السياسة وانتحال الشعر١
قال الدكتور طه حسين في الفصل الثاني من الكتاب الثاني ما مُلخصه:
«قلت: إنَّ العرب قد خضعوا لمثل ما خضعت له الأمم القديمة من المؤثرات التي دعت إلى انتحال الشعر والأخبار. والمؤثر الذي طبع الأمة العربية بطابع لا يُمحَى مُؤلَّفٌ من عنصرين قويين جِدًّا هما: الدِّين والسياسة. ولا سبيل إلى فهم التاريخ الإسلاميِّ إلا إذا وضحت مسألة الدين والسياسة توضيحًا كافيًا. فإنَّ العرب لم يستطيعوا أنْ يَخلُصوا — منذ ظهر الإسلام — من هذين المؤثِّرين في لحظة من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني.
وإذا كانت حياتهم متأثرةً تأثرًا متصلًّا بالدين والسياسة وجادَّةً في الاستفادة منهما جميعًا، فخليقٌ بالمؤرِّخ السياسيِّ أو الأدبي أو الاجتماعي أن يجعل مسألة الدين والسياسة عند العرب أساسًا لبحثه.
وأول ما يجب أنْ نُلاحظه هو الجهاد العنيف الذي اتصل بين النَّبيِّ وأصحابه من ناحية، وبين قريش وأوليائها من ناحية أخرى.
هذه الهجرة وضعت الخلاف بين النبيِّ وقريش وضعًا جديدًا؛ فجعلت الخلاف سياسيًّا يعتمد في حلِّه على السيف بعد أن كان يعتمد على الجِدال.
فلم يكد النبي يدع هذه الدنيا حتى اختلف المهاجرون والأنصارُ في الخلافة، أين تكون، ولمن تكون؟ وكاد الأمر يَفْسُدُ بين الفريقين لولا بقيةٌ من دين، وحزمُ نفرٍ من قريش، ولولا أنَّ القوة المادية كانت إذ ذاك إلى قريش؛ فأذعنت الأنصار، وانصرفت قوة الجميع إلى ما كان من انتفاض العرب على المسلمين أيام أبي بكر، وإلى ما كان من الفتوح أيام عمر. ولكنَّ المقيمين من أولئك وهؤلاء في مكة والمدينة لم يكونوا يستطيعون أن ينسوا تلك الخصومة العنيفة التي كانت بينهم أيام النبي ولا تلك الدماءَ التي سُفكت في الغزوات.
وقد طلب عمرو بن العاص من معاوية أن يمحوَ اسم الأنصار؛ فقال الأنصاري الوحيد الذي شايع بني أمية وهو النعمان بن بشير [من الكامل]:
… إلخ إلخ.
وقد ذكرتُ لك ما كان من هجاء الأخطل للأنصار، فقيل: إنَّ النُّعمان بن بشير غضب لهذا الهجاء، وأنشد بين يدي معاوية أبياتًا نرويها لك فسترى فيها مثل ما رأيتَ في أبيات حسان من أثر هذه العصبية التي تضيف إلى الشعراء ما لم يقولوا. فقال النُّعمان بن بشير لمعاوية [من الطويل]:
إلى أنْ قالَ:
وقد كان القدماء يُحسُّون كما نُحِسُّ أنَّ هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين أكثره منحولٌ، ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا؛ فكانوا يبدءون ثم يقصرون عن الغاية.
رأينا في هذا الكلام
قال الدكتور طه حسين: «المؤثِّر الذي طبع الأمة العربية بطابع لا يُمحى مؤلَّفٌ من عنصرين قويين جدًّا هما: الدِّين والسياسة، ولا سبيلَ إلى فهم التاريخ الإسلامي إلا إذا وضحت مسألة الدين والسياسة توضيحًا كافيًا، فإنَّ العرب لم يستطيعوا أنْ يخلصوا منذ ظهر الإسلام من هذين المؤثرين في لحظة من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني.»
ونحن نقول: لم يكن العرب بِدْعًا من الأمم في الاشتغال بالدين والسياسة؛ فليس في العالم أمَّةٌ قديمةٌ أو حديثةٌ لم يعمل هذان المؤثران في حياتهم عملًا مستمرًا. فالدِّين يستغرق جميع ميولها الأدبية، ومراميها المعنوية، ومثلها العليا، والسياسة تستوعب جميع جهودها للبقاء حُرَّةً مستقلةً، وكل مساعيها لإقامة حكومة منتظمة قوية، فأيُّ أمَّةٍ من الأمم القديم والحديثة عرضت على عقلك أمورَها فلا تجدها تخلو عن التأثُّر بهذين المؤثرين إلا ما يُعرف عن بعض الأمم الأوروبية منذ نحو قرن؛ فإنَّها بدأت تدفع تأثيرَ الدِّين عنها. والمراد بالدِّين هنا رجاله والقائمون عليه، لا الدين نفسه؛ فالنفوس والعقول لا تزال في شغلٍ شاغلٍ به نفيًا وإثباتًا، بحثًا وتمحيصًا. ناهيك أنَّ في أوروبا وأمريكا اليوم أكثرَ من ثلاثمائة مجلة تبحث في الروح وخصائصها وخلودها.
وقد تحفَّظنا فقلنا: «إلا ما يُعرف عن بعض الأمم الأوروبية.» ذلك لأنَّ كثيرًا منها لا يزال المؤثر الديني فيها على أشد ما يكون. فهذه «أرلندة» كادت تهلك منذ سنتين من جرَّاء النزاع الديني بين بروتستانت أولستر وكاثوليك بقية الجزيرة فيما يتعلق بتبعيتها أو عدم تبعيَّتها للدولة الإنجليزية. وهذا المؤثِّر الديني لا يزال حيًّا في البلاد البلقانية. وفي مَكْسِيكا بأمريكا مشكلةٌ دينيةٌ بين البروتستانت والكاثوليك كادت توقعها في حرب مع الولايات المتحدة.
