البقاء هو ثالث وصف للذات بعد الوجود والقِدَم. فالوجود لا أول له ولا آخر،
لا نهائي من البداية والنهاية، فإذا كان القِدَم يعني ما لا أول له، فإن البقاء
يعني ما لا نهاية له. وقد لا يُذكَر البقاء ويكتفي بالوجود والقِدَم.
١ مما يدل على ظهور هذه الصفات تباعًا بعد بناء نسق العقائد وتصورات
الذات. وقد يظهر من الصفات المختلف عليها مع القِدَم والاستواء والوجه واليد
والعينين والجنب والقِدَم والأصبع واليد والتكوين في نهاية الأوصاف الست مما
يدل على بداية ظهوره وفرض نفسه في النسق.
٢ وقد يذكر الآخر مع الأوَّل في «الأوَّل والآخر، الظاهر والباطن،
القريب والبعيد» في عبارات إنشائية دون صياغات عقلية، مما يكشف عن بداية ظهور
الصفة كنوع من المواجيد والعواطف والانفعالات حتى تستقر في النسق العقلي المتأخر.
٣ وقد ارتبط في البداية بدليل الحدوث مثل صفتي الوجود والقِدَم.
فيُذكَر البقاء بعد ذكر دليل الحدوث لأوصاف المحدث على أنها اسم فعل باقٍ، أي
كائن مشخص قبل أن تتحول إلى وصف مجرد، بعد موجود، قديم، واحد، أحد.
٤ ويذكر في صيغة إنشائية بعد القِدَم والأول على أنه لا آخر لدوامه
دون صفة البقاء، مما يدل على أن التجربة سابقة على المصطلح.
٥ وقد يذكر في التمهيدات بعد واجب الوجود مع استحالة الفناء.
٦ وقد يُذكر في صيغة سلبية ضمن العشرين صفة على أنه استحالة طرد
العدم أو إحالة العدم مما يدل على أنه وإن لم يكن وصفًا سلبيًّا إلا أنه من
الأضداد، وأن السلب أصل الإيجاب، والتنزيه سابق على التشبيه.
٧ ثم يظهر البقاء كمسألة مستقلة تدل على أن الوصف بدأ يتموضع ويُصاغ
ويتفرد، ويتحول إلى وصف مستقل من مجرد تعبير إنشائي عن عواطف الإجلال والتعظيم.
٨ وتتداخل صفة البقاء مع صفات المعاني السبع، وتظهر كصفة معنًى وليس
كصفة ذات بعد صفات المعاني السبع وقبل صفات التشبيه.
٩ وقد يأتي بعد الصفات السبع ولا يذكر منها إلا الوجود، وكأنه نتيجة
للقديم فيما وجب قدمه وجب بقاؤه.
١٠ ويثبت على أنه إثبات للمعاني وهو أن الذات باقٍ ببقاء، وعلى أنه
قول الأشعري، وليس مما اتفق عليه الجميع وأنها صفة ثبوتية مختلف عليها.
١١ ويظهر البقاء بعد أوصاف الذات وبعد صفات المعاني السبع وقبل الرؤية،
١٢ وبعد صفات التنزيه والوحدانية. كما يظهر البقاء في مجموعة يدخل
فيها قسم من الصفات السبع، وهي السمع والبصر والكلام والبقاء.
١٣ ويظهر وصف باقٍ في مجموعة أخرى من الأوصاف في الإقرار بالتوحيد بعد
أوصاف: موجود، واحد، ليس كمثله شيء.
١٤ وفي أول إحصاء لأوصاف الذات في عشر يظهر البقاء على أنه ثالث وصف
بعد الوجود والقِدَم.
١٥ وقد يذكر البقاء بعد القِدَم بعد دخول الوجود في دليل الحدوث.
١٦ وعندما يستقر البقاء النظري للصفات في ست وفي أحكام العقل الثلاثة
وجعل ما يجب لله عشرون صفة يظهر البقاء كثالث وصف فيما يجب لله كما يظهر في نفي
طرد العدم كثالث وصف فيما يستحيل على الله من الصفات العشرين المضادة. كما يذكر
البرهان على وجوب البقاء. كما يظهر كأحد الأضداد الخمسة والعشرين، الفناء ضد البقاء.
