مِرآةُ الحَيَاةِ الجَاهِليَّةِ يَجِبُ أنْ تُلْتَمَسَ فِي القُرآنِ لا فِي الشِّعرِ الجَاهِلِيِّ١
قال الدكتور طه حُسين تحت هذا العنوان ما مُلَخَّصه:
(١) رأينا في هذا الكلام
(١-١) تَمهيدٌ
قبل أنْ نَنَاقش الدكتور طه حسين فيما أدلى به من الآراء في الفصل المتقدم رأينا أن نأتي على موجزٍ من تاريخ الأمة العربية؛ فنقول:
تاريخ العَرب في الجَاهِليَّة
لا يزال في تاريخ العرب في الجاهلية غموضٌ كبيرٌ على كثرة ما تكلم فيه المتكلمون، وكل ما كتب في الكتب العربية من تاريخ العرب يُراد به الوجهة الأدبية لا التاريخية غالبًا؛ فأين هو من الحقائق المؤيدة بالأساطير والنقوش التي لا مجال للشك فيها؟
يُوجد للتاريخ العربي مصادر غير عربية أقدمها التوارة؛ فإنَّ في سِفْر التكوين شيئًا من أخبار العرب، وفي أسفارٍ أخرى ذكر بعض قبائلهم وملوكهم.
الآثار العربية والتاريخ
للآثار فائدةٌ كبيرةٌ جدًّا في كشف تواريخ الأمم؛ فقد كان تاريخ المصريين لا يزال غامضًا لولا ما دوَّنوه من أخبارهم على آثارهم ومعابدهم.
كذلك للعرب آثارٌ باليمن والحجاز وغيرها عليها نقوشٌ حميريةٌ بالقلم المسند أو نقوشٌ آراميةٌ بالقلم النبطي وغيره، فلما اهتدى بحَّاثو أوروبا إلى أماكنها قصدوها لحلِّ رموزها وكشف النقاب عن تاريخ العرب.
أول من تصدى لهذه المباحث العالم الألمانيُّ ميخايلس المتوفَّى سنة ١٨٩١م، ثُمَّ عثر الضابط الإنجليزي ولسند سنة ١٨٣٨م على نقوش حميريةٍ باليمن اهتم بها العلماء غاية الاهتمام ولم يستطيعوا حل رموزها إلا بعد سنين.
ووجد الضابط الإنجليزي كروتندن في صنعاء نقوشًا ظن أنَّها من خرائب مدينة مَأرِب.
أول من تصدى من الفرنسيين للبحث عن هذه النقوش كان المسيو (أرنو) فإنَّه اخترق اليمن سنة ١٨٤٣، وعاد ومعه ٥٦ نقشًا نقلها من صنعاء والخريبة وحرم بِلْقِيس.
ثم جاء المستعرب (أرسيا ندر) فَحَلَّ رموزَ الآثار التي وجدها أرنو، وذلك سنة ١٨٤٥.
ثم إنَّ وزارة المعارف في باريز أرسلت المستعرب يوسف هاليفي سنة ١٨٦٩ إلى اليمن، فسار حتي بلغ مَأرِب ورجع معه ٦٨٠ نقشًا.
ثم جاء إدورد غلازر الألماني فَسَاحَ في اليمن مِرارًا ونقل منها ألف نقشٍ بينها نقوشٌ غاية في القيمة التَّاريخيَّة.
ثُمَّ حاول الوصول إلى مَأرِبَ رجالٌ آخرون فهلكوا في الطريق.
وعثر الباحثون أيضًا في شمال بلاد العرب على آثار الأنباط؛ فوجدوا منها آثارًا كثيرة في مدينة بَطْرا ومدينة الحِجْر، واكتشفوا في حُوران والعُلَى نقوشًا بالخط المسند الحِمْيَري؛ فكشفت جميع هذه النقوش النقابَ عن جزء من التاريخ العربي القديم، وما بقي منه أكثر.
من هم العرب؟
العرب من الساميين، والساميون هم الشعوب الذين يتكلمون بالعربية والعبرانية والسريانية والحبشية، ومنها الشعوب التي كانت تتكلم باللغة الفنيقية والآشورية والآرامية.
ومعنى ساميين أنَّهم منسوبون إلى سام بن نوح عليه السلام.
والناقد البصير يحكم لأول وهلة أنَّ هذه اللغات مشتقة كلها من أصلٍ واحد؛ لتشابهها لفظًا وتركيبًا.
وقد اصطلح مؤرخو العرب أن يُقسِّموا تاريخهم قبل الإسلام إلى قسمين:
العرب البائدة، والعرب الباقية؛ فالبائدة: عندهم التي بادت قبل الإسلام. والباقية قسمان: العرب القحطانية باليمن، والعرب العدنانية بالحجاز وما يليها.
العرب البائدة: هي قبائل عادٍ وثمود والعمالقة وطَسْمٍ وجديسٍ وأميم وجُرْهُم وحضرموت ومن يتصل بهم، ويُقال لهم: العرب العاربة.
وقد كان لهذه القبائل ملوكٌ ودولٌ، وقد امتد ملكهم إلى الشام ومصر.
وروى المؤرخون أنَّ هذه القبائل كانت تسكن أولًا في بابل من آسيا الصغرى ثُم هاجروا إلى جزيرة العرب، وقالوا: إنَّ بني عادٍ والعمالقة ملكوا العراق.
ثم إنَّ مؤرخي العرب يُقسِّمون القبائل البائدة إلى قسمين: العماليق وهم من نسل لاوَذَ بن سام، وسائر القبائل الأخرى من إِرَم بن سامٍ.
فالعمالقة في نظر مؤرخي العرب من نسل لاوذ بن سام، والعرب البائدة من نسل إرم؛ أي آراميين.
والعمالقة هم أهل شمال الحجاز مما يلي جزيرة سيناء، فتحوا مصر مدة الفراعنة، وأسسوا فيها أسرة ملكية.
قلنا: إنَّ العرب ملكوا العراق وأسسوا بها دولة، ونقول: إنَّ هذه الدولة سمَّاها المؤرخون المحدثون دولة حمورابي، وهو اسم أكبر ملوكها ومؤسس أقدم شريعة في العالم، وزعموا أنَّه كان من أهل القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، أغار على الدولة البابلية الأولى فاقتبس قومُه تقاليد البابليين ومدنيتهم، واستخدموا لغتهم، ثم فني المقهورون في القاهِرِين وصارت الدولة البابلية عربية بحتة.
