوه ليستجيب، فلا يجد في جعبته إلا صفاته وكنزه الثمين، الحياة المحفوظة، فيصف الذات بأنه حي، يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، يصف نفسه بنفسه، ويضع محموله على موضوعه، وخبره على مبتدئه ويقول: «الله حي». فإذا ما تغيرت الظروف، وعاد إلى الحياة، وحافظ عليها، وتمتع بها، وعشقها، وأصبح حيًّا، ونزع عنه الكفن، وزاح عنه رداء الموت، تتحقق الحياة بالفعل، ولا تعود مثلًا أعلى، تمنيًا وحلمًا. وفي نفس الوقت يسترد ذاته المغترب ويعي ذاته الفرد، فالشعور مستقل عن واقعه وإن كان فيه. الوعي الفردي قوامه الحرية وإن كُتمت وأخمدت. وفي هذه الحالة لا يحتاج الإنسان إلى وصفها بل يحققها بالفعل. والذي يقضي على الاغتراب ويحول الإنسان من الكلام إلى الفعل، من العبارة إلى الشيء، من المفهوم إلى الماصدق، من إطلاق الوصف إلى تحققه في الموصوف هي قدرة الذات الواعي على تجنيد الجماهير، وتغيير الواقع، والإصرار على الحياة، ورفض الموت والخنوع.
- (٤)
الله سميع: وتعني أن الإنسان يود أن يسمع وأن يدرك ما حوله وأن يعي ما يسمع. يسمع القول، ويدرك الصوت، ويحدث له بعد السمع الإدراك وبعد الحس الفهم. ولكنه أحيانًا لا يسمع ولا يدرك أو يسمع ويمنع نفسه من الإدراك أو يدرك ويجعل نفسه غير فاهم إيثارًا للسلامة وأملًا في النجاة. ومع ذلك يظل الوعي المدرك من خلال السمع مثلًا أعلى له. ويظل كل من سمع القول ويدركه بالنسبة له أملًا لا يتخلى عنه أو حلمًا يراوده بالرغم من استحالة ذلك في الواقع. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في العالم، وعيه بالذات مشخص خارجًا عنه ومجسدًا فيه، فإن الشوق ينازعه إليه، والحنين يتجه نحوه، وتظهر ضرورة المناجاة، فإذا ما أراد وصفه والحديث إليه ومناجاته والابتهال إليه لحاقًا بالوحدة بين الذات المسلوبة والذات المشخصة، بين الذات الفارغة في الداخل والذات الحسية في الخارج، فإنه يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، يصف ذاته المسلوبة بحلمه المجهض ويقول: «الله سميع» مبالغةً في وصف السمع. فإذا ما تغيرت الظروف وأصبح الإنسان يسمع الأشياء ويدرك ما حوله، يثيره القول، وتهزه الكلمة، يتحقق الهدف من السمع ويصبح سامعًا ومدركًا. وفي نفس الوقت يسترد ذاته المغتربة، يرد إلى جسده قلبه المنزوع منه، ويعيد إلى بدنه رأسه المفصول عنه. يعي ذاته، ويتحول الوعي بالذات إلى وعي بالعالم، ويصبح سامعًا. حينئذٍ لا يقول: «الله سميع». فتحقق الشيء يمنع من المبالغة والنطق به، وكأن الكلام غياب للشيء، والنطق به تعويض عن غيابه. ولما كانت الظروف لا تتغير إلا بفعل الجماهير، وبقيادة طليعتها الواعية، كانت حرية الوعي الفردي نقطة البداية لتحويل الوعي بالذات إلى وعي بالتاريخ.
- (٥)
الله بصير: وتعني نشأةً وتكوينًا أن الإنسان يود أن يكون بصيرًا، ويريد المحافظة على بصره ورؤيته للعالم. والبصر إدراك، والإدراك وعي بما يحيط به وفهم له. البصر شهادة على الواقع، ورؤية لأحداث العصر وإدراك لها. ولكن يحدث أحيانًا أن يكون الإنسان غير مبصر، لا يُسمح له بالشهادة، ويُمنع من الرؤية. فيسير مغمض العينين كما سار من قبل مطرق الأذنين، شاهدًا لا يرى شيئًا. حماية للنفس، وإيثارًا للسلامة، وبغيةً للنجاة، حفاظًا على لقمة العيش وتربية الأولاد. ومع ذلك فإنه لا يستطيع أن يتخلى عن نموذجه ومثله الأعلى في الشعور الرائي والذات المبصر. وتظل الشهادة مكتومة في صدره، وهو أضعف الإيمان، وتظل النظرة مقلوبة إلى الداخل. محفوظة في الذاكرة، تنتظر وقت الإعلان كما تنتظر وقت الحساب. ولما كانت الذات مغتربة عن العالم. مقطوعة نصفين، نصف ميت يتحرك عليه في صورة جسد، ونصف حتى يعشقه يطلقه ويثبته وينظر إليه بعيدًا عن العالم وخارجًا عن محيطه، غطاءً لكل شيء وستارًا عليه، ولما أراد أن يناجيه ويحادثه ويجعله طرفًا محاورًا بعد أن عز المحاورون فلا يجد أمامه إلا أن يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، أن يصف ذاته بمخزونه النفسي من الشهادة فيقول «الله بصير». فإذا ما تغيرت الظروف، وأصبحت الرؤية ممكنة، والشهادة واجبة، رأى بعد أن سمع، وفتحت العينان كما تطرقت الآذان، وشهد على عصره، وأصبح شاهدًا عليه وربما شهيدًا له. وبالتالي يسترد صفاته إلى ذاته بعد نسبها إلى وعيه المطلق خارجًا عنه. وفي نفس الوقت يسترد ذاته المغترب، ويعود به إلى العالم، ويحقق الوحدة في شخصه، وتصبح ذاته واعية فردية تتصف بصفات العلم والقدرة والحياة كما تتصف بصفات السمع والبصر. والذي يغير الظروف هو هذا الوعي ذاته بأن يصبح بؤرة للوعي التاريخي المتمثل في حركة الجماهير وقدرته على الاتحاد به ومعرفة مساره ومراحله. فهو وعي حر ومستقل يستطيع أن يستل نفسه من إطار الحتمية التاريخية، وباجتماع الحرية والضرورة يتحرك التاريخ.
