ليس الانتحال مقصورًا على العرب١
قال الدكتور طه حسين تحت هذا العنوان ما مُلخصه:
والحق أنَّهم لو درسوا تاريخ هذه الأمم القديمة وقارَنوا بينه وبين تاريخ العرب لتغيَّر رأيهم في الأمة العربية، ولتغيَّر بذلك تاريخ العرب أنفسهم.
وفي الحق أنَّ التفكُّر الهادئ في حياة هذه الأمم الثلاث ينتهي بنا إلى نتائج متشابهة إن لم نقل متَّحِدَة، وقد أثرت فيه مؤثراتٌ واحدةٌ أو متقاربةٌ، فانتهت إلى نتائج واحدة أو متقاربة.
رأينا في هذا الكلام
يقول الدكتور طه حسين: «إنَّ الذين كتبوا في تاريخ العرب إنَّما نظروا إليها كأنَّها أمة فَذَّةٌ لم تعرف أحدًا ولم يعرفها أحدٌ، والحقيقة هو أنَّ الأمة العربية كسائر الأمم القديمة تأثرت كما تأثروا بصروف سياسية مختلفة، وتجاوزت حدودها الطبيعية كما تجاوزوا …» إلخ.
وإنَّا لا ندري هل يقصد الدكتور — بهذا القول — الذين تكلموا في تاريخ العرب قبل الإسلام أو بعده. فأما تاريخها بعد الإسلام فكلُّ الذين كتبوا فيه لم ينظروا إليها كأمة فذة، لم تعرف أحدًا ولم يعرفها أحدٌ، بل أجمعوا بأنَّها تحضَّرت بعد بداوة، وتأثرت بالمؤثِّرات المختلفة، وأثَّرت في غيرها، وتجاوزت حدودها الطبيعية ففتحت سورية وشمال أفريقيا وفارسَ وما وراء النهر إلى حدود الصين، وفتحت من أوروبا إسبانيا والبرتغال وجزءًا من فرنسا إلى نهر اللُّوار، وأفاضوا فيما تأثرت به من العوامل السياسية والاجتماعية والعلمية، وفيما أحدثته من الآثار في الأمم ممَّا يملأ أسفارًا ضخمة.
وإنْ كان يقصد الدكتور الذين تكلَّموا في تاريخ العرب قبل الإسلام؛ فإنَّ مُؤرِّخي العرب أنفسهم ذكروا عن تحضُّرها ومدنيتها أمورًا تكاد تكون خيالية؛ حتى قالوا: إنَّ إرم ذات العماد كانت مبنيَّة بالذهب والفضة، ولمدينتها سُورٌ مرصعٌ بصفائح الذهب … إلخ إلخ.
وذكروا عن مملكة تدمر العربية أنَّ سُلطانها امتد في عهد ملكتها الزَّبَّاء إلى مصر والشام والعراق وما بين النهرين وآسيا الصغرى إلى أنقرة.
وذكروا أنَّ سعدًا أبا كرب ملك اليمن غزا آذربيجان وهزم الترك والروم والفرس، وجاز الصين وغنِم منها مغانم شتى، وضرب ابنُه يعفُرُ الجزية على القسطنطينية، ثم سار إلى روميَّة وحاصرها.
ولو أردنا أنْ نُسرد ما كتبه مؤرخو العرب في هذا الصدد لملأنا منه صُحُفًا، فالذين كتبوا في تاريخ الأمة العربية قديمًا وحديثًا عن الجاهلية والإسلام لم ينظروا إليها كأنَّها أمة فذةٌ لم تعرف أحدًا ولم يعرفها أحدٌ، بل نظروا إليها نظرَهم إلى كل أمة تحضَّرت بعد بداوة واختلطت بالأمم وأثَّرت فيهم وأثَّروا فيها.
يقول الدكتور طه حسين: «وانتشار العِلْم الغربي في مصر سيقضي بأنْ يصبح عقلنا غريبًا وأن ندرس تاريخَ العرب وآدابهم متأثرين بمنهج ديكارت.»
نقول: إنَّنا لا نظن أنَّه يُوجد عقلٌ شرقيُّ وعقل غربيٌّ، وإنَّما نعتقد أنَّه يوجد عِلْم وجهلٌ، وهذا العقل الغربي حينما كان الجهل مخيِّمًا على أوروبا لم يُغنِ عن أهلها شيئًا. فكانت الشعوب تُباع مع أراضيها، وكان كلُّ مجتمع منها منقسمًا إلى طبقات بعضُها يستغل البعض الآخر، ويسخِّره لشهواته، وكان كلُّ من يَتَجَارَى على البحث في شيء من العلم والفلسفة بل على طلب الفهم في الدِّين يُلقى في تنورٍ مسجورٍ. وكان العقل الشرقي إذ ذاك يكشف المساتير للباحثين، وينير الغياهب للسالكين، ويبني العلم والفلسفة والسياسة على أساسٍ متين، ويقيم أركان العدل والمساواة والحرية بين الناس أجمعين.
فالعقل لا شرقيٌّ ولا غربيٌّ، وإنَّما هو قوةٌ إنْ تولاها العلم أداها إلى عِلِّيّين، وإن قادها الجهل ساقها إلى أسفل سافلين.