أما دولة العمالقة في مصر فتبتدئ من سنة ٢٢١٣ إلى ١٧٠٣ قبل الميلاد، جاءوها من طريق برزخ السويس أو البحر الأحمر، فأقاموا بها، وكثر عددهم فيها، ثم لما سنحت لهم الفرصة وثبوا على ملوكها وملكوا البلاد دونهم. وكان أول ملوكهم سلاطيس، حكم بعده بنوه إلى سنة ١٧٠٣ فتمكن المصريون من انتزاع الملك من أيديهم وطردهم؛ فتفرقوا في جزيرة العرب قبائل وأفخاذًا، وأنشئوا دولًا في اليمن والحجاز وسائر جزيرة العرب.
أما عادٌ فهي من القبائل الآرامية؛ ولذلك سُمِّيَتْ أيضًا عاد إرم، والعرب يضربون المثل بهم في القِدَم.
أما ثمود فكان مقامها في الحِجْر المعروفة بمدائن صالح في وادي القُرَى بطريق الحاجِّ الشامي، وكان اليهود يسكنونها قبل الإسلام.
أما طسمٌ وجَدِيس فقد قال عنهما مؤرخو العرب إنَّهما من إرم مثل سائر العرب البائدة، وذكروا أنهما سكنتا اليمامة في شرق نجدٍ وقاعدتها الفرية. وكانت طسم صاحبة السيادة إلى أنْ تولاها رجلٌ ظلومٌ فأنفت جديسٌ من الخضوع له فقتلوه هو وخاصة قومه، فهرب رجلٌ إلى تُبَّع اليمن حسان بن أسعد فشكا إليه ما أتته طسمٌ واستنجده؛ فأرسل إلى طسم وجديس جيشًا فأفناهم معًا.
دولة الأنباط: ذكر العرب دولة الأنباط في كتبهم وأرادوا بهم أهل العراق، وقد تحقَّق المنقبون في الآثار والمتتبعون لتواريخ اليونان والرومان وما ذُكِرَ في التوراة أنَّ دولة الأنباط كانت عربيةً قامت بمشارف الشام في الجنوب الشرقي من فلسطين ممتدةً إلى رأس خليج العقبة، يحُدها من الجنوب باديةُ الحجاز، ومن الشمال فلسطينُ، ومن الشرق باديةُ الشام، وكان اليونان يُسمُّون هذه المملكة ببلاد العرب الحِجْرِيَّة، وكانت عاصمتها بَطرَا (الحِجْر).
أما مدينه بَطْرَا عاصمتهم فكانت قائمةٌ في مستوًى من الأرض تحيط به الصخور عند ملتقى طرق القوافل بين تدمُر وغزة وخليج فارس والبحر الأحمر واليمن، وكان العرب يُسمونها الرَّقِيم.
كان للنبطيين ملوكٌ ووزراء ونظامٌ سياسيٌّ واقتصاديٌّ، وكان الاسم الغالب على ملوكهم الحارثُ أو عبادة أو مالك، فكان الحارث الأول سنة ١٦٩ قبل الميلاد وهو أول ملوكهم.
أما مدينة تدمُر فهي الواقعة في طرف البادية التي تفصل الشام عن العراق، وتبعد نحو ١٥٠ ميلًا عن دمشق نحو الشمال الشرقي، تُحيط بها جبالٌ.
كانت زينوبيا من أعجب النساء شجاعةً ودهاءً، وكانت تركب الخيل وتجالس قُوَّادَهَا.
دول اليمن: اليمن هو الجزء الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب، وكان ينقسم إلى ٨٤ مخلافًا، والمخلاف تحته مدنٌ ومحافد وقرى.
أما تاريخ اليمن فمن أشد التواريخ سَقَمًا واضطرابًا.
ثم تولى بعده ابنه يَشْجُبُ بن يعرب، ثم ابنه عبد شمسٍ وهو سبأٌ الذي بنى سدَّ مأرب المشهور.
وقد أعقب سبأٌ هذا عدة أولاد أشهرهم حِمْيَرٌ وكهلان، ولما مات سبأٌ خلفه ابنه حمير وهو مؤسس الدولة الحميرية، وهي طبقتان: الملوك التَّبابعة، وملوك حمير. للمؤرخين اختلافاتٌ كبيرةٌ في عددهم وعصورهم وتتابعهم، ولكنهم اتفقوا بأنَّ آخر ملوك حمير وأول التبابعة هو الحارث الرائش.
ثم فتح الأحباش اليمن في آخر عهد التَّبابعة، وكان عليها التُّبَّعُ ذو نواس، فهرب وهلك في هروبه، فخلفه ذو جدن، فقهره الأحباش أيضًا، وأقاموا باليمن تلك الآثارَ التاريخية الدَّالَّة على قيام ثلاث دول في اليمن، وهي: الدولة المعينية، والدولة السبئية، والدولة الحميرية، ولا بد لنا من كلمة على كل منها.
وقد ثبت أنَّ سلطان هذه الدولة امتد إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وشواطئ خليج العجم وبحر العرب؛ أي إنَّها استولت على جميع شبه جزيرة العرب، وكانت دولةَ تجارة وسلام لا فتح ولا حرب.
والظاهر أنَّ أصل هذه الدولة قبيلةٌ من عرب العراق الذين أسسوا دولة حمورابي في بابل، فلما بادت دولتهم هنالك نزحوا إلى اليمن وأسسوا فيها المعينية.
(الدولة السبئية) دولة سبأ قحطانيةٌ ويسمَّون بالعرب المتعرِّبة، ولكنَّ المؤرخين من العرب أغفلوا ذكر أصل هذه الدولة، والذي عُرِفَ الآن أنَّ هذه الدولة تأسَّسَت في القرن الثامن قبل الميلاد بعد الدولة المعينية، وقد بلغ عدد من عُرِفَتْ أسماؤهم من ملوك هذه الدولة أكثرَ من ثلاثين ملكًا استدلُّوا عليهم من النقوش الأثرية، وقد كانت دولةَ سلامٍ وتجارة، وقد دفعت الجزية للآشوريين. ويظهر من النقوش أنَّ هذه الدولة مرت على أربعة أدوار تتميز بألقاب ملوكها؛ فكان ملكهم في الدور الأول يلقب بلقب (مَكْرِب سبأ)، وكان في الدور الثاني يلقب (بملك سبأ)، وفي الدور الثالث (بمكرب سبأ وريدان)، وفي الدور الرابع (بمكرب سبأ وريدان وحضرموت وغيرها).
يُرجَّح أنَّ هذه الدولة وُجِدت سنة ٨٥٠ وزالت سنة ١١٥ قبل الميلاد.