- (٦)
الله متكلم: وتعني أن الإنسان يود أن يكون متكلمًا، يحافظ على كلماته، ويحرص على النطق بها. فكما يسمع ويبصر فإنه يتكلم. النطق تعبير عن الوعي وإبلاغ لمضمون الإدراك، وإيصال له للآخرين. ولكل الإنسان في عالم يكتنفه الصمت، ويعمه الخرس، يضع كل إنسان فيه يديه على أذنيه وعلى عينيه وفوق شفتيه وشعاره: «لا أسمع، لا أبصر، لا أتكلم»، أو «ممنوع من السفر، ممنوع من الكلام»، مسلوب الحرية، حرية التعبير وحرية القول. وإن تكلم فإنه يحدث نفسه أو يهمس في آذان الأصدقاء ويسر إلى الجيران أو ينطلق الحديث في حجرات النوم أو كتابة في دورات المياه خوفًا من العيون والآذان. فإذا ما تحدث علنًا فإنه لا يتحدث إلا نفاقًا وتملقًا دون قول كلمة أو صدى. ومع ذلك لا يستطيع أن يتخلى عن الكلام كمثل أعلى وكرغبة دفينة يتمناها، وهدف أسمى يسعى إليه ليكون صادقًا مع النفس، مطلقًا لطاقاته، ممارسًا لحرية القول. يظل الكلام حبيسًا في الصدر، كلامًا ضامرًا يتحدث به إلى نفسه، فهو المتكلم والسامع، المبلغ والمبلَّغ إليه، الرسول والمرسل إليه. ولما كان الوعي بالذات قد قذفه الإنسان خارجًا عنه وشخصه في الكون عاش غريبًا في العالم بلا وعي بالذات أو بالعالم، عاش متأملًا لذاته خارجها دون إدراك أو وعي لأي مضمون لها. ولما أراد الحديث مع نفسه ومناجاة وعيه المشخص خارجًا عنه فإنه يصفه ويتصوره بأغلى ما لديه، بمثله الأعلى المكتوم في الصدر وهو الكلام فيقول: «الله متكلم». فإذا ما تغيرت الظروف، وقضى على الاغتراب، واسترد الإنسان وعيه بذاته، وحقق الوحدة في داخله، يتحول الوعي المطلق بالذات إلى وعي بالذات وبالعالم، ويسترد الوعي بالذات صفته المسلوبة المعارة إلى الآخر ويصبح متكلمًا. فيفتح الإنسان فمه، وتُحل عقدة لسانه، ويتفوه بالكلام وبعيون الكلام. يجهر بالصوت، يسمعه القاصي والداني، يتوجه بالنداء، ويصبح هو المتكلم. يتحقق مثله الأعلى في محيطه، يسمع صوته وينتبه الناس. والذي يغير الظروف هو مقدار الوعي بالذات، والقدرة على قيادة أمة، وتجنيد الجماهير، وأن يتقابل الوعي الفردي بالوعي التاريخي حتى تتحدد حرية الوعي بحتمية التاريخ.
- (٧)
الله مُريد: وتعني أن الإنسان يريد ويبغي ويتوق، ويريد حرًّا بمحض إرادته. فالإرادة تعبير عن الذات وازدهار للوجود وتحقيق له. ولما كان الإنسان يعيش في عالم قهر وتسلط يمحو إرادته، ويردها إلى نفسه، فتظل حبيسة في داخله، مطلوبة بين جنباته، ويصبح الإنسان عاجزًا عن فعل شيء، وجوده غير محقق، ورغباته غير مشبعة، وطاقاته حبيسة. ومع ذلك فإن الإنسان لا يتخلى عن مثله الأعلى، ولا يتنازل عن حرية إرادته فيتكتم عليها، ويحافظ على إمكاناتها فتتحول إلى موضوع متعال غير متحقق. ولما كان الإنسان مغتربًا في العالم فيتحول وعيه بذاته، وعلى غير وعي منه، إلى وعي مطلق يرى فيه نفسه الضائعة ويثبت فيه وجوده المغترب، يعيش له وبه، يخلقه مع أنه خالقه، ويفنيه مع أنه باق عليه. ولما كان يريد محادثته ومناجاته، وسؤاله ودعاءه، ووصفه وتصوره، فإنه يصفه بمثله الأعلى المكتوم الحبيس، من كنوزه النفيسة الدفينة، إفراجًا عنه واستعمالًا لها وكنوع من التحقق اللغوي الكلامي لها فيقول: «الله مريد». فإذا ما تغيرت الظروف، وسقطت نظم القهر والتسلط، وانطلقت إرادة الإنسان الحرة من عقالها، وتحقق مثله الأعلى فأصبح مريدًا فاعلًا، يزدهر وجوده، وتتأكد حياته، وتنتشر ذاته، ويسترد وعيه المسلوب المشخص خارجًا عنه المتحجر فوقه، ويصبح مريدًا كما أصبح سامعًا بصيرًا متكلمًا. فيصبح الإنسان في نهاية المطاف عالمًا قادرًا حيًّا، سميعًا بصيرًا، متكلمًا مريدًا. ويصبح وعيه بذاته هو الوعي المطلق، متحققًا في التاريخ، يسير على قدمين، ومحمولًا على جسد، يهز العروش والتيجان، ويسقط أنظمة الجهل والعجز والموت، ويقضي على نظم الكبت والتسلط والسيطرة. ولما كانت الظروف لا تتغير إلا بتفاعل الوعي الفردي مع الوعي التاريخي فإن تحرر الوعي الفردي أوَّلًا يحرك حتمية التاريخ، ويرجع الشعوب إلى مسارها الطبيعي حتى تأخذ مصيرها بيدها فتكتب التاريخ وتسطر حروفه.
