(١) مقدمة
بعد الوعي الخالص وهو الذات التي تتسم بأوصاف ست: الوجود، والعدم، والبقاء،
والمخالفة للحوادث، والقياس بالنفس، والوحدانية، ينتشر هذا الوعي خارجه ويتحقق
درجة أكثر ويصبح الوعي المتعين أو الشخصية الإنسانية. ويتصف بصفات سبع: العلم،
والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة.
وأحكام الصفات واحدة بالرغم من تعدد الصفات. والحديث عن الصفات هو حديث عنها
كلها في مسائلها العامة قبل أن يكون حديثًا عن كل صفة على حدة، الواحدة تلو
الأخرى. فإثبات العلم يدخل في إثبات الصفات أو نفيها أكثر من دخوله في صفة
العلم. وقِدَم الكلام يدخل في قِدَم الصفات أو حدوثها أكثر من دخوله في صفة الكلام.
١ فبعد ذكر الصفات الواحدة تلو الأخرى ومعنى أحكام الصفات يذكر إثبات
العلم بها وإثبات قِدَمها كمسائل مشتركة بينها جميعًا. وقد تظهر أحكام الصفات
بعد الصفات عندما تتصدر الصفات على الذات.
٢ تظهر أحكام الصفات إذن مرة قبل تعدادها واحدة واحدة، ومرة أخرى بعد
الصفات كعامل مشترك بينها.
٣ والحقيقة أن أحكام الصفات تتجاوز الصفات ومسائلها، كلًّا على حدة،
فهي أحكام عامة تشملها كلها، يتفق عليها الجميع أو يقع فيها الخلاف ثم تكون كل
صفة مسألة تطبيقية للحكم العام. يمكن إذن إثبات الصفات بوجه عام أو نفيها بصرف
النظر عن صفة بعينها، ولو أن الصفة المفضلة عند القدماء هي صفة العلم للتمرين
عليها وضرب المثل بها على إثبات العلم، تتلوها القدرة، ثم الحياة، ثم باقي
الصفات الأربع. وبالرغم من اعتراض بعض القدماء من أن إثبات أحكام الصفات
أوَّلًا ثم التوصل منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيًا مسلك ضعيف سلكه عامة
الأشاعرة، إلا أنه أقرب إلى العقل. إذ يرد الحكم العام قبل الخاص، وتثبت الصفات
أوَّلًا كمبدأ وأساس قبل أن تثبت صفة العلم أو كل صفة على حدة.
٤ وإذا أتت أحكام الصفات قبل الصفات فإن ذلك يقتضي أن تكون أعرف
منها، فلا يصح تعريف المعرف بأقل منه وضوحًا. العام قبل الخاص، والأساس قبل
المؤسس، وعلم الأوليات سابق على كل العلوم.
ماذا تعني أحكام الصفات؟ الصفة عند الأشاعرة هي ما قامت بالشيء، والوصف قول
الواصف الدال على الصفة.
٥ وأحكامها ليست أحوالًا أو صفات، بل أقرب إلى الأسس العقلية التي
تحدد علاقات الصفات بعضها ببعض وعلاقاتها بالذات. هي وجوه واعتبارات أي منطق
وأحكام قضايا.
٦ وهناك طريقان لإثبات أحكام الصفات: الأوَّل النظر والاستدلال
والثاني الضرورة والبديهة، وكلاهما قسمان للعلم. ويُلاحَظ هنا عدم وجود فهم
خبري سمعي لأنه ليس برهانًا قطعيًّا ولا يولِّد إلا الظن، والبرهان لا يكون إلا يقينيًّا.
٧
ولم تظهر أحكام الصفات العامة إلا ابتداءً من القرن الخامس عندما قل التعامل
مع كل صفة على حدة وزاد الإحكام العقلي لإدراك المسألة ككل. وهناك أحكام ثلاثة
طبقًا لصياغة مسألة الصلة بين الذات والصفات، وبعد حصر الصفات في سبع وتميزها
عن الأوصاف الستة: حكم الإثبات والنفي، وحكم المساواة والزيادة (الهوية
والغيرة)، وحكم القِدَم والحدوث. وقد يضرب المثل بصفة مختارة لبيان كل حكم،
العلم والقدرة بالنسبة لحكمي الإثبات والنفي، والمساواة والزيادة، والكلام لحكم
القِدَم والحدوث. وأحيانًا تظهر الأسماء مع الصفات وتتكرر المسائل من جديد مما
يدل على نقص الإحكام النظري والتمييز بين الأحكام العامة ثم الأحكام الخاصة في
موضوعات تطبيقية.
٨ وقد تتداخل الأحكام الثلاثة، ويُستَنبط أحدها من الآخر نظرًا لوجود
نسق عام يحكمها كلها. وهو السبب في إثارة سؤال: هل إثبات الصفات أو نفيها نتيجة
لإثبات قدمها أو حدوثها أم أن إثبات قِدَم الصفات وحدوثها نتيجة لإثبات الصفات؟
٩ لذلك يُكتفى أحيانًا بذكر حكمين دون الثالث.
١٠ وقد بدأ القدماء بالأحكام المرفوضة، وهي النفس والهوية والحدوث،
ونحن نبدأ بالمذاهب المرفوضة أيضًا: الإثبات والغيرية والقِدَم.
١١
(٢) الإثبات والنفي
وقد يبدأ القدماء في العادة بحكم المساواة والزيادة قبل حكم الإثبات والنفي،
في حين أن حكم الإثبات والنفي هو الحكم الأولى، بعده يأتي حكم المساواة
والزيادة أو حكم الحدوث والقِدَم. فاعتبار الصفات زائدة على الذات إثبات لها،
واعتبارها عين الذات نفي لها. إثبات الصفات وقوع في التشبيه، ونفيها إثبات
للتنزيه. تعني الصفات هنا الصفات الحسية التي يشارك فيها الإنسان ويقوم إثباتها
على التضحية بالتنزيه من أجل إثبات الصفات وتفادي إثبات ذات خالصة مجردة لا طعم
ولا لون ولا صفات ولا أفعال لها. ونظرًا لأهمية الحكم، فإن إثبات الصفات يظهر
أحيانًا كعنوان للموضوع وليس مجرد مسألة حكم في الصفات.
١٢ ونظرًا لأهمية إثبات الصفات سُمِّي أهل السنة والأشاعرة الصفاتية،
وهو لقب أعطوه هم لأنفسهم في مقابل إعطائهم لنفاة الصفات لقب المعطلة،
واستُعملت الألقاب كسلاح ضد الخصوم وللدفاع عن الذات.
١٣ فنفي الصفات وصف للخصم واتهام له بالتعطيل في مقابل مدح الذات
وتعظيمها وإعطائها لقب الصفاتية. ونظرًا لأهمية إثبات الصفات أصبح التوحيد
مرادفًا له.
١٤ وعند بعض الحركات الإصلاحية الحديثة التي اقتربت من المعتزلة وظلت
أشعرية في التوحيد اعتزالية في العدل لا تثبت الصفات بما فيه الكفاية وتكون
أقرب إلى النفي، ولكن مع الإصرار على التنزيه وعدم الوقوع في التشبيه الذي هو
في العادة نتيجة طبيعية لإثبات الصفات. فتثبت الصفات وتنفي الكيفية فيكون لله
سمع لا كسمعنا وبصر لا كبصرنا، أي تحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى
الخلف، إثبات الشيء ونفيه في آن واحد. ويظل الفكر الديني المعاصر في مواجهة
الأشعرية، يتعامل بأسلوبها كي يتحرر منها، فيظل أسيرًا لها دون خرق الحصار
والخروج عن الطوق استنادًا إلى الاعتزال القديم واعتمادًا على تجارب العصر. وفي
حركة إصلاحية أخرى قد يتم إثبات الصفات في مواجهة الأشعرية، وكأن الأشعرية نفي
للصفات نظرًا لأنها لا تقول بالتشبيه صراحةً وتنفي الكيفية.
١٥ والحقيقة أنه لا يمكن إثبات السمع والبصر ثم نفي التشبيه ونقول سمع
لا كسمع الآدميين وبصر لا كبصرهم، فتلك خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام
وإحجام، نفي وإثبات، تنزيه وتشبيه، وسير في المكان، «محلك سر».
١٦ والواقع أن إثبات الصفات لا يعني بالضرورة الوقوع في التشبيه، بل
يعني أن حالات الشعور ليست صفات تابعة لحركته، بل هي وحدات مستقلة موجودة
بوجوده. فهي في نفس الوقت معنًى ووجود. الصفات إذن ليست مجرد حالات ذاتية، بل
هي صفات موضوعية. لا يوجد عالم بلا علم ولا قادر بلا قدرة.
١٧ هذا الإشكال كله ناتج عن طبيعة الصلة بين الذات والموضوع. فإذا كان
نفي الصفات رجوع الذات إلى ذاتها، فإن إثبات الصفات رغبة مستمرة في التخارج
وإيجاد موضوع فتشتق الذات موضوعًا من ذاتها لا تثبته كموضوع في ذاتها وليس
بالضرورة خارجًا عنها. فالعالم يوجب العلم، والقادر يوجب القدرة، والحي يوجب
الحياة، وهو ما يحدث في بناء الخطاب عندما تولد العبارة الإنشائية وجودًا
خبريًّا، وعندما يوجب التمني الواقع، وعندما تخلق الذات من نفسها موضوعًا
تخاطبه فتتوحد مع نفسها، وتصبح ذاتًا وموضوعًا، موجودًا كاملًا.
والحجج النقلية على إثبات الصفات كثيرة،
١٨ ولكنها في نفس الوقت معارضة بحجج نقلية أخرى لنفي الصفات. كما أنها
توحي بالتشبيه مما يوجب تأويلها حرصًا على التنزيه، وبالتالي يمكن قلبها فتصبح
حججًا مضادةً لنفي الصفات. ويصبح إثبات الصفات مناقضًا لظاهر النص وحكم الشرع،
ويتحول إلى إثبات آلهة متعددة قديمة متغايرة ومتميزة عن الله. وما الداعي في
التحديد إذن بسبع أو بسبع عشرة صفة؟ ما المانع من الزيادة إلى ما لا نهاية
وإثبات الجلال والإكرام والجبروت والكبرياء، والحمد والقوة والحلم والكرم
والعظمة والهبة واللطف والسع والشكر والود كصفات؟ صحيح أن الأشاعرة قد احتاطت
وجعلتها أسماء ولكنها حددتها أيضًا بتسع وتسعين، «له الأسماء الحسنى»، وكلمات
الله لا تنتهي، وصفاته وأسماؤه لا حد لها.
١٩
أمَّا الحجج العقلية فعديدة، منها ما يعتمد على البداهة ذاتها، فإذا ثبت
العالم ثبت العلم، فلا عالم بلا علم. إثبات العالم إثبات للعلم بالضرورة، أمَّا
إثبات العالم ونفي العلم فتناقض، إذ لا معنى للعلم إلا كون العالم عالمًا
بمعلومات على ما هو عليه.
٢٠ وأحيانًا يُسَمَّى الدليل التجريبي نظرًا لاعتماده على قياس الغائب
على الشاهد. ففي الشاهد العالم ذو العلم، والقادر ذو القدرة، والمريد ذو
الإرادة. يتم إثبات الصفة إذن بمجرد إثبات الموصوف، وإثبات الفعل بمجرد إثبات
الفاعل. والحقيقة أن الحجة ليست بديهية لأنها تعريف الشيء بما هو دونه في
الخفاء والجلاء عندما يحيل الموصوف إلى الصفة. كما أن الله عالم لا تعني أن له
علمًا بل تعني أنه محيط، أي تبقى الصفة على مستوى المعنى والدلالة دون تشخيصها،
وتثبتها كجوهر. وإذا كانت الحجة تقوم على قياس الغائب على الشاهد، فما المانع
من عزو الجوارح وآلات الحس في السمع والبصر وفي غيرها من الصفات، أي الأذن
والعين واللسان واليد وجميع الأعضاء الحسية؟
وقد تأخذ الحجة طابعًا جدليًّا، إمَّا بوجود الإثبات أو استحالة النفي.
فإثبات ونفي الصفات إمَّا أن يرجعا إلى الذات أو إلى الصفات أو إلى الأحوال.
ويستحيل الرجوع إلى الذات لأنها معقولة دون الاتصاف بالأحوال، فلزم أنها ترجع
إلى الصفات.
٢١ والحقيقة أن ذلك إثبات حقائق مختلفة وخواص متباينة لذات واحدة دون
ما مبرر. كما أنه تحصيل حاصل لأنه إثبات الصفات بالصفات. وإثبات الصفات بالذات
أقرب إلى العقل. والذات واحدة لا ينتج عنها كثرة الصفات. وقد يُقال أيضًا إن
إنكار إثبات صفات أزلية مثل إثبات موصوف بلا صفات. والحقيقة أن الموصوف فاعل
وصفاته أفعال دون أن تتجوهر أو أن تستقل وإلا وقعنا في التعدد، تعدد الجواهر
والمعاني المستقلة.