(دولة حمير) الحميريون فرع من السبئيين، وحمير عند العرب هو ابن سبأ، ويظهر أنَّ الحميريين كانوا يقيمون في ريدان قبل توليتهم بمدة قرون، فلما سنحت لهم الفرصة أخضعوا إخوانهم السبئيين ثم أشركوهم معهم فصار ملكهم يُدعى (ملك سبأ وذو ريدان).
كان آخر ملوك حمير ذا نُواس سنة ٥٢٥ ميلادية؛ فكان مدة بقاء الدولة السَّبَئيّة ٦٤٠ سنة.
مدنية العرب في اليمن: تبين القارئ مما تقدم أنَّ أهل اليمن لم يَقِلُّوا عن أهل مصر وفِنيقية مدنيةً في العصور القديمة، إذ كان منهم الملوك الفاتحون والتجار المتنقلون وكان لديهم مدنٌ عامرةٌ وآثار جميلةٌ، ويظهر أنَّهم اقتبسوا ذلك من البابليين أولًا على عهد دولة حمورابي التي أغارت عليهم قبل نحو أربعة آلاف عام، وقد عثر البَحَّاثون على آثار قصورهم وأطلال معابدهم وقطع من سَكَّتِهم (أي نقودهم).
وقد عرف أيضًا أنَّه كانت لهم تجارة واسعة في أنواع البخور والطُّيوب والصُّموغ، وروي أنَّهم كانوا يَفْلحون الأرض ويستثمرونها، وكانوا يستخرجون المعادن من باطن الأرض كالذهب والفضة والأحجار الكريمة. وكانت لهم قصورٌ شاهقةٌ؛ كقصر غمدان، وقصر ناعط، وقصر ريدة، وقصر صرواح، هذا غير القلاع والسدود والجسور.
(الدول القَحطانية الأخرى) كان عرب اليمن كثيرًا ما ينزحون من بلادهم عند نزول الشدائد بهم، فينزلون الحجاز أو اليمامة أو البحرين أو عمان، وقد تيسَّر لبعضهم إنشاء دولٍ في بعض تلك الجهات. وقد عد العرب من دولهم الغساسنة بالشام، والمناذرة بالعراق، وكندة بنجد.
وقد اعتبر العربُ تسع عشرة قبيلةً خارج اليمن من بني قحطان؛ أي يمنية غير عدنانية، وهي: قبائل طيئ والأشعر وبجيلة وجذام والأزد وعاملة وكندة ولخم ومذحج وهمذان ومازن وغسَّان وعدنان ومزيقيا وأزد شنوءة والأوس والخزرج وخزاعة. ولكلٍّ من هذه القبائل بطونٌ وأفخاذٌ وعمائر وعشائر لا سبيل لحصرها هنا، وقد نشأت من بعضها — وهي غسَّانُ ولخم وكندة — دولٌ سيرد ذكرها.
وقد اتفق العلماء على أنَّ هذه القبائل كلها قحطانيةٌ، وأنَّهم خرجوا من اليمن بعد انهدام سد مأرب على أثر سيل العرم، وإنَّا لذاكرون موجزًا من تاريخ كل دولة من هذه الدول الثلاث المارِّ ذِكْرُها.
دولة الغَساسِنَة
امتد مُلْكُ الغساسنة حتى عَمَّ مشارف الشام وتدمُر وفلسطين ولبنان، وبنى ملوكهم القصور الفخمة والقناطر الضخمة. من قصورهم المشهورة: القصر الأبيض، وقصر المشتى، وقصر الفضاء، وقصر السويداء، وقصر أبين، وغيرها.
دولة اللَّخْمِيِّينَ في العراق
أول من حكم العراق آل تَنُوخ ومنهم جَذِيمة الأبرش، ثم صار الحكم بعده إلى ابن أخته عمرو بن عَدِيٍّ وهو من آل نصر: فرع من لخمٍ. وقعت دولة اللخميين تحت سلطة الفرس، كما كانت قد وقعت دولة الغساسنة تحت سلطة الرومان، ويطلق العرب على ملوكهم اسم ملوك الحيرة.
دولة كندة
كندة بطن من كهلان، فهم قحطانيون، أصلهم من البحرين والمُشَقَّر، هاجروا إلى حضرموت فأقاموا ببلدة اسمها كندَة فكانوا هنالك موالين للحميريين.
تاريخ العرب العدنانية
العرب العدنانية هم ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام؛ وذلك أنَّ إبراهيم هاجر بامرأته هاجر وابنها إسماعيل إلى بلاد العرب، فأسكنهما بمكة وبنى البيت الحرام، ثُمَّ عاد إلى الشام، فلما كبر إسماعيل تزوج بامرأة من بني جُرهم أصحاب مكة في ذلك العهد، قيل: فولدت له اثني عشر ولدًا، فتناسلوا حتى بلغ عددهم الملايين، وكانت العرب تُسمِّيهم الإسماعيلية والعدنانية أيضًا نسبة إلى عدنان جَدِّ ذُرِّيَّة إسماعيل.
والفرق بين العرب العدنانية والعرب القحطانية ينحصر في النظام الاجتماعي وفي الدين واللغة.
فمن الوجهة الاجتماعية يمتاز العرب العدنانية عن القحطانية بأنَّ جمهورهم أهل بداوةٍ يسكنون الخيام، ويربون الماشية، ويرحلون وراء المياه والأعشاب، فهم لا يبنون بيوتًا، ولا يؤسسون أمصارًا، إلا أهل مكة فإنهم تحضَّروا منهم.
ومن الوجهة الدينية يمتاز القحطانيون بأنَّ آلهتهم تقرُب من آلهة البابليين، منها عشتار وأيل وبعل … إلخ، ولكن آلهة العدنانيين كانت لا تشترك مع سواها، ولها أسماءٌ خاصة كاللَّاتِ والعُزَّى ومناة وهُبَل.
ومن الوجهة اللغوية يوجد بين الطائفتين خلافٌ جوهريٌّ، وإن كان الجميع يتكلمون العربية، والخلاف يتناول الإعراب والضمائر والاشتقاق والتصريف.
كان هؤلاء العرب العدنانية على حالة قبائل، وكان لهم ماشيةٌ كثيرةٌ وتجارةٌ.
وكان مقامهم في تهامة والحجاز ونجدٍ على حالة بداوةٍ، إلا قريشًا فقد تحضرت وسكنت مدينة مكة.
ثم إنَّ هذه القبائل نزحت من بلادها لطلب العيش؛ فأنشأ بعضها دولًا وضاع ذكر البعض الآخر.