إذن عبارات: الله أعلم، الله قادر، الله حي، الله سميع، الله بصير، الله متكلم، الله مريد، إنما تعكس مجتمعًا جاهلًا عاجزًا ميِّتًا، لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، مسلوب الإرادة. وبالتالي يكشف الفكر الديني الذي يجعل الله موضوعًا في قضايا من هذا النوع عن الظروف الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع الذي تطلق فيه أمثال هذه القضايا. فالله كموضوع في قضية خير مشجب لأماني البشر، وأصقل مرآة تعكس أحلامهم وإحباطاتهم. علم الكلام إذن تعبير عن عجز الأفراد والشعوب عن أخذ مصائرها بيديها والدفاع عن حقوقها بأنفسها، حقوقها في العلم والإرادة والحياة، وحقوقها في السمع والبصر والكلام والإرادة، وتعبير عن أوضاع الجهل والعجز والموت والصمم والعمى والبكم والهوى. علم الكلام يكشف إذن عن وضعين، وضع قائم ووضع قادم، إقرار بواقع، رؤية مستقبلية. علم الكلام خير كاشف عن وجود الإنسان بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والأسطورة، وخير معبر عن الإنسان في تجاربه في الحياة، النجاح والفشل، اليأس والأمل، النصر والهزيمة، التقدم والتخلف، النهضة والانهيار.
- (١)
الله موجود: تعني أن الإنسان موجود ولكن وجوده ضائع. ومع ذلك فإنه لا يتخلى عن وجوده كمثل أعلى. وإذا أراد وصف وجوده المشخص خارجًا عنه نظرًا لاغترابه في العالم فإنه يصفه بأعز ما لديه فيقول الله موجود. فإذا ما تغيرت الظروف ويكون موجودًا بالفعل فإن مثله الأعلى يتحقق ويصبح موجودًا. عندما يقضي على اغترابه يصبح موجودًا في العالم وليس خارج العالم، موجودًا حقيقةً لا وهمًا، واقعًا لا خيالًا، حسًّا لا افتراضًا. يسترد الإنسان وصفه الأوَّل وهو الموجود ويصبح الإنسان موجودًا ولا يشعر الإنسان حينئذٍ بحاجة إلى استنباط وجود الله من الفكر إذا ما وجد الإنسان بالفعل. ولا تتغير الظروف إلا بوجوده كفرد وبوجود الجماهير كجماعة. بالتالي تتحقق حرية الفرد في حتمية التاريخ.
- (٢)
الله قديم: تعني أن الإنسان قديم، له جذوره التاريخية وتراثه السابق وحياته الماضية من خلال الآباء والأجداد، ممتد في الزمان. ولكن في الواقع يصبح الإنسان مقطوع الصلة، مجتث الجذور، تابعًا مقلدًا. ولما كان الإنسان لا يتخلى عن صفة القديم كقيمة ومثل أعلى كما يبدو ذلك في الأمثال العامية، فإنه يؤله الصفة التي لم تتحقق. ولما كان يعيش مغتربًا في العالم يخلق ذاتًا مطلقةً من ذاته، ثم يريد أن يصفها فيصفها بأعز ما لديه وهو القديم ويقول: «الله قديم». فإذا ما تغيرت الظروف وتحققت الأصالة في الوجود، واكتشف جذوره في التراث تتحقق صفة القِدَم في حياته. فإذا ما استرد ذاته وقضى على الاغتراب فإن الصفة تتحقق في الذات وتعود إليها. ويتم ذلك بفضل الوعي الذاتي للوعي التاريخي من خلال تجنيد الجماهير وحركتها فيه.
- (٣)
الله باقٍ: تعني أن الإنسان يود البقاء، وأن يظل في القلوب، حيًّا في ذكريات الناس، يريد أن يتجاوز الزمان، ويتغلب على الفناء، وأن يستمر في الوجود. ولكنه يعيش في ظرف يفرز فيه الفناء، ولا يبغي له البقاء، لأنه يتنكر لوجوده، ولا يعترف به. يضعه في السجون ويدعوه إلى الهجرة، ويحدد نسله، وعدم الإنسان بالنسبة له أفضل من وجوده. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في العالم قذف بنفسه خارج نفسه في ذات مشخصة يتعبدها، واحتاج إلى مخاطبتها ووصفها، فإنه يصفها بحلمه الذي لم يتحقق وهو البقاء، فيقول: «الله باقٍ». فإذا ما تغيرت الظروف وأصبح في الدنيا خالدًا، وبقي في أذهان الناس حيًّا في شعور الجماهير، واسترد ذاته بعد وعيه بالذات، فإن صفة البقاء تتحقق فيه بتحقق ذاته. ويتم ذلك في الوعي الفردي كإرهاص للوعي الاجتماعي.
