مَنْهَجُ البَحْثِ١
قال الدكتور طه حسين تحت هذا العنوان ما مُلخَّصه:
رأينا في هذا الكلام
أنا لا أتمالك نفسي من أنْ أقولَ صراحةً إنَّ هذا الكلام ثمين، ولا أغالي إنْ قلتُ إنَّه أعرقُ في الإسلام من كل كلامٍ قرأته قبل هذا، ولا يعيبه إلا شيء واحد، وهو أنَّه مفرغ في قالب الخروج على الجماعة، على حين أنَّه مذهب القرآن الذي هو دستور هذه الجماعة. فلو كان قال إنَّه سيُعالج البحث في الأدب العربي وتاريخه ناسيًا قوميته وكل مشخصاتها، ودِينه وكل ما يتَّصل به، وغير متقيد بشيء، ولا مذعنٍ لشيء، إلا مناهج البحث الصحيح، جاريًا بذلك على مذهب القرآن (لا ديكارت) لكانت كلماته هذه عُدَّت أجمل تفسير لآيات الكتاب التي وردت خاصة بمنهج البحث عن الحقائق.
نعم، أصبح يَعِزُّ على المعاصرين أنْ يجعلوا للدين أو لِمَا يتصل به سلطانًا على مناهجهم العلمية، وأضحى من لا يكون على أقصى حدٍّ من حدود الحرية الفكرية غير جدير بالثقة؛ لتقيده بآراء يعدُّها مقدسةً ويحاول أن يخضع كل حقيقة لسلطانها، ونحن نعذرهم في هذا الشعور؛ لأنَّهم لا يعرفون الإسلام ولا يدرون أنَّه سَنَّ منهاجًا للبحث عن الحقائق ليس وراءه مرمى، فإنْ كَانَ المانعُ الأنَفَة من الاتباع، فالاتباع حاصل لديكارت؛ فهل من مرجِّح للأنفة من اتباع محمد وعدم الأنفة من اتباع ديكارت؟ وهل فرقٌ في التبعية بين أن يُقال هذا قرآني وهذا ديكارتي؟
أما أنَّا فلا أجد محلًّا للأنَفَة من اتباع المذاهب الإصلاحية على الإطلاق، وإنْ كنت أجد فرقًا بين الإعلان بتبعيتي لمذهب ديكارت وتبعيتي لمذهب القرآن. وهذا الفرق هو أنَّ ديكارت رجل فرنسي ليس بيني وبينه أية علاقة من جنسٍ أو لغةٍ أو صلةٍ من أي نوع كانت. وأمَّا القرآن فهو كتاب الأمة التي أنا منها، وبيني وبينه كل أنواع الصلات المعنوية التي تربط الإنسان بشيء من الأشياء، وقد سبق ديكارت بعشرة قرون، وأسلوبُه أدق من أسلوبه، وأجمع لوجوه الاحتياط منه.
- (١) يريد الدكتور طه حسين أن لا يتقيد بمذهب مَن سبقه من المتكلمين، وأن لا يعتد بآرائهم؛ فإنَّ لهم ما رأوا وله ما يرى. والقرآن يقره على ذلك، بل يُطالبه به؛ فإنَّه بعد ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحق قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: ١٣٤ و١٤١] وقال: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: ٣٨] وقال: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: ٢١].
- (٢) يرى الدكتور طه حسين — إن صوابًا أو خطأً — أنَّ المتقدمين قد شايعوا أوهامهم وأهواءهم في تقرير ما قرروه عن العلم فلا يُريد مجاراتهم فيه، والقرآن يُؤيده في مذهبه هذا؛ فهو يَنْعَى على المُتأثرين بالأهواء والآخذين بالظنون؛ فقال: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام: ١١٦] أي يكذبون. وقال: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس: ٣٦].
- (٣) يطلب الدكتور طه حسين أن يتوخى في بحثه عن الحقيقة نسيان قوميته وكل مشخصاتها، وقد مَحَق القرآن القوميات ومشخِّصاتها فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: ١٣]. وشرح رسول الله ﷺ هذه الآية بقوله: «لقد أذهب الله عنكم رجس الجاهلية وتفاخرها بالآباء؛ كلكم من آدم وآدم من تراب. لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى أو بعمل صالح.»١٠
وقد تَجَاوَزَ القرآن حدود كل مذهب فلسفي؛ فعد الإنسان مسئولًا حتى عن الخواطر التي تجيش في قلبه، والهواجس التي تهجِس في باله تنزيهًا له عن الأباطيل والأضاليل حتى ما كان منها منزويًا في أَحْنَاء صدره؛ فقال: وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ [البقرة: ٢٨٤].