أما المؤثر السياسيُّ فلا أريد أن أحدثك عنه بشيء، فأنت خبيرٌ بأنَّه قد استوعب جهود الجماعات والأفراد منذ عُرِفَ الاجتماع، ولا يزال يستوعبها ما دام الاجتماع والنظام العالميُّ قائمًا. وهو اليوم على أشدِّ ما يكون بنسبة انتشار الديموقراطية. فقد جاوز رجالَ السياسة الأعلين إلى سائر الأفراد، وتخطَّاهم إلى طلاب المدارس، وصِبية المكاتب، وأُغَيْلِمة الأزقة. واخترق كل هذه الطبقات إلى فلَّاحات الحقول، وخادمات الدور.
فإذا كان الإسلام قد أوقع العرب منذ ظهر تحت تأثير هذين المؤثرين: الدِّين والسياسة؛ فيكون معنى ذلك أنَّه نقلهم إلى الطريق التي تقوم عليه الأمم المتمدينة، وتتأدَّى بالجري عليها إلى كمالها المقدَّر لها كما هو مشاهَدٌ، بعد أن كان لا شغل لهم إلا التناهُب والتناحر، وقصر الجهود على السفاسف والصغائر. وثمرة هذا الانتقال ظهرت حتى بَهَرَت الأنظار؛ فقد كانوا قبل الإسلام خاضعين للأمم الاستعمارية، أو هائمين على وجوههم في القِفَار على حالةٍ بدوية. فلما نقلهم الإسلام إلى هذه الطريق، طريق الشُّغل بالدين والسياسة؛ اجتمعوا بعد فرقةٍ، وَأَثْرَوْا بعد فاقةٍ، وامتدَّ سلطانهم على أكثر المعمور، وأصبحوا دولةً آلت إليها خلافة الله في الأرض.
يقول الدكتور طه حسين: «إنَّ العرب لم يستطيعوا أنْ يخلُصوا منذ ظهور الإسلام من هذين المؤثرين في لحظةٍ من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني.»
ونحن نقول: بل لم يستطيعوا أن يخلُصوا منهما إلى اليوم، ولن يخلُصوا منهما ما دامت للروح حاجةٌ فيما وراء المحسوسات، وما دامت بهم حاجةٌ إلى حكومةٍ حكيمة تدبِّر أمورهم، وإلى مكانٍ يشغلونه بين الأمم.
ولست أرى أنَّ تأثر المسلمين بهذين المؤثرين في القرنين الأول والثاني كان أشد من تأثُّرهم بهما في القرون التي تلتهما؛ فإنَّ نشوء الفرق الإسلامية التي أربت على السبعين، وتنازُعها في فهم الدِّين، وتنافسها في اجتذاب المشايعين، وقع أكثره في القرن الثالث وما بعده. وظهور الفتن الخاصة بالخلافة والخلفاء، وتغلب الفرس والديلم والترك المسلمين على أكثر الممالك الإسلامية، وتجاذبهم أطرافها بالأيدي المسلحة والجيوش الجرَّارة، وقيام الدول وسقوطها بين عشية وضحاها، وما اقتضاه كل ذلك بين المسلمين من الاشتغال بالدِّين والسياسة، حصل كله في القرن الثالث وما يليه.
فأمَّا أنَّ المسلمين كانوا يعتزون بدينهم وهم في الوقت نفسه أهل عصبية وأصحاب مطامع، وكانت حياتهم متصلة بالدِّين والسياسة، وأنَّ المؤرخ السياسي أو الأدبي أو الاجتماعي يجب أن يجعل الدين والسياسة أساسًا لبحثه في أحوال العرب؛ فهذه الخصال كانت لجميع شعوب العالم، فاليهود قد ظهروا باليهودية واعتزوا بها، واتصلت حياتهم بحياتها اتصالًا وثيقًا، وما خرجوا من مصر وتاهوا في شبه جزيرة طور سيناء، وفتحوا فلسطين، وتنقلوا في أدوار الاجتماع تحت حكم القضاء ثم الملوك إلا تحت تأثير الدِّين والسِّياسة. وما أصابهم ما أصابهم من التشتُّت والتفرُّق في الأرض، وما لقوه من الاضطهاد الشنيع والمذابح المنكَرة إلا بسبب دينهم وسياستهم؛ فالإسرائيليون يُعتبرون من هذه الوجهة مثلًا يُضرب في هذا الموطن.
والمسيحيون قد ظهروا بالمسيحية واعتزوا بها، واتصلت حياتهم بها اتصالًا محكمًا، وظلَّت أوروبا تحت السلطان المطلق لقادتها نحو ألف سنةٍ، ثم ظهرت البُرُتَسْتَانْتِيَّة ونَجَمَت بسببها الحروب الدينية قرونًا أخرى حتى القرن التاسع عشر.
•••
يقول الدكتور طه حسين: «بدأ الجهاد بين النبي وقريش جدليًّا، ثم لمَّا هاجر إلى المدينة ووجد له فيها أنصارًا، اعتمد الجهادُ على السيف، وتجاوز الخلاف كون الإسلام حقًّا أو باطلًا إلى النزاع على حُكم الأمة العربية أو القبائل الحجازية ومصير الطرق التجارية.»
أما أبو سفيان هذا فقد كان خرج يتجسس أخبار الجيش القادم، فقبض عليه بعض الحرس، وأوفده للنبي ﷺ فأسلم قبل وصول رسول الله إلى مكة.
فلمَّا تَمَّ الفتح أخذ الناس يدخلون في الإسلام أفواجًا، وأمر النبي بهدم الأصنام التي كانت بالبيت [الحرام]، وكاد هذا الفتح يكون مفضيًا إلى خضوع جميع المشركين لولا أنَّ بني هوازن دفعتها الحماسة الجاهلية لمقاومة هذا التيار الإسلامي الجارف؛ فحشدت من رجالها نحو عشرين ألف مقاتل، وسارت بهم لمهاجمة المسلمين، فلقيها النبي ﷺ بجيشه الذي فتح به مكة فهزمهم بعد قتالٍ عنيفٍ، واستولى على جميع ما كان لهم؛ وبذلك انتهت كل مقاومة من المشركين، وأصبحت بلاد العرب كلها إسلامية طوعًا وكرهًا.
لقد كانت بلاد العرب كلها في عهد الجاهلية أشبه بدار حرب؛ فتجارة قريش على تفاهة قدرها وتجارات غيرها من القبائل، كانت في حاجة إلى الحماية سواء كان طريقها ساحل البحر الأحمر أو العراق.