فكان أول من نزح بني قضاعة، فتفرقت بطونها من جزيرة العرب في نجد والبحرين ومشارف الشام؛ فأنشأ بعضها دولًا بالعراق والشام، وكان نزوح هذه القبيلة حوالَي القرن الأول للميلاد.
دول قضاعة
من بطون قضاعة (جهينة) و(يليُّ) وكانت منازلهم بين ينبع ويثرب ومصر على شواطئ البحر الأحمر، ولم تكن لهم دولٌ ذات ملوك، ولكنهم غلبوا على بادية مصر وصعيدها أجيالًا.
ومن دول قضاعة (تَنُوخ) وهو فرعٌ كبيرٌ من قضاعة، وقال بعض المؤرخين: إنَّ تنوخًا كانت مزيجًا من قضاعة والأزد، وكانت دولتهم في أوائل ظهور النصرانية.
كان لتنوخ دول في مشارف الشام والعراق منها دولة جَذِيمة الأبرش، كانت عاصمتها في المضيرة بين بلاد الخانوفة وقرقيسيا، ويرى المؤرخون أنَّ هذه الدولة كانت في نحو القرن الثالث من الميلاد.
لم تطل أيام هذه الدولة، فحل محلَّها بطنٌ آخر من قضاعة اسمه سليحٌ.
دولة سليح
سليحٌ بطنٌ من قضاعة ملكوا مشارف الشام بعد تنوخ، وكان مقرهم في مواب من أرض البلقاء وفي سليمة وحوارين والزيتون، ومن ملوكها النعمان بن عمرو، ومالك بن النعمان، وعمرو ابنه، ثُمَّ خلفهم الغساسنة كما مَرَّ، والأولون هم الضجاعمة الذين ذكرنا أنَّ الغساسنة تغلبوا عليهم.
أنمار
أنمار بطنٌ من قضاعة رحلت إلى جبال السروات فملكوها، ثم تخاصمت هنالك القبيلتان المكوِّنتان لأنمار؛ وهما: بَجِيلَةُ وخَثْعَمُ، فحدثت بينهما حروب يطول بسطها.
إيادٌ
ربيعة
مُضَرُ
استأثرت مُضَرُ بتهامة حتى كثر عددها، فوقعت بين بطونها الحروب، وأشهر تلك البطون قيس بن عيلان وخِنْدَف؛ فغلبت الثانية، فظعنت قيس بن عيلان إلى نجد إلا قبائل منها انحازت إلى أطراف الغور من تهامة؛ فنزلت هوازنُ ما بين غور تِهامة إلى ما والَى بِيشَة وبركا وناحية السَّراة والطائف وذي المجاز وحنينٍ وأوطاسٍ.
وكان بنو خِندف يتألفون من قبيلتي طابخة ومُدرِكَة، فنزلت طابخة بظواهر نجد والحجاز، وأوت مُزَيْنَةُ إلى جبال رَضْوَى وما والاها بالحجاز، ورحلت تميمٌ وضبَّة إلى منازل بكرٍ وتغلب. وهاجرت بنو سعد إلى يَبْرِين، ونزلت طائفة إلى عُمَان، وأخرى بين أطراف البحرين إلى ما يلي البصرة.
وأقامت قبيلة مُدرِكَة بتهامة، وكانت لهذيلٍ بنو فَهمٍ وعَدوان من قيس عَيْلان. وأقام بنو النضر بن كنانة حول مكة، أنزلهم قُصي بن كلابٍ الحرم وهم قريشٌ؛ فكان بالحجاز من العرب أسدٌ وعبسٌ وغَطَفان وفَزارة ومُزينة وسليم وفهمٌ وعَدوان وهُذَيْلٌ وخثعمٌ وسلول وهلال وكلابٍ وطَيِّئٌ وأسد وجهينة وغيرها.
ذكرنا عَرَضًا في هذه الفذلكة — عند ذكر استعمار الحبشة لليمن — ما حدث من اعتزام عامله أبرهة على صرف الناس عن حج البيت إلى حج كنيسةٍ بناها بصنعاء، وتفصيل هذا الإجمال هو أنَّ أبرهة لما هَمَّ بذلك وأخذ له أهبته، جاء رجلٌ من العرب فأهان تلك الكنيسة، فَهَاج ذلك غضب أبرهة؛ فعزم أن يثأر لِبيعَتِه بهدم الكعبة؛ فجهَّز لذلك جيشًا، وسار على رأسه قاصدًا مكة، وما زال يطوي المفاوز والموامي حتي وصل إلى ضواحي مكة واستاق من أموالها إبلًا لعبد المطلب جد النبي ﷺ، وكانت قريش قد أخلت البلدة ولجأت إلى الشعاب تاركةً البيت الحرام وما فيه من أصنامها ونُصُبها لرحمة المغير الحاقد. وهنالك أصاب جيشه حادثٌ اضطره للإسراع بالرجوع، فعاد وقد باد أكثر عسكره، ولم يقضِ ممَّا أراده وطرًا. في هذه السنة وُلِدَ النبي ﷺ فكانت هذه الغارة قبل بعثته بأربعين سنة.
هذا موجزٌ من تاريخ العرب مُقتَبَس من أبحاث العلماء الغربيين الذين عنوا بدرس الآثار العربية، وأُغْرُوا بتحرير تاريخ هذه الأمة على نور ما هُدوا إليه من المعالم التَّاريخيَّة والآثار العمرانية.
(١-٢) مناقشة ما كتبه الدكتور طه حسين في العرب
•••
ويقول الدكتور طه حسين: «إنَّ القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية، وأصح تمثيلًا لها من الشعر المسمى بالجاهلي.»
ونحن نوافقه على ذلك من وجهٍ، ونخالفه من وجهٍ آخر، أما أنَّ القرآن يُعتبر أصقل مرآة لما كان عليه عربُ الجاهلية من النقائض الخُلقية والعيوب الاجتماعية، والمنكَرات العادية، فنعم؛ لأنَّ القرآن قد عرض عقائدَ ودافع عنها، وعرض عقلية الجاهليين وسَخِرَ منها، وعرض اعتراضاتهم على دعوته ودحضها، وعرض تفصيلاتٍ جمة عن أحوالهم الاجتماعية وعاداتهم الزوجية، ومألوفاتهم البيتية، ومنازعاتهم السياسية والاقتصادية وشنَّع عليها وعابها، ولم يدع كبيرة ولا صغيرةً من أخلاقهم الرديئة ومعاملاتهم المَعِيبة إلا أتى عليها وأزرى عليها وتهكم بها، واستنزل سُخط العقلاء عليها، فهو يُمثل حياة الجاهليين من وجهة نقائصهم وسيئاتهم تمثيلًا لا يدانيه فيه شعرٌ ولا تاريخٌ.