إنَّما يُخشَى من تأثير الدِّين على مثل هذا البحث الذي تصدى له الأستاذ طه حسين — وهو الأدب — إذا كان من الأديان التي تُعاكس حريةَ البحث في أصول الجماعات وفي درجاتها من الارتقاء، وفي مكاناتها بين الأمم، وفي تأثيرها العالمي، وفي مصادر لغاتها، وفي قيمة آدابها. ولكن إذا كان كالدين الإسلامي ينص على أنَّ الأمم كلها سواء: أبوهم آدم وآدم من تراب، وأن لا فضل لعربيٍّ على أعجمي، ولا لأعجمي على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ إلا بالتقوى أو بعملٍ صالح كما رأيت، وعلى أنَّ الباحث يجب أن يتبع الحق حيث كان؛ جريًا على قوله تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [يونس: ٣٢]، وعلى أنَّه يجب أن ينظر في جميع مصادر المعرفة ليتصيدَ الحق من جميع مظانِّه؛ لقوله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: ١٧، ١٨] وعلى وجوب الحكم بالعدل ولو على النفس والأقربين؛ لقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء: ١٣٥]، وعلى أنَّ الأمم كلها سواء في تحمُّل تبعة أعمالها، فلا محاباة ولا استثناء؛ لقوله تعالى: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: ١٢٣]، وعلى أنَّ الإنسان يجب عليه أنْ يخضع لسلطان الدليل لا للموروثات ولا للأوهام؛ فقال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: ١١١]. قلنا: ولكن إذا كان دينٌ كالدين الإسلامي ينص على هذا كله؛ فكيف يجب نسيانه في أثناء البحث وهو أكمل دستور عُرِفَ عن الباحثين في الحقائق إلى اليوم؟! وبأي مرجِّح نجعل الأسلوب الديكارتي نُصب أعيننا في أثناء بحث ما نريد بحثه، ونفخر بالانتماء إليه، ولا نجعل الأسلوب القرآني نُصْبَ أعيننا في البحث ونباهي بالجري عليه؟
يقول الدكتور طه حسين: «إنَّا إذا لم ننسَ قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف، وسَنَغُلُّ عقولنا بما يُلائم هذه القومية وهذا الدين.»
ونحن نُجيبه على هذا بقولنا: كيف نضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف وهذا الدِّين نفسه يزجرنا عن المحاباة وإرضاء العواطف فيقول: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم [النساء: ١٣٥]. بل وينص على أنْ نعدل حتى مع أعدائنا الذين يكرهوننا فيقول: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ [المائدة: ٨] أي: ولا تحملنَّكم عداوة قومٍ على أن لا تعدلوا فيهم وفي الحكم عليهم بل اعدلوا.
وكيف نغل عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين، وديننا نفسه لا يعترف بقوميةٍ، بل يعد النَّاس كلهم سواء، ويحضنا على اعتبارهم كذلك؟
ويقول الدكتور طه حسين: «وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد على القدماء شيء غير هذا؟»
نقول: هَبْ أنَّهم ما فعلوا غير هذا، فما جَريرة الدِّين في ذلك وهو ينهى عنه ويحث على نقيضه؟ وهل من العدل أنْ نَأخذَ الدِّين بجريرة من لم يجرِ على أصوله؟
هل لي — وأنا أرى في كتاب الدكتور طه حسين أخطاءً كثيرة — أنْ أرفض الجري على مذهب ديكارت وعلى تناسيه وتجاهُله؛ لأنَّ الدكتور أعلنَ أنَّه من أخصِّ أشياعه فلم يُحسن الجَرْي عليه باعتماده على حكايات كتب المحاضرات التي لا يقوم على ثبوتها شِبْهُ دليل، بل التي يقوم ألف دليلٍ على مناقضتها للواقع؟!
ويقول الدكتور طه حسين: «كان القُدماء مسلمين مخلصين في حبِّ الإسلام، فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام وحبِّهم إياه، ولم يعرِضوا لمبحثٍ علمي، ولا لفصلٍ من فصول الأدب، ولون من ألوان الفن إلا من حيث إنَّه يُؤِّيد الإسلام ويُعزه ويُعلي كلمته؛ فَمَا لاءَمَ مَذهبهم هذا أخذوه، وما نَافَره انصرفوا عنه انصرافًا.»
نَقول في الجواب على هذا الكلام: إنَّ مَن فَعَل هذا فعليه تَبِعَتُه؛ فإنَّ دينًا ينصُّ على وجوب اتباع الأصول التي ذكرتُها في كل موطن من مواطن الحياة، فلا يكون في حاجة لمن يُعزُّه ويُعلي كلمته بما يُنافي قواعده ويُضادُّ وصاياه، فإنَّه هو نفسه يُعز ويُعلي كلمته بسُمُوِّ تلك القواعد والوصايا. فإذا كان القدماء قد أخذوا ما لاءم مذهبهم ذلك وانصرفوا عمَّا نافره، فتلك فَعلتهم ولا ذنب للدين فيها، ولا تبعة علينا نحن ممَّا فعلوا: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: ١٣٤ و١٤١].
ويقول الدكتور طه حسين: «لِنجتهد في أنْ ندرس الأدب العربي غير حافلين بتمجيد العرب أو الغَضِّ منهم، ولا مكترثين بنصر الإسلام أو النعيِّ عليه، ولا معنيين بالملاءمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي، ولا وَجِلِين حين ينتهي بنا هذا البحث إلى ما تأباه القومية، أو تنفر منه الأهواء السياسية، أو تكرهه العاطفة الدينية.»
نقول: إنَّ هذا الكلام لا غُبار عليه، وهو مذهب كل طالب للحقيقة، إلا قوله: «ولا مكترثين لنصر الإسلام أو النعيِّ عليه»؛ فإنَّ مثل هذا القول لا يصح إطلاقه على دين لا مَرْمَى له إلا إيصال الإنسان إلى الحقيقة؛ وهو لذلك ينهج له من مناهجَ بَزَّ بها الفلاسفة وفيهم ديكارت، الذي أعلن مُؤلفنا غير مرة أنَّه من أتباعه، وقد أثبتنا ذلك بنصوص الآيات مما لا سبيل إلى إنكاره.