أليس يدل هذا الفتور من قريش — في حرب رسول الله ﷺ وعجزها عن جمع أكثر من عشرة آلاف من العرب المحالفين لها — على أنَّها لم تكن كما يقول الدكتور طه حسين منيعة الحوزة، عزيزة الجانب، تحدث نفسها بجمع كلمة العرب لتكوين دولة وثنية مستقلة تطرد الأجانب من بلادها؟
•••
يقول الدكتور طه حسين: «وهذا أدَّى إلى نشوء عداوة بين قريش وأهل المدينة واصطبغت هذه العداوة بالدّم يوم انتصر الأنصار على قريش في بدر. ومضت قريشٌ في جهادها ولكنَّها كُسرت في آخر الأمر؛ فنظر زعيمها وحازمها أبو سفيان في الأمر، فرأى أن يُصانع ويُصالح ويَدخل فيما دخل فيه النَّاس، لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من مكة إلى المدينة ومن قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش وإلى مكة مرةً أخرى.»
فإذا صح لقريش أنْ تحقِدَ فلتحقد على أبنائها محمدٍ وأصحابه الذين كفروا بآلهتها، وانفصلوا عن جامعتها، وأخذوا بديانةٍ غير ديانتها، وانتهجوا في الحياة طريقةً غير طريقتها، وأغروا أصدقاءها على عداوتها.
هذا ما يقتضيه علم الاجتماع الذي يربط العلل بمعلولاتها، والأسباب بمسبباتها، وإلا فقد كان الأوس والخزرج في غفلةٍ عن الإسلام، وفي غنًى عن عداوة قريش، ولولا محمدٌ وأصحابه لبقُوا على ما كانوا عليه ما شاء الله أن يبقوا؛ فالروح المدبِّر لهذا الأمر هي قريش المسلمة لا أهل المدينة ولا غيرهم ممن يلتحق بالمسلمين ويفنى فيهم.
ولكن الدكتور طه حسين رتَّب هذه المقدِّمات وتَسَامح في دَرْس علل هذه الحوادث على الأسلوب العلمي، وخالف العُرْفَ وطبيعة الأشياء لخدمة غرضٍ أدبي محضٍ هو تعليل الاختلاق في الشعر الجاهلي. فكان مَثَلُه كمن يُشعل مدينة برمتها ليأخذ منها قبسًا! وليس هذا من العمل الصالح في شيء.
أما وقد استسلم أبو سفيان ودخل فيما دخل فيه النَّاس، وقام بهدم بعض الأصنام بأمر النبي ﷺ، وحارب معه ومع خلفائه أعداء الإسلام، وعرَّض نفسه للهلكة في هذا السبيل حتى فقد عينيه؛ فلا يصح أنْ يُقال عنه إنَّه كان حازم قريش ورجلها الفذ، وإنَّه كان ينتظر أن يعود لقريشٍ الوثنية مجدها القديم. أي مجدٍ يصح أن يتمنى عوده وهو نفسه يعمل على تقويضه وإزالة معالمه معطيًا بذلك أسوأ الأمثال لكل من كان دونه؟!
يقول الدكتور طه حسين: «كان أبو سفيان هذا يرجو أن يعود السلطان السياسيُّ إلى قريش بعد أن انتقل منهم إلى الأنصار.»
ونحن نقول: إنَّ السلطان السياسي في عهد الإسلام لم يكن لقريش ولا للأنصار بل كان للمسلمين كافة بمن فيهم من الأجانب عن العرب؛ لأنَّ الإسلام مَحَقَ الجنسيات وعَفَّى على آثارها. فلو فرضنا أن أبا سفيان بعد إسلامه كان لا يزال يستبطن الوثنية، ويكره الإسلام، ويرى وجود شيءٍ اسمه قريش، أفما كان يرى أنَّ قريشًا قد أسلمت على بكرة أبيها وتولَّت نشر الدين الجديد بتحطيم الأصنام وإجبار العرب بالسيف على الإسلام؟ فأي قريشٍ كان يُريد أن ينتقل إليها ذلك السلطان السياسيُّ؟! أولئك العامَّة المستضعفين الذين بقوا في مكة بعد الفتح، أم أولئك الرجال الكبار والقادة المحنكين أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ وأبي عُبيدة وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقَّاص وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وابني أبي سفيان يزيد ومعاوية … إلخ إلخ من القرشيين الذي كانوا بالمدينة يديرون ذلك السلطان الإسلامي ويعملون بأنفسهم وأموالهم على تقوية شوكته وإعلاء كلمته؟
إنْ كان أبو سفيان يعني بقريش أولئك الذين كانوا في مكة فقد كان أولئك مستضعفين، جُلُّهُمْ رعاةٌ وأجراء لا في العير ولا في النفير، وأما إن كان يعني بهم رجالها الأعلَيْن، وصناديدها المعدودين، وقُوَّادها المحنكين، فأولئك انتقلوا كلهم قبل الفتح وبعده إلى المدينة وتولوا تدبيرَ أمر الإسلام والمسلمين تحت إشراف النبي ﷺ، فكان منهم قادة الجيوش، وأمراء السرايا، ورؤساء البعوث، والسفراء إلى القبائل، والدعاة للدين، والولاة على الأقاليم. قلنا: أما إنْ كان أبو سفيان يعنى بقريش هؤلاء وهم زهرة قريش بل الذين لولاهم لما كانت قريشٌ قريشًا؛ فإنَّ عَوْدَهم للكفر أمرٌ لا يطوف بخيال إنسان يُعتدُّ بعقله.
•••
يقول الدكتور طه حسين: «لم يكد النبي يدع هذه الدنيا حتى اختلف المهاجرون والأنصار في الخلافة، وكاد الأمر يفسد بين الفريقين لولا بقيةٌ من دين، وحزم نفر من قريش، ولولا أنَّ القوة المادية كانت إذ ذاك إلى قريش، فأذعنت الأنصار، وانصرفت قوى الجميع إلى ما كان من انتقاض العرب على المسلمين أيام أبي بكر وإلى ما كان من الفتوح أيام عمر، ولكن المقيمين من أولئك وهؤلاء في مكة والمدينة لم يكونوا يستطيعون أن ينسوا تلك الخصومة العنيفة التي كانت بينهم أيام النبي، ولا تلك الدماء التي سُفِكَتْ في الغزوات، وقد حال حزم عمر بين قريش والأنصار وبين الفتنة؛ فقد نهى عن رواية الشعر الذي كان يتهاجى به المسلمون والمشركون أيَّام النبي، وقد كانت قريشٌ والأنصار يتذاكرون ما كان قد هجا به بعضهم بعضًا أيام النبي، وكانوا حراصًا على روايته يجدون في ذلك من اللذة والشماتة ما لا يشعر به إلا صاحب العصبية القوية.»