- (٤)
الله مخالف للحوادث: يعني أن الإنسان يودُّ ألا يكون شبيهًا بالأشياء، وأن يكون فردًا ليس كمثله شيء، متفردًا، لا يتكرر. ولكن ظروف العصر تجعله يعيش في عالم الأرقام، كل فرد رقم، وتتكرر الأرقام، وتفقد الهويات، فأصبح الإنسان شبيهًا بالأشياء. ومع ذلك تظل الرغبة في التفرد لديه حلمًا لم يتحقق، وأمنية يصبو إليها، وهدفًا أعلى يسعى إليه قدر الإمكان. ولما كان الإنسان مغتربًا في العالم يعيش خارجه، آخذًا من ذاته جوهرها ولبها ذاتًا أخرى يشخصها، احتاج للحديث عنها ومناجاتها ووصفها وتعبُّدها، فلا يجد إلا حلمه الذي لم يتحقق ومثله الأعلى، فيقول: «الله مخالف للحوادث». فإذا ما تغيرت الظروف وتحقق مثله الأعلى بالفعل، فإنه يسترد وصفه ويحققه ويصبح فردًا. وعندما يقضي على اغترابه ويسترد ذاته من خارج العالم إلى داخل نفسه، فإنه يصفها بوصفه وهي المخالفة للحوادث. وهذا يُتم جهد الإنسان وفعله وبوعيه وإرادته حتى يستطيع بعد ذلك أن يعطي مثلًا للآخرين، يلتفون حوله، ويتجندون باسمه، ويحذون حذوه.
- (٥)
القيام بالنفس: ويعني أن الإنسان يود أن يكون قائمًا بنفسه، لا في محل، وإن كان يعيش في مكان، يستمد وجوده من ذاته، مستقلًّا عن المكان، لا يعتمد في وجوده على غيره. ولما كان الإنسان يعيش في عصره يجعله باستمرار في محل، في سجن أو دار أو شارع أو هيئة، فإنه يكون معتمدًا في وجوده على غيره، ويكون له محل وسكن وعنوان وعقد إيجار. ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يحقق حلمه، فإنه لا يتخلى عنه ويظل حلمًا يراوده ومثلًا أعلى يصبو إليه. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا عن العالم، يتعدى ذاته في غيره، في ذات مشخصة خارجة عنه، ويريد أن يصفها ويحادثها ويناجيها ويتعبدها تعويضًا عن فقدان ذاته، فإنه يصفها بأعز ما لديه بحلمه المفقود وهو القيام بالنفس. فإذا ما تحقق الحلم وأصبح قائمًا بالنفس بالفعل، معتمدًا في وجوده على ذاته، فإنه يسترد الوصف من غيره ويرجعه إلى نفسه. وفي نفس الوقت يقضي على اغترابه، ويسترد الوعي المطلق خارجه إلى داخل ذاته فيعي بذاته وبالعالم، ويصف ذاته بصفة الشرعية فيكون قائمًا بالنفس بالفعل ولا يطلق حكمًا لغويًّا على غيره. العبارة تعويض عن الشيء، والكلام بديل الوجود. وهذا لا يتحقق إلا بالوعي بالضروري أوَّلًا مبلورًا للوعي الاجتماعي في حركة التاريخ.
- (٦)
الله واحد: تعني أن الإنسان يودُّ أن يكون واحدًا، فردًا، ذا شخصية واحدة، رؤيته واحدة، وسلوكه واحد. ولكن الواقع أن الإنسان يعيش في عصر النفاق حيث يُبطن الناس غير ما يُظهرون، ويُظهرون ما لا يُبطنون، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون، عصر الازدواجية والتملق والمداهنة والتلون. ومع ذلك فإن الإنسان لا يتخلى عن الوحدانية كمثل أعلى له قد يتحقق في يوم ما، يحافظ عليه، كامنًا في نفسه. ولما كان يعيش مغتربًا في العالم، يعيش في نظام لم يختره ولم يستشره أحد فيه، فإن وعيه بذاته يتحجر خارجًا عنه ويتشخص فوقه، يجله ويعظمه حتى يؤلهه ويتعبده. ولما أراد وصفه ومحادثته فقد وصفه بأعز ما لديه، بحلمه الذي لم يتحقق، فيقول: «الله واحد». فإذا ما تغيرت الظروف، وتحقق الحلم وأصبح الإنسان واحدًا بلا منافذ تتسرب من خلالها طاقاته، وأصبح مجتمعه واحدًا بلا طبقات، بلا غني أو فقير، بلا عظيم أو حقير، بلا قاهر ولا مقهور تتحقق الصفة، وتتحول إلى واقع حي مُعاش. هنا يسترد ذاته المغتربة ويصبح من جديد واعيًا بذاته فيرد لها وصفها المغتصب. وهذا لا يتحقق بطبيعة الحال إلا باكتمال شرطَي الوعي بالذات والوعي بالتاريخ.
