من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (الجزء الثاني): بنية النص

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثاني

مقاصد المكلف

أولًا: أين مقاصد المكلَّف؟

(١) قهر النص

وفي مقابل مقاصد الشارع توجد مقاصد المكلف. مقاصد الشارع مسهبة ومقسمة إلى أربعة مقاصد، في حين أن مقاصد المكلف هي أصغر موضوعات أصول الفقه كمًّا، وربما أهمها كيفًا؛ لأنها تتعلق بالقصد باعتباره نية، أي القصد الفردي، القصد الإنساني، وليس بالوحي باعتباره قصدًا كليًّا. يقوم كله على حديث واحد: «إنما الأعمال بالنيات»، مع أنه موضوع جوهري في النقل والعقل على حدٍّ سواء.١
ويرجع ضعف حضور مقاصد المكلف إلى عدة أسباب، منها الحضور الزائد للنص وللُّغة في المنظوم، وطغيان النص على الواقع وأولويته على الفعل. كانت ثقافة القدماء ثقافة لغوية شعرية، تتسم بأولوية الكلام على الفعل. لذلك تم نقدها في الوحي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، وكان الأمر: وَقُلِ اعْمَلُوا، ومطالبة النبي الناس بالفعل أسوة به، فليس المهم تلقي الوحي، بل تحقيقه كنظام مثالي للعالم وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ.٢ ما زال هناك حضور زائد للنص في علم الأصول؛ لذلك توارت مقاصد المكلف لقوة النص وليس للذَّة النص، وللنظرة الفوقية للسلوك الإنساني أنه طيِّعٌ للنص، وأن الإنسان مجرد آلة للتنفيذ، وأن الإرادة مجرد استقبال لا اعتراض، وطاعة لا عصيان، وتبعية لا استقلال. وهي نفس البنية في علاقة الأصل بالفرع، فالأصل نص، والفرع فعل. ويُحكَم على الفعل بإرجاعه إلى النص. وقد يرجع أيضًا الحضور الهامشي لمقاصد المكلف إلى غياب الفردية لصالح التنميط والمعيار، في حين هناك حضور نسبي لمقاصد الشارع وتفصيله إلى الابتداء والإفهام والتكليف والامتثال. ولم يحدث تفصيل موازٍ لمقاصد المكلف. وهو نفس الحضور الضعيف للمفهوم لحساب المنظوم، وللمعنى لحساب اللفظ، وللنقل على حساب العقل.٣ بل إن لفظ «مقاصد الشارع» و«مقاصد المكلف» كلاهما بالجمع. وتم تفصيل المقاصد الأولى دون الثانية.
وتفهم أسباب الغياب النسبي لمقاصد المكلف بالمقارنة بأسباب الحضور الطاغي للمعقول، أي الشيء، في تعليل الأحكام.٤ فالتعليل مرتبط بالمنطق، القياس بجميع أشكاله بما في ذلك الاستقراء، استقراء الجزئيات للوصول إلى القوانين الكلية. فقد كانت الثقافة القديمة منطقيةَ الطابع، بعد شيوع المنطق الوافد في علوم الحكمة، حتى إن «الحكمة المنطقية» أصبحت ثلثها، بالإضافة إلى «الحكمة الطبيعية» و«الحكمة الإلهية».٥

(٢) القصد والنية في النص

ولفظ «قصد» لفظ قرآني له دلالات متعددة، أولها القصد بمعنى الاتجاه، مثل وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، فالاتجاه نحو «الله» قصدٌ وسبيل، وطريقٌ ومسار، وهو نفس المعنى في: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ. فالقصد هو الحركة والاتجاه. وقد يعني اللفظ في صيغة «مقتصد» الإقلال، ومنه لفظ «الاقتصاد»، أي ما يتعلق بتدبير الأموال والموارد والنفقات، يعني التمهل والتباطؤ في المشي، كفضيلة وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ. ويعني التوسط في الإنفاق بين السبق إلى الخيرات والشحِّ فيها، وهو ظلم النفس فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ. والاقتصاد في الخير شح مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ. وأحيانًا يكون الكرم أفضل، والفيض أدل، والعطاء أكثر، خاصةً بعد النعم فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، فالاقتصاد في الشكر بعد النعم جحد وعدم عرفان.

وهي نفس استعمالات معنى لفظ «القصد» في السنة، مثل «عليكم القصد ثلاثًا.» ويعني القصد في الوضوء والقصد في الصلاة والقصد في الكلام. فكان الرسول قصدًا في صلاته وفي خطبته؛ منعًا للمشقة وطلبًا لليسر.

ولم يَرِد لفظ «النية» في القرآن إلا مجازًا، وهو لفظ «النوى»، الذي يشارك نفس الحقل الدلالي، ما بالداخل مثل النواة إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، ويدل عليها بألفاظ أخرى، مثل القلب والنفس والفؤاد واللُّب.