ونحن نقول: لمَّا تُوفي النبي ﷺ اجتمع نفرٌ من الأنصار وتذاكروا في مصير أمر المسلمين وشرعوا في إقامة أميرٍ منهم، فسمع بذلك أبو بكر وعمر فأسرعا إليهم في نفرٍ من قريش وتداولوا الكلام في أمر خلافة النبي ﷺ، وأدلى كل فريق بحجته، فاقتنع الأنصار بصحة رأي المهاجرين، وبايعوا أبا بكر بالخلافة مجمعين إلا سعد بن عبادة سيد الخزرج فلم يبايع حتى مات؛ فتخلى عنه قومه ولم يرفع واحدٌ منهم بخلافه رأسًا.
يقول الدكتور طه حسين: «وكاد الأمر يفسد بين الفريقين لولا بقيةٌ من دين، وحزم نفرٍ من قريش، ولولا أنَّ القوة المادية كانت إذ ذاك لقريشٍ.»
فأما قوله: «كاد الأمر يفسد بين الفريقين لولا دينٌ وحزم» فصحيح، وكفى بقوم فضلًا ونبلًا أن يخضع فريق لرأي فريق بوازع من الدين والحزم. هذا كل ما ينتظر من فريقٍ كريمٍ وليس بعدُ مذهبٌ لمستزيدٍ.
•••
يقول الدكتور طه حسين: «ولكن المقيمين من المهاجرين والأنصار في مكة والمدينة لم يكونوا يستطيعون أن ينسَوْا تلك الخصومة العنيفة التي كانت بينهم أيام النبي، ولا تلك الدماء التي سُفِكَتْ في الغزوات، وقد حال حزم عمر بين قريش والأنصار وبين الفتنة …» إلخ إلخ.
وقد حدثت فتنٌ بين الحنابلة والشافعية، وبين هؤلاء والأحناف في أمصارٍ كثيرة — حتى في الجامع الأزهر — أدت إلى التقاتُل والتناحُر، فهل يصح أن يُقال — استنادًا على فعل بعض المتعصبة الأغرار: إنَّ بين أصحاب المذاهب الفقهية الإسلامية حَزازاتٍ، أو أنَّ هذه المذاهب قد أوجدت بين المسلمين الشقاق؟
•••
يقول الدكتور طه حسين: «وقد حال عزم عمر بين قريش والأنصار وبين الفتنة؛ فقد نهى عن رواية الشعر الذي كان يتهاجى به المسلمون والمشركون أيام النبي.»
احتُضر أبو بكر، فاستأذن المسلمين في أن يعهد بالخلافة إلى عمر، فقبلوا منه ذلك كارهين؛ لشدةٍ كانوا يعرفونها في أبي حفصٍ، فكان هذا الظرف فرصة سانحةً لأن يثور الأنصار مطالبين بحقوقهم، ولكنهم لم يفعلوا فلبثوا موالين.
ثم تولَّى عثمان فساءت الأحوال في زمنه، واضطربت الأمور من تغلُّب المتعصبة من قرابته عليه، وجاءت جنود الأقاليم تُحاصره في داره مطالبة إياه بعزل مستشاره وتسليمه إليهم أو التنازل عن الخلافة، فلمَّا لم يفعل هذا ولا ذاك اقتحموا عليه قصره وقتلوه. وكان هذا الظرف من الاضطراب مناسبًا لثورة الأنصار المظلومين … ولكنَّهم لم يفعلوا ولبثوا مستسلمين.
ثم تولى عليٌّ وخرج عليه معاوية بالشام، وطلحة والزبير وعائشة بالعراق، والخوارج بمختلف الجهات، وكانت هذه الاضطرابات من أحسن الفرص للثورة على الغاصبين، ولكنَّهم لم يفعلوا فمكثوا هادئين.
ثم قُتِلَ علي واشتدت شوكة معاوية، واغتصب الخلافة، ونقل عاصمة الملك إلى دمشق، وكانت هذه الفرصة أولى من جميع الفرص السابقة بانتصاف المظلومين، ولكنَّ الأنصار بقوا ساكنين.
نعم ثار الأنصار والمهاجرون على يزيد بن معاوية، ولكن كانت يدهم في يد المهاجرين، وما ثارت الطائفتان إلا تذمرًا من أن يَلِيَ الخلافة رجلٌ ليس من أهلها الصالحين.
ولكن مع هذا الفارق وهو أنَّ قوم قُرَيط بن أنيفٍ كانوا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً، ولكنَّ الأنصار على ما يقول الدكتور طه حسين: كانوا يظهرون الإخلاص ويبطنون في صدورهم نارًا تلظى من الحقد على قريش …
كلَّا … لو كان الأنصار يرون أنَّهم قد هُضمت حقوقهم، وغُلبوا على أمرهم لَمَلَأ الحقد على قريش قلوبهم، ولوجدت لهم في كل مشكلة خلافًا، وفي كل فتنةٍ إصبعًا، وفي كل دورٍ من الانتقال استعصاءً. وإذ لم يحدث منهم شيءٌ مما ذكرناه — وهي العلامات الدالة على حالات النفوس — فلا يصح أن يُحمَّلوا هم وقريش تبعة ما كان يأتيه بعض الزَّعَانِفِ من كلتا الطائفتين!
•••
يقول الدكتور طه حسين: «إنَّ عُمر رأى حسَّانًا في المسجد ينشد طائفةً من المسلمين فأخذ بأذنه وقال: أرغاء كرغاء البعير؟! …» إلخ إلخ.
يستشهد الدكتور طه حسين بهذه الحكاية ليثبت أنَّ الأنصار كانوا يرتاحون لسماع هجو قريش؛ انتقامًا منهم.