وكيف لا يكون كذلك وهو إنَّما جاء لنقلهم ممَّا هم عليه إلى حالٍ أرقى منه درجاتٍ، وتهيئتهم لأن يَحْيَوْا حياةً صالحة تأخذ بهم إلى معارج الارتقاء، وتحفزهم إلى تخطِّي دوائر الجمود التي كانوا فيها ولا يبغون عنها تحوُّلًا، ولا يتخيلون وراءها مذهبًا. وهل يتأتى له ذلك إلا بالدخول في صميم شئونهم الحيوية، وحكاية ما هم عليه من المنكرات الاجتماعية، ثم الكَرِّ عليها بالتقبيح والتهجين، أو بالتعديل والتقويم.
ونخالف الدكتور طه حسين من وجهِ كفاية القرآن وَحْدَهُ في تَجْلِيَةِ ما كان عليه العرب من الصفات المحمودة، وليس له أن يعرض لذلك وهو في مقام دعوتهم إلى دين يقلب وجودَهم الاجتماعي رأسًا على عَقِبٍ، ويهدم ما هم عليه من أساسه، ويُقيم على أنقاضه صَرْحًا جديدًا لحياةٍ جديدة لم يعرفوها إلى ذلك الحين.
فتكون النتيجةُ اللازمةُ لمذهب الدكتور طه حُسين أننا نبقَى جاهلين بما كان عليه عربُ الجاهلية من الكرم الذي ضُربت به الأمثال وبلغ حدَّ التضحية بالنفس، وحفظ الجِوَارِ الذي لم يُؤثَر مثله عن غيرهم، والشجاعة وإباء الضَّيم، وحب الحرية، والصبر على المكاره، والنجدة، والصدق في القول، والذكاء، وهي الصفات التي يجلِّيها الشعر المدعوُّ بالجاهلي في حدودها البدوية كل التجلية، فهذا الشعر لا يمكن الاستغناء عنه في بناء تاريخ العرب الجاهليين، ولا يكفي القرآن وحده في ذلك.
وما دام الشعر المنسوب لهم — وفيه المختلَق والصحيح — قد أجمع على نسبة هذه الصفات لهم؛ فيمكن الاعتمادُ عليه في تكميل بناء تاريخهم، وإلا فنكون قد حكمنا بعدم إمكان الوصول إلى هذا التاريخ على الإطلاق.
•••
فلننظر الآن فيما يقوله الدكتور طه حسين من أنَّ القرآن يُمثِّل لنا في عرب الجاهلية حياةً دينية قوية، وقدرةً على الخصام والجدال، وأنَّهم كانوا أصحاب علمٍ وذكاءٍ وعواطفَ رقيقةٍ، وعيش فيه لينٌ ونعمةٌ، وأنَّهم كانوا على اتصال قوي بمن حولهم من الأمم، قسَّمهم أحزابًا وشيعًا، وكانوا يُعنَوْنَ بسياسة أُمَّتَيِ الفرس والروم، وعلى اتصالٍ اقتصاديٍّ بغيرهم من الأمم، وأنَّهم تجاوزوا باب المندب إلى بلاد الحبشة، وتجاوزوا الحِيرَةَ إلى بلاد الفرس، وتجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر، وأنَّهم كانوا متأثرين بالسياسة العامة ومؤثِّرين فيها؛ وبذلك فقد كانوا أمةً متحضرةً راقيةً لا أمةً جاهلهً همجيةً، ثُمَّ قال: وكيف يستطيع رجل عاقلٌ أن يُصدقَ أنَّ القرآن قد ظهر في أمة جاهلة همجية؟
نقول: إنَّنا لا نرى رأي الأستاذ في كل هذه الإطلاقات، ونوجز رأينا في الفصول الآتية:
هل كانَ للعربِ الجَاهليِّين حياةٌ دينيةٌ قويةٌ وحياةٌ عقليةٌ قويةٌ؟
أما العرب فكانت وثنيتهم ساذجةً مبهمةً قليلة السلطان على عقولهم، لم تدفعهم لأيِّ صناعة من الصناعات التي يَدفع إليها التديُّن، ولولا أصنامٌ كانوا أقاموها في مكةَ يحجون إليها في كل عامٍ مرة، لَسَاغَ عدُّهم من الأمم المجرَّدة من العاطفة الدينية.
أما ولم تفعل ما كانت تفعله كل أمة تغار على كرامتها الدينية، فلا نستطيع أنْ نُوافق الدكتور طه حسين على أنَّها كانت ذات نزعةٍ دينيةٍ قويةٍ، بل نستطيع أنْ نقول: إنَّها كانت قليلة الغَيْرَةِ على دينها إلى درجة مَعِيبة.
- أولُ هذه العوامل: ضعفُ العاطفة الدينية عندهم. وأجلى مظهر لهذا الضعف
أنَّهم لم يكونوا على أمرٍ جامع من عقائدهم شأن الذين لا
عراقة لهم في الدين، فقد كان بعضهم دَهْرِيًّا لا يعتقد
بوجود إله، وبعضهم لم يكونوا يعتقدون بالبَعث بعد الموت،
ومنهم من كانوا يعبدون الكواكب، ومنهم من كانوا يعبدون
الملائكة، ومنهم من كانوا يعبدون الأصنام ويعتقدون أنَّها
شُفعاؤهم عند الله.
فهل يُعقل أنْ تكون أمة على مثل هذا الخبط من أمر دينها، لا تجمعها جامعةٌ، ولا ترجع في عبادتها إلى أصلٍ مُدوَّن، وليس لها في تلك العصور هيئةٌ ممتازةٌ تُهيمن على عقائدها، وتكون مع هذا كله قوية في دينها؟ وإذا ثبت ضعف العاطفة الدينية عندها من هذا الطريق فلا عجب أن يُلاقي كلُّ دينٍ جديد من تَلَكُّئها في قبوله ما لاقى الإسلام في أول أمره منها.
- ثاني هذه العوامل: إفراط العرب في الفخر بآبائهم، والتباهي بمناقبهم ومآثرهم؛ فقد لا تُصادف في أمم الأرض قديمًا وحديثًا من يُشاكلهم في هذه الخَصلة؛ فكان يصعب عليهم أن يُسجِّلوا على أولئك الآباء — بقبولهم الدين الجديد — أنَّهم كانوا على ضلال مبين.