ويمكن تحليل الأسماء بنفس الطريقة. فما ظنه الإنسان على أنه «أسماء الله الحسنى» من أحصاها فقد دخل «الجنة» هي في حقيقة الأمر مُثل الإنسان العليا النظرية من علم وخبرة وشهادة وحكمة أو العملية من عدل وقسط، وما يبغيه من رحمة ولطف وود وكرم. ولما كانت هذه المثل بعيدة المنال لم يحققها الإنسان بعد في حياته، فإنه مع ذلك لا يتخلى عنها ويظل ينظر إليها كباقة زهر يتغنى بها ويتعبدها كالكواكب الساطعة والنجوم المضيئة في ظلمة الليل البهيم. فإذا ما تحققت الحكمة والعلم والرحمة والعدل والقسط والود واللطف والحلم في حياته تتحول الأسماء إلى حالات شعورية وأوضاع اجتماعية. وعندما يستمد الإنسان ذاته المفقودة المدفوعة خارجه، والمقذوفة أعلاه، يسترد لها أسماءها فيصبح الإنسان رحيمًا ودودًا عفوًّا غفورًا شكورًا حليمًا … إلخ. وإحصاؤها هنا لا يعني عدها الحسابي، بل تحقُّقها في حياته العملية وتشبُّهه بها، وتمثُّلها وتحويلها إلى سلوك وأبنية اجتماعية حتى يصبح المثال واقعًا، والوحي طبيعة، والله عالمًا. والجنة هنا لا تعني الجنة الموعودة خارج الأرض، بل تعني تحقيق المثل العليا في حياته وبالتالي يتحول عالمه إلى نظام مثالي، إلى أرض موعودة جديدة، إلى دنيا تتحقق فيها الآخرة. عندئذٍ يصبح «ملكوت السموات» قريب، ويتحقق الوعد، ويرث الأرض العباد الصالحون، وتتحقق الخلافة، وتؤدى الأمانة، ويقابل فعل الخلق من الله بفعل الإبداع من الإنسان. فإذا كان الخلق يعني انفصام المثال عن الواقع فإن تمثل الأوصاف والصفات والأسماء كأبنية نفسية واجتماعية تعني وحدة الواقع في المثال، وبالتالي ينتهي الزمان، ويتحقق التاريخ.
(٤-٢) القضايا السالبة
وهي القضايا التي يكون الله فيها أيضًا موضوعًا، ولكن يكون المحمول منفيًّا، فالنفي للمحمول وليس للموضوع، مثل الله ليس جاهلًا، الله ليس عاجزًا، الله ليس ميِّتًا … إلخ. وهي تعني أيضًا في نشأتها وتكوينها نفس ما تعنيه القضايا الموجبة ولكن على نحو مضاد وعن طريق القلب. قد يكون النفي بحرف «لا» مثل لا في مكان، أو بالحرف «ليس» مثل ليس بجاهل، أو بكلمة «غير» أو بأداة الاستثناء مثل «إلا الله» أو بأية أداة نفي أخرى. وفي هذه الحالة يقوم الشعور أيضًا بعدة عمليات رئيسية على شكل خطوات لا شعورية تكون قواعد في المنهج اللاشعوري. أوَّلًا الحكم بأن صفات الإنسان كالموت والانفعال والمعاناة والأهواء … إلخ صفات نقص في حين أنها مكونات الإنسان وأبنيته النفسية والاجتماعية المتغيرة. ثانيًا إسقاط صفات النقص هذه على المؤله المشخص القابع في الكمال ثم نفيها عنه، وهو موقف يقوم على اتهام الذات بكل صفات النقص ثم التخلي عنها وعدم تغييرها من أجل نفيها بالكامل، أي أنه موقف يقوم على تعذيب الذات وتبرئة الغير.
وتفصيلًا لهاتين الخطوتين الرئيسيتين يقوم الشعور بتطبيقها على خطوات أدق. أوَّلًا: الاعتراف بالموقف الإنساني والإحساس الواقعي به على عكس القضايا الموجبة التي كان فيها الإحساس بالمثل غالبًا. هنا اعتراف بأن الموقف الإنساني موقف طبيعي به الجهل والعجز والموت والصمم والبكم والعمى والانفعال، وينتابه العدم والحدوث والفناء والشيئية والمحل والكثرة، وتعتريه القسوة والعبودية والدنس والحرب والكفر والذل والانتقام والعقاب والصغار والقساوة والجحود والنسيان والإهمال والشح والفظاظة والظلم والبطلان … إلخ إلى آخر مضادات الأسماء. بالتالي فإن الموقف الإنساني الطبيعي هذا موقف شرعي لأنه إقرار بواقع. ثانيًا: الحكم على هذا الموقف الإنساني في شتى جوانبه بأنه نقص وعيب يجب التبرؤ منه والتنكر له ونفيه. وهذا هو الخطأ اللاشعوري. فالموقف الإنساني بطبيعته أقرب إلى الجهل منه إلى العلم، وإلى العجز منه إلى القدرة، وإلى الظلم منه إلى العدل. وأن عظمة الإنسان لتتجلى في القدرة على التحول من طرف إلى آخر بفعل الإرادة الحرة وبإدراك العقل المستقل. وذلك هو التحدي، وتلك هي الرسالة. فما يظن أنه نقص هو في الحقيقة كمال أو شرط كمال. وما يحكم عليه أنه عيب هو في الحقيقة شرف أو طريق الشرف. فمن عظمة الإنسان أنه يموت ليخلد، ويمرض ليصح، ويعجز حتى يقدر، ومِنْ ثَم الانتقال من الواقع إلى المثال. ثالثًا: تشخيص الوعي بالذات خارج العالم وتحجره وتجميده وتثبيته خارج الإنسان ثم إجلاله