ونحن نقول: إنَّ هذه الحكاية تُثبت أنَّ الوحدة الاجتماعية كانت على أتمِّ ما يكون في ذلك العهد حتَّى إنَّ عمر القرشي — وهو أمير المؤمنين — انتصر لحسان الأنصاري وأحضر له القرشيين لينشدهما حسان ما يكرهانه. وتثبت — فوق ذلك — أمرًا جديدًا بالتنبُّه إليه؛ وهو أنَّ الأنصار وقريشًا المسلمة كانوا سواءً في ذم قريش الوثنية الملحدة التي بادت منذ فتح مكة. ويدل على ذلك دلالة لا تحتمل النقض إحضاره القرشيين لسماع حسان في ذم قريشٍ الوثنية، وترخيصه للنَّاس بكتابة هذا الشعر بعد أن أمر بعدم كتابته لعدم إثارة الضغائن. فإلغاؤه أمرَه الأول والترخيص بكتابته يدل على أنَّه رأى أنه لا يُثير الضغائن، وإلا فلو كان يعلم أنه يُثيرها لما أقدم على الترخيص بكتابته، وهو المعروف بالورع والمحافظة على وحدة الأمة.
•••
ثم إنَّنا لا نستطيع أن نتصور أنَّ طائفتين بينهما من التعادي والتنافُر ما يحمل إحداهما في اختلاق القصائد — ذمًّا في الأخرى وتحقيرًا لشأنها — يكون حالُهما من التضامن والتكافل على ما رأيناه منهما في كل دورٍ من الأدوار الحرجة التي دخلت فيها جماعة المسلمين في القرن الأول.
فإنْ كان ما يقوله الدكتور طه حسين حقًّا — من أنَّ الأنصار قد هُضم حقهم، وأنَّهم أحسوا بهذا الهضم وسكتوا على مضض، وأنَّ القرشيين كانوا يَنظِمون القصائد طعنًا فيهم، وإزراءً بهم، وأنَّهم تحملوا كل ذلك ولم يُبدوا حركةً تدل على استيائهم — وجب أن تكون قريش من الظلم والإجحاف، ونُكران الجميل، وفساد الطَّوِيَّة، وخساسة النفس، في الدرك الأسفل، وأن تكون الأنصار — في تحمُّلها كل ذلك وجزائها عليه بدوام الوفاء والولاء — آية في المروءة والرجولة وشرف النفس.
فهب أنَّ هذا كان في الواقع، فذلك لا ينفي أنَّه نفحةٌ من نفحات الإسلام، وأثرٌ من آثار محمد عليه الصلاة والسلام، ويكون معجزةً خالدة له إلى يوم القيام؛ لأنَّ فلاسفة الأرض مجتمِعِين يعجِزون عن التوفيق بين رجلين من هذا الطراز، وعلى هذا التنافي في الأخلاق، فما ظنك بطائفتين كانت إحداهما على هذه الصفات الخاطئة من هضم الحقوق، والاعتداد بالنفس، والتجرُّم على الوليِّ، وقد بنى بهم تلك الوحدة الاجتماعية التي مكَّنت ذويها من ناصية العالم، ودفعتهم لاصطناع مدنية لا تزال بدائعها مضرب الأمثال إلى اليوم؟!
•••
يقول الدكتور طه حسين: «ولمَّا تولَّى عثمان تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوةً أخرى، فلم تُصبح الخلافة في قريش فحسبُ، بل أصبحت في بني أمية خاصةً، واشتدت عصبية قريش، واشتدت عصبية الأمويين، واشتدت العصبيات الأخرى بين العرب، وهدأت حركة الفتح، وأخذ العرب يفرغ بعضهم لبعض، وكان من نتائج ذلك ما تعلَم من قتل عثمان وافتراق المسلمين، وانتهاء الأمر كله إلى بني أمية.»
ونحن نقول: هذا كلامٌ قد رُتِّبَ ترتيبًا شعريًّا خاليًا من روح التحقيق العلمي، وبعيدًا عن فلسفة التاريخ وأصول الاجتماع بُعدًا لا يقف عند حد.
وحقيقة الأمر أنَّ عمر — لما جُرح وأحسَّ بقرب وفاته — عين ستةً من الذين لا تَعْدوهم الخلافة: وهم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عُبَيْدِ الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، وأبى أن يعهد بالخلافة إلى ابنه عبد الله حين اقتُرِحَ ذلك عليه قائلًا: والله لا يليها من ولد الخطاب اثنان. وخاطب هؤلاء الستة بقوله: يا معشر المهاجرين الأوَّلين إنِّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقًا ولا نفاقًا، فإن يكن بعدي شقاقٌ ونفاقٌ، فهو فيكم. تشاوروا ثلاثة أيام، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك — وكان غائبًا — وإلا فأعزم عليكم بأن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتى تستخلفوا أحدَكم، فإن أشرتم بها إلى طلحة فهو لها أهلٌ. وليُصَلِّ بكم صهيبٌ هذه الثلاثة الأيام التي تتشاورون فيها؛ فإنّه رجلٌ من الموالي لا ينازعكم أمرَكم، وأحضِروا معكم من شيوخ الأنصار وليس لهم من أمركم شيءٌ، وأحضروا معكم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس؛ فإنَّ لهما قرابةً، وأرجو لكم البركة في حضروهما، وليس لهما من أمركم شيءٌ، ويحضر ابني عبد الله مستشارًا، وليس له من الأمر شيءٌ.
فصدعوا بإشارته، ولكنَّهم اختلفوا، ثم أجمعوا على تحكيم أحدهم وهو عبد الرحمن بن عوف. فخرج يسأل الخاصة والعامة عن رأيهم فيمن يصلح للخلافة، فوجد الناس مُجْمِعِين على تولية عثمان؛ فرجع إلى إخوانه وأخبرهم بأنَّه اختار عثمان، فبايعوه وبايعه الناس.