وهو وارد في السنة في العبادات والمعاملات، وكشرط للأفعال على الإطلاق، أفعال الشعور وأفعال الجوارح. فالنية شرط العبادات، شرط الوضوء والصلاة والصوم والحج. وهي شرط المعاملات في الطلاق والجهاد والقتال والغزو، «من غزا ولم يَنوِ وهو لا يريد إلا عقالَه، فله ما نوى.» والنية في أداء الدين، والنية في الإيمان، أي في أفعال القلوب، مثل الوفاء بالوعد «إذا وعد الرجل وينوي أن يفي به …»، وفي الحلف «إذا كان المستحلف ظالمًا فنيَّته المستحلف»، والنية في طلب العلم وليس الشهرة أو المال أو السلطة. وهي شرط الفعل الخلقي عند صادق النية. لكلٍّ ما نوى، الدنيا أو ما وراء الدنيا، ويُبعث الرجل على نيته. وهي شرط صحة الفعل، فالبعث على النية.

(٣) تطابق القصدين

الشارع والمكلف. وقصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع، وهو معنى دخول المكلف في الأسباب.٦ وكل من ابتغى في تكاليف الشريعة غيرَ ما شُرعت له، فقد ناقض الشريعة. وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل. فالتكليف من جهة القصد قبل أن يكون من جهة الفعل، باستثناء أفعال الإكراه.
ولا يتعارض قصد الشريعة مع الحسن والقبح العقليَّين؛ نظرًا لاتفاق النص والعقل والمصلحة.٧ وفاعل الفعل أو تاركه موافق أو مخالف أو مخالف لقصد الشريعة. يكون موافقًا وقصده الموافقة، أو مخالفًا وقصده المخالفة، أو موافقًا وقصده المخالفة، سواء كان عن علم أو عن غير علم. ولا يكون شرعيًّا؛ لأن القصد شرط الفعل، أو مخالفًا وقصده الموافقة، وهو معذور فيه، عن علم أو عن غير علم؛ لأن الأعمال بالنيات.٨
ولما كانت الأحكام قد شُرعت لمصالح العباد، تحققت الأفعال لتحقيق نفس المقاصد. مقاصد الشريعة كلية، ومقاصد الأفعال جزئية. فالحياة الفاضلة هي تطابق القصدين؛ القصد العام للشريعة، وهي مقاصد الوحي، والقصد الخاص للمكلف، وهي النية. وهذا هو معنى «الاستخلاف»، وأن آدم خليفة في الأرض. إن عظمة القصد الكلي هو في اتجاهه نحو القصد الجزئي. وعظمة القصد الجزئي هي في قدرته على الدخول إلى القصد الكلي وجعْل نفسه امتدادًا له.٩

ثانيًا: النية والعمل

(١) العمل في النص

وإذا كان لفظ «النية» لم يَرِد في النص الأول، القرآن، بل في النص الثاني فقط، فإن لفظ «العمل» ورد في النصين معًا، الأول والثاني. ومن تحليل مضمون لفظ «العمل» في النص الأول، من حيث الشكل اللغوي، تنتج ثمانية معانٍ طبقًا لأولوية التردد:
  • (أ)
    ورود الصيغة الفعلية أكثر من الصيغة الاسمية بحوالي ثلاثة أضعاف، مما يدل على أن العمل فعل أكثر منه قولًا أو شيئًا، عملية ذاتية أكثر منه موضوعًا ونتيجة.١٠
  • (ب)
    ورود صيغة المضارع أكثر من صيغة الماضي حوالي الضعف، مما يدل على أن العمل حقيقة مستمرة، أكثر منه فعلًا ماضيًا أو حاضرًا لا مستقبل له.١١
  • (جـ)
    وفي صيغة المضارع يتردد المخاطب الجمع أكثر من الغائب، حوالي الضعف، مما يدل على أن العمل نداء للآخر وطلب منه، كما أن الأمر اقتضاء فعل.١٢
  • (د)
    وفي صيغة الماضي: الشخص الثالث أكثر ترددًا، ثلاثة أرباع صيغ الماضي كلها، مما يدل على انتهاء عمل الفرد، وتوقع نتائجه إيجابًا أم سلبًا، وكأن العمل قد تم، والنتيجة قد ظهرت، والحكم قد صدر.١٣
  • (هـ)
    تردد صيغ الأمر قليل؛ لأن العمل ليس أمرًا، بل طبيعة. وتردد الأمر الجماعي أكثر من الأمر المفرد. فالعمل جماعي، عمل الأمة أكثر من عمل الأفراد.١٤
  • (و)

    عدم إضافة الضمائر للأفعال إلا مرة واحدة في صيغة «عملته»؛ مما يدل على أن العمل في ذاته أهم من الشيء المعمول، أي ارتباط العمل بنشاط الذات أكثر من عالم الأشياء.

  • (ز)
    بالنسبة للأسماء يَرِد لفظ «العمل» جمعًا في صيغة «أعمال»، أكثر منه في صيغة المفرد «عمل»؛ مما يدل على أن العمل جماعي. أما بالنسبة لاسم الفاعل «عامل»، فيَرِد في صيغة الجمع أكثر منه في صيغة المفرد؛ مما يدل أيضًا على أولوية العمل الجماعي على العمل الفردي.١٥
  • (ﺣ)
    وبالنسبة للضمائر، تَرِد صيغ المتكلم المفرد، والمتكلم الجمع، والمخاطب المفرد، والمخاطب الجمع، والغائب المفرد، والغائب الجمع؛ مما يدل على أهمية أعمال الجماعة، خاصةً الغائبين منهم.١٦
أما من حيث تحليل المضمون للمعاني المختلفة للفظ «عمل» في النص الأول، فإنها تتراوح أيضًا بين ثمانية معانٍ:
  • (أ)
    العمل الصالح جمعًا في صيغة «الصالحات» أو مفردًا. وهو المعنى الأول المبدئي. وهو العمل الحسن في أفعال التفضيل أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا. وهو أيضًا العمل الخير مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر، وذلك في مقابل السيئات، وسيئات ما عملوا، وعمل السوء، وعمل المفسدين، والأخسرين أعمالًا، وعمل الخبائث.١٧
  • (ب)

    الأعمال بالنيات الحسنة والسيئة، عن علم أو عن جهالة. فالنية شرط العمل إيجابًا أم سلبًا.

