الحب والحياة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الشهيدة

لم تؤمن أمنية بالحب ولا بسلطته القوية على المحبِّين، وتعتبره حالة نفسية مفتعلة ولعبًا بالعواطف ليس وراءه سوى النكد والاكتئاب والحزن والكمد.

اشتهرت أمنية بين جيرانها، وبين زميلاتها في المدرسة، بعدائها الشديد للرجال كمصدر لذلك الشيء اللعين الذي يُطلِق عليه المحبُّون اسم «الحب».

عزفت أمنية هذه عن قراءة أي كتابٍ يتضمَّن قصة حبٍّ أو يتكلم عن الحب، مهما يكن بقلم أبرع الكتَّاب وأشهرهم. وقد تعودت أن تقول لصديقاتها: سأحاول أن أعيش على هواء ليس فيه أية تيارات من ذلك الشيء المَقيت الذي يسمُّونه الحب.

فتردُّ عليها زميلاتها بقولهن: سرعان ما ستختنقين يا أمنية، فكل هواء يُغلِّف الكرة الأرضية مشبع بتياراتٍ عنيفةٍ من الحب الشديد. فالحب هو أوكسجين الهواء الذي لا تُمكن الحياة بدونه، وإلا لخَلَق الله، جلَّت حكمته، الناس جميعًا ذكورًا أو كلهم نساء، بل خلقهم من ذكر وأنثى كي يتحابا ويتزوجا وينجبا الذريَّة لحفظ الحياة على الأرض، وإلا لانقرض الجنس البشري من المسكونة … اذكري لنا اسم امرأةٍ واحدةٍ عاشت ثم ماتت دون أن تعرف الحب. فإن لم تحب هي، أحبها الرجال بالعشرات … لقد خلقت المرأة للحب، وخلق الرجل ليحب.

فتقول أمنية بعنادٍ: ليس هذا صحيحًا بالمرة. فلا يحمل الهواء أيَّ حبٍّ. بل يأتي الحب كما يقول شوقي: نظرة، فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد، فلقاء!

فترد عليها إحدى زميلاتها، قائلة: تعرَّف عليَّ فتاي الذي أُحبه بأسلوب يختلف تمامًا عن بقية أساليب التعارف الأخرى … تعرَّف عليَّ بالخطابات والمراسلة … فبينما نحن في الطريق من البيت إلى المدرسة، يُسلِّم أحدنا الآخر رسالة … فيرد عليها برسالة أخرى يعطيها لصاحبه ونحن عائدان من المدرسة إلى البيت بعد الظهر.

وتقول زميلة أخرى: أما أنا، فقد تعرفت على فتاي عن طريق أخي، فهما صديقان حميمان. فمن كثرة تردُّده على بيتنا لزيارة أخي رأيته واستلطفته، فحدثت النظرات والابتسامات والكلام وأحبَّ كلٌّ منَّا الآخر. وشرعت ألتقي به في الخفاء خارج البيت، فيبث كل واحد صاحبه ما يعتمل في صدره وقلبه من حب للآخر … وهكذا عرَفت الحب الذي تغلغل في أحنائي.

وتقول ثالثة: أما أنا، فعرفت حبيبي عن طريق التليفون. كان الرقم الذي ردَّ عليَّ في التليفون خطأً … أي غير الرقم الذي طلبته … فإذا بي أسمع صوتًا عذبًا أعجبني، ويبدو أن صوتي أعجبه، فتبادلنا الحديث ذا الشجون، أي الذي يجر بعضه بعضًا. وهكذا أحبَّ كل منَّا الآخر. وكان لا يحلو له الكلام إلا في الهزيع المتأخر من الليل والأسرة كلها تغطُّ في نومٍ عميقٍ، كي نتكلم في حرية ونحن مطمئنان.

وقالت رابعة: أما حبيبي، فعرفته عن طريق الدرس الخصوصي … إنه أستاذ اللغة الإنجليزية الذي علَّمني الحب … يظل طول الدرس يُقبِّل يدي ووجنتي … ثم تمادى فصار يحتضنني ويتحسس أجزاء من جسمي … وهكذا أحببته وصرت أُقابله خارج البيت فننهل معًا من كئوس الحب مترعة.