وهناك حجة أخرى صورية تقوم على دليل حدوث العالم واحتياجه من حيث إمكانه إلى
مرجح لأحد أطراف الإمكان. والمرجح إمَّا أن يكون بذاته ولذاته أو بذاته على صفة
وراء الذات، ويستحيل الترجيح بالذات لأن ذلك لا يخصص فيجب أن يكون الترجيح
بالصفة وهي التي سماها الشرع الإرادة أو القدرة. فإذا اشتمل الفعل على حكمة وجب
كون الصانع عالمًا، والقدرة والعلم يستوجبان الحياة. فالصفة إذن هي مرجح الوجود
على العدم وصلة الله بالعالم، أي أنها مرادفة للفعل. والحقيقة أن الصفة بهذا
المعنى افتراض زائد لأن الآية تدل، والظاهرة تشير، دون ما حاجة إلى صفة متوسطة
بين الله والعالم، وإلا كان الفكر الديني في الخلق معتمدًا على التوسط كما هو
الحال في المسيحية أو في غيرها من الديانات القديمة وترك الخلق المباشر وهو أهم
ما يميز الدين الجديد.
وقد يستعمل دليل تجريبي صرف ويكون هو نفس الدليل السابق مقلوبًا. فالتأمل في
الكون ببدائع الصنائع وعجائب الخلق يؤدي إلى إثبات الصانع حكيمًا قادرًا مريدًا
دون اللجوء إلى قياس الغائب على الشاهد. «فالغائب شاهد، والعقل، والبصر نافذ».
ولا حاجة إلى الاستدلال في الضروريات. ويزيد الأشعري تأمل الإنسان في خلقه
وأطواره، طورًا بعد طور، وفي كمال الخلقة، أي تأصيل التأمل في النفس وفي الكون.
والحقيقة أن هذا الدليل البصري الكوني يثبت الموصوف لا الصفة، والفاعل لا كيفية
الفعل. وليست القضية إثبات الصفات، ولكن صلة الذات بالصفات، صلة زيادة أو
تساوي، غيرية أم هوية. وليست القضية في الإثبات، ولكن في منع الاشتراك بين
الصفات الإلهية والصفات الإنسانية. وقد تأخذ هذه الحجة صيغة أخرى وهو القول
بأنه لو لم يكن متصفًا بهذه الصفات لكان متصفًا بما يقابلها، والله يتعالى
ويتقدَّس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصًا. فلو لم يكن الله عالمًا لكان
جاهلًا، ولو لم يكن قادرًا لكان عاجزًا، ولو لم يكن حيًّا لكان ميِّتًا … إلخ.
والحقيقة أن العلم والجهل، القدرة والعجز، الحياة والموت ليسا من المتقابلين،
أي ما لا يجتمعان على شيء واحد من جهة واحدة في اللفظ أو في المعنى تقابل السلب
والإيجاب أو تقابل الصدق والكذب بل من المتضايفين مثل الأبوة والبنوة. ومنه
تقابل الطرفين الضدين، أي الذين لا يُفهَم أحدهما بدون الآخر في علاقة نسبة أو
إضافة، كما وضح في نظرية الوجود.
٢٢ والأصل في التضايف هو أن يكون الطرفان حسيين، مثل الأب والابن أو
الكبير والصغير. أمَّا لو كان أحدهما حسيًّا والآخر عقليًّا، فإنه يقوم على
قياس الغائب على الشاهد أوَّلًا ثم يُقلَب ثانيًا. فلأن الإنسان جاهل يكون الله
عالمًا، ولأن الإنسان عاجز يكون الله قادرًا، ولأن الإنسان ميت يكون الله حيًّا
… إلخ.
٢٣ فالعقيدة في حقيقة الأمر تنبع من المنطق وتنشأ منه، والمنطق ليس هو
الجدل أو البرهان أي المنطق الصوري، بل هو المنطق الحسي والمنطق
الشعوري.
والحجة الأكثر شيوعًا هي حجة التغاير، تغاير الصفات. لو كان العلم والقدرة
شيئًا واحدًا، والله يعلم نفسه ويقدر على نفسه، لما كان عالمًا ولا قادرًا.
وذلك لأن كل صفة لها تعلُّق معيَّن، تتغاير الصفات فيما بينها لأن كلًّا منها
لها تعلُّق متميِّز عن الآخر. ولا يرجع التمايز إلى اللفظ وحده، بل إلى المعنى.
لثبات الصفات إذن معاني قائمة وليست أحوالًا. وإذا كانت الصفات تُثبَت من أجل
تغايرها، فإنها تُنفَى من أجل تماثلها. والعقل الصريح يعرف كون الشيء معلومًا
وكونه مقدورًا، على الأقل عموم الأوَّل وخصوص الثاني. صحيح أن العلم من حيث هو
علم حقيقة واحدة وليس خاصية واحدة، وإنما تختلف العلوم باعتبار متعلقاتها
وتتماثل باتحاد المتعلق. العلم يتبع المعلوم وجودًا وعدمًا، وكذلك الكلام.
ويستحيل إثبات ذات واحدة. لها خاصية العلم والقدرة والإرادة والكلام، أي اجتماع
صفات وخواص لذات واحدة. يعلم الباري ذاته ويعلم ما يلزم بعلمين متمايزين. ولا
خوف من التشبيه. فتعلق العلوم بالمعلوم ليس تعلق زمان ومكان. والحقيقة أن هذا
كله افتراض تركيب وتعدد في الله. لا يقع التغاير إلا في المعلومات والمقدورات،
ولكنه لا يقع في العلم أو القدرة. كما أن اختلاف وجوه الاعتبارات في شيء واحد
لا يوجب تعدد الصفة، وأن تعددها لا يوجب تمايزها وثبوتها، ويمكن لوحدة الذات أن
تضم تحققات فعلية لها دون أن تتكثر وتتعدد في معانٍ أو جواهر أو حتى في أحوال.
فإثبات الأحوال مثل إثبات الصفات، إلا أن الصفات موجودة والأحوال غير موجودة
لأنها لا توصف بالوجود ولا بالعدم، ولكنها متمايزة فيما بينها، فالعالمية غير
القادرية وإلا لزم من نفي أحدهما نفي الآخر. ومع ذلك فإن بعض الأشاعرة والفقهاء
يرتضون حجة التغاير، وذلك لأن الصفات يمكن رد بعضها إلى البعض استنباطًا، ثم
ردها كلها إلى الذات. فالإرادة ترد إلى القدرة، والقدرة إلى العلم. الله مريد،
وذلك يستتبع القدرة، والقدرة تستتبع الإرادة، والإرادة تقتضي العلم، والكل
يقتضي الحياة. يلزم من كونه حيًّا أن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا، فتلك مظاهر
الحياة وإلا وُصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عُرف في الشاهد.
٢٤ ويجوز في اللغة عن طريق المجاز أن يسمع الإنسان المبصرات ويبصر
المسموعات، وكما هو معروف في الفن «العين تسمع والأذن ترى». وتتكلم اليد
والعين. كما يستعمل الأعمى يديه للإبصار وللذوق وليس فقط للمس وكما يسمع الأصم
بحركات اليد. السمع والبصر يعنيان العلم، كما يعني العلم السمع والبصر على ما
هو مذكور في عديد من الآيات.
٢٥
أمَّا حكم الثاني فقد كان رد فعل على التجسيم والتشبيه حرصًا على الذات،
الوعي الخالص، وتنزيهها.
٢٦ ولا فرق في النفي بين الأوصاف والصفات والأسماء. ولا يمنع نفي
الصفات من استعمال بعض الصور الفنية للتعبير لإيصال المعاني في المواقف
الإيمانية والوجدانية. وقد يصل النفي إلى حد إنكار كل صفات التشبيه بالإنسان،
كلًّا أو بعضًا، لا فرق في ذلك بين الثلاثي (العلم والقدرة والحياة) أو الرباعي
(السمع والبصر والكلام والإرادة). كما وصل إلى حد نفي اسم الفاعل مع اسم الفعل،
فالله ليس سميعًا ولا قديرًا ولا متكلمًا، وبالتالي تنفي المعاني وإن ثبتت
الأسماء دون أن يكون له في حقيقة العلم والقدرة والسمع والبصر.
٢٧ وإلى هذا الحد يُتَّهم نافي الصفات بالزندقة والكفر كتهمة سياسية،
كما يُتَّهم بالتعطيل كتهمة فكرية مع أن النفي ليس تعطيلًا، بل إبعاد للتشبيه
دفاعًا عن التنزيه، سواء كان التعطيل في الصفات أم التعطيل في النصوص بالتأويل.
٢٨
ولا يرجع نفي الصفات إلى أية مؤثرات لفظية دخيلة، بل يخضع لضرورة عقلية
داخلية دفاعًا عن التوحيد العقلي في صورة التنزيه. ولا ضير أن تتبع حضارات أخرى
لدوافع مماثلة ومختلفة لنفس الضرورة. فإذا كان التوحيد العقلي اليوناني أحد
متطلبات العقل، فإن التوحيد العقلي الأصولي أحد متطلبات التنزيه. وهو عمل العقل
في الوحي. والألفاظ مشاعة بين الجميع، خاصةً بعد التقاء الحضارتين. ولم تعد
مرتبطة بحضارتها الأصلية، ولو قبلت في الحضارات الأخرى لرفضت ونفدت مثل زيوس
وبوزيدون وسائر آلهة اليونان. لقد عرضت الألفاظ على العقل أوَّلًا وقَبِلها
العقل ثانيًا، لأنها تساعد على التعبير عن التوحيد العقلي. وهذا لا يعني
تقليدًا أو تبعيةً، ولا يعني أثرًا وتأثُّرًا، بل تمثُّلًا وامتدادًا وتحضيرًا.
٢٩ إن اتهام كل موقف معارض بأنه من أثر خارجي هو تفريغ للإبداع الذاتي
للمعارضة وأصالتها الفكرية. ولكل بيئة ثقافية استقلالها الفكري ومصادرها
الخاصة. والتشابه الخارجي لا يعني بالضرورة التبعية الداخلية. وقد يُرجع البعض
الآخر نفي الصفات إلى مؤثرات داخلية من علوم الحكمة. وهذا أيضًا غير صحيح، إذ
يخضع نفي الصفات إلى مقتضيات عقلية خالصة، هي تلك التي تخضع لها علوم الحكمة
وهي التي اقتضت من كلا العلمين وأصحابهما، المعتزلة والحكماء، إلى الانتهاء إلى
نفس التوحيد العقلي. قد يوحي بذلك رد علم أصول الدِّين على علوم الحكمة في علم
الكلام المتأخر واستعماله لغتها، ولكن الحقيقة أن الحكماء لا تنفي صفات
التنزيه، ولكنها تنكر صفات التشبيه. فالحكماء يثبتون صفات العلم والقدرة
والإرادة … إلخ، ولكنها تكون عين الذات، وكلاهما في مقولة واجب الوجود.
٣٠ ويبدو من تطابق التوحيد الفلسفي مع التوحيد الاعتزالي أن كليهما
قائم على العقل ولا يعني بالضرورة تأثير الفلاسفة على المتكلمين.
وهناك عدة صياغات لحكم النفي طبقًا لدوافعه. عندما يُقال مثلًا: حي عالم قادر
لنفسه. والنفي هنا يأتي من الذات ورفضها للتعدد بالصفات. وقد يأتي النفي لكونه
على حالة هي أخص صفاته، الحالة التي توجب له صفاته، والنفي هنا يأتي من إثبات
الأحوال. فإن قيل: الباري عالم قادر حي لا لعلل ولا لنفسه، فالنفي هنا بلا دافع
من الذات أو الحال أو العلة، وهو النفي الأولى أو النفي الأصلي. وفي هذه الحالة
يظهر بصراحة، فيُقال عالم لا بعلم، قادر لا بقدرة، حي لا بحياة، تأكيدًا على
النفي بحرف النفي، كما يؤكد الإثبات على الإثبات بحرف الجر في عالم بعلم، وقادر
بقدرة، وحي بحياة. والعجيب أنه يمكن نفي الصفات عن طريق إثبات قِدَمها، فيُقال
مثلًا: إن الله لم يزل عالمًا، وما دامت فقد شاركت الذات في الوصف وامَّحى
التغاير. ولكن في هذه الحالة يخرج الأمر كله من مجرد إثبات الصفات أو نفيها إلى
الوقوع في الشرك الصريح المتضمَّن في موقف الأشاعرة.
وهنا حجج نقلية كثيرة لنفي الصفات لا تظهر كثيرًا عند مؤرخي أهل السنة
كتمانًا لها، وعلى رأسها:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وغيرها من الآيات، مثل:
سُبْحَانَ
اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ، والتي ترد الذهن الإنساني إلى حدوده في
استعمال اللغة ووصف الذات الخالص. ولكن الحجج العقلية ترد باستمرار للرد عليها
بالرغم من قوتها وصلابتها، منها أن الصفات هي مجرد اختلاف وجوه الاعتبارات في
شيء واحد لا يوجب تعدد الصفات، ومِنْ ثَمَّ فهي موجودات ذهنية لا وجود لها في
الواقع، في عالم الأذهان لا في عالم الأعيان. وقد تكون هناك حجة جدلية. فإمَّا
أن تكون الصفة الذات أو غير الذات. والأول نفي الصفات، والثاني إمَّا حادثة أو
قديمة. فلو كانت قديمة لشاركت الذات، وبالتالي تصبح آلهة، والاشتراك في العدم
يوجب الاشتراك في الألوهية، فلم يبقَ إلا أن تكون حادثة وهي صيغة أخرى لنفي الصفات.