  • (جـ)

    المسئولية الفردية والجماعية عن الأعمال. فالأعمال تقدم بالأيادي، فردًا وجماعة، ويجد على كل عامل أعماله حاضرة أمامه. مسئول عنها أو بريء منها. فالمسئولية أساس الجزاء.

  • (د)

    الجزاء على الأعمال: جزاء الحسنة حسنة مثلها أو عشرة أمثالها أو مائة مرة، وجزاء سيئة سيئة مثلها. فالخير أرقى من الشر، والكرم أفضل من الشح. ومن همَّ بحسنة ولم يفعلها تُحسَب له. ومن همَّ بسيئة ولم يفعلها لا تُحسَب عليه. فأفعال القلوب هي أساس أعمال الجوارح. وتوفَّى كل نفس ما عملت، وتُنبأ بأعمالها، وتجدها حاضرة أمامها.

  • (هـ)

    تفاوت الأعمال يؤدي إلى تفاوت الجزاء: فللأعمال درجات، وللجزاء أيضًا درجات إيجابًا أم سلبًا، مما يتيح الفرصة للمنافسة على الأعمال الصالحة، والابتعاد عن السوء.

  • (و)

    هناك شهود على الأعمال، الأيادي والجوارح والقلوب وأدوات العمل وآلاته. فالعمل مرتبط بوجود الإنسان، لا يمكن التبرؤ منه أو الابتعاد عنه.

  • (ز)
    الدعوة إلى العمل في عدة صياغات، مثل: وَقُلِ اعْمَلُوا، وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا، فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ. والدعوة إلى العمل تتلو الدعوة إلى النظر والتأمل وطلب البرهان.
  • (ﺣ)
    العمل في العالم بالكد والسعي نتيجة للاستخلاف وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وهو عملٌ في البر والبحر، السعي والكدح في العالم. هو العمل في الدنيا في وقت معلوم، قبل أن ينقضي الأجل. إذ لا يمكن العودة إليها بعد انقضاء العمل الصالح، بعد التعلم والمشاهدة والتحقق من الجزاء. والأعمال باقية في العالم بأثرها وعلمها. و«الله» عالمٌ بكل شيء، محيط به خبير وبصير، دون أن يفرض إرادته على خلقه، فكلٌّ ميسرٌ لما خُلق له، وكلٌّ يعمل على شاكلته.
وقد ورد لفظ «العمل» في النص الثاني في عدة معانٍ متشابهة مع معاني النص الأول، مع تغيير التركيز على بعضها. ويمكن إجمالها أيضًا في ثمانٍ:
  • (أ)

    العمل هو العمل الخير، عمل الطبيعة والفطرة، وكلُّ عاملٍ ميسَّر لعمله. وأفضل الأعمال الجهاد في سبيل «الله»، وامتطاء صهوة الجواد، والصبر في اللقاء. وأسوأ عملٍ عملُ قوم لوط، فهو مضادٌ للطبيعة البشرية. ولكل عمل سيئ كفارة، بحيث تصبح الأعمال كلها أعمال خير.

  • (ب)

    الأعمال بالنيات. والنية الصادقة شرط العمل الصحيح. والنفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق الكذب. وهنا يتضح الأساس الأخلاقي لعلم الأصول.

  • (جـ)

    وأطهر النيات أن يكون العمل لوجه الله دون أن يشرك العامل بعمله أحدًا غيره. فمن الناس من يعمل عمل الدنيا مدعيًا «الآخرة»، ومنهم من يعمل لوجه «الله»، ويحب أن يُحمَد عليه من الناس. يعمل عمل أهل «الجنة» وهو من أهل «النار».

  • (د)

    ولكل عمل جزاء من نوعه كيفًا، وإن زاد كمًّا. فالعمل الصالح القليل قد يكون له أجر كثير، ومن عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أكثر. ومن همَّ بسيئة ولم يعملها تُكتب له حسنة، أكثر كرمًا وفيضًا من النص الأول.

  • (هـ)

    العمل تطبيق لعلم. فالعلم يؤدي إلى العمل. وقراءة القرآن تؤدي إلى العمل بما فيه، «تعلَّموا، تعلَّموا، فإذا علمتم فاعملوا.» ولا يكون الإنسان بالعلم عالمًا حتى يكون به عاملًا.

  • (و)

    العمل هو العمل اليدوي. وأفضل عملٍ عملُ العبد بالليل يكسب قوته. وخير الكسب كسب اليد، يد العامل إذا نصح، «ما كسب الرجل كسبًا أطيب من عمل يده.» وأن يأكل الإنسان من عمل يده خير من أن يسأل الناس، أعطَوْه أو منعوه.