وتعظيمه وتأليهه وتعبده حتى تصب الحياة كلها فيه في النهاية ويفقد الإنسان حياته ووجوده بعد أن فقد وعيه بالذات. وهي نفس المرحلة في القضايا الموجبة واستعمالها كمشجب تعلق عليه الصفات. رابعًا: إسقاط كل الصفات التي حكم عليها الإنسان بأنها عيب ونقص مثل الجهل والعجز والموت وإطلاقها عليه، ورؤيته من خلالها، وكأن الإنسان يريد التخلص منها فيقذفها خارجه كما قذف وعيه من قبل خارجه. خامسًا: يسارع الإنسان بنفي صفات النقص والعيب بعد إسقاطها على الذات المشخص حتى يبرِّئها من هذه الاتهامات التي ألقاها على نفسه ويتحمل المسئولية وحده وحتى يطهِّر ذاته المشخص ووعيه المغترب، طوق النجاة له وسبيل الخلاص، فيقول: «الله ليس جاهلًا»، «الله ليس عاجزًا»، الله ليس ميِّتًا … إلخ. سادسًا: فإذا ما رجع الإنسان إلى الاعتراف بالموقف الإنساني وعدم إدانته، ثم عمل على تحويل الجهل إلى علم، والعجز إلى قدرة، والموت إلى حياة، لم يعد يشعر بالعيب من الأساس، من جهل وعجز وموت، بل يفخر بعلمه وقدرته وحياته. وهذا الرجوع لا يتم إلا عن طريق استرداد الإنسان لوعيه الذاتي، فيعود الذات المشخص داخل الوعي بالذات، وهذا لا يتم إلا بالوعي الفردي من داخل الوعي الجماعي.
- (١)
الله ليس جاهلًا: تعني أن من مكونات الموقف الإنساني الجهل. فالإنسان قد يكون جاهلًا وقد يكون عالمًا. والتحدي أمامه هو الانتقال من الجهل إلى العلم. ثم يحكم الإنسان على الجهل بأنه عيب ونقص، وهو حكم شرعي يدل على اتجاه الإنسان وميله إلى العلم. ولما كان الإنسان مغتربًا في العالم، قاذفًا بوعيه بذاته خارجه، ثم أراد أن يحادث نفسه الخارجية وأن يصفها، فأسقط صفة الجهل عليه. ولكنه سرعان ما ينفيها مبرئًا أعز ما لديه من أسوأ ما لديه من نقص وعيب فيقول: «الله ليس جاهلًا». وفي الوقت الذي يقضي فيه الإنسان على جهله ويصبح عالمًا، ويسترد وعيه بذاته إلى داخله، فإنه في هذه الحالة لا يتراءى له نقصه ولا يسقطه على شيء ولا ينفيه، ولا يقول: «الله ليس جاهلًا»، بل يبحث عن مظهر نقص آخر أو أن يصف الله بأعز ما لديه حينئذٍ وهو العلم إن لم يكن قد تحقق كلية ويقول: «الله عالم». ولكن يظل حكى النفي هو الأقوى لأن العلم في حالة التحقق ولو النسبي ليس بأعز ما لدى الإنسان؛ لأنه حصل عليه بالفعل أو في الطريق إليه. والإنسان يود وصف ذاته بحلمه وأمنيته التي لم تتحقق.
- (٢)
الله ليس عاجزًا: تعني أن الإنسان يعيش في عالم يشعر فيه بالعجز وبأنه غير قادر على تحقيق كل ما يصبو إليه. ثم يحكم لا شعوريًّا بأن العجز آفة وبأن عدم القدرة نقص وعيب لا بد من التخلص منه. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا مشخصًا وعيه بذاته خارجًا عنه وأراد أن يتوحد مع نفسه من خلال مناجاتها والحديث معها ووصفها فإنه يسقط صفة العجز عليه وسرعان ما يبرِّئها منها. فالإنسان لا يصف أعز ما لديه بأسوأ ما لديه وهو العجز. وإذا ما استرد الإنسان وعيه بنفسه وبالعالم واستطاع أن يقضي على عجزه وأن يصبح قادرًا فإنه لن ينفي عن الله عجزه بل ينفي عنه أحد مظاهر النقص الأخرى التي لم يتخلص منها بعد. ولا يصفه بأنه قادر إمَّا لأن القدرة قد تحققت بالفعل أو لأن النفي أقوى من الإثبات، ودفع التهمة والشبه أكثر تنزيهًا من الثناء والمدح.
- (٣)
الله ليس ميِّتًا: تعني أن الإنسان يرى الموت نقص وفناء فينزعج من الموت، ويخشى منه، ويدفعه عنه، ثم يحكم على الموت بأنه أحد مظاهر النقص مهما ألَّه الموتى أو عبد الأموات أو حفظهم أو بنى لهم المقابر العظام وخلد آثارهم. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في عالمه يرى وعيه بذاته بعيدًا عنه، متحجرًا، بعيدًا عن شرور البشر وآثامهم، وأراد أن يحادثه ويناجيه ويصفه، فإنه سرعان ما يسقط عليه ولو توهمًا، ثم يسارع بنفيه، فلا يجوز أن يصف أعز ما لديه بأسوأ ما لديه وهو الموت فيقول: «الله ليس ميِّتًا»، فإذا ما استرد وعيه بذاته داخل العالم، وجعل الموت مظهرًا من مظاهر الكمال، فالإنسان لا يخلق ولا يبدع ولا يخلد نفسه إلا لأنه ميت. والإنسان الذي لا يموت لا يصبح الخلود لديه مقصدًا ولا للزمن قيمة ولا للعواطف الإنسانية دلالة. ثم يبحث الإنسان إذا ما عاد إليه اغترابه عن مظهر آخر من مظاهر النقص ليسقطه ثم ينفيه.