فما عتمت الفتنة أن اندلع لهيبها، وقصد المدينة جيشٌ من جنود الولايات، وحاصروا عثمان في داره، وطلبوا إليه عزل مروان بن الحكم وتسليمه إليهم، فأبى. فطلبوا إليه الاستقالة، فلم يُجبهم إلى طلبهم؛ فهددوه بالقتل، فلم يقم لتهديدهم وزنًا؛ فاقتحموا عليه الدار وقتلوه. ثم اجتمعوا فولوا عليَّ بن أبي طالب الخلافة، فأسرع بمعالجة ما فسد من أمر الولايات؛ فعزل أولئك الولاة الأمويين، وولَّاها رجالًا ممن يثق فيهم مثل محمد بن أبي بكر وأبي موسى الأشعري. وكان ممن أمر بعزله من الولاة معاوية بن أبي سفيان، وكان قد مضى عليه في ولاية الشام عشرون سنةً اتَّخذ له فيها جنودًا وقُوَّادًا، فلمَّا فاجأه خبر العزل احتال لإعلان عصيانه بفرية أثَّر بها على الذين حوله؛ وهي أنَّ عثمان ما قُتِلَ إلا بإغراء علي بن أبي طالب.
واتفق أنَّ عائشة زوجة النبي ﷺ كانت تكره عليًّا، فاتفقت مع طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام على أن يؤلِّبا النَّاس على أمير المؤمنين ليسلمهم رجال الثورة الذين قتلوا عثمان. ولا يخفى أنَّ هذا متعذِّر، فاعتذر إليهم، فلم يقبلوا، وجمعوا له سبعين ألف مقاتل في العراق، فقاتلهم في وقعة اسمها يوم الجمل، وقُتل طلحة، وقُبِضَ على عائشة، وَرَجَعَها [عليٌّ] إلى المدينة، ثم قصد معاوية فقاتله، فلما كاد يأسره احتال عمرو بن العاص كبير قُوَّاده فأمر بعض جنوده برفع المصاحف على رءوس الرِّماح إشارة إلى طلب التحكيم إلى كتاب الله. فأبَى عليهم ذلك باعتبار أنَّها حيلةٌ، فاختلف عليه أصحابه وأجبروه على قبول التحكيم. فلمَّا قبله انشقت عنه طائفةٌ لم يُرضِهَا ما فعل وتجمعوا عند نهر النهروان، فزحف عليهم، فقاتلوه قتالًا مُرًّا حتى بادوا، ثم رجع إلى المدينة منتظرًا التحكيم. فاجتمع الحكمان أبو موسى الأشعري عن عليٍّ، وعمرو بن العاص عن معاوية، فاتفقا على أن يعتزل كلا الرجلين أمر المسلمين، وأن يُؤخذ رأي الناس فيمن يصلح للخلافة؛ فلم يقبل علي وأصحابه هذا الحكم واعتزم الزحف على معاوية للفراغ من أمره.
في ذلك الوقت اتفق ثلاثة رجالٍ على قتل عليّ ومعاوية وعمرو بن العاص، بحجة أنَّهم سبب هذه الحروب الأهلية التي كادت تقضي على المسلمين، وجعلَا لتنفيذ جناياتهم يومًا معيَّنًا. فأما قاتِلُ عليٍّ فتمكَّن منه وهو خارجٌ لصلاة الصبح، وكان لا يتَّخذ حرسًا. وأما غريم معاوية فأصابه بالسيف في عُجَيْزَتِهِ فلم يصبه كبير أذى، وأمّا طالب عمرو بن العاص فقتل نائبه على الصلاة؛ لأنَّه اتفق أن حدث له ما يمنعه في ذلك اليوم عن الجماعة فأناب عنه أحد رجاله.
لمَّا قُتل عليٌّ انتخب النَّاس للخلافة الحسن ابنه، فلمّا رأى المسلمين أصبحوا فوضى، وأنَّ الحرب الأهلية تكاد تقضي على وحدتهم، قبل أن يتنازل عن الخلافة لمعاوية بشرط أن يكون هو ولي عهده، فرضي معاوية هذا الحل، واستتبَّ له الأمر، واتخذ دمشق عاصمةً للمملكة مكان المدينة، ولبث خليفةً عشرين سنةً مات في أثنائها الحسن بن علي، فعهد بالخلافة إلى ابنه يزيد، وكان متهتكًا فاسقًا مدمنًا للخمر، فيه صفات أهل الجاهلية.
فلمَّا مات معاوية وتولى ابنه يزيد أعلنت المدينة عصيانها، وخرج عليه عبد الله بن الزبير بمكة ونُودِي به خليفةً بها، وتبعته المدينة ومصر والعراق، وخرج عليه الحسين بن عليّ بالكوفة، فقاتله عامل يزيد وقتله، وأرسل إليه برأسه.
ثم أرسل إلى المدينة بأحد قواده فأوقع بأهلها شر إيقاع، وقتل من أصحاب النبي بين قرشي وأنصاري سبعمائة، ومن غيرهم ممَّن كان معهم نحو عشرة آلاف؛ ثم قصد مكة ليلحقها بالمدينة فلم ينجح، واتفق موت يزيد في تلك الأثناء؛ فرجع قائده خائبًا.
ولمَّا مات عبد الملك خلفه أولاده حتى انتهى الأمر إلى مروان بن محمد، فخرج عليه أبو مسلم الخراساني بخراسان داعيًا الناس إلى مبايعة أبي العباس السفاح من ذرية عبد الله بن عباس، فقاتله بنو أمية، فهزمهم في كل مكان، حتى تم له النصر؛ فبويع أبو العباس السفاح بالخلافة، وبه بدأت أسرة العباسيين.
•••
بعد هذا البيان نرجع لمناقشة الدكتور طه حسين؛ فقد قال: «ولما تولَّى عثمان تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوة أخرى.»
والفكرة السياسية التي يذكرها الدكتور طه حسين وينسبها لأبي سفيان هي أن يعود السلطان لقريشٍ الوثنية بعد أن صار للأنصار وقريشٍ المسلمة، ولمكة بعد أن انتقل إلى المدينة. ونحن في هذا المقام نعجب ونتساءل: كيف وصل إلى الدكتور طه حسين أنَّ أبا سفيان كان يُبطن هذه الأمنية، ويتربص لها الفرص، ولم يعلم ذلك النبي ﷺ حين استصحبه في حربه بالطائف، وحين أرسله لهدم بعض الأصنام، وحين ولَّاه على الصدقات بنجران، ولا عمر حين أرسله إلى حرب اليرموك وقد أبلى في كل ذلك بلاءً حسنًا حتى قُلِعَتْ عيناه في المعارك وأصبح كفيفًا يقوده غلام له إلى حيث أراد؟! وقد ولى عمر ابنه يزيد على الشام، فلما مات أبلغه خبر وفاته وعزَّاه، فسأله أبو سفيان عمن ولاه الشام بعده، فقال له عمر: ولينا أخاه معاوية — يعني ابنه الثاني — فشكر له أبو سفيان عنايته به وببنيه (ننبه القارئ أنَّ أبا سفيان كان له ابنٌ اسمه يزيد، وهو غير حفيده يزيد بن معاوية).