  • (ز)

    والعمل ضد الاتكال: «اعملوا ولا تتكلوا، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم.» وهو عمل وفقًا للطاعة والوسع؛ نظرًا لاستحالة التكليف بما لا يطاق، «اكلَفوا من العمل ما تطيقون.» «لا تكلفوا أنفسكم من العمل ما ليس به طاقة.»

  • (ﺣ)
    أفضل الأعمال أدومها. «خياركم أطولكم أعمارًا وأحسنكم أعمالًا.» «إن خير العمل أدومه وإن قل.» وهو العمل الأفضل والحسن والأكمل. وهو العمل الذي يصبح سنة للناس ويخلَّد في الأرض، وتجتمع عليه الأمة.١٨

(٢) تطابق النية والعمل

ومقصد المكلف هو النية؛ بناءً على الحديث الشهير «إنما الأعمال بالنيات».١٩ فالنفس هي المأمورة بالأعمال، والجسد مجرد آلة لها. فالنية شرط صحة الفعل، فعلًا أم تركًا، باستثناء السهو والنسيان والأفعال غير القصدية. والنية هي القصد والعمد. الأعمال بالنيات، والمقاصد في التصرفات في العادات والعبادات. والأدلة على ذلك كثيرة في التمييز بين العادة والعبادة. والعمل إذا تعلق به القصد، تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عَرِيَ من القصد لم يتعلق به شيء منها. لذلك أفعال الصبي والمجنون والمكره والنائم والمغمى عليه ليست أفعالًا قصدية.٢٠

والنية ليست معطًى كليًّا، يوجد أو لا يوجد، بل هي أيضًا إمكانية وطاقة، تشتد وتضعف، تقوى وتضعُف، تنشط أو تفتُر. وقد وُصف الإيمان في علم أصول الدين بنفس الصفات، بأنه يقوى ويضعف، وليس فقط يوجد أو لا يوجد، بمنطق «إما … أو».

واللفظ المستعمل هنا هو «العمل» وليس «الفعل». الفعل صيغة لغوية في «المنظوم»، في مباحث الألفاظ «الأمر والنهي». فالأمر اقتضاء فعل. وهو أيضًا في «المفهوم» في دلالة الأفعال؛ لأن السنة قول وفعل وإقرار. أما «العمل» هنا فهو الفعل الذي خرج من النص إلى الواقع، ومن اللغة إلى العالم، ومن النظر إلى العمل.

والنية بلا عمل مثل الإيمان بلا عمل، مجرد نوايا طيبة، داخل بلا خارج، ذات بلا تحقق، مثل أحلام اليقظة والرغبات المكبوتة، والأماني والتمنيات، وكم في الذات من رغبات ونوايا! وقد تدل على عجز عن العمل، ونقص في الإرادة، وتخوُّف من العالم، وعزلة عنه، كما هو الحال في إيمان العوام أو في أوهام الصوفية، وخلق عالم بديل للتحقق، ومجتمع لا وجود له للعيش فيه، ليس فقط الطرقية في الأرض، بل مجتمع الأقطاب والأبدال في الخيال.

والعمل بلا نية عملٌ توجِّهه المثيرات الخارجية الحسية، دون قصد وغاية وإرادة واعية. هو موضوع «بلا ذات»، وخارج بلا داخل، قفز إلى العالم كالطائر الجارح، متناثر أهوج، لا يجمعه جامع، ولا يصب في قصدية واحدة. يتنافس ويتزاحم ويتضارب مع أفعال الآخرين؛ تحقيقًا للمنافع الشخصية وليس للصالح العام.

وتتعلق الأحكام الخمسة بالأفعال. كما تتعلق الثروات بالمقاصد. فالشعور في حالة فعل وإثم، أكثر مما هو في حالة ترك. والترك فعل سلبي. فالأعمال بالنيات. والعمل دون نية مجرد حركة محسوسة، وليس فعلًا شرعيًّا، إلا ما كان داخلًا تحت ميدان الفعل، الذي تظهر فيه أحكام الوضع. وتكليف ما لا يطاق غير واقع شرعًا. ومنه تكليفُ ما لا قصد له. والمباح جزء منه لأنه يتعلق بالتخيير، والتخيير قصد مثل التكليف.٢١ وصحيح تعلق الغرامات والزكاة بالأطفال والمجانين، ولكن في خطاب الوضع، وليس في خطاب التكليف. أما السكران فإنه محجور عليه، لحق نفسه وغيره في العقود والبيوع. وقد أدخل السكْر على نفسه قاصدًا إليه.٢٢
والمقصد هو أساس النزاع بين المتخاصمين، وليس ظاهر العقود؛ لذلك وُضعت القاعدة الأصولية «أنه يُعتبر في الدعاوى مقصود الخصمين في المنازعة دون الظاهر».٢٣ التوثيق للحفظ لضعف الذاكرة. والكتابة تأكيد على القراءة وتثبيت لها.