- (٤)
الله ليس أصم: فالإنسان إذا ما كان أصمَّ فإنه يصبح ناقصًا في إحساسه. الصمم نقص إذ إنه لا يسمع الأصوات، ويكون الإنسان الأصم غير قادر على الحديث والاستجابة وغير قادر على سماع الوحي. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في عالمه قاذفًا بوعيه خارجه ويريد الارتباط به عن طريق الحديث والحوار ويتغنى فيه، فإنه سرعان ما يسقط عليه الآفة ثم ينفيها في نفس لحظة الإسقاط، فلا يصف الإنسان كنه ذاته بعيوبه وآفاته. فإذا ما استرد الإنسان وعيه بذاته في العالم وإذا ما قضى على الصمم الحسي أو المعنوي فإن النقص يصبح كمالًا ولا يقول الإنسان حينئذٍ «الله ليس أصمَّ».
- (٥)
الله ليس أعمى: وتعني أن الإنسان يعتبر العمى عيبًا ونقصًا، سواء العمى العضوي أو العمى الإرادي. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في العالم نازعًا روحه خارجه فإنه سرعان إذا ما أراد محادثتها ومناجاتها فإنه يسقط عليها عيوبه ثم يبرِّئها منها كما يضحِّي الحبيب بنفسه من أجل محبوبه ويجعل نفسه ناقص المحامد والمحبوب كامل الأوصاف. فإذا ما عاد الإنسان إلى وعيه بذاته وبالعالم وقضى على عماه المعنوي ورأى وأبصر، فإنه لا يُسقط على الله العمى بل يُسقط عليه عيبًا آخر لم يتخلص منه بعد.
- (٦)
الله ليس أبكم: تعني أن الإنسان في حياته يعيش أبكم أخرس اللسان عضويًّا واجتماعيًّا لا إراديًّا وإراديًّا. وهو يعلم أن البكم العضوي إذا كان عيبًا، فإن البكم الاجتماعي امتهان. ولما كانت ذاته مغتربة عن العالم مقذوفًا بها خارجه يود استردادها بالكلام والحديث معها ووصفها، فإنه يسقط من نفسه صفاته. فإذا ما وجدها عيوبًا فإنه سرعان ما ينفيها ويقول: «الله ليس أبكم». فإذا ما تخلص الإنسان من خرسه الاجتماعي وتكلم فإن صفة النقص تغيب عن شعوره فلا يسقطها على وعيه المقذوف خارجه، ويسقط عليه إمَّا عيبًا آخر لم يقض عليه بعد أو وصفة إيجابية حققها بجهده مع خطر المشاركة أو لم يحققها بعد وتظل مثلًا أعلى لديه.
- (٧)
الله ليس ناقصًا: تعني أن الإنسان ناقص خاضع للأهواء والانفعالات، وأنه يدرك أن هذه مظاهر نقص سرعان ما يكتشف العقل حدودها وأخطاء أحكامها. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في العالم قائمًا بوعيه بالذات خارج العالم فإنه يود استعادته بالكلام فيضطر إلى وصفه فيسقط عليه من صفاته التي هي عيوب مثل النقص. وسرعان ما يدرك ذلك فينفيها عنه ويقول: «الله ليس ناقصًا» لما كان النقص ضد الكمال الذي به يمتنع عليه كل العيوب والآفات وفي مقدمتها الأهواء والانفعالات. فإذا ما استطاع الإنسان القضاء على عيوبه وأصبح كاملًا عاقلًا غير خاضع للميل والهوى، فإنه يسقط على الله كمالاته دون عيوبه. ويكون السؤال حينئذٍ: هل يكمل الإنسان أم يظل جاهلًا عاجزًا ميِّتًا أصمًّا أعمى أخرس ناقصًا؟ طالما أن الكمال غاية قصوى يظل الإنسان ناقصًا، وبالتالي يظل الحديث عن الله في قضايا سالبة مستمرًّا وأن يتوقف إلا بتوقف مظاهر النقص الإنساني.
- (١)
الله ليس معدومًا: تعني أن الإنسان يشعر بأنه عدم وبأنه وُجد من عدم ويعود إلى عدم وأن وجوده عدم نظرًا لأنه يمرض ويموت. وهذه كلها مظاهر نقص، آفات وعيوب. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في العالم، يقتطع جوهره ولبه ويقذف به خارجًا ثم يحاول بعد ذلك استرداده واستيعابه بالكلام بعد أن طرده بالفعل فيحادثه ويناجيه ويصفه، ويُسقط عليه مظاهر عدمه. ولكن سرعان ما يفيق فينفيها ويقول: «الله ليس معدومًا.» وفي اللحظة التي يصبح فيها وجود الإنسان ثابتًا مقررًا قائمًا على وجود وليس على عدم أو التي يصبح فيها العدم مظهر كمال للإنسان لأنه يكون دافعًا على الوجود والبقاء، فإن هذا الوصف لن يسقط ولن ينفى.