- ثالث هذه العوامل: جُمودهم على ما كان عليه آباؤهم بغير تعقل ولا اعتمال رَوِيَّة، وقد حكى عنهم القرآن ذلك فقال: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات: ٦٩، ٧٠]، قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة: ١٧٠].
- رابع هذه العوامل: مجيء الدين من طريق محمد بن عبد الله، هو وإنْ كان من ذُؤابة٥٣ قريش نسبًا وحسبًا إلا أنَّه لم يكن من الموسرين المستكثِرين، ولا من زعمائهم المتصدِرين، وقد أشار إلى ذلك القرآن في قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] المراد بالقريتين: مكة والطائف. ومؤدَّى هذه الآية أنَّه لو كان قام بالدعوة إلى الإسلام أحد هؤلاء الزعماء لاتَّبعوه. وقد صرح القرآن بأنَّهم كانوا يقلِّدون رؤساءهم بلا روية ولا تفكير، ونعى ذلك عليهم في صورة حكاية ما سيقولونه يوم يُعرضون على العذاب في الحياة الآخرة: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: ٦٧].
فاشتراك هذه العوامل الأربعة يكفي في تعليل استعصائهم على الدعوة الإسلامية بادئ ذي بدءٍ.
وعلى أنَّ القرآن قد صرح أنَّ العرب كانوا لا يعبئون بالدين لقولهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَٰذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النمل: ٦٧، ٦٨].
وقال: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال: ٣٥] أي: وما كانت عبادتهم في البيت الحرام إلا صفيرًا وتصفيقًا، وقال: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [الواقعة: ٤٧–٥٠].
ولو كان حقًّا ما يقوله الدكتور طه حسين من أنَّ ذلك الاستعصاء الذي قابل به العرب الدعوة الإسلامية كان ثمرة قوَّتهم في دينهم لكان جدالهم مع النبي ﷺ أخذ شكلًا يشعر بأنَّهم على عقائد مقرَّرة، وأصول محددة على مثال الجدال الذي كان يقوم به اليهود؛ فقد كانوا يسألون النبي ﷺ في أمور ويجيبهم عنها ويحاكمهم إلى كِتابهم إذا أنكروها، ولكن عرب الجاهلية قابلوا الدعوة الإسلامية بسلاح العاجز وهو قولهم إنَّهم لا يستطيعون أن يتخلوا عن دين آبائهم الأولين. وكل ما فعلوه بعد ذلك أنَّهم كانوا يتعجبون من التوحيد؛ فقالوا كما حكاه عنهم القرآن: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [سورة ص: ٥–٧].
ولا يخفى أنَّ التعجب من وحدانية الله لا يدل على شيء من الذكاء، والتواصي بالصبر على آلهتهم لا يتجاوز المقاومة السلبية، مقاومة الجهلة الأغبياء، وتصريحهم بأنَّهم لم يسمعوا بهذا التوحيد في الملة الآخرة يدل على سذاجة لا يُعذرون عليها على أية حال.
فلما أعياهم أمره، واستعصى على علاجه جمودُهُم، قرر أنَّهم كالأنعام بل أحط من الأنعام؛ فقال: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: ٤٤]، وقال: لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: ١٧٩].
فأين بعد هذا ما يستخرجه الدكتور طه حسين من القرآن من قوة حياتهم الدينية والعقلية، وسُمُوِّ قدرتهم الجدلية المنطقية، وعلو كعبهم في الشئون العلمية؟
وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ [الإسراء: ٩٠–٩٣].
وقالوا: لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الحجر: ٧].
وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ۚ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا [الفرقان: ٧، ٨].
وقالوا: هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء: ٣].
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: ٥].
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ۖ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سبأ: ٤٣–٤٥].
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [الصافات: ٣٦].
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [الحج: ٤٧].
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: ٧٠].
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ [سبأ: ٧، ٨].
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان: ٣٢، ٣٣].
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى ۚ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ۖ وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سبأ: ٤٣–٤٥].
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ [الحجر: ٦–٨].
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت: ٥].
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [المائدة: ١٠٤].
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦].
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ [القمر: ٤٤–٤٦].
هذه صورة كاملة من الآيات التي وردت في القرآن فيما يتصل بالجدال الذي وقع بين عرب الجاهلية ورسول الله ﷺ، لا يؤخذ منها أنَّهم كانوا على شيء من الذكاء والعلم والقدرة على الخصام، بل يتبين منها أنَّهم كانوا على نقيض ذلك كله. فإنَّ كلَّ ما طلبوه أن يخرق لهم النبي ﷺ العادة بعين ماءٍ يفجرها، أو بجنة تكون له فيأكل منها، أو ببيتٍ يُعطاه من الذهب يأوي إليه، أو يطير إلى السماء، ويأتيهم بكتاب منها يقرءونه، أو يأتيهم بالله وملائكته ليروه بأعينهم، أو يسقط السماء عليهم قِطَعًا قِطَعًا فيهلكهم، وهذا كله بالهزل أشبه منه بالجد، ولا يدل على شيء من الفطنة والفهم، بل هو نوع من الهذيان (لا) يقدر عليه حتى الأطفال. أما الذي يدل على الصفات التي نحلهم إياها الدكتور طه حسين فهو قرع الحُجَّة بالحُجَّة، ومقابلة البيان بما يبطل سحره، ويلاشي خدعه، والاستشكال على أقوال النبي وأفعاله بِشُبَهٍ يحار فيها العقل، ويضيق عنها الوسع.
زعموا أنَّ القرآن مُفترًى، فتحداهم بأنْ يأتوا بسورة مفتراة من مثله فعجزوا: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: ٢٣، ٢٤].
فما هي القيمة العلمية والجدلية لقومٍ يصيحون بأنَّ هذا القرآن مفترًى ثُمَّ يعجزون عن تأليف سورة من كلام يُشبهه؟
كان كل ما فعلوه إزاء هذا التحدي المخزي أن تداعَوْا إلى اللغو والتهويش حين يُتلى عليهم القرآن ليبطلوا تأثيره فيهم وفي غيرهم؛ فقال الله فيهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦].
فهل هذا فعل قومٍ يُوصفون بالذكاء والعلم والقدرة على الجِدَال؟ وهل عُهِدَ في تاريخ المناظرات أن يستعين الخصم باللَّغَطِ والضوضاء حين يُدْلي الخصم بحجَّته ليبطلها بهذا النحو من العبث الذي لا يصدر إلا من الغوغاء؟
•••
يقول قائل: نعم إنَّ هذه المدة تكفي لأنْ تتمكن روح عاليةٌ كروح النبي ﷺ من نقلهم من حالٍ إلى حالٍ يُناقضها، وتَعُدَّهُمْ لأن يقوموا بأعباء مملكة شاسعة لم تتسنَّ لهم في أي عهدٍ من عهودهم.