(٣) القصد والمصلحة

ويتعلق القصد بجلب المصلحة ودفع المفسدة. وجلب المصلحة ودفع المفسدة إما غير مأذون فيهما أو مأذون. والمأذون قد يأتي دون إضرار للغير، أو مع إضرار الغير عن قصد أو عن غير قصد، والإقرار عن غير قصد إما ضرر عام أو خاص، والخاص ضروري أو غير ضروري. وغير الضروري قد يكون قطعيًّا أم نادرًا أم كثيرًا. والكثير قد يكون غالبًا أو غير غالب.٢٤ فالمأذون في جلب المصلحة ودفع المفسدة دون الإضرار بالغير هو الفعل الأمثل. وما فيه إضرار للغير عن قصد، مع ثبوت الدليل على ذلك لا يتحقق، فلا ضرر ولا ضرار في الشريعة، ولو تم عن غير قصد، فالعام مقدمٌ على الخاص في المصالح والمفاسد على حد سواء. وبالنسبة للحظوظ، فالأول جلب المصلحة ودفع المفسدة. والقطعي مقدمٌ على الظني كثرةً أو ندرة. والظني يرجع إلى الأصل.

العمل إذن هو العمل المنتج الفعَّال في الأرض. فالإصلاح والإفساد في الأرض وليس فقط للنفس، في الدنيا وفي العالم في هذا الزمان، وليس توقعًا في دنيا أخرى، وعالم مغاير، وفي زمان بديل، حتى ولو كان الخلود كله. وهناك مسئولية فردية عن العمل الفردي، ومسئولية جماعية عن الفعل الجماعي، بل ومسئولية تاريخية عن تراكم الأفعال الفردية والجماعية في التاريخ.

(٤) الأنا والغير

ومن كلف بمصالح نفسه فليس على الغير القيام بها مع الاختيار. فالمصالح الآخروية استحقاق، والمصالح الدنيوية قد تكون فيها نيابة أو لا تكون. ولو كلف بها الغير لم تصبح متعينة. وإن كلف الغير بها فإما على التعيين أو الكفاية.٢٥ وكل مكلف بمصالح غيره، فإما أن يقدر أيضًا على القيام بمصالح نفسه الدنيوية المحتاج إليها أو لا، وإن لم يقدر، أو كان في ذلك مشقة، يسقط التكليف تجاه الغير.٢٦ فإن لم يستطع أحد أن يقوم بها تسقط أيضًا؛ بناءً على قاعدة «عدم جواز تكليف ما لا يطاق». وقد تقبل المفسدة في مقابل تحقيق مصلحة أعظم. وقد تسقط المصالح من أجل دفع مفسدة أعظم؛ طبقًا لقاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».٢٧
وإذا وُجِد قصد المصلحة في التكليف، فإن المكلف يفهمها ويحققها، أو أن يقصد ما قصدته الشريعة. ويتوافق القصدان في الفعل، وهو الأكمل، أو أن يمتثل للأمر، سواءٌ فُهِم قصد المصلحة أو لم يُفهم. وهو ما يقلل دور الفهم والفعل، فَهْم المصلحة واتفاق المقاصد.٢٨
لا خِيَرة للمكلف في حقوق الله. وله الخيَرة في حقوق العباد، فلا تُسقط حقوق الله، في حين قد تُسقط حقوق الإنسان، وهو ما يضعف قضية حقوق الإنسان. فإن حقوق الإنسان لا تسقط أيضًا مثل حقوق الله. كما أن حقوق الله هي حقوق الإنسان. فليس لله حق منفصل عن حقوق الإنسان، فالله غني عن العالم. وحقوق الإنسان هي حقوق الله ضمانًا لشمولها وموضوعيتها تجنبًا للنسبية.٢٩

والعمل هو العمل الجماعي، تراكم عمل الأفراد. هو عمل الأمم والشعوب والأقوام، الذي يصبح تاريخًا وحضارة. العمل يتحول إلى تراث للسابقين ومخزون نفسي للاحقين.

والعمل ليس فقط العمل «الإسلامي» للأفراد والجماعات، بل هو أيضًا عمل كل الشعوب والأقوام، عمل البشرية جمعاء. فالعقل هادٍ للناس بصرف النظر عن الوحي. ومن أتاهم الوحي، بالإضافة إلى العقل، فإنهم يحملون التبعة مرتين، وعليهم مسئولية مزدوجة، في حين أن الذين أعملوا العقل عليهم تبعة واحدة، ويحملون مسئولية واحدة، مسئولية الخلق، والتكليف الذاتي الطوعي.

ثالثًا: سوء النية (الحيل)

(١) التحايل

والحيل غير مشروعة؛ لأنها تقوم على سوء النية، وتناقُض الظاهر مع الباطن؛ لذلك نقد الشارع الرياء، والتظاهر، واختلاف القول عن العمل، والكذب، وتبديل القول، والمحلل … إلخ.٣٠ والحيل تُناقض مصالح الشرع ولا تهدمه، وتمنع من حسن النية، وتوافق قصد المكلف مع قصد الشرع؛ وذلك مثل حيل المنافقين والمُرائين. العيش في مستوًى والتظاهر بالعيش في مستوًى آخر. أما أقوال المضطر وأفعاله، فهي ليست حيلًا، ومن ثم فهي جائزة؛ لأنها تفتقد شرط الحرية. وما بين الاثنين يتراوح بين الاستحالة والجواز، مثل نكاح المحلل، وبيوع الآجال، ولو أنه أقرب إلى التحايل؛ لأن عنصر الصدق غير متوافر فيه.