٣١ وقد تكون هناك حجة خطابية مؤداها أن إثبات الصفات يؤدي إلى
الافتقار والحاجة في الذات، وهو ما يستحيل على الله. ولا يكفي القول بأن
استغناء الله استغناء كمال وليس استغناء نقص أو حاجة؛ لأن ذلك مواجهة افتراض
بافتراض، ويظل إثبات الصفات محاصرة للذات وإعجازًا لها وكأن الوعي الخالص لا
يستطيع أن يتخارج إلا بمعانٍ مستقلة هي الصفات. ولكن أقوى الحجج هي دفع التشبيه
دفاعًا عن التنزيه. فلو كان له علم لتعلق بالمعلومات كما هو الحال في العلم
الإنساني، وهو ما يرفضه الشعور بالتنزيه. لا يجب إذن إثبات علم قديم سابق على
المعلومات، بل يجب نفي العلم على الإطلاق. نفي الصفات أكثر جذرية من إثباتها
على أنها عين الذات أو إثباتها على أنها حادثة وكأن الحكم بأنها عين الذات أو
بأنها حادثة يتضمن إثباتًا لها في حين أن حكم النفي نفي أصلي من الأساس. إثبات
العلم يؤدي لا محالة إلى إثبات العرض والحدوث والتكاثر وهو ما يرفضه أيضًا
الشعور بالتنزيه؛ لأن التنزيه يتطلب تجاوز ذلك وكل ما يطرأ على الحس. إثبات
الصفات إذن نوع من التشبيه ويوقع لا محالة فيه بالرغم من الاحتراز بأنه لا يوجب
تشابهًا لأن التماثل لا يكون بين الشيئين إلا إذا أناب الشيء محل الشيء.
والحقيقة أن هذه الإنابة ليس شرطًا في التماثل أو التشابه لأن البشر تجمعات مثل
الحيوانات والحشرات:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ
دون أن يكون البشر بديلًا عن الطيور أو الحيوانات. فالتشابه هنا هو الذي أوجب
عند البعض القياس. وحقيقة التماثل في الأجسام أو في الأعراض والله ليس كذلك.
٣٢ وفي حقيقة الأمر أن أحكام الصفات الثلاث، الإثبات والنفي، والزيادة
والمساواة (الغيرية والهوية)، والقِدَم والحدوث، إنما تتعلق بطريقي التشبيه
والتنزيه. فإثبات الصفات زائدة على الذات وإثبات قدمها يؤدي لا محالة إلى
التشبيه. هناك صفات زائدة خاصة بالرباعي: «السمع، والبصر، والكلام، والإرادة»
وإثبات وقِدَمها يوقع في تناقض لأن الصفات الإنسانية لا تكون إلا حادثة. في حين
أن نفي الصفات واعتبارها عين الذات ثم القول بحدوثها يؤدي لا محالة إلى
التنزيه. إذ تبقى الذات وحدها قديمة خالصة، وتُؤوَّل الصفات كمعانٍ للذات
فالسمع والبصر والكلام للعلم إدراكًا وتعبيرًا، والإرادة للقدرة تحقيقًا. ولا
تُثار مسألة الصلة بين قِدَم الذات وحدوث الصفات، والتوحيد بين الذات القديم
والصفات الحادثة إذا كانت الصفات عين الذات. وكان من الطبيعي أنه بعد إثبات
التنزيه في أوصاف الذات في الوعي الخالص، بل ونفي الماهية أو الذات أو النفس
خوفًا من التشخيص واعتبار الصفات مجرد أوصاف لعمليات الشعور بالتنزيه تؤكد
التنزيه مرة أخرى في نفي أي استقلال فعلي لهذه الصفات عن الشعور خوفًا من
الوقوع في التشبيه أو التشخيص مرة أخرى.
وقد قدَّم الحكماء حججًا أخرى. فواجب الوجود مستغنٍ، وإثبات الصفات يجعله
مفتقرًا إلى غيره في حاجة إليه، وهي تشابه حجة الكمال عند المعتزلة. كما أن
الوجود ينقسم إلى واجب بذاته وإلى ممكن بذاته واجب بغيره. الواجب بذاته واحد لا
تركيب فيه، والممكن بذاته مستحيل؛ لأن الله واجب الوجود، والواجب بغيره مستحيل؛
لأنه ضد الواجب بذاته، وهي تشابه الحجة الجدلية عند المعتزلة. والتدبير في
الذهن بالاعتبار العقلي وليس في الوجود، وبالتالي كانت الصفات في الأذهان لا في
الأعيان، وهي مثل حجة المعتزلة الأولى. والمبدأ الأوَّل يعقل ذاته ويعقل ما
يلزم ذاته من حيث إنه مجرد عن المادة وهو علة المبدأ الثاني، ومِنْ ثَمَّ لا
يحتاج إلى صفات زائدة. ويعلم الكليات دون الجزئيات، عالم بذاته، ومن علمه تلزم
كل الموجودات، لا يعقل شيئًا من الأشياء، وبالتالي هو عالم بلا علم له متعلق،
أي له معلوم.
٣٣
ولما كانت الباطنية تعتمد في أصولها النظرية على الاعتزال وعلى علوم الحكمة،
فقد شاركت في نفي الصفات. يدخل الله في صراع بين المتخاصمين، وبين الضدين بذاته
دون ما حاجة إلى صفات أو أفعال تعبيرًا عن الموقف السياسي والاجتماعي الذي نشأ
فيه التشيع. فإذا كانت السلطة تستعمل الصفات ضد المعارضة، فالمعارضة تستعمل
الذات ضد السلطة.
٣٤ ليس المهم إيقاع الموقف الفكري في تناقض بل معرفة سببه ودوافعه
وقصده من حيث التنزيه أو التشبيه، الوحدانية أو التعدد، الخالص أو الشائب،
المثال أو الواقع وكيفية توظيف ذلك في الموقف الاجتماعي والسياسي الذي منه يصدر
الموقف الفكري.
وقد تنفى الصفات ليس بناءً على حجج كلامية أو فلسفية، بل لأن التسمية لم تأتِ
عن الشرع. وصف الله نفسه بأنه سميع بصير، ولكنه لم يصف نفسه بأن له سمعًا
وبصرًا. ولا تجوز تسمية الباري إلا شرعًا بأسمائه وليس بصفاته. لفظ الصفة لفظ
ليس شرعيًّا. والأسماء ليست اشتقاقية بل أخبر الله بها عن نفسه وسمَّى بها نفسه
دون تشبيه أو تجسيم كما تفعل الأشاعرة والمجسمة أو تأويل كما تفعل المعتزلة.
٣٥ وقد بدأ نفي الصفات مقالة شرعية، ثم تحولت تحت أثر علوم الحكمة إلى
موقف فلسفي خالص يرد الصفات كلها إلى صفتي العلم والقدرة ثم اعتبارهما صفين
ذاتيتين أو اعتبارين أو حالتين أو ردهما إلى صفة واحدة هي العلم.
٣٦
وللنفي عدة أساليب ترجع إلى قسمة الاسم إلى فعل وفاعل ومفعول، وهي أطراف
القسمة الثلاثية المعروفة عند أهل اللغة: اسم الفعل واسم الفاعل واسم المفعول.
الصفة اسم الفعل كالعلم، والموصوف اسم الفاعل كالعالم، وموضوع الصفة اسم
المفعول كالمعلوم. وهي القسمة التي استعملها الحكماء من قبل للتعبير عن التنزيه
بالتوحيد بين الأطراف الثلاثة: فالله علم وعالم ومعلوم، عشق وعاشق ومعشوق، عقل
وعاقل ومعقول … إلخ. وباستعمال هذه القسمة يمكن القول بأن نفي الصفات أخذ
طريقين: الأوَّل التوحيد بين اسم الفعل واسم الفاعل. وفي هذه الحالة تُنفَى
الصفات عن طريق إلحاقها بذات الباري وعدم التفرقة أساسًا بين الذات والصفات.
حينئذٍ تكون القدرة هي القادر، والعلم هو العالم، والحياة هي الحي، والإرادة هي
المريد. ولنفي أي موضوع للفاعل قد يتحول اسم الفاعل إلى «فعيل» أو «فعَّال»،
وبالتالي لا يكون سامعًا فقط، بل سميعًا ولا فاعلًا فقط، بل فعَّالًا.
٣٧ والثاني التوحيد بين اسم الفاعل واسم المفعول، وفي هذه الحالة
أيضًا تُنفى الصفات بتحويل الصفة إلى متعلق الصفة فيكون العلم هو المعلوم،
والقدرة هي المقدور، والإرادة هي المراد.
٣٨ أمَّا إثبات الصفات ثم نفيها فتحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة
إلى الخلف، مثل الله عالم وعلمه ذاته، علم الله لم يزل وهو الله، علم الله هو
الله، وبالتالي يثبت قِدَم الصفات ومساواتها للذات، وهو تناقض في النسق العام
لأحكام الصفات.
٣٩
(٣) الزيادة والمساواة (الغيرية والهوية)
وهو الحكم الثاني في موضوع الصفات بعد حكم الإثبات والنفي، وأحيانًا يكون
الحكم الأوَّل. هل الصفات زائدة على الذات أم أنها عين الذات؟ هل علاقة الصفات
تتحدد بالزيادة أم بالمساواة؟ هل العلاقة علاقة غيرية. الصفات غير الذات، أم
هوية، الصفات هو الذات؟ الهدف من ذلك الحرص على وحدة الذات، وبساطتها في مقابل
تعددها وتركيبها. والحقيقة أن كل المسلمين يتبنون الصفات، ولكن الخلاف هل
الصفات زائدة على الذات أم أنها عين الذات؟ فالزيادة والمساواة، الحكم الثاني،
فرع لإثبات الصفات ونفيها، الحكم الأوَّل. وقد ظهرت هذه الصياغة لأول مرة في
القرن الخامس بعد أن كانت متضمنة كموضوع أو مسألة قبل ذلك، وقبل أن تتحول إلى
حكم نظري عام.
٤٠
وإثبات الصفات زائدة على الذات يضحِّي بالتنزيه من أجل التشبيه في حين أن
إثبات الصفات مساوية للذات يضحي بالتشبيه في سبيل التنزيه. الأوَّل يحرص على
الفاعلية في العالم في حين أن الثاني يحرص على التوحيد العقلي ذاته ورفض كل
تركيب في الشعور بالتنزيه؛ لأن الفصل بين الذات والصفات مع أنه قائم على تنزيه
الذات عن جميع صفات التشبيه إلا أنه يخاطر بشبهة التركيب.
٤١
وقد يهتز النسق العقائدي في أحكام الصفات من النفي والمساواة والحدوث في
مقابل الإثبات والزيادة والقِدَم إلى إثبات صفات زائدة على الذات ومع ذلك تكون حادثة.
٤٢ ويمكن إثبات قِدَم الصفات والتوقف في مغايرتها للذات أو في توحدها
مع الذات، فالحلان غير مرضيين. فيتم رفضهما معًا وإلغاء المشكلة وهو أقرب إلى
التوقف مما يدل على القصد إلى العودة إلى العالم، واكتشاف الاغتراب دون التحول
عنه، واكتشاف الزيف دون التوجه الفعلي إلى الشرعي.
٤٣ ويغيب النسق العقلي للأحكام الثلاثة نظرًا لأنها كلها تمرينات
عقلية وليست استدلالات أو أحكامًا منطقيةً، تعبر عن توتر قطبي الشعور بين
التشبيه والتنزيه. فإثبات الزيادة ينتج عنه إثبات الحدوث خشية الوقوع في الشرك
مع أن النسق هو إثبات الزيادة مع القِدَم. وأحيانًا يكون إثبات قِدَم الصفات
أولى من إثبات علاقة الزيادة أو المساواة فيُلغى الحكم الثاني من الأساس.
وأحيانًا يثبت قِدَم الصفات دون الزيادة إيثارًا للوحدة على التعدد، ودفعًا
لشبهة كثرة القدماء وتعدد الآلهة. وبالرغم من إثبات الصفات وإثبات قِدَمها فإنه
يمكن إثبات وحدتها مع الذات ووحدتها مع نفسها محافظة على الوحدة في الألوهية،
وبالتالي يثبت قِدَم الصفات دون مغايرتها للذات.
٤٤ وأحيانًا يتم وضع كل ذلك في إطار المجاز باستعمال التأويل أي
العودة إلى نشأة المسألة في الشعور واكتشاف دلالاتها الإنسانية ووجوهها
الاعتبارية، وأن ذلك كله ليس على الحقيقة بل على محض التصوير.