نقول: هذا سائغ من الوجهة الخيالية الشعرية، ولكنه من الوجهة العملية لا يَنْقَع غُلَّةَ المنقِّب عن العِلل الطبيعية، ولا ينطبق على السنن الاجتماعية، وحَلُّ هذه المشكلة في نظرنا هو ما سنجمله في الأسطر التالية:
واتفق في ذلك الحين أنَّ الدولتين اللتين كانتا تتنازعان السلطان في الأرض — وهما دولتا الفرس والرومان — كانتا آخذتين في الانحلال؛ فبعد أنْ تحققت للعرب وَحْدَةٌ دينية وسياسية، ودفعتها طبيعة الاجتماع المنظم للتبسُّط في الأرض انتزعت سورية ومصر من الرومانيين، وكان أهلوهما ينتظرون فَرَجًا من عسف المستعمرين، ثم وجهوا شطر فارس، وكانت في حالة النزع؛ فما هي إلا ضربتان حتى تفككت أوصالُها، وضاع وجودها، وتبادر عقلاؤها لقبول الدين الجديد، فانضم إلى العرب بذلك عنصرٌ عريقٌ في المدنية كان له أثر كبيرٌ في حفظ وجود الدولة الإسلامية.
•••
هذا، ولسنا ممن يذهبون مذهب الذين يعدُّون عرب الجاهلية همجًا متوحشين، عارين من كل فضيلة، وكاسين بكل رذيلة، بل نعتقد كما يعتقده الدكتور طه حسين بأنَّه كانت لهم حياة دينية وعقلية، وأنَّهم كانوا أذكياءَ بفطرتهم، وبأنَّه كانت لهم عواطف، وكان لبعضهم عيشٌ فيه لينٌ ونعمةٌ، وأنَّهم كانوا على اتِّصالٍ سياسي واقتصادي بمن حولهم من الأمم جَنَى على الملاصقين منهم للأمم المتمدنة الوقوعَ تحت نيرها، وأنَّ أهل المدن منهم كانوا على شيء من الحضارة.
وإنْ تذكَّرتَ أنَّ جواب قريش نفسها على تلك الغارة الحبشية كان تَرْكَها الكعبة وما فيها من آلهتها تحت رحمته، ولياذها بالشِّعاب دون أن يُراق من رجالها قطرة دم؛ علمت أنَّ داء الانحلال كان قد سرى في جسد الأمة العربية متحضِّرها ومتبدِّيها سريانًا لم تعُدْ معه تصلح لحماية حَوْزةٍ، ولا للدِّفاع عن كرامة.
فكانت هذه الطائفة ومن انضَمَّ إليهم من مهاجِرَةِ مكة حجر الزاوية في صرح الدولة الإسلامية التي ندبتها العناية الإلهية لإحداث أكبر الحوادث العالمية وقلب الشئون الأرضية من حالٍ إلى حالٍ آخر.
وإني أميل أيضًا لأن أجعل لطول الخصومة والحرب بين الأوس والخزرج دخلًا أيضًا في تراميهم على الإسلام ليكون وسيلة سلامٍ بين الفريقين دون أن يشعر طرفٌ منهما بذِلَّةِ المقهور، وأن يتحمل غطرسة الغالب الفخور.
مَبْلَغُ اتصال العرب بالأمم الأجنبية من الوجهة السياسية والاقتصادية وتأثيرهم في السياسة العامة
يقول الدكتور طه حسين: «إنَّ عرب الجاهلية كانوا على اتصالٍ قويِّ بمن حولهم من الأمم قسَّمهم أحزابًا وشيعًا، وإنَّهم كانوا يُعْنَوْنَ بسياسة الفرس والروم، وعلى اتصال اقتصادي بغيرهم من الشعوب، وإنَّهم تجاوزوا باب المندب إلى بلاد الحبشة، وتجاوزوا الحِيرَةَ إلى بلاد الفرس، وتجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر، وإنَّهم كانوا أمةً متحضرة راقية لا أمةً جاهلةً همجيةً.»
نقول — قبل نقد هذا الكلام: إنَّه يجب على القارئ أنْ يذكر أنَّ العرب كانوا فريقين: فريق يجاور الفرس في العراق والشام والأحباش في اليمن، وفريق في نجدٍ والحجاز بعيد عن مطامع الأمم الأجنبية؛ لصعوبة الوصول إليهم من جهة، ولجدوبة أرضهم من جهة أخرى، فأمَّا الفريق الأول فكان واقعًا تحت سلطان الأمم الأجنبية منذ قرونٍ قبل البَعثة المحمدية. وقد استنام لذلك السلطان حتى صار لا يُحَدِّثُ نفسه بالانفصال عنها، فكان أفرادٌ من هذا الفريق يجاوزون حدود بلادهم فيجوبون بلاد الفرس والرومان والحُبشان طلبًا للعيش. ونحن مع اقتناعنا بأنَّ عرب تلك البلاد كانوا على شيء من الحضارة إلا أنَّ شخوصهم إلى تلك الأقطار لا يصح الاستدلال به على رُقِيِّهِمُ الأدبي والاجتماعي؛ فإنَّ كثيرين من بدو طُور سيناء وطرابلس وبورنو وغيرها يحضرون إلى مصر ويعودون إلى بلادهم وهم على ما هم عليه من شظف العيش والجمود على المألوف.
وهذه الأقطار العربية التي كانت خاضعةً لأجانب لم تَرفع بالإسلام رأسًا عند ظهور النبي ﷺ، بل بقيت مخلصةً لساداتها الأجانب، وساعدت جيوشهم لصد العرب المسلمين عن بلادها وبلادهم. وقد أرسل الرسول ﷺ جيشًا فخلص اليمن من مخالب الفرس وغزا بنفسه شمال بلاد العرب؛ فدفعت له بعضُ قبائلها الجزية. ثم خَلَفه أبو بكر فلم تَطُل مدته لعمل شيء أكثر من إرجاع القبائل العربية التي ارتدَّت بعد وفاة النبي إلى حظيرة الإسلام ومن فتح بعض سورية. ثُم لما خَلَفه عمر فتح بعض بلاد العراق والفرس ومصر وألحقها ببلاد المسلمين.