١٧ ويظهر أيضًا كثالث وصف في تفسير لا إله إلا الله على أنه المستغني
عن كل ما سواه.
١٨ وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة يظهر القِدَم والبقاء ونفي
التركيب كأحكام الواجب.
١٩
والأدلة على إثبات البقاء ليست منفصلة عن الأدلة لإثبات الوجود والقِدَم، فهو
ثلاثي واحد.
٢٠ كما لا تنفصل أدلة إثبات البقاء كصفة عن أدلته لإثباته زائدًا على
الذات أو عين الذات، وهو السؤال الرئيسي في موضوع الصفات.
٢١ أثبته الأشاعرة لأن الواجب باقٍ بالضرورة، فلا بد أن يقوم به معنى؛
لأن البقاء ليس من السلوب أو الإضافات، وليس الوجود بل زائد عليه، فالشيء قد
يوجد ولا يبقى كالأعراض.
٢٢ والحقيقة أن البقاء وإن لم يكن من السلوب وأن الصورة اللفظية له
ليست منفية بلا أو ليس إلا أن البقاء من الأضداد عكس الفناء ويظل السلب أصل
الإيجاب. وعند المعتزلة صفة ليست زائدة على الوجود لأنه استمرار للوجود، ولأنه
لو كان باقيًا بالبقاء لما كان واجب الوجود لذاته.
٢٣ وهناك حجتان لنفي صفة البقاء زائدة على الذات، الأولى أنه لو احتاج
إلى الذات لزم الدور وإلا لكان الذات محتاجًا إليه وكان مستغنيًا عن الذات فكان
هو الواجب دون الذات.
٢٤ وقد حاول البعض التوسط فأثبتوا البقاء في الممكنات ونفوه عن «الله».
٢٥ والدليل على البقاء أنه لو لم يكن موجودًا فيما لا يزال فهو أنه
يستحق هذه الصفة لذات، والموصوف بصفة من صفات الذات لا يجوز الخروج عليها، وهذا
هو تفسير الذات بالذات، وهو أقرب إلى التفسير بالطباع الذي ترفضه الأشاعرة.
٢٦
وبصرف النظر عن إثبات البقاء كصفة زائدة على الذات أو هي عين الذات، فإن الذي
يدل على البقاء عند جمهور المتكلمين هو أن كل واجب الوجود لذاته يستحيل عليه
العدم؛ أي أن البقاء متضمن في مفهوم واجب الوجود، وبالتالي يكون تحصيل حاصل.
ولو كان قابلًا للعدم لاحتاج إلى معدم والمحتاج المفتقر يكون محدثًا، وهذا في
حقيقة الأمر هو إثبات الشيء عن طريق نفي الضد وهو برهان الخلف، ويظل دليلًا
سلبيًّا كما أنه قد ينعدم لذاته بطبيعته دون ما حاجة إلى تشخيص علة فاعلة. ولو
انعدم لذاته أو لإعدام معدم أو لطريان ضد أو لزوال شروط وكلها باطلة.
٢٧ والحقيقة أن إبطال الانعدام هو تكرار للحجة السابقة. وهو يكشف عن
تشخيص الأفكار بألفاظ الحاجة والعوز والفقر. وقد تكون الأدلة لإثبات استحالة
العدم على القديم، أي استحالة الضد وارتباط القِدَم بالبقاء. فلو عدم فإمَّا أن
يعدم لاستحالة بقائه، وهذا مُحال وإلا بطل القِدَم، أو أن يعدم لقطع أحداث
البقاء فيه، وهو محال لأن «الله» ليس محلًّا للحوادث أو أن يعدم لطريان ضد
عليه، وهو محال لأنه ليس أولى من عدمه في محله.
٢٨ القديم إذن باقٍ، والباقي ليس إلا الموجود، والبقاء لا ينتفي
بالضد، فإذا انتفى كان عدم بقائه أولى، والقديم لا ضد له، وأنه لا يوجد معدوم لذاته.
٢٩ واضح من هذه الحجج أن الوجود والقِدَم والبقاء صفات متلازمة يصدر
كل منها من الآخر استنباطًا كنسق عقلي محكم، يكشف عن أمور اعتبارية في الذهن
أكثر مما يثبت موجودًا في الواقع بالفعل.