٤٥
ويختار العلم كصفة مفضلة لإثباته زائدًا على الذات حتى لا يتكرر الإثبات
لجميع الصفات، فهو أولى الصفات، وما ينسحب عليها ينسحب عليها كلها. كما أن
العلم هو الأصل والشروط وباقي الصفات مؤسسة عليه ومشروطة به.
٤٦ ولكن بالرغم من إثبات أن العالم يعلم بعلم واحد، قائم بذاته، قديم
أزلي، متعلق بجميع التعلقات وإثبات القدرة كصفة زائدة تبدو بعض الصعوبات في
تعميم ما يُقال على العلم عن باقي الصفات. فإذا كان الله عالمًا فكيف يكون
مريدًا لنفسه؟
٤٧
والحجج النقلية لإثبات الصفات زائدة على الذات ممثلة في العلم كثيرة. ولكن
الحجج النقلية لإثبات الصفات مساوية للذات أيضًا كثيرة، ويمكن قلب حجج الزيادة
إلى حجج مساواة عن طريق التأويل.
٤٨ كما أن الموضوع لم يأتِ من استنباط معانٍ من النصوص بل يعبر عن
مقتضى التوحيد، أي أنه مطلب ذهني خالص لا يثبت إلا بالحجج العقلية، خاصةً وأن
النقل ظن والعقل يقين كما بان ذلك من نظرية العلم.
الحجج العقلية إذن ضرورية لإثبات الصفات، العلم أو القدرة لأن براهين إثبات
الصانع تثبت فقط أنه موجود قديم في مقابل العالم الحادث، وذلك في حد ذاته يدل
على أن العلم والقدرة صفات زائدة على الذات. فكما أنه لا يوجد آمر بلا أمر أو
مريد بلا إرادة، فكذلك لا يوجد علم بلا عالم. دلالة الفاعل على الفعل إذن
أمران: الأوَّل لو انتفت الصفة لانتفى الموصوف، والثاني لو انتفت الصفة لكان
نفس العلم هو العالم. العالم في حاجة إلى تعليل بالعلم، فكل ذات له موضوع، وكل
شعور هو شعور بشيء، والعلم المتعلق بالمعلوم غير العالم. ما دام العلم هو نسبة،
والعلوم وهي المسماة بالشعور والعلم والإدراك، فهو أمر زائد أو صفة حقيقية
تقتضي هذه النسبة أو توجب حالة أخرى هي العالمية التي توجب تلك النسبة والتي
يسميها المتكلمون التعلُّق. وبصرف النظر عن درجات وجود العلم، حال، نسبة،
تعلُّق، فإنها زائدة على الذات، ومن هنا تأتي الحاجة إلى الدليل لإثبات الصفات.
ولما كان العلم نسبة مخصوصة وكذلك القدرة وسائر الصفات، في حين أن الذات موجود
قائم بالنفس وليس نسبة، وجب التمايز والتغاير بين الذات والصفات. لو كانت
الصفات عين الذات لما أمكن حملها على ذاته في علاقة موضوع بمحمول، وكان قول
الله واجب بمثابة حمل الشيء على نفسه. وقياسًا للغائب على الشاهد، فإن العلة
والحد والشرط لا تختلف غائبًا أم شاهدًا. والفرق بين الذات والذات عالمة، هو
الفرق بين التصور والتصديق وذلك يوجب التغاير بين الذات والصفات. ما يُفهَم من
عالم أن له علمًا. والعاقل يعقل ذاته ويعقل حالته ووصفه بعد ذلك. هناك موصوف
وصفه. ولكن نظرًا لتركيز اللغة استغنينا عن الصفة واكتفينا بالموصوف اختصارًا.
وقد تأخذ الحجة صيغة جدلية، فإمَّا أن يكون عالمًا بنفسه أو يعلم ويستحيل أن
يكون هو نفسه. فإن كان عالمًا بنفسه كانت نفسه علمًا، ويستحيل أن يكون العلم
عالمًا والعالم علمًا. فالصفات إذن زائدة على الذات. وتُستَعمل نفس الحجة
بالنسبة للقدرة والحياة والسمع والبصر وباقي الصفات.
٤٩ والحقيقة أن إثبات الصفات بناءً على أنه لا موصوف بلا صفة تشبيه
إنساني خالص وفرض مقولة إنسانية على الشعور بالتنزيه، إن لم يكن وقوعًا مباشرًا
في التشبيه الحسي. علاقة الصفة بالموصوف علاقة الدليل بالمدلول على مستوى العقل
الخالص.
لا يكفي فقط إثبات الصفات، ولكن لا بد أيضًا من إثبات تغايرها فيما بينها
وتمايزها عن الذات. فما يفهم من كل صفة غير ما يفهم من الصفة الأخرى. وتغاير
الصفات دليل على وجودها، وكون كل اسم يفيد معنًى غير الاسم الآخر دليل على وجود
مسميات متغايرة. ولو كان العلم نفس القدرة لكان كل معلوم مقدورًا، وهذا مستحيل
لأن الواجب والممتنع معلومات وغير مقدورة. ولو كان العلم والقدرة نفس الذات
لكان العلم نفس القدرة في حين أن المفهومين مختلفان.
٥٠ كما تثبت الصفات لأن مظاهرها موجودة في الأفعال، والأفعال تحدث في
العالم، فكيف يوجد فعل علم في العالم بلا علم؟ وكيف يوجد فعل قدرة في العالم
بلا قدرة؟ العلم علة العالم، والقدرة علة القادر، والحياة علة الحي، فصلة اسم
الفاعل باسم الفعل هي صلة المعلول بالعلة.
٥١ والحقيقة أن خطورة إثبات الصفات تختلف باختلاف كل صفة وأخطرها
القدرة والإرادة؛ لأنها تتعلق بالمقدورات والمرادات وبالتالي تمثل خطورة على
حرية الأفعال. فإثبات القدرة والإرادة الشاملتين يوجبان أساسًا قدرة الإنسان
وإرادته على خلق الأفعال وحرية الاختيار. وإذا ثبتت صفة تثبت بالضرورة باقي
الصفات. فما دام الكلام ثابتًا، وهو الوحي المقروء المسموع، فلم لا يثبت العلم
أو القدرة أو الحياة؟ وهنا يبدو الدليل صاعدًا من الحسي إلى العقلي كما يفترض
أن الكلام حسي وليس صفة عقلية كباقي الصفات، وبالتالي فهو محدث مخلوق وهو ليس
موقف الأشاعرة مثبتي الصفات.
٥٢ كما أن إثبات الصفات ضرورة لإثبات الأسماء، إذ إن نفي الصفات يؤدي
إلى نفي الأسماء. فالأسماء أحد تعينات الذات كالصفات على نحو أبرح وأشمل وأكثر
اتساعًا وانتشارًا.
٥٣ وإثبات الصفات ضرورة من ضرورات الشرائع، فالشريعة تدل على علم كما
يدل الكلام عليه. والحقيقة أن الشريعة نظام واقعي وضعي ولا تعني بالضرورة
الإشارة إلى صفة للذات المشخصة. أساسها في الواقع، وهدفها إقامة مصالح الناس
بصرف النظر عن مصدرها ودلالتها على وجوب ذات مشخصة أو على إثبات صفاتها.
٥٤ وتدخل حجة القِدَم في إثبات الصفات عن طريق إثبات العلم بالأشياء
قبل كونها. والحقيقة أن ذلك إحالة للصفات السبع إلى الأوصاف الستة وقياس العلم
على القِدَم وتظل مسألة باقية. فإذا كان القِدَم عين الذات كان العلم كذلك.
٥٥ وأخيرًا يقتضي الكمال إثبات الصفات، فالذات بلا صفات نقص.
٥٦ والحقيقة أن هذا تشبيه إنساني خالص، فالوعي الخالص وعي كامل لأنه
وعي نظري مستقل، وحدانيته لا تعدُّد فيها، بل إن إثبات الصفات هو الذي يجعل
الذات ناقصة في حاجة إلى إكمال بالصفات.
أمَّا حكم المساواة أو الهوية، مساواة الصفات للذات أو هوية الذات مع نفسها،
فهو في الحقيقة إحدى طرق نفي الصفات. فالتوحيد بين الذات والصفات أعلى درجة من
درجات التوحيد بإثبات الوعي الخالص دون أي شائبة أخرى توحي بالاشتراك وبإثبات
العلم المستقل دون أية شبهة أخرى للتشخيص. وبالتالي يصبح الباري مجموعة من
المبادئ العامة والقيم المطلقة كرد فعل على تشخيص الذات وتشبيهها دون أن يكون
هناك كائن مشخص وراءها. وقد شارك الحكماء والمعتزلة في نفي الصفات. فالكلام
عندهم مجرد أصوات يسمعها النبي لا وجود لها في الخارج في اليقظة أو في النوم أو
رؤى يراها ما إذا أضيفت في نفسه. ولا شأن للكلام بذات الله أي الكلام القديم
الذي يتحدث عنه الأشاعرة. الكلام ظاهرة نبوية وليس إلهية.
٥٧
وقد ينفي بعض الصفات ويثبت البعض الآخر. فينفي العلم مثلًا كصفة زائدة على
الذات وتثبت الإرادة دون محل ويثبت الكلام في محل.
٥٨ قد يكون عالمًا بنفسه ولكنه لا يكون قادرًا بنفسه. العلم غير
القدرة. فإثبات القدرة إثبات للفاعلية في العالم بالرغم من خطورة اصطدامها
بحرية الإنسان وخلق الأفعال. وقد يثبت الكلام زائدًا على الذات نظرًا لأنه جسم
حسي، كلام مكتوب ومقروء وليس صفة معنوية تتعلق بالذات. فإذا كان الله مريدًا
لذاته قادرًا لذاته، فإن أفعاله ستكون منعكسة على ذاته، وبالتالي تفسح المجال
إلى أفعال الإنسان في العالم وحرية الاختيار. وهذا لا يعني وقوع تناقض في
الأفعال أو تعلق الإرادة بمرادين مختلفين، وذلك لأن الإرادة صفة ذات وليست صفة
فعل. إن إثبات الإرادة وليس نفيها هو الذي يضحِّي بحرية الأفعال. فالإرادة
شاملة بشمول الذات، شمولها نظري وليس عمليًّا حتى يمكن للإنسان أن يحقق إرادته
في العالم.
٥٩
وهناك حجج نقلية أيضًا لإثبات أن الصفات عين الذات. والحقيقة أن الدافع على
اختيارها وقراءتها هو دافع عقلي خالص. فالعقل هنا هو الذي اختار النقل وقرأه.
هذا بالإضافة إلى إمكانية اختيار نقل آخر معارض أو تأويل النقل الأوَّل تأويلًا
مضادًّا بدافع آخر إن لم يكن عقليًّا فإنه يكون سياسيًّا. والآيات كلها تتحدث
عن «السميع» و«البصير» وليس عن السمع والبصر، أي أن الصفات للذات دون أن تكون
زائدة عليها.
٦٠
أمَّا الحجج العقلية فإنها تعتمد على نفي الشرك والتعدد والتغاير في الذات.
لو كان له علم قديم لكان مشاركًا للذات في القِدَم وذلك يقتضي تماثلهما، وألا
يكون أحدهما أولى بالذات أو الصفات من الآخر، فيلزم القول بقدماء متعددة وإثبات
القدماء كفر مثل النصارى. القديم ذات واحدة، ولا يجوز إثبات ذوات قديمة متعددة،
والدليل على ذلك كونه عالمًا قادرًا حيًّا وليس على علم وقدرة وحياة. الله
بجميع صفاته واحد، وجميع صفاته قديم غير محدث. وإثباتًا لعدم التغاير امتنع
مثبتو الصفات أيضًا عن تسميتها مغايرة للذات. فالمتغايران موجودان يفارق أحدهما
الآخر، أي جسمان. سؤال التغاير في الله لا محل له، فالله واحد بجميع صفاته.
الصفات غير قائمة بذاتها بل بالذات. ويشارك الفقهاء المعتزلة والحكماء في
الدفاع عن التوحيد وإثبات الوحدانية ورفض التعددية والشرك دون ما خوف من
الأشعرية، فهي ليست مذهبًا قدسيًّا يستعصى على النقد.
٦١ كما أن إثبات الصفات زائدة على الذات يوجب أن يكون علم الله
مماثلًا لعلمنا. فإمَّا أن يكون علمه محدثًا كعلمنا أو يكون علمنا قديمًا
كعلمه. لو كان عالمًا بعلم لوجبت المماثلة، والمماثلة إمَّا قدوم أو حدوث. لو
كان عالمًا بعلم لتعلق علمه وعلمنا بشيء واحد، فيلزم التماثل حدوثًا وقدمًا،
وبالتالي لزم تحيز العلم وتحيز العالم في جسم متحيز.