والتحايل ناتج عن عدم مطابقة النص مع الواقع، وعدم قدرة الحكم الشرعي القديم على احتواء الواقع المتغير الحالي. ولما كان من الصعب تغيير الحكم أو إنكار الواقع، ينشأ التحايل لإعطاء الحكم الشكل، والواقع المضمون. فثبات التشريع وتغير الواقع هو السبب المباشر في التحايل.

(٢) صحة الشكل وفساد المضمون

وقد يكون الفعل صحيحًا من حيث الشكل، فاسدًا من حيث المضمون، إن لم يتوافر حسن النية، أي القصد. لذلك وُضِعت القاعدة الأصولية «إنه قد يثبُت الشيءُ تبعًا وحكمًا، وإن كان قد يبطُل قصدًا».٣١

يمنع سوء النية من تطابق النية مع العمل، وأن تكون النية هي الموجِّهة للعمل، وأن يكون العمل تحقيقًا للنية. وتحل نية أخرى محل نية الفعل، مثل التظاهر والرياء والتملق وطلب المدح والادعاء، وقد تمنع نوايا أخرى من ظهور نية العمل، مثل الخوف والجبن وإيثار السلامة وتلمُّس الأعذار، مثل المخلَّفين والقاعدين عن الجهاد بدعوى عدم امتلاك آليات للقتال؛ السيف والرمح والحصان.

ولما كانت الشريعة أقربَ إلى المضمون منها إلى الشكل «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، فإن التحايل لا يعتبر فعلًا لأنه يُغفل شرط النية. وفي حالة استحالة تطابق الشكل مع المضمون، فالأَولى الإبقاء على المضمون دون الشكل، وفرض المضمون شكله على المكان والزمان من قاعدة التشريع، «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ».

(٣) ازدواجية الشخصية

وسوء النية أو التحايل هو أحد أسباب الوقوع في ازدواجية الشخصية بين الداخل والخارج، بين النية والعمل. وهو ما ظهر أيضًا في علم أصول الدين في الازدواجية بين القول والعمل في الضعف، والقول والوجدان في الكذب، والقول والفكر في فقه السلطان، والفكر والوجدان في النقل عن الآخرين، والفكر والعمل في العمل الأهوج والفكر المجرد.٣٢ وأصبحت الحقيقة تؤخذ من هتاف الصامتين وليس من خطب الصاخبين، ومن الأحاديث المغلقة وليست من أجهزة الإعلام، ومن كتابات الليل على الجدران وليس من الإعلانات المبوبة في وضَح النهار، ومن الكتابات في دورات المياه وعلى مقاعد الطلاب وجدران الآثار، وليس من الكتابات على السبورة في قاعات الدرس ولا من الكتيِّبات عن الآثار، وأحيانًا يصبح القول في غنًى عن الفعل، بل يصبح هو الفعل ذاته. فخطاب الرئيس في حدِّ ذاته يحل المشاكل. ويخرج الناس والمجتمع كله من عنق الزجاجة. يفرج الكرب، ويزيح الهمَّ، والواقع لم يتغير. وشقَّت الأفعال طريقها الخاص بطريق عشوائي من أجل استمرار الحياة، والماء الجوفي خير دليل إذا ما جفَّت الأمطار.

رابعًا: عقبات العمل

(١) العقبات الوهمية

لم يحلل القدماء عقبات الفعل؛ لأن الفعل لديهم لم تكن له عقبات. كان التحليل للفعل المثالي المستنبط من النص، وليس العمل المتحقق في الحياة اليومية. ربما تأجلت عقبات الفعل إلى «أحكام الوضع»، ولكنها لم تدخل في مقاصد المكلف، التي انحصرت في علاقة ثنائية بين النية والعمل، في حين أن العلاقة ثلاثية بين النية والعمل والعالم. فالعمل يتحقق في العالم، قبله النية، وبعده المحيط. والمحيط ليس مواتيًا بالضرورة؛ لأن العالم لا سيطرة للإنسان على كل عوامله. وهنا تنشأ العقبات المانعة من الفعل. وهي نوعان: وهمية وفعلية. والوهمية نوعان: إرادة إلهية، وإرادة الطبيعة.

والحقيقة أن «الإرادة الإلهية» خارج ميدان تحليل علم أصول الفقه، الذي يصف الأعمال في العالم وتحقيقها في المحيط الإنساني، الفردي والاجتماعي. هي موضوع علم أصول الدين في خلق الأفعال.٣٣ ومع ذلك هي ليست طرفًا في الفعل؛ لأنها لا تتجلى إلا في عوامل مادية في ميدان الفعل. هي العقبات الفعلية من إرادات مضادة أو نظُم سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، أو قوانين طبيعية وقدرات بشرية. والإرادة الإلهية ليست نقيضًا للإرادة الإنسانية، بل هي دافع لها ومشجعٌ على أفعالها، وباعثٌ على الإنجاز والتحقيق. توجد وراء الفعل في شروطه الأولى، وليس أمام الفعل في تحققاته الثانية. «الله» ليس نقيض الإنسان وعلى خلافه، بل معه وفي صفه. الإرادة الإنسانية امتداد للإرادة «الإلهية»، كما أن مقاصد المكلف امتداد لمقاصد الشارع.