يقول الدكتور طه حسين: «لما تولَّى عثمان تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوةً أخرى.»
ومعنى هذا أنَّه كان هنالك تيارٌ سياسيٌّ يتوقع اشتداده بتولِّي بني أمية الخلافة. فإذا كان ذلك صحيحًا فكيف لا يفطن له بنو هاشم خاصةً، ولا تفطن له كذلك قريشٌ عامةً، فيولوا رجلًا من تلك الأسرة الخلافة، ويمكِّنوه من قلب دولتهم رأسًا على عقبٍ؟ ألم يتنازل له الحسن بن علي عن الخلافة بعد مشاورة جمهور المهاجرين والأنصار؟ ألم يصبروا على خلافته عشرين سنة لم يحرِّك فيها أحدٌ منهم ساكنًا؟ هل الأمة التي ثارت على عثمان بن عفان الملقب بذي النورين لزواجه من ابنتين لرسول الله ﷺ الواحدة بعد موت الأخرى، وصاحب اليد البيضاء في الإنفاق على الجيش الملقَّب بجيش العسرة، والذي أجمع المسلمون بعد موت عمر على أنَّه أولى الناس بالخلافة؛ قلنا هل الأمة التي ثارت عليه وقتلته تخضع لمعاوية بن أبي سفيان وليس له ماضٍ مجيدٌ في الإسلام، ولا سابقةٌ حسنةٌ تذكر له مع السابقات التي لغيره من الذين كانوا لا يزالون أحياءً، فتتركه يدبِّر عود الجاهلية إليها ولا تفطن لما يعمله وما ينتويه من هذه الأمور الجسام. إنَّنا لأجل أن نصدق مثل هذا الخيال، يجب علينا قبل ذلك أن ندع عقولنا جانبًا ونجري وراء كل خاطرٍ يزينه لنّا الوهم باسم تصيد أسباب أيِّ أمرٍ كان.
•••
يقول الدكتور طه حسين: «فلم تصبح الخلافة — بتولِّي عثمان — في قريش فحسب، بل أصبحت في بني أمية خاصةً، واشتدت عصبية قريش، واشتدت عصبية الأمويين، واشتدت العصبيات الأخرى بين العرب، وكان من نتائج ذلك قتل عثمان وانتهاء الأمر كله إلى بني أمية.»
ونحن نقول: إنَّ مصير الخلافة إلى بني أمية لم يكن يُعتبر شيئًا يُذكر في عهد الصحابة عامةً وبني هاشم خاصةٌ. ولو كان يُعتبر أمرًا يُعتدُّ به لاحتاطوا له، ولمنعوا وقوعه والسلطة في أيديهم.
أما قول الدكتور: «واشتدت عصبية قريش» فليس بصحيح؛ لأنَّه لم يحدث أنَّ قريشًا في عهد عثمان سلبت من عَداها حقًّا كان لهم، أو خصت نفسها بمَزِيَّةٍ دونهم. فعلى أي دليل نستند للحكم عليها باشتداد العصبية؟ هل ثار عليها ثائرون متَّهميها بهذه النقيصة؟ هل استقلت بعض الولايات استثقالًا لنير هذه القبيلة؟!
أما قوله «واشتدت عصبية الأمويين» فهذا صحيحٌ، وقد ظهرت هذه العصبية بمظهرها الطبيعي من توزيع الولايات على الأقارب والأشياع، ولكن لا تنسَ أنَّ هذه العصبية قد لقيت جزاءها؛ إذ ثار الناس على الخليفة فقتلوه وأسندوا الخلافة لسواه، وهذا دليلٌ على أنَّ بِنْيَةَ المجتمع الإسلاميِّ في ذلك العهد كانت لا تحتمل العصبية، فلمَّا حَدَثَتْ لفظَتْها لفْظَ النواة بارتكاب أقسى ما ترتكبه أمةٌ لإصلاح ما فسد، وهو الثورة.
ثم لما تولَّى علي بن أبي طالب لم تتأثر تلك الوحدة، بل زادت وضوحًا وتماسكًا رغمًا عن عصيان معاوية، وخروج عائشة وطلحة والزبير والخوارج على الخليفة الجديد.
نعم زادت تلك الوحدة وضوحًا وتماسكًا دلت عليهما تلك الفتن الأهلية نفسها؛ فإنَّ الجنود والقُوَّاد الذين اشتركوا في هذه الفتن لم يكونوا جماعات متجانسةً جمعتهم العصبية القَبيلية، ولكنَّ فئاتٍ جمعتها المذاهب السياسية؛ فالجنود والقواد الذين انتصروا لمعاوية لم يكن فيهم بنو أمية إلا كقطرة في بحر؛ لأنَّ بني أمية أجمعين أبناء أسرة واحدة قد لا يبلغون المائتين عدًّا، ولكنَّ الجيوش الجرارة التي تحزبت لمعاوية كانوا من قبائل شتى جمعها المذهب السياسي لا العصبية القبيلية.
وكذلك تحزَّب لعلي بن أبي طالب الأنصار جميعهم وهم بنو الأوس والخزرج من القبائل اليمنية، وعشرات الألوف من الجنود من قبائل شتى كان القرشيون فيهم لا يبلغون جزءًا من مائة.
وكذلك الجيش الذي لَبَّى دعوة عائشة وطلحة والزبير؛ كان أكثرُه من العراق؛ قاموا يطالبون بقتلى عثمان الأموي (تأمَّل) وليس فيهم واحدٌ من الأمويين، بل ولم تك عائشة ولا طلحة ولا الزبير يمتون لعثمان بأقل قرابةٍ!
فهل تريد دليلًا أقوى من هذا على أنَّ روح العصبية القبيلية كانت سُحِقَتْ بتأثير الإسلام وحلت محلها وحدةٌ جامعةٌ لا تتأثر إلا من وجهة الآراء والمذاهب السياسية كما تتأثر بها كل أمة في الأرض إلى اليوم.