٦٢ ويؤدي ذلك إلى نفي القدرة. فالقدرة مشتركة في الشاهد فيعدم
صلاحيتها لخلق الأجسام. والحكم المشترك يجب تعليله بالعلة المشتركة، ولا مشترك
سوى كونها قدرة، فلو كان لله قدرة لم تصلح لخلق الأجسام، قياسًا للغائب على
الشاهد. ولما كانت الصفات واجبة فإنها تستغني في وجوبها عن العلة. العالمية
واجبة والوجوب يستغني عن العلة. العالمية والقادرية واجبة لا تحتاج إلى الغير.
وأخيرًا تُصاغ بعض الحجج الجدلية اعتمادًا على القسمة، فلو كان عالمًا بعلم
فإمَّا أن يكون عالمًا بعلم واحد أو بعلوم منحصرة أو بعلوم لا نهاية لها. ولما
كان ما لا يتناهى محال، وكان الانحصار نقصًا يكون العلم واحدًا لا يتعلق بغيره.
العالم بما لا نهاية يلزم علومًا غير متناهية، والعلم بعلم يلزم التسلسل، ولو
كان ذات علم لكان فوقه عليم:
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ. أو يُقال مثلًا لو كان عالمًا بعلم لكان لا يخلو إمَّا أن
يكون معلومًا أو لا يكون، فإن لم يكن معلومًا لم يجز إثباته وإن كان معلومًا
إمَّا أن يكون موجودًا أو معدومًا. ولا يجوز أن يكون معدومًا. وإن كان موجودًا
فإمَّا أن يكون قديمًا أو محدثًا، وكلاهما باطل. فلم يبقَ إذن إلا أنه عالم
لذاته. وبعبارة أخرى إمَّا أن يكون العلم غيره أو لا، فإن كان غيره فهو محدث أو
قديم، وكلاهما فاسد. أمَّا الفلاسفة فقد استعملوا حجة الكمال. فلو كانت له صفة
لافتقرت إلى الذات وتكون ممكنة في حاجة إلى مؤثر هو الذات والقابل فتكون الذات
قابلًا وفاعلًا، علةً ومعلولًا، وهو محال. وفي هذه الحالة ينقسم الله إلى واجب
الذات وممكن الصفات.
٦٣
والجمع بين الزيادة والمساواة، أي بين الغيرية والهوية، مثل أن يُقال عالم
بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذات، مثل إثبات
الصفات ثم نفيها، تحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام وإحجام
مثل جسم لا كالأجسام أو شيء لا كالأشياء تعبر عن توتر الشعور بين قطبي التشبيه والتنزيه.
٦٤
والحقيقة أن هذا الحكم بالزيادة والمساواة، بالغيرية والهوية، يقوم على طبيعة
الذهن وتعريفه للأشياء عن طريق إثبات هويتها أو اختلافها مع بعضها البعض، وهي
قسمة تعادل الإثبات والنفي. فالمساواة نفي أن يكون الشيء هو غيره، والزيادة
إثبات أن الشيء هو غيره. ومع ذلك، فإن وضع التأليه في هذه القسمة الذهنية ينال
منه بصرف النظر عن الحل المختار، فالزيادة أو المساواة نظرة كمية للذات الإلهية
أي للوعي الخالص في حين أن التنزيه يقتضي تصورها على أنها كيفية محضة. التنزيه
كيف والتشبيه كم. وهما يفترضان التركيب والقسمة في الذات، في حين أن التنزيه
يقتضي بساطتها. ويكون إثبات المساواة أقرب إلى التنزيه لأنها إثبات للبساطة.
كما يفترضان الكثرة والتعدد في الذات في حين أن التنزيه يقتضي الوحدة. كيف يكون
للذات صفات، ثلاثًا أم أربعًا أم سبعًا أم تسعًا وتسعين أم عددًا لا نهائيًّا
من الصفات وهي ذات واحدة؟ ولكن بغية التقريب، يكون إثبات المساواة أقرب إلى
التنزيه نفيًا للكثرة وإثباتًا للوحدة، وتكون الزيادة أقرب إلى التشبيه إثباتًا
للكثرة ونفيًا للوحدة.
ومع ذلك فقد تنبه القدماء والمحدثون معًا إلى خروج هذه الأحكام عن أصل الوحي
وأنها تفريعات إضافية، أو تمرينات عقلية إنسانية صرفة.
٦٥ فإذا كان العقل عند القدماء قاصرًا عن الغوص في هذه الأسرار فإن
تحليل التجارب الإنسانية يستطيع الكشف عن أساسها في الشعور وبنيتها في الذهن.
إذ ترجع مشكلة الذات والصفات إلى قسمة الذهن الأشياء إلى جوهر وعرض. فكما أن
الجوهر حامل للأعراض تكون الذات حاملة للصفات. وقسمة الأشياء إلى جوهر وعرض
قسمة ذهنية يسقطها التصور مرة في الإلهيات، ومرة في الطبيعيات، ومرة في
الإنسانيات، في الأفعال.
٦٦
الصفات إذن مجرد أسماء عبر الشعور الناطق عن عملية التنزيه وعن حالاته دون أن
يشير بها إلى أي مضمون شعوري أو إلى أي وجود واقعي. فكل الصفات هي في الحقيقة
أسماء أو ألفاظ صاغها الشعور للتعبير بها عن عملياته. هي أقوال أو عبارات تدل
على موقف ذاتي خالص تعبر عن أماني وعواطف إنسانية دون أن تشير إلى شيء في الواقع.
٦٧ لكن نظرًا لشدة العواطف وصفاء التنزيه تخلق الكلمة الشيء، وتتحول
الذاتية إلى موضوعية تحوُّلًا ذاتيًّا افتراضيًّا خالصًا وليس تحوُّلًا
حقيقيًّا بالفعل. والحقيقة أن مشكلة الذات والصفات (والأفعال) لا يمكن حلها إلا
بالرجوع إلى مصدر المشكلة في الحياة الإنسانية على مستوى التجربة الشعورية لا
على مستوى الافتراض بالخيال. فالقسمة إلى ذات وصفات لا تصف شيئًا في الواقع، بل
تعبر عن قسمة إنسانية خالصة موجودة في الحياة الإنسانية، ثم استعملها المتكلم
كوسيلة للتعبير عن عواطف التأليه. ولما كان الذهن الإنساني في الحكم يقوم على
الهوية والاختلاف، أصبح السؤال: هل الصفات عين الذات أم زائدة على الذات؟ وبصرف
النظر عما يتضمن اختيار أحد الحلين بالنسبة إلى التنزيه والتشبيه أو بالنسبة
إلى الحرية والجبر أو بالنسبة إلى استقلال الطبيعة أو تبعيتها، فإن بناء
المشكلة ذاته بناء إنساني أسقطه الإنسان إلى أعلى كي يسمح له بالتعبير عن عواطف
التأليه. ففي علم الشخصية هناك ما يُسَمَّى بالشخصية وسماتها. الشخصية هي
الحامل المعنوي لسماتها، أو هي افتراض إنساني خالص يسمح بتجميع عديد من السمات
والأفعال عليه كالنواة في الذرة التي تدور حولها الكهربات أو كَلُبِّ الزهرة
الذي تدور حوله الأوراق، علاقة المركز بالمحيط. وفي علم الأخلاق في تراث معاصر
لنا خرجت مذاهب أخلاقية تقوم على الذات أو الشخص كقيمة مستقلة بذاتها بصرف
النظر عن صفاتها وأفعالها. فالإنسان من حيث هو إنسان قيمة في ذاته والصفات
زائدة عليها. وكيف يمكن تقييم الكل بالجزء؟ وفي تجربة الحب الإنساني تظهر مسألة
الذات والصفات. هل يقوم الحب بناءً على اعتبار الذات وحدها بصرف النظر عما
للحبيب من صفات وأفعال، أم أن الحبيب هو مجموعة من الصفات والأفعال لأجلها صار
حبيبًا، فإذا ما تغيرت تغير الحب؟ الحب القائم على الذات بصرف النظر عن الصفات
والأفعال حب مجرد منزه، يعتبر الصفات والأفعال زائدة على الذات، في حين أن حب
الصفات والأفعال قائم على التوحيد بين الذات والصفات وعدم افتراض ذات وراء
الصفات أو اعتبار صفات زائدة على الذات. وفي موقف الخصام يسهل الفصل بين
الحبيبين في حالة حب الصفات والأفعال. ما دامت الصفات والأفعال قد تغيرت فإن
الحب يتغير أو ينتهي. في حين أنه في حالة حب الذات المستقلة عن صفاتها وأفعالها
لا يمكن الفصل بين الحبيبين لأن حب الذات مستقل عن الصفات والأفعال. ومهما
تغيرت الصفات والأفعال يبقى الحب، حب مجرد منزه، حب للذات الخالدة. وفي القانون
الجنائي يقوم الحكم بالإعدام على افتراض أن الذات مساوية للصفات والأفعال. فإذا
كانت الصفات والأفعال خارجة على القانون، فإنه يقضي على الذات بإعدامها لأنه لا
توجد ذات وراء الصفات والأفعال. ويقوم نفي الإعدام على افتراض أن الصفات
والأفعال زائدة على الذات، وأنه مهما بلغت الصفات والأفعال من خروج على القانون
إلا أنه لا يمكن القضاء على الذات لأن الذات قيمة مطلقة لا يمكن مساواتها أو
معادلتها بما هو أقل منها، أي صفاتها وأفعالها. والتوحيد بين الذات والصفات
وإنكار وجود صفات وأفعال زائدة على الذات يقوم على العدل دون الرحمة. ففي مواقف
الحب أو العقاب معاملة الحبيب أو المذنب على أن ذاته مساوية لصفاته وأفعاله
معاملةً تقوم على العدل دون الرحمة. لذلك يحب الحبيب أو يخاصم ويعاقب المذنب.
في حين أن الفصل بين الذات والصفات وإثبات ذات وراء الصفات والأفعال يقوم على
الرحمة دون العدل. ففي مواقف الحب أو العقاب مهما تغيرت صفات الحبيب لدرجة
الصفات المضادة، فإنه لا يمكن أن يهجر؛ لأن له ذاتًا مستقلة. ومهما بلغت صفات
المذنب وأفعاله من استهجان، فإنه لا يمكن أن يعدم لأن له ذاتًا مستقلة. ويقوم
تصور العدل والرحمة في الآخرة أيضًا على هذا الأساس. فالعدل يقوم على اعتبار أن
الذات هي عين الصفات، ومِنْ ثَمَّ يتم تقييم الذات حسب صفاتها وأفعالها، في حين
أن الرحمة تقوم على أن الذات مستقلة عن الصفات والأفعال، وأنه بالرغم مما قد
يكون للذات من صفات وما تأتي به من أفعال فإنه لا يمكن تقييمها بها، وإصدار
الحكم عليها.
٦٨
(٤) هل الصفة حال أو علة؟
وإثبات الأحوال هو أحد الحلول المتوسطة بين إثبات الصفات ونفيها. فالعلمية
حال وليست صفة.
٦٩ ويظهر الحال لأول مرة لحل مسألة إثبات الصفات أو نفيها على أنها
أول قاعدة في إثبات الصفات وفي نفس الوقت أحد أسس نفي الصفات! والأحوال ليست
أقرب إلى حكم الإثبات منها إلى حكم النفي لأن الحال وسط بين الوجود والعدم.
فأصحاب الإثبات يجرون الحال نحو الإثبات، أصحاب النفي يجرونه نحو النفي.
٧٠ والقول به ليس أثرًا من النصارى بل يخضع لضرورة داخلية صرفة
للاختيار بين أحكام الصفات وإيثار اعتبارها أحوالًا، فلا هي ذاتية خالصة ولا هي
موضوعية خالصة، بل إحالة متبادلة بين الذات والموضوع.
٧١ الصفات مجرد حالات شعورية يعبر عنها باسم الفاعل أكثر من كونها
وجودًا موضوعيًّا يعبر عنه باسم الفعل. الحال وسط بين الذات والصفة، بين العالم
والعلم هناك العالمية، وبين القادر والقدرة هناك القادرية، وبين الحي والحياة
هناك الحيية. ومع ذلك يكون الحال أقرب إلى اسم الفاعل منه إلى اسم الفعل، وأقرب
إلى الذات منه إلى الموضوع. لا يتجاوز اسم الفاعل إلى إثبات موصوف مشخص أو ذات
تكون حاملًا له. فإذا لم تكن الصفات مساوية للذات كما هو الحال في نفي الصفات
أو في خلقها، وإذا لم تكن زائدة على الذات كما هو الحال في إثبات الصفات أو
قِدَمها، فإنها تكون أحوالًا. الحال وسط بين نفي الصفة وإثباتها. الحال ليس هو
الذات لأنه حال الذات، ولا هو الصلة لأنه غير مستقل عن الذات وحال لها. الحال
مقولة إنسانية خالصة تعبر عن حال الشعور وتكشف عن أصل المسألة فيه. الحال إجابة
عن سؤال إنساني صرف: هل العالم قد فارق الجاهل بما علم لنفسه أو لعلة؟ ولما
كانت المفارقة ليست لنفسه مع كونها من جنس واحد كما بطل أن تكون المفارقة لا
لنفسه ولا لعلة، فإنها تكون لكونه عالمًا لمعنى ما، والمعنى صفة أو حال. ومِنْ
ثَمَّ يكون الحال هو أساس المعنى والصفة. يظهر الحال إذن في ثلاثة مواضع:
الأوَّل الموصوف الذي يكون موصوفًا لنفسه، فاستحق ذلك الوصف لحال كان عليها،
والثاني الموصوف بالشيء لمعنى صار مختصًّا بذلك المعنى لحال، والثالث ما يستحقه
لا لنفسه ولا لمعنى فيختص بذلك الوصف دون غيره عنده لحال. فعند اختصاص الشيء
للموصوف لا لنفسه لأنه يوجب اختصاصه لجميع العلوم ولا لمعنًى والمعنى لمعنًى
إلى ما لا نهاية ولا لنفسه ولا لمعنًى لأنه ليس أولى من غيره يكون اختصاصه لحال.