أما الفريق الثاني من العرب — وهم من أهل نجد والحجاز — فقد كانوا دون الأوَّلين في كل ناحية من نواحي الترقِّي الأدبيِّ والماديِّ؛ لاشتغالهم بالغارات، وبُعدِهِم عن مراكز الحركة المدنية. فلم يكونوا على اتصال قويٍّ بمن حولهم، قسَّمهم أحزابًا وشيعًا كما يقول الدكتور طه حسين، وما كانوا يُعنَوْنَ بسياسة الفرس والروم، ولا كانوا متأثرين بالسياسة العامة ولا مؤثِّرين فيها.
قد يكون حدثَ أنَّ بعضهم تقلَّب في بعض بلاد الفرس والرومان طلبًا للعيش بنَقل البضائع وبيعها هنالك. ولكن لا يصح تسمية هذه الانتقالات الفردية، والمعاوضات التافهة اتصالًا قويًّا في العُرف السياسي. فلدينا هنا اليوم رجالٌ من بورنو وشِنقيط والصُّومال يتعلمون العلم في مدارسنا ويوردون إلينا شيئًا من مصنوعاتهم ومحصولاتهم، وينقُلون لبلادهم شيئًا من مصنوعاتنا ومحصولاتنا، ومع ذلك فلا يقال: إنَّ بيننا وبينهم اتصالًا قويًّا. ويتبع هذا أنَّهم لا يُعقل أن ينقسموا إلى أحزابٍ وشِيَعٍ بسبب هذا الاتصال الذي لا يُذكر، وإلا لظهر تأثيره فيهم، ولانتقل خبره إلينا في شيء من الشعر أو التاريخ على علَّاتهما، وقد ذكر في أشعارهم أنَّهم اتصلوا بالجن والأغْوال والسَّعالي، وورد في تاريخهم أخبارٌ عن هذه الكائنات، ولم يصلنا عن اتصالهم بالفرس والروم شيءٌ غير ما ذكرنا.
هذه حقيقة تلك الآية وهي لا تعدو التفاؤل كما تفاءل المصريون بانتصار اليابانيين على الروس باعتبار أنهم شرقيون مثلهم، وكما فرحوا بانتصار الأحباش على إيطاليا لكراهتهم لمبدأ الاستعمار لا لتأثُّرهم من انتصار إحداهما على الأخرى في أي ناحية من نواحي شئونهم الأدبية أو الاقتصادية.
وإلا فماذا كان تأثير الفُرس غير الكتابيين في الدعوة الإسلامية، وقد لبث أَمَدُ انتصارهم تسع سنين؟ أقلَّل من نشاط النبي ﷺ؟ أَصَدَّ النَّاس عن الدخول في الإسلام؟ أأمَدَّ المشركين بما يمكنهم من إبادة الذين آمنوا بالقرآن؟
ثم ماذا كان من تأثير كَرَّة الروم على الفرس؟ أفَتَّ في عضد المشركين فحملهم على الدخول في دين الله أفواجًا؟ أهالهم أمرُه فسلموا مكة لرسول الله بلا حرب؟ أَسْتَوجَبَ أن يُمِدَّ الرومُ المسلمين بالسلاح والمال ليتقوَّوْا بهما على المشركين؟
شيءٌ من ذلك لم يكن، وهو أولُ دليل على أنَّ ما ورد في القرآن مما يتصل بهذا النزاع بين الروم والفرس كان الداعي إليه ما ذكرناه من نفي تفاؤل المشركين، لا أنَّهم كانوا مؤثِّرين في السياسة العامَّة، ولا متأثِّرين بها.
أما اتصالهم الاقتصاديُّ (أي أهل نجد والحجاز) بغيرهم من الشعوب فكان على أدنى ما يمكن أن يتصوَّره العقلُ. وكل ما في هذه المسألة أنَّ سُكَّان مكة كان لهم رحلتان إحداهما في الصيف إلى الشام، والأخرى في الشتاء إلى اليمن، وكان غرضهم من ذلك مبادلة أشياء من محصولاتهم ومصنوعاتهم بأشياء من محصولات ومصنوعات ذَيْنِك القطرين. ومثل هاتين الرحلتين لا تسميان اتصالًا اقتصاديًّا بالمعنى المعروف عند علماء الاقتصاد؛ فإنَّ كل ما فيها أنَّ أهل مكة والمدينة كانوا يُسافرون مَرَّةً إلى الشمال ومرة إلى الجنوب لاستيراد بعض ما هم في حاجة إليه من الأقمشة والآنية والأسلحة كما يحصل بين كل بلدين متجاورين، وما كان أهل مكة والمدينة في حاجةٍ إلى شيء يعتد به يصح تسميته اتصالًا اقتصاديًّا.
فثروةٌ تقدر بخمسين ألف أو مائة ألف دينار ليست بشيء يُذكر، ولا يخفى أنَّ مؤلفي المسلمين لا يُتَّهمون في بخس ثروة قريش.
وماذا يُرجى أن يكون من الاتصالات الاقتصادية بالخارج في مدينةٍ يسكنها زهرة العرب وليس فيهم من يعرف القراءة والكتابة غير رجلين اثنين، حتى إنَّه لما نشأت الدولة الإسلامية واحتاج الأمر لتدوين الدواوين وإحصاء الجنود وأصحاب الحقوق؛ اضطروا لاستخدام الكَتَبَة من غير العرب، فكانت اللغات الرسمية في الولايات هي لغات أهل تلك الولايات؛ لعدم وجود من يصلح من العرب لذلك. فلمَّا وُجِدَ في العرب متعلمون في خلافة عمر أبدل هؤلاء بأولئك.
فنحن وافقنا الدكتور طه حسين في أنَّ عرب الجاهلية كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، وعلى أنَّ بعضهم كان على شيء من الحضارة، ولكن في الحدود التي رسمناها هنا بشهادة الواقع نفسه، وإلا فأيُّ سِحْرِ بيانٍ في العالم يستطيع أن يُقْنِعَ الناس بأنَّ أمة يُقال إنَّها كانت متحضرةً وراقيةً ومتصلةً اتصالًا اقتصاديًّا قويًّا بالأمم المجاورة لها وكانت مؤثِّرة في السياسة العامَّة، ومع هذا كله لم يوجد فيها — بعد أن صارت دولة رجالٍ — من أبنائها ممن يعرفون القراءة والكتابة من يستطيعون أن يتولَّوا العمل!
لا نقول في وزاراتٍ ومصالح، ولكن في بضعة سجلات يحصرون فيها أسماء الجند وأصحاب المرتبات؟