ذهلت أمنية مما سمعت، فقالت: إذن، فكلكن عاشقات، وإني لأنظر إليكن كمخبولاتٍ مجنونات، تلعبن بالنار في وضح النهار … أمَا قرأتن قول السيدة ملك حفني ناصف إذ قالت:

إن الفتاة حديقة وعفافها
كالماء موفور عليه بقاؤها

بئس ما ينتظركن من مصيرٍ أسود.

فتقول الزميلات: بل أنت المنبوذة غير المرغوبة، لا يتقدم نحوك الرجال لأنك نصف حلوة … أما سمعت قول الشاعر:

يا رب خلقت الجمال
وقلت يا عبادي اتقون
وأنت جميلٌ تحب الجمال
فكيف عبادك لا يعشقون

الحب جميلٌ يا أمنية، ومن لم يحب، لم يؤد للشباب ما عليه من واجب.

كان هذا أحد المواقف التي كثيرًا ما تكررت بين أمنية وزميلاتها، كلما حلا لها أن تعلن ثورتها ضد الحب … فيسخرن منها ويتهمنها بأنها معدومة الأنوثة.

لم يؤثر كلام الفتيات هذا في أمنية، بل ظلت تعتبر نفسها محصَّنة ضد الحب، ولا يمكن لكيوبيد أن يُطلق سهمًا يخترق قلبها مهما يكن حادًّا.

•••

ذات صباح، خرجت الصحف تحكي مأساة فتاةٍ وُجدت مقتولة، وجثتها مُلقاةٌ على جانب الطريق الصحراوي الموصل إلى مطار القاهرة الدولي … وإلى جانب الخبر، صورة القتيلة التي لم تُعرَف شخصيتها. وكانت هي صورة أمنية المسكينة.

بينما كانت أمنية عائدةً من زيارة لخالتها في المعادي، انقضَّ عليها فجأة أربعة شبَّان يحملون المُدَى، وجذبوها من شعرها إلى سيارتهم، وانطلقوا بها إلى مكانٍ مهجورٍ حيث حاولوا اغتصابها. ولكنها قاومتهم بعنفٍ وشراسةٍ، ولم ترهبها تهديداتهم بقتلها بتلك المُدَى المسلولة. ومع ذلك قامت بينهم وبينها معركةٌ وحشيةٌ … هم يريدون السطو على عفافها وإشباع شهواتهم الجنسية، وهي العزلاء تريد الدفاع عن شرفها، بكل ما أُوتيت من حَولٍ وطَول، ضد أولئك الوحوش الآدمية. هانت على أمنية حياتها ولذتها وهي تعلم علم اليقين أنها مقتولةٌ لا محالة … فانتابتها نوبةٌ من الصراخ والعويل، ولكنها كانت كمن يصرخ في وادٍ، لم تسمعها سوى السماء … وإذ عجز أولئك المجرمون السفلة عن نيل غرضهم منها راحوا يطعنونها بالمُدَى في جنونٍ، حتى لفظت آخر أنفاسها بعد مئات من طعنات مُدَى قرن الغزال، وهي ما زالت بكرًا محتفظةً بعذريتها، كما قرر الطبيب الشرعي الذي شرَّح الجثة.

وهكذا عاشت أمنية، تحمي قلبها من الحب وسهامه، وماتت وهي تحمي عرضها وشرفها من العار والتلوث والضياع.

اعتبرت صديقات أمنية وزميلاتها بالمدرسة أن أمنية ماتت شهيدة الأخلاق والقيم، بعد أن ضربت أروع مواقف الشجاعة والبطولة في مقاومة الخطيئة والرذيلة، وأخس ما يمكن أن ينال من آدمية الإنسان. عُلِّقت في مدرسة أمنية صورة كبيرة لهذه الشهيدة الباسلة، التي آثرت أن تموت من أجل الشرف، مرفوعة الرأس، على أن تحيا مسلوبة العرض، ذليلة الروح والنفس.