٧٢ ويُستعمل لفظ «الأحوال» دون «الحالات» لأن الأحوال وسط بين الذات
والصفات، لا هي نفي لصفات زائدة على الذات، ولا هي إثبات لصفات زائدة على
الذات، في حين أن الحالات مجرد أحوال للنفس، أي حالات شعورية لا تفترض ذاتًا
كمشجب تعلق عليها نفسها. وقد ظهر الحال من قبل كوسط بين الوجود والعدم في نظرية
الوجود في المقدمات النظرية. فالحال صفة غير موجودة ولا معدومة كالأجناس
والفصول. وإذا كانت هذه القسمة ترجع إلى عاطفة دينية متطهرة، فإن الحال يكون هو
المرجع لها. الوجود والعدم كل منهما حال، أي صفة أو حالة شعورية، ليس الوجود
فقط هو الوجود الشيئي، بل هو حالة وجود. فالوجود إيجاد، وعملية وجود، والعدم
إعدام أو عملية إعدام، وهنا تنتقل نظرية الوجود إلى تحليلات الشعور.
٧٣
ويصعب تعريف الحال تعريفًا منطقيًّا صرفًا. ولكن يمكن وصفه بأنه ليس شيئًا،
ولا يوصف بصفةٍ ما، لا موجودًا ولا معدومًا، لا يعلم على حاله، ولكن يعلم مع
الذات، يوجد حيث توجد صفات الحياة لا صفات الأكوان، فالحال شرط الحياة. ويمكن
ضبطه عن طريق القيمة، فمنه ما يعلل ومنه ما لا يعلل، الأوَّل أحكام لمعاني
قائمة بالذوات والثاني صفات ليست أحكامًا لمعاني لا تُعلم بانفرادها ولا تُعلم
إلا مع الذات. الحال إذن نوع من إثبات حالة خاصة لا هي علم ولا معلوم، لا مجهول
ولا معلوم، لا مقدور ولا مراد، حالة شعورية خالصة قبل أن تتحول إلى موضوع وبعد
أن تعين الوعي الخالص في إحدى درجاته الأولى.
٧٤ وهو أقرب إلى البداهة إذا فُهم على أنه حالة شعورية يتحد فيها
الذات والموضوع. فالعلم حالة شعورية للعالم لا هو شخص العالم ولا هو صفة زائدة
عليه، وبالتالي يكون الخلاف حول إثبات الأحوال أو نفيها مجرد وهم عقلي.
٧٥
ومع ذلك فقد استعمل كفريق من مثبتي الأحوال ونفاتها حججًا عقليةً منطقيةً أو
جدليةً إمَّا للإثبات أو للنفي. يقوم النفي على عدة حجج منها: أن الأحوال غير
معلومة؛ لأن المعلوم شيء والأحوال ليست أشياء. وكيف يمكن معرفة الحال وهو غير
معلوم؟ والحقيقة أن الحال إن لم يكن معلومًا عقلًا ومنطقيًّا، فإن صاحب الحال
يشعر به، فالشعور أحد درجات المعرفة قبل أن يتم تنظيرها عقلًا. بل إن الشعور
يمتاز بأنه يبقى على الموضوع مع رؤية ماهيته، في حين أن العلم قد يقضي على
الموضوع في سبيل التصور. ويُقال أيضًا إن الأحوال ليست متغايرة لأن التغاير بين
الأشياء. فهي ليست معاني ولا مسميات مضبوطة ولا محدودة متميزة عن بعضها البعض،
وبالتالي فهي عدم. ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية أو اصطلاحية وهي ليست
كذلك. الأشياء تختلف وتتماثل لذواتها، أمَّا أسماء الأجناس والأنواع فيرجع
عمومها إلى الألفاظ المدلة عليها وكذلك خصوصها والأحوال ليست كذلك. خطأ نفاة
الأحوال إذن هو رد العموم والخصوص إلى الألفاظ المجردة، أو الحكم بأن الموجودات
تختلف بذواتها ووجودها، وكذلك رد التمييز بين الأنواع إلى الذوات. الاختلاف
والاتفاق بين الذوات لا يشترك في شيء مثل الصفة، بل الشيء هو اللفظ الدال على
الجنسية والنوعية والعموم، فإذا كانت الأحوال إمَّا مختلفة أو متماثلة فإنها
تتسلسل إلى ما لا نهاية لأنها ليست أشياء. وعند الحكم بجواز تماثل المختلفين
يلزم كون الرب مماثلًا للخلق وهو محال. والحقيقة أن ذلك خلط بين الكم والكيف.
فالأحوال كيفيات وليست كميات، والألفاظ مجرد تعبير عنها ولا تشير بالضرورة إلى
مسميات. وهي فردية وليست شيئية، وبالتالي لا يمكن معرفة اتفاقها واختلافها إلا
بالتعاطف مع الآخرين أو في تجارب جماعية مشتركة. ويُقال أيضًا إن الأحوال
موجودة أو معدومة، قديمة أو محدثة، والوجود ليس بحال. فالحال إمَّا أن يكون
موجودًا أم لا. فإذا كان موجودًا إمَّا أن يكون جوهرًا أو عرضًا فيتسلسل فوجب
أن يكون غير موجود أو عدم ولا واسطة بين الوجود والعدم. والحقيقة أن الحجة تقوم
على موقف فلسفي مسبق، وهو رفض الواسطة بين الوجود والعدم، بين النفي والإثبات،
في حين أن الحال هو هذه الواسطة، وقد تم حل القضية من قبل في نظرية الوجود. وقد
يُقال إن الأحوال لا هي ولا غيره، والصفات لا هي ولا غيره، وبالتالي لا يتميز
وجودها بشيء. والحقيقة أن الأحوال هي الصلة بين الذات والصفة، بين الأنا
والغير، بين الذات والموضوع. الحال هي علاقة الهوية في حالة الحركة الذاتية
والتخلق الذاتي. وقد تفند الأحوال برفض العلم النفسي، إذ إن الأحوال عمومات
وخصوصات ووجوه عقلية واعتبارات. والحقيقة أن العلم النفسي هو أصل العلم العقلي
والعلم الحسي. ففي الشعور يلتقي الذات بالموضوع، والمعرفة بالوجود. وإن نفي
الحال لضرورة التمايز بين الأشياء بذواتها يستحيل بعده قياس الغائب على الشاهد،
وهو أساس الاستدلال في الفكر الديني، ولا يكفي في ذلك مجرد الاعتماد على الوجوه
والاعتبارات العقلية مثل العلة والمعلول والدليل والمدلول؛ لأنها كلها
استدلالات صورية لا تعتمد على الحس. وإذا لم يكن هناك فاعل في الحقيقة بل مجرد
مكتسب فكيف يمكن قياس الغائب على الشاهد؟ والاعتماد على الإحساس الداخلي هو في
النهاية إثبات للحال. ولا يمكن في النهاية فهم الحجج العقلية التي تقوم على
القسمة وحصر الاحتمالات وإبطالها جميعًا باستثناء المطلوب إثباته إلا بالرجوع
إلى التجربة الحسية التي منها نشأت، وهو أيضًا طريق لإثبات الحال.
٧٦
أمَّا إثبات الحال فيقوم على حجج مقابلة كلها عقلية لما كانت الحجج النقلية
متشابهة ظنية متضادة، يسهل قلبها إلى حجج مضادة.
٧٧ فالحال حالة نفسية للذات وليس صفة مستقلة عنها، العلم حالة علم،
والقدرة حالة قدرة، والحياة حالة حياة. هناك إذن أحوال ثلاثة: العالمية،
والقادرية، والحيية. ثم حالة رابعة أوجبت هذه الأحوال الثلاثة وهي الألوهية.
٧٨ والأدلة على ثبوته عديدة منها أن من علم بوجود الجوهر ولم يحط
علمًا بتحيزه ثم استبان تحيزه فقد استجد علمًا متعلِّقًا بمعلوم ويسوغ تقدير
العلم بالوجود دون العلم بالتحيز، فإذا تغاير العلمان بطل أن يكون العلم الثاني
هو العلم الأوَّل، فالثاني إحاطة بما لم يحط به الأوَّل. ونظرًا لاختلاف
العلمين يكون الثاني حالًا. وقد يعلم العالم كونه عالمًا قبل أن ينظر في
الأعراض، وهذا العلم حال. الحال إذن حال العلم أو العلم بالعلم أو الوعي
بالعلم. نعقل الذات ثم نعقل حركتها، وهذا العقل الثاني هو الحال. فلا يمكن
إثبات الصفات دون إثبات الحال؛ لأن الحال هو طريق العلم بالصفات. يفضي إنكار
الأحوال إلى إنكار القول بالحدود والبراهين وألا يتوصل أحد من معلوم إلى مجهول،
ولا سيَّما الصفات، إذ منشأ القول بها ليس إلا قياس الغائب على الشاهد. كما أن
اختلاف مفاهيم عالم وقادر تُوِّج بالتغاير، وبالتالي توجب ثبوت الحال، فحال
العالمية غير حال القادرية، وهو نفس دليل إثبات الصفة، ولكن إثبات الحال به
أولى. لما كانت الذوات مختلفة تتفق في شيء وتختلف في شيء، فإن حال كل منهما غير
حال الآخر، وبالتالي فإن غيرية الذوات تثبت غيرية الأحوال. من يعلم الجوهر قد
يجهل التحيز مع العلم بالوجود، وهما علمان متغايران. وإذا علم الإنسان شيئين
مختلفين، فالاختلاف ليس راجعًا إلى الوجود بل إلى الحال. وقد يأتي إثبات الحال
من جانب الموضوع باعتباره حالة شعور. فإذا استحالت قدرة لا مقدر لها وعلم لا
معلوم له يثبت الحال لأنه موطن ظهور الموضوع وانكشافه فيه. ولا يمكن نفي الحال
وإثبات العلة. ولما لم يصر أحد من المحققين على إبطال المعلل ثبت الحال.
٧٩ لا يعني إثبات الحال أن يصبح الوجود قديمًا حادثًا جوهرًا وعرضًا،
في آن واحد لا تمايز فيه ولا اختلاف، بل يعني أن الوجود حال انتقال من طرف إلى
آخر، أي أن الوجود حركة وصيرورة. لا يعني إثبات الحال إيهام شيء واحد في شيئين
مختلفين أو شيئين مختلفين في شيء واحد، ولا يعني اتحاد المتكثرات المختلفات في
شيء واحد ومتبدل الأجناس من غير تبدل في الوجود كتبدل الصورة في الهيولى عند
الحكماء، بل يعني التعبير عن وحدة الصفة والموصوف أو الذات والموضوع في الحال
بدلًا من هذه الثنائية المصطنعة المفترضة التي تقسم الشيء الواحد إلى طرفين
متعارضين، لا التقاء بينهما ولا مصالحة، يستبعد كل منهما الآخر ويزيد عليه. ليس
الخطأ في إثبات الحال إلى اعتبار الوجود حال ونفي الوجود وجودًا لأن الوجود
علية تحقق حال وجود وليس واقعة وجود. فإذا ما تحقق حال الوجود في عملية الإيجاد
فإنه يصبح وجودًا متحققًا في النهاية قد يرتد إلى حال وجود إن لم تتم المحافظة
عليه كوجود دائم ومستمر من خلال نشاط الإنسان وفعله. ليس الخطأ في إثبات الحال
هو إثبات صفات متحيزة وصفات مشتركة في آن واحد؛ لأن الحال بطبيعته يفرد ويشارك،
يميز ويوحد، يفارق ويشابه. ولا يعني إثبات الحال إنكار أثر الفاعل إرادةً
وقدرةً؛ لأن الحال هو وجود الموضوع في الذات كحالة أولى للنظر قبل أن تتحقق
الحالة الثانية في العمل. فالتحقيق تجربة وليس مجرد تنفيذ آلي لأمر خارجي أو
إرادة قاهرة.
٨٠
الحال إذن تجربة إنسانية، توتر بين الوجود والعدم، يعبر عن عملية الإيجاد
والتحقق. هو اعتبار إنساني يتحول من التجربة إلى التصور، ومن الوجود إلى الذهن،
ولا شأن له بالإلهيات إلا عن طريق قياس الغائب على الشاهد كاستدلال واعٍ أو عن
طريق الإسقاط، إسقاط الشاهد على الغائب في فعل لا شعوري رغبةً في الإمساك بشيء.