وقوانين الطبيعة عقبة وهمية؛ لأن الفعل الحر الرشيد لا يتجه نحو الاصطدام بقوانين الطبيعة، بل يعمل معها وفي نسقها. ليس الهدف من العمل الإنساني تغيير قوانين الطبيعة والكون، مثل دوران الأرض حول الشمس، وشروقها من المشرق وغروبها من المغرب، بل التحكم في معطياتها: تشجير الصحراء، إصلاح الأراضي، الزراعة المغطاة، اكتشاف المياه الجوفية، وتشييد الآبار، ميكنة الزراعة … إلخ، شق القنوات، إقامة السدود، صنع مساقط مياه لتوليد الكهرباء، إقامة بحيرات صناعية لتوليد الأسماك، طواحين الهواء، وتبريد الساخن بالمبردات، وتسخين البارد بالسخانات، والاستفادة من الطاقة الشمسية. فالطبيعة ليست عقبة للفعل، بل هي ميدان للعمل الإنساني. هي محيطه وحقله وليست سدَّه وحائطه.

(٢) العقبات الفعلية

وهي العقبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وكلها من صنع الإنسان. وهي ليست عقبات دائمة، بل أوضاع مؤقتة، يمكن تغييرها عن طريق الإصلاح والتغير الاجتماعي. وإن استعصت فعن طريق الانقلاب والثورة. والعقبات الاجتماعية هي مجموعة من القوانين البيروقراطية، التي لا تحقق مصالح الناس، بل تضر بها، ومن ضمنها العقبات الاقتصادية والتعليمية والتربوية والثقافية. فما زالت نظم التعليم تقوم على التلقين والخوف والعقاب ومسك العصا. كما تقوم التربية على الطاعة المطلقة للرؤساء، وليس على النقد أو المعارضة. والثقافة مدح وإطراء، وأحيانًا زيف وبهتان، إذا تحولت إلى إعلام بأيد السلطان وفقهائه.

والنظم السياسية هي أقوى عقبة في سبيل العمل. تقوم على القهر في الداخل والتبعية للخارج. تحكم باسم الحزب الواحد، والفرقة الناجية، وتستبعد أحزاب المعارضة باعتبارها فرقًا هالكة. نظم تعتمد على أيديولوجية السلطة للحاكم الذي يسمع ويبصر ويريد كل شيء، ويتكلم ويعطي التوجيهات في كل موضوع، ولديه الحلول لكل المشاكل، وأيديولوجية الطاعة للمحكوم، الصبر والتوكل والورع والزهد والخوف والخشية.٣٤ ومن ثم يكون التغير الاجتماعي عن طريق الأولوية للسياسة، أو بالأحرى للثقافة السياسية.

(٣) أساليب المقاومة

لم يتعرض القدماء لأساليب المقاومة؛ لأن اللحظة القديمة كانت لحظة انتصار، في حين أن اللحظة الحالية هي لحظة انكسار. وبقدرِ ما يشتد العقاب تعظُم المقاومة.

وتتعدد أساليب المقاومة بين المقاومة السلبية أو المقاومة الفعلية. المقاومة السلبية منها الهجرة خارج البلاد، ثم الانخراط فيها والعيش في الحاضر مع نسيان الماضي، أو العودة إليه كل حين كسائح فيه. وهو ما يصعب على النفس؛ لأن المهاجر يحمل الوطن بين جنبيه، يحلم به، ويتراءى أمامه. ولا يسعد بالوطن البديل، ويعاني من العزلة، والعنصرية ضاربة جذورها في وعي الشعوب والأقوام. ولا يعوض الكسب المادي عن الخسارة الروحية «وماذا يكسب الإنسان لو كسب العالم وخسر نفسه؟!» وقد تكون الهجرة إلى الذات، والعزلة عن الناس والعالم، صومعة صغرى في سياج أكبر، وهو يأس وقنوط إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.

والمقاومة الفعلية على أنواع: المقاومة السرية تحت الأرض بتنظيم الخلايا؛ حتى يتم الانقضاض على السلطة بعد تنظيم الشعب، وحشد الناس، وانتظار الفرصة السانحة. ولما كانت عيون السلطان فوق الأرض وتحتها، فإنها سرعان ما تُكتشَف وتُتَّهم بتدبير مؤامرة للانقلاب على الحكم، وتهديد أمن الدولة وسلامتها.