- (٢)
الله ليس حادثًا: تعني أن الإنسان حادث، تجري عليه الحوادث، وتعرض له نوائب الدهر، ويتعرض لنوازل الزمان. يمرض ويصح، يحزن ويفرح، يفشل وينجح، وهي كلها مظاهر نقص يتبرأ منها. ولما كان الإنسان مغتربًا في العالم فاصلًا وعيه بالذات عنه ومجمدًا إياه خارجه ثم عاشقًا إياه متعبدًا له، وأراد أن يناجيه فيحادثه ويصفه فيسقط عليه صفاته. وسرعان ما يكتشف عيوبها فينفيها في التو واللحظة ويقول: «الله ليس حادثًا.» وفي الوقت الذي تنتفي فيه عيوبه ويستطيع مقاومة الحدوث والقضاء على مظاهره فإنه لن ينفيها بعد إسقاطها على نفسه المطلق ويعتبرها من كمالاته التي يثبتها له.
- (٣)
الله ليس فانيًا: وتعني أن الإنسان في هذه الدنيا فان، وأنه يموت، وأن عمره محدود في الزمان، وبأن لكل أجل كتاب. ولما كان الموت نقصًا والفناء عيبًا، فإنه ينزعج منه. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في مجتمعه فاقدًا وعيه بذاته، قاذفًا به خارج العالم وفي نفس الوقت يحن إليه، ويتقرب منه، ويرغب في محادثته ومناجاته فيصفه ويضطر إلى أن يصفه بما لديه من أوصاف فيسقط عليه صفات النقص مثل الفناء. وسرعان ما يدرك الأمر فينفيها عنه ويقول: «الله ليس فانيًا.» وفي الوقت الذي لا يكون فيه الفناء مظهر نقص، بل مظهر كمال، فإن الإنسان لن يصف نفسه بأنه ليس فانيًا. بالرغم من أن الإنسان فان إلا أنه قادر على البقاء بعمله وفكره وبالتالي لن يسقط عيبه الكامل على نفسه المطلق.
- (٤)
الله ليس مشابهًا للحوادث: تعني أن الإنسان مشابه للحوادث. فهو مرئي وجسم، جوهر وعرض، له طول وعرض، يتحرك ويسكن، وهي كلها مظاهر نقص. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا بوعيه خارج العالم محجرًا إياه بعيدًا عنه وأراد أن يحادثه ويناجيه فيصفه بما لديه وهو المشابهة للحوادث. ولكن سرعان ما يكتشف أنه لا يستطيع أن يصف وعيه، وهو أغلى ما لديه، بحدوثه ونقصه، وهو أسوأ ما لديه فينفيه ويقول: «الله ليس مشابهًا للحوادث.» وفي الوقت الذي يصبح فيه الحدوث مظهرًا من مظاهر الكمال فالإنسان يتحرك ويسكن، ويصح ويمرض، ولكنه يحمل أمانة ورسالة قادرًا على تحقيقها فإنه لن ينفي الحدوث عن الله.
- (٥)
الله ليس في محل: تعني أن الإنسان في هذا العالم موجود باستمرار في محل؛ أي في مكان وزمان، محدد الحركة والانتشار. والمحل نقص لأن الرؤية فيه محدودة. ولما كان الإنسان مغتربًا في العالم قاذفًا بوعيه بذاته خارج العالم في دائرة ضوء مركزة ويريد أن يصفها ويتغنى بجمالها فلا يجد أمامه إلا أن ينفي عنها مظاهر نقصه وعيبه ويقول: «الله ليس في محل.» وفي الوقت الذي يقدر فيه الإنسان على أن يتجاوز حدود المكان وأن يتجاوز الرؤية المحددة فإنه لن ينفي عن الله صفة النقص هذه.
- (٦)
الله ليس متعددًا: وهذا يعني أن الإنسان متعدد الجوانب والقوى وأنه متكثر. فهناك بشر عديدون، أقوام وأجناس، وهي كلها من مظاهر التشتيت والتشرذم والحرب والصدام والتقاتل والصراع. ولما كان الإنسان يعيش مغتربًا في العالم، قاذفًا بوعيه خارجًا عنه، متحجرًا جامدًا متقوقعًا، وأراد أن يتصل به وأن يناجيه ويسأله ويصفه فينفي عنه مظاهر نقصه وعيبه، وهو التعدد والتكاثر فيقول: «الله ليس متعددًا.» وفي الوقت الذي يصبح فيه التعدد ميزة والتكثر فضيلة من خلال وجهات النظر المتعددة المتحاورة فإنه لن ينفي عن الله حينئذٍ صفة التعدد هذه.
- (أ)
«في كل مكان، ومستوٍ على العرش» (زهير الأثري).
- (ب)
«علمه شيء، قدرته شيء … إلخ. وصفاته ليست أشياء» (الزيدية).
- (جـ)
«عالم بالأشياء كلها قبل وجودها وبعلم محدث بها» (جهم) (مقالات، ج١، ص٢٦٩).
- (د)
«القرآن كلام محدث غير مخلوق» (زهير الأثري) (مقالات، ج١، ص٣٢٦؛ ج٢، ص٢٣٢).
- (هـ)
«القرآن حدث غير محدث» (أبو معاذ التومني) (مقالات، ج١، ص٣٢٦؛ ج٢، ص٢٣٢).
- (و)
«ليس كمثله شيء وهو السميع والبصير» (الفقه، ص١٨٤).
- (ز)
«خلق الشيء غير الشيء وهي معًا» (عبَّاد بن سليمان) (مقالات، ج٢، ص١٧٥).