٨١
ويرتبط موضوع الحال بموضوع العلة من عدة أوجه. فكما أن الحال وسط بين إثبات
الصفات ونفيها، فكذلك العلة يعتمد عليها مثبتو الصفات لإثباتها كما يعتمد عليها
نافو الصفات لنفيها. وبهذا المعنى يكون مبحث العلة فرعًا لمبحث الحال، فالأحوال
تنقسم إلى معللة بصفة وإلى غير معللة، فالعلل أحد قسمي الأحوال. العلة حال
معلل، والحال المعلل صفة موجودة كالعالمية المعللة بالعلم وغير المعلل كلونية
السواد. وليس كل من قال بالعلة يقول بالحال، في حين أن كل من قال بالحال يقول
بالعلة؛ لأن نفي الحال يؤدي إلى إبطال العلل والحقائق جميعًا، ولكن قد يُنفَى
التعليل كأساس لإثبات الصفات، فواجب الوجود لا يعلل ولا يفتقر إلى تعليل.
٨٢
وقد ظهر مبحث العلل من قبل في المقدمات النظرية في نظرية الوجود ابتداءً من
القرن الخامس بالاعتماد على مادة الأصوليين والحكماء. والحقيقة أن العلة أحد
وسائل أربعة لإصدار حكم على الصفات بالإثبات، وهي العلة والشرط والدليل والحد
أو الحقيقة، وكلها تقوم على قياس الغائب على الشاهد. فإذا ثبت كون حكم معلولًا
بعلة شاهدًا وقامت الدلالة عليه لزم القضاء بارتباط العلة والمعلول شاهدًا
وغائبًا. فإذا ما طُبِّق ذلك في علاقة الذات بالصفات فقد يدل ذلك على الاحتياج
والافتقار أو على الحتمية والجبر في تصور علاقة العلة بالمعلول، وهو مُحال على
الله. وإذا تبين الحكم مشروطًا بشرط شاهدًا ثم يثبت مثل هذا الحكم غائبًا فيجب
القضاء بكونه مشروطًا بذلك الشرط اعتبارًا بالشاهد مثل لو كان العالم عالمًا
مشروطًا بكونه حيًّا. فلما تقرر ذلك شاهدًا اطَّرد غائبًا. وهذا أيضًا تحكيم
لعلاقة الشرط بالمشروط في علاقة الذات بالصفات. وإذا دل على مدلول عقلًا لم
يوجد الدليل غير دال شاهدًا وغائبًا، وهذا كدلالة الأحداث على المحدث. فالدليل
هو الجامع للعلة والمعلول والشرط والمشروط، أي أنه عمل العقل في وصوله إلى
المعاني. وهو ليس مجرد قضية لفظية، بل يتجاوز اللفظ إلى المعنى. كما أنه لا
يرجع إلى التقرير الوهمي، بل إلى عمل العقل. أمَّا الحد أو الحقيقة فمهما تقررت
حقيقة شاهدًا في محقق اطردت في مثله غائبًا، وذلك نحو الحكم بأن حقيقة العالم
من قام بالعلم. ويرجع الخلاف من جديد إلى اعتبار قول الحاد مبينًا عن الصفة
المشتركة على ما هو الحال في إثبات الأحوال إمَّا بالحد اللفظي أو بالحد الرسمي
أو بالحد الحقيقي أو إلى اعتبار حد الشيء وحقيقته وذاته وعينه عبارات تعبر عن
شيء واحد كما هو الحال في نفي الأحوال. وعلى هذا النحو يكون منطق الصفات منطقًا
إنسانيًّا خالصًا، وبالتالي يمكن رد الإلهيات إلى الإنسانيات ورد الإنسانيات
إلى المنطق. وقد كان المنطق في علوم الحكمة مقدمة للطبيعيات والإلهيات.
٨٣
(٥) القِدَم والحدوث
وهو الحكم الثالث من أحكام الصفات بعد حكمي النفي والإثبات والهوية والغيرية.
واتِّباعًا للنسق العام يؤدي إثبات الصفات إلى القول بهويتها على الذات وإلى
القول بحدوثها. وفي بعض الأحيان يظهر نفي الصفات في مقابل القِدَم وليس في
مقابل الإثبات، أي أن أطراف النسق قد تتبادل فيما بينها لأنها تؤدي نفس
الوظيفة. الطرف الأوَّل يهدف إلى التشبيه والثاني إلى التنزيه، وتوتر الشعور
بين هذين القطبين. ونظرًا لأهمية الموضوع فإنه يظهر في المقدمات، في التسبيحات
والبسملات، كما يدخل في دليل الحدوث وإثبات قِدَم الصانع ضد الحكماء الذين
يثبتون قِدَم العالم، فالقِدَم صفة الله عند المتكلمين وصفة للعالم عند
الحكماء. كما يدخل في أول وصف للذات وهو القِدَم، ويكون بذلك أول دليل على حكم القِدَم.
٨٤
والحقيقة أن الحجج لإثبات قِدَم الصفات كلها عقلية؛ وذلك لأن النقل ظني
متشابه مضاد بنقلي آخر ويسهل تحويله إلى نقل مضاد. والحجج العقلية ثلاث: الأولى
مستمدة من قِدَم الذات طبقًا لدليل الحدوث. ما دامت الذات قديمة فصفاتها قديمة.
هذه الصفات قائمة بذات الله في الأزل وإلا لكان محلًّا للحوادث، وهذا ممتنع، أو
كان يتصف بصفة لا تقوم به وهو محال. يستحيل أن يكون الله محلًّا للحوادث لأن كل
حادث جائز الوجود والقديم الأزلي واجب الوجود. ولو قدر حدوث حادث بذاته لكان
إمَّا أن يرتقي الوهم إلى حادث يستحيل قبله حادث، وهو محال، وإمَّا استحالة ذلك
لأنه واجب الوجود. ولو قدر حدوث حادث بذاته فإمَّا أن يتصف بضده وكان قديمًا
استحال بطلانه زواله، وإن كان حادثًا كان قبله حادث وتسلسل إلى ما لا نهاية وهو
محال، وإمَّا لا يتصف بضد وبالتالي يكون قديمًا. وبصيغة أخرى، المحدَث لا بد له
من محدِث، ومِنْ ثَمَّ أن يكون قديمًا، ويمكن القول كذلك في جميع الصفات.
٨٥ والحجة الثانية تعتمد على التضاد. فإن لم يكن قديمًا في الأزل كان
عاجزًا، إذ لا بد من قِدَم القدرة حتى لا يوصف بالعجز، ثم تعميم صفة القدرة على
سائر الصفات. وقد يبدأ الدليل بإثبات قِدَم العلم حتى تنتفي صفة الجهل ثم تعميم
صفة العلم على باقي الصفات.
٨٦ والحقيقة أنها حاجة إقناعية إحراجية تلجأ إلى الحساسية الدينية
ودفع التناقض والنفور إلى أبعد مداه وافتراض اللامعقول أن يكون الله جاهلًا
عاجزًا ميِّتًا حتى يقول الإنسان: سبحان الله، ما شاء الله، فهي حجة خطابية لا
برهانية. وقد يكون إثبات القِدَم متضمنًا في إثبات الكمال، القِدَم كمال
والحدوث نقص. خلو الذات من الصفات القديمة ثم حدوثها أحد مظاهر النقص. وتتفاوت
أهمية الصفات كتمرين لإثبات قِدَمها. فليس هناك صفة نموذج كما كان الحال في
العلم في حكم النفي والإثبات أو في حكم الهوية والغيرية. فمرة يكون التمرين على
العلم، ومرة على القدرة، ومرة على الكلام، ومرة على الإرادة. ولا يحدث تمرين
على الحياة أو السمع أو البصر. يطبق القِدَم إذن على الصفات الأكثر اقترابًا من
التنزيه مثل العلم والقدرة دون الحياة والأبعد عن شبهة التشبيه مثل السمع
والبصر. وقد تثبت هذه الصفات الأربع مرة واحدة أو ثلاث منها فقط أو اثنتان قبل
أن يثبت كل منها على حدة، فيثبت مثلًا قِدَم الكلام والإرادة والعلم. فالعلم
صفة في الأزل واحدة ويُحال إليها السمع والبصر. والإرادة بغير حدوث في محل وإلا
تسلسلت إلى ما لا نهاية. وفعل «كن» ليس صوتًا حادثًا لاستحالة قيام الحادث
بالذات. وكيف يحدث العالم من حادث كن؟ ولو كانت كن حادثة لكانت عاجزة من أن
تخلق من عدم أو أن توجد كائنًا موجودًا من قبل. والكلام مرتبط بصفة الإرادة في
حقيقة الأمر، وهو كلام النفس أو المعنى وليس الصوت أو الحرف. يأتي العلم في
المرتبة الأولى لأن إثبات العلم أولى من إثبات القدرة، فقِدَم العالم يمنع من
حدوثه بعد الخلق. العالم قبل الخلق كان معلومًا، ومِنْ ثَمَّ قِدَم العالم
أولى. القول بقِدَم الصفات إذن قائم على تصور العلم على أنه ضروري، سابق في
وجوده على الموضوع. العلم السابق على وجود الأشياء. العلم بالأشياء قبل وجودها
ممكن. لذلك كانت المعرفة سابقة على الوجود. وقد يُقال بقِدَم الصفات دون التأثر
كثيرًا بالربط الضروري بين العلم والمعلوم وبضرورة أسبقية المعلوم على العلم
وتبعية العلم للمعلوم كما هو الحال في خلق الصفات، وذلك اعتمادًا على شيئين:
الأوَّل أن المعلومات معلومات قبل وجودها، والثاني أن الأشياء أشياء قبل كونها،
فالعلم مدفوعًا إلى حد الإطلاق لا يرتبط بالمعلوم. وهذه هي المعرفة
الاستنباطية، أي الجدل النازل من المبدأ إلى الواقع، من الفكر إلى العالم، من
الذهن إلى الطبيعة، من العقل إلى الحس، والأشياء أشياء قبل كونها لأنها موجودة
في العلم وإن لم تكن موجودة في الواقع. الوجود في الذهن نوع من الوجود كالوجود
في العين. الوجود الضمني نوع من الوجود كالوجود الفعلي. وجود الممكن مثل وجود الواقع.
٨٧
ولا يتم التركيز على القدرة والكلام قدر التركيز على العلم. فالقدرة متضمنة
في الإرادة، والكلام سيظهر في موضوع «خلق القرآن».
٨٨ والدليل على قِدَم الكلام والإرادة ناتج عن أنه مالك الملك،
والمَلِك من له الأمر والنهي. الأمر لا يحدث في ذاته، فلا بد أن يكون أمرًا
قديمًا كما يستحيل أن يحدثه في محل. ويمكن تفصيل الحجة على نحو منطقي برهاني
استدلالي. فلو كانت الإرادة حادثة لما أمكن إحداثها إلا بإرادة أخرى، فيلزم
التسلسل إلى ما لا نهاية. لو كانت حادثة لوجب أن تتعلق بمراد واحد، فذلك صفة
الإرادة الحادثة ومرادات الله لا نهايات لها. وإذا كانت الإرادة الحادثة لا في
محل فإن إيجابها لله ليس بأولى من إيجابها لغيرها. كما أن حدوث صفة حادثة في
ذات الله محال؛ لأنه يوجب التغير.
٨٩
وكما يقع التمييز في إثبات الصفات بين العلم والقدرة والكلام والإرادة من
ناحية، وبين الحياة والسمع والبصر من ناحية أخرى، فإن تمييزًا آخر يقع بين صفات
المعاني وصفات الأفعال بالنسبة للقِدَم. فإذا كانت صفات المعاني مثل الصفات
السبع قديمة، فإن صفات الأفعال نظرًا لتأثيرها في العالم واتصالها بالحوادث قد
تكون حادثة أو مخلوقة، وذلك مثل العزة والرحمة والأمر، وقد تكون قديمة طبقًا
لدرجة الصفة بين المعنى والفعل خاصةً إذا كانت الحجج النقلية بها هذا الاشتباه
بين القِدَم والحدوث.
٩٠ ويكون السؤال: وأي من صفات الفعل تكون قديمة، وأيها تكون مخلوقة؟
ما هو مقياس الحكم؟ لماذا تكون العزة قديمة ويكون الأمر مخلوقًا؟ وكيف يمكن ضبط
درجة الصفة بين المعنى والعقل؟ وهل تكفي الحجة النقلية وحدها، وهي ظنية، في أن
تكون دليلًا على موضوع قطعي؟ وهل يمكن إحصاء صفات الأفعال مثل التخليق والترزيق
والإنعام والإحسان والرحمة والمغفرة والهداية؟ وما الفَرق بين صفات الأفعال
والأسماء؟ الأسماء المشتقة من الصفات قديمة وهي أسماء الأفعال، مثل: الرازق
والخالق والمعز والمذل، وهي على أربعة أنواع. ما يدل على ذاته وهو أزلي، ما يدل
على الذات مع زيادة سلب كالقديم والباقي والواحد والغني، وهو أيضًا أزلي، ما
يدل على الوجود صفة زائدة من صفات المعنى كالحي والقادر والمتكلم والمريد
والسميع والبصير والعالم، وما يرجع إلى هذه الصفات السبع كالآمر والناهي
والخبير ونظائره، فهو أيضًا أزلي، وما يدل على الوجود وإضافة إلى فعل كالجواد
والرزاق والخالق والمعز والمذل وأمثاله، وهو مختلف عليها بين القِدَم والحدوث
لأنها لا تكون قبل الخلق. والعجيب أنه لم يقل أحد مع قِدَم الصفات ببقاء
الصفات. فقد يكون معنى قِدَم الصفات بقاءها في المستقبل وليس فقط قِدَمها في
الماضي، وأن القِدَم يتضمن البقاء ضرورة.