وهناك المقاومة المسلحة فوق الأرض على أطراف المدن وفي قلب الصحراء، تنتظر ساعة الصفر للانقضاض على الأسواق، واحتلال المباني الحكومية للتخلص من نظم الكفر، وإقامة نظام الإيمان، والتخلص من حاكمية البشر، وإقامة حاكمية الله، والقضاء على ظلم القوانين المدنية وجورها، وتطبيق الشريعة الإسلامية وعدلها. ولما كانت أجهزة الأمن بالمرصاد، قوات الشرطة، بل والجند إن لزم الأمر، سرعان ما تنتهي المقاومة المسلحة باستشهاد أفرادها، وضياع حلمها، ونهاية خيالها.٣٥
لم تَبقَ إلا المقاومة العلنية، الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، في إطار الشرعية، وكما تسمح به قوانين البلاد من حرية الرأي، التي تكفُلها القوانين والدساتير القائمة، والجمعيات الأهلية، ومراكز الأبحاث، والجامعات، والنشر، وصحافة المعارضة. هذا على الأمد القصير، أما على الأمد الطويل، فإعادة بناء الثقافة الوطنية بعنصرها الموروث والوافد كثقافة للمقاومة.٣٦
١  معظم المادة من «الموافقات» للشاطبي، فهو الوحيد تقريبًا الذي فصَّل الموضوع.
٢  انظر حوارنا مع أبي يعرب المرزوقي: النظر والعمل، دار فكر، دمشق، ٢٠٠٣م.
٣  الباب الثاني: الوعي النظري، الفصل الثاني: المفهوم (المعنى).
٤  الباب الثاني: الوعي النظري، الفصل الثالث: المعقول (الشيء).
٥  من النقل إلى الإبداع، مج ٣، الإبداع، ج٢، الحكمة النظرية، فصل ١، الحكمة المنطقية.
٦  الموافقات، ج٢، ٣٣١-٣٣٢.
٧  السابق، ج٢، ٣٣٣–٣٣٧.
٨  السابق، ج٢، ٣٣٧–٣٤٧.
٩  السابق، ج٢، ٣٨٥–٣٨٧.
١٠  الصيغة الفعلية «٢٧٥»، والاسمية «٨٤».
١١  زمن المضارع «١٦٥»، زمن الماضي «٩٩».
١٢  صيغة المخاطب «٨٣»، صيغة الغائب «٥٦».
١٣  صيغة الماضي في الشخص الثالث «٧٣».
١٤  صيغة الأمر «١١»، الأمر الجماعي «٩».
١٥  صيغة الجمع «أعمال» «٤١»، المفرد «عمل» «٣٠»، واسم الفاعل «عامل» «١٥»، الجمع «عاملون» «١٣»، والمفرد «عامل» «٥».
١٦  المتكلم الفرد «١»، المتكلم الجمع «٣»، المخاطب المفرد «١»، المخاطب الجمع «١٣»، الغائب المفرد «٥»، الغائب الجمع «٢٩».
١٧  الجمع «الصالحات» «٦٠»، المفرد «صالحًا» «٣٠».
١٨  فنسك، منسنج: معجم ألفاظ السنة، ج٤، ٣٦٩–٣٨٧؛ انظر أيضًا: «مفاهيم العلم والعمل والتكافل الاجتماعي في الفكر العربي الإسلامي»، اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، سلسلة دراسات التنمية البشرية، عمان، ٢٠٠٠م.
١٩  «في وجوب النيات في جميع الأعمال والفرق بين الخطأ الذي تعمد فعله ولم يقصد به خلاف ما أمر به، وبين الخطأ الذي لم يتعمد فعله وبين العمل المصحوب بالقصد إليه، وحيث يلحق عمل المرء غيره بأجر أو إثم وحيث لا يلحق»، الإحكام لابن حزم، ج٥، ٧٠٦–٧٢٢؛ النبذ، ص٣٤؛ الموافقات، ج٢، ٣٢٣–٣٣١.
٢٠  انظر: الباب الثالث، الوعي العملي، الفصل الأول، مقاصد الشرع، رابعًا: وضع الشريعة للتكليف، (٣) العقل.
٢١  انظر: الباب الثالث، الوعي العملي، الفصل الأول، مقاصد الشارع.
٢٢  الموافقات، ج١، ١٤٩–١٥١.
٢٣  أصول الكرخي، ص٨٠.
٢٤  الموافقات، ج٢، ٣٤٨–٣٦٤.
٢٥  وهو ما يفيده المثل الشعبي «اللي عاوزه البيت يحرم على الجامع»، أو «اللي مالوش خير في نفسه مالوش خير في غيره».
٢٦  الموافقات، ج٢، ٣٦٤-٣٦٥.
٢٧  السابق، ج٢، ٣٦٦–٣٧٣.
٢٨  السابق، ج٢،٣٧٣–٣٧٥.
٢٩  السابق، ج٢، ٣٧٥–٣٧٨.
٣٠  السابق، ج٢، ٣٨٠–٣٨٤، ٣٨٧–٣٩١.
٣١  أصول الكرخي، ص٨٣.
٣٢  من العقيدة إلى الثورة، ج٥؛ الإيمان والعمل والأمانة، الفصل الأول: النظر والعمل، ص٥–١٦٢؛ وأيضًا: «التفكير الدين وازدواجيته الشخصية»، قضايا معاصرة، ج١، فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م، ص١١١–١٢٧.
٣٣  من العقيدة إلى الثورة، ج٣، العدل، الفصل الأول، خلق الأفعال، ص٥–٣٨٢.
٣٤  وقد قدم الغزالي أيديولوجية السلطة في «الاقتصاد في الاعتقاد» وأيديولوجية الطاعة في «إحياء علوم الدين»، وتكفير المعارضة في «فضائح الباطنية».
٣٥  تمثل الشيعة قديمًا المقاومة السرية، والخوارج المقاومة المسلحة، والمعتزلة المقاومة بالرأي والحجة وإقامة الدليل والبرهان.
٣٦  حصار الزمن، ج٣، الحاضر (إشكالات)، الفصل السادس، الثقافة والمقاومة، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ٢٠٠٤م؛ ص٥٥٣–٦٩٩؛ فشته، فيلسوف المقاومة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٢م؛ الجمعية الفلسفية المصرية (٤)، القاهرة ٢٠٠٣.