٩١
أمَّا حكم الحدوث أو الخلق فإنه يعتمد على عديد من الحجج النقلية والعقلية.
والحجج النقلية في حقيقة الأمر بالإضافة إلى أنها ظنية متشابهة تنقلب إلى الضد
ولها حجج نقلية مضادة، إلا أنها نظرًا لارتباطها بموضوع الحرية الإنسانية وهي
يقين فإن صحة السمع تُقاس على صحة العقل، ويرد ظن النقل إلى يقين العقل.
٩٢ ومع ذلك فهناك أدلة نقلية عديدة تثبت حدوث الصفات وخلقها، وتجعل
الذات متفردة بالوعي الخالص الذي لا شبهة فيه ولا شائبة. وتفيد هذه الحجج على
أن علم الله، وهي الصفة النموذجية في إثبات الحكم أو نفيه، علم تجريبي بعدي،
يتحقق في العالم، ويتغير طبقًا لقدرات الإنسان، ويُقاس عليها، وهو ما اتضح في
«الناسخ والمنسوخ» في أصول الفقه.
٩٣ وقد تحول ذلك إلى حجة عقلية لإثبات حدوث العلم. فما دام يتعلق
بالمعلومات، والمعلومات حادث، فالعلم حادث. وقد يكون الدافع على ذلك الحرص على
التنزيه، تنزيه الذات من تشبيه الصفات. فإذا كان التنزيه حالة شعورية خالصة لا
تعبر عن أي مضمون ثابت في الشعور أو موضوع في العالم الخارجي، فإن كل علم بهذا
العالم الخارجي يكون علمًا بعديًّا لا قبليًّا، ومِنْ ثَمَّ يكون علم الشعور
بها علمًا بعديًّا كذلك. وبالمثل يمكن القول بأنه كان هناك شعور عام وهو صورة
مطلقة للشعور الفردي، كان ولا شيء معه، فلما حدث الخلق علم به وأظهر قدرته فيه،
وبالتالي تكون الصفة أي اسم الفعل تابعة للأشياء لا سابقة عليها. ولما كانت
الأشياء مخلوقة فالصفات تابعة للأشياء المخلوقة وتكون مخلوقة مثلها أي حادثة.
العلم لا يكون إلا علمًا بشيء، والقدرة لا تكون إلا قدرة بشيء، ولا بد من وجود
الأشياء قبل وجود العلم والقدرة، ومِنْ ثَمَّ كان العلم والقدرة حادثين بعد
وجود الأشياء. إذ كيف يكون العلم قديمًا والمعلوم حادثًا؟ العلم لا يكون
قبليًّا بل هو علم بعدي خالص. الله عالم بأن العالم قد وُجد قبل هذا وهو في
الأزل أن عالمًا به كان جهلًا وإن لم يكن عالمًا كان جهلًا وإن لم يكن عالمًا
وكان الآن عالمًا فعلمه حادث.
٩٤ ولكن يصعب الجمع بين العلم السابق على كون الأشياء والعلم الحادث
بعدها، أو إثبات العلم الحادث مع نفي المحل مما يدل على بحث الشعور عن علم
استنباطي استقرائي، قبلي وبعدي، وهو علم الوحي أو مبغى الإنسان. إنما تكمن
أهمية العلم الحادث في كشفه عن طبيعة العلم البعدي التجريبي، وتقدمه وتجدده
باستمرار دونما وقوف أو ثبات مما يوقع في القطعية والتحجر. فتجدد العلم هو أحد
معاني تقدم العلم. كان الدافع على القول بخلق الصفات هو تصور العلم على أنه
مكتسب تالٍ في وجوده على الموضوع، وهو العلم الاستقرائي الذي يبدأ من الأشياء
إلى العقل، ومن الخارج إلى الداخل، ومن العالم إلى الذهن من خلال الحس، وهو
الجدل الصاعد في المعرفة. والعلم بالاتصال أكثر درايةً من العلم بالانفصال.
التماس وسيلة العلم أكثر من التجريد، ويصبح النور حينئذٍ لغة العلم ووسيلته،
فيعلم المعبود ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب إلى الأرض كما يحدث
أحيانًا في أفلام الأبطال وفي التعبير عن معرفة الجن والشياطين. يعلم المعبود
بالاتصال بالأشياء بالشعاع النافذ. والشعاع كالنور مماس وغير مماس، ابتعادًا عن
التجسيم الفاقع.
٩٥ وقد يتحول حدوث الصفات وخلقها في التجسيم إلى حدوث الذات وخلقها،
أو قد يكون حدوث الصفات نتيجة طبيعية لحدوث الذات. أمَّا القول بأن الله هو
الذي خلق الصفات لنفسها بعد خلق الكائنات فيمكن وضعه على حساب التشخيص.
٩٦
ويثبت حدوث القدرة والحياة بالتبعية مع العلم كما يثبت حدوث السمع والبصر
أيضًا بالتبعية مع العلم. ولكن يثبت حدوث الكلام والإرادة، كل على حدة، خاصة
الإرادة، نظرًا لأن الكلام سيأتي موضوعه في خلق القرآن. ومع ذلك يثبت حدوث
الكلام نظرًا لأن به إخبارًا عما مضى.
٩٧ ويتحدث عن أشياء وأشخاص لم تُخلَق بعد. وبه أمر ونهي من غير مأمور
ومنهي حتى صار آمرًا ناهيًا بعد أن لم يكن. فالكلام إذن حادث حتى يمكن الحفاظ
على الذات من أن تكون محلًّا للحوادث ومشجبًا تعلق عليه جميع العواطف
والانفعالات الإنسانية. الكلام إذن هو كلامنا المسموع المقروء المدون المحفوظ
ولا شأن له بذات الله لا أنه من عنده، مرسل إلينا منه. وهنا يبدو أن الدافع على
القول بخلق الصفات هو حماية الذات من كل تشبيه، حرصًا على التنزيه، أي رفض كل
شبهة تشابه بين صفات التنزيه وصفات التشبيه. ولما كانت الصفات واحدة، وضعت على
حساب التشبيه، وأصبحت حادثة، ثم نُفيت حرصًا على التنزيه.
٩٨ وقد يتعدى حدوث الصفات إلى حدوث الذات، فيصبح الله محلًّا للحوادث
ليس فقط في صفاته بل في ذاته.
أمَّا الدافع على إثبات خلق الإرادة، فهو الدفاع عن الحرية الإنسانية. فلو
كانت إرادة الله قديمة لتعلقت بجميع المرادات قبل خلقها، وبالتالي ينتفي خلق
الإنسان لأفعاله ولاختياره الحر. لو كانت الإرادة قديمة لكان المراد معها، فكيف
يتأخر المراد عن الإرادة؟ لا بد من حدوث إرادة في غير محل أو حدوثها في ذاته،
وكلاهما محال. أمَّا فعل «كن» فإنه مجرد، صوت حادث، لا يعبر عن أي إرادة قديمة.
خطورة إثبات قِدَم الإرادة أو القدرة هو اصطدامها بخلق الأفعال وحرية الإرادة.
حتى لو قيل بقِدَم العلم والكلام، فإنه لا يمكن القول إلا بحدوث القدرة
والإرادة نظرًا لتعلقهما بأفعال الإنسان. لو كانت الإرادة قديمة لتعلقت
بالمرادات على العموم دون الاختصاص، ولأدَّى ذلك إلى اجتماع الضدين وإلى هدم
حرية الأفعال والاختيار الإنساني الحر؛ لأن الإرادة الإلهية تظل قديمة أقوى من
إرادة الإنسان الحادثة الكسبية. كما أن الإرادة القديمة هي المسيطرة على
الإرادة الحادثة، وبالتالي تسيطر الإلهية على فعل الإنسان وكسبه.
٩٩ لو كانت الإرادة أزلية لكان الخير والشر مرادين، فيكون المريد
موصوفًا بالخيرية والشرية والعدل والظلم، وذلك قبيح في حق القديم، وذلك لأن
مريد الخير خير ومريد الشر شر. إن أقصى ما يمكن عمله هو تصور الإرادة لا في
محل. وجعلها صفة فعل إذا كانت القدرة صفة ذات.
١٠٠ وقد تجمع الصفات الثلاث، العلم والقدرة والإرادة، في حجة واحدة.
فالعلم يتعلق بالواجب والممكن والمستحيل، والقدرة لا تتعلق إلا بالممكن،
والإرادة لا تتعلق إلا بالمتجدد من الممكنات. فالعلم هو الأعم، والقدرة أقل
عمومًا، والإرادة خاصة. ولا تتعلق القدرة فقط بحدوث العالم، بل بالقدرة على
الشرور والمعاصي والكفر، أي أنها مرتبطة بالحسن والقبح وبحرية أفعال الشعور
الداخلية والخارجية. ويمكن تعميم حدوث الصفات حتى على صفات الأفعال. ويكفي نفي
قِدَم الصفات حتى يثبت حدوثها ويكون الحدوث حينئذٍ أقرب إلى الصيرورة منه إلى
الخلق وفي اللحظة.
١٠١ ولكن الحجة الحاسمة في نفي قِدَم الصفات كلها بلا استثناء هو
استحالة وجود قديمين أو أكثر، ذات قديمة وصفات قديمة. فالقول بقِدَم الصفات
يستتبع القول بقِدَم الكائنات، وهذا مستحيل لأن الكائنات مخلوقة.
١٠٢ يستحيل الاشتراك بين الذات والصفات في القِدَم، فالذات تنفرد
بالقِدَم في حين تقع المماثلة بالصفة، والاشتراك في صفة يوجب الاشتراك في سائر
الصفات. يستحيل القول بقِدَم الصفات لأن إثبات القِدَم ثم قِدَم العلم إثبات
لإلهين، وهو وقوع صريح في الشرك.
١٠٣ إن القول بحدوث الصفات ناتج عن الحرص على الوحدانية والخوف من
القول بتعدد القدماء كما تقول الفلاسفة في النفس والعقل والزمان والمكان والروح.
١٠٤ فلو قُدِّر قديمان لامتنعا نظرًا لدلالة التمانع. فإثبات حدوث
الصفات يرجع إلى دليل التمانع القائم على استحالة مقدور واحد لقدرتين متساويتين
أو مختلفتين، وهي دلالة مبنية على أن القديم قديم بنفسه، وأن الاشتراك في صفة
يوجب التماثل، وأن من حق كل قادرين وقوع التمانع بينهما، وأن من حق القادر على
شيء أن يحصل إذا توافرت الدواعي، وأن من لم يحصل مراده يكون ممنوعًا ويكون
متناهي المقدور، وأن متناهي المقدور يكون قادرًا بقدرة، وأن القادر بقدرة لا بد
أن يكون جسمًا، وأن خالق العالم لا يجوز أن يكون جسمًا!
والحقيقة أن القِدَم والحدوث نزوعان للذات وقصدان لها. قد يكون الدافع على
القول بقِدَم الصفات أن القِدَم طبقًا للشعور الإنساني أكبر قيمة من الحدوث،
فالقديم أكثر كمالًا وشرفًا من الحادث، والسابق أعظم رتبةً من اللاحق، والأول
أسبق درجة من الثاني. وفي التجارب الإنسانية هناك الخمر العتيق، والجبن القديم،
والحب السابق على رؤية الحبيب، والعهد القديم. فالقول بقِدَم الصفات ليس حكمًا
عقليًّا على موضوع في الخارج، بل يعبر عن عاطفة إنسانية خالصة قائمة على
التنزيه. والتنزيه أساسًا يعني وضع الشعور على مستوى الشرف وإصدار أحكام
بالنسبة إلى سلم القيم. أمَّا الحدوث أو الخلق فإنه يعبر أيضًا عن مطلب إنساني.
فالجديد أفضل من القديم، والحاضر أكثر حضورًا من الماضي، والخلق أفضل من
التبعية، والإبداع أفضل من التقليد. إذا كان القديم قصدًا نحو الله فإن الجديد
قصدًا نحو الإنسان. والشعور توتر بين القصدين. آثرت السلطة القديم وآثرت
المعارضة الجديد، فالقديم خير دعامة لتثبيت السلطة القائمة لامتداده في الزمان
وجذوره في التاريخ والجديد خير وسيلة لإثبات المعارضة بدلًا من الرتابة والخمول
والتسليم للأمر الواقع.
١٠٥