فإنْ كان الدكتور طه حسين يستنتج اشتداد العصبيات من صدور قصائد من شعراء في الافتخار بقبائلهم، أو من إغراء زعيمٍ فاجرٍ لبعض الشعراء على ذم بعض العناصر المكوِّنة للمجموع الإسلامي، فإنَّ هذا لا يصح أنْ يُعبَّر عنه في علم الاجتماع باشتداد العصبيات؛ لأنَّها أمورٌ شخصيةٌ لا يتعدى تأثيرها الأفراد، ومثلها يوجد في كل أمة وفي كل جيل من الناس، وإنَّما يُعنى علم الاجتماع بما يُؤثِّر على المجموع فيعمل على تفكيكه أو يُحدِث أعراضًا خاصَّةً مستقلةً من أعراض العلل العامة، فالتألُّب على قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، يُنظر فيه، فإنْ كان الباعث عليه أنَّه أمويٌ كان ذلك من آثار العصبية، وإن كان الحامل عليه أمورًا عامة تُهِمُّ المجموع، فلا يكون من آثار العصبية، بل من آثار الغَيرة على الحقوق والكرامة العامة. فلننظر فيه نظرةً اجتماعيةً، لتحديد عوامله الحقيقية: يقول الدكتور طه حسين: «كان من نتائج اشتداد العصبيات قتل عثمان وانتهاء الأمر كله إلى بني أمية.»
ونحن نقول: إنَّ الناظر لهذا الإجمال يُخيَّل إليه أنَّ أمر المسلمين في عهد عثمان أصبح كله تابعًا لعوامل العصبيات الجاهلية التي تكون بين الأمم المنحلة أو التي على وشك أن تزايلها روح الوحدة الاجتماعية، وأنَّ قتل عثمان كان بسبب أنَّه من بني أمية لا لسببٍ آخر من الأسباب التي تدفع الأمم الحية إلى الثورة. فلإزالة ما عسى أن يعلق بالأذهان من هذا الخطأ التاريخي الخطير، وما يندسُّ في الصدور من تحقير ذلك المجتمع الناشئ، رأينا أن نكشف العوامل الحقيقية لهذه الثورة ونبين نتائجها على الأسلوب العلمي إنصافًا لتلك الدولة التي أُعِدَّت لإحداث أكبر الانقلابات الاجتماعية والعلمية والمدنية في الأرض فنقول:
تولى عثمان الخلافة بانتخاب المؤتمر الذي دعا إليه عمر وهو يجود بنفسه، ولم ينظر في تعيينه أنَّه من بني أمية أو من بني هاشم أو من غيرهما، بل نظرَ إلى كفايته. يدل على ذلك أنَّ الذين انتخبوه لم يكونوا أمويين، وقد بايعه الناس كافةً مرتاحين إلى ولايته، مستبشرين بإمامته، باعتبار أنَّه من أصحاب السابقات الحسنة، والماضي الحافل بجلائل الأعمال. فاتُّفق أنَّه كان من ضَعف الإرادة بحيث تغلَّب عليه قريبٌ له يُدعى مروان بن الحكم وهو واحدٌ من الذين عضوا على الوثنية بالنواجذ حتى فتح النبي ﷺ مكة ومَنَّ على مشركيها بالعفو العام فدخلوا في الإسلام حقنًا لدمائهم، وربهم أعلم بنياتهم.
فماذا يرى القارئ في هذه الحادثة الاجتماعية غير ثورة قومية على حكومةٍ غاشمة استبدادية؟ أين أثر العصبية من عوامل هذه الثورة، وقد قام بها رجالٌ من قبائل شتى لا تجمعهم غير الوحدة السياسية، والمصلحة الاجتماعية؟
إنَّ من الأمور التي نقَمها المسلمون على عثمان عصبيته الأموية، وعدم مساواته بين النَّاس في الحقوق المدنية، فكيف يُقال: إنَّ الذي بعث إليها هي العصبية، وإنَّ الذي سبَّب قتل عثمان هي العصبية؟! اللهم إلا إن قيل إنَّها هي العصبية التي ظهر بها بنو أمية، ونفرت منها تلك الهيئة الاجتماعية.
إننا في هذا المقام لا نتمالك أنفسَنا من الدَّهَش العظيم من استعصاء تلك الوحدة التي أوجدها الإسلامُ للعرب على المحلِّلات، حتى إنَّها قاومت جميع عوامل التحليل وتغلبت عليها، وقد كان العرب يُضرب بهم المثل في الفرقة والعصبية.
نعم نرى ما يُوجب الدَّهَش والحَيْرَة: نرى قبائل كانت بالأمس في حالة تفكُّك لا يُرجى له التئام، لكلٍّ منها تاريخٌ خاصٌ، ومآثر قائمةٌ على النكاية بمن حولها من بني جنسها، ومفاخر مؤسَّسَةٌ على سفك دمائها واجتياح ثمراتها، وقد مر عليها في هذا الدور من التدابُرِ مئاتٌ بل ألوفٌ من السنين — تظهر في عهد الإسلام كتلة مندمجةً تستعصي على جميع عوامل التحليل، فلا يؤثِّر فيها ما يؤثر بعضُه في الأمم، ثم تخرج من جميع هذه الأدوار كتلةً مندمجةً كما كانت، فتحدث في العالم ذلك الحدث الضخم الذي قلبَ الأرض ومن عليها من حالٍ إلى حالٍ أخرى، لعمري إنَّ هذا لأعجب ما رأيناه في تطورات الأمم، فلا يصح أن تُرمَى العناصر المؤلِّفة لهذه الأمة بالعصبية، بل يجب أن ينوَّه بالتضحيات العظيمة التي بذلتها لإماتة العصبية، ممَّا لم يعهد له مثيلٌ في تاريخ الهيئات الاجتماعية على هذا النحو من الانتقالات الفجائية.
ولقد أثبتت هذه الثورة التي انتهت بقتل الخليفة الثالث على أنَّ الأصول التي كانت تقوم عليها الجماعةُ الإسلامية الأولى خير الأصول الاجتماعية، كما يدل على ذلك نص البيان الذي وُجِّه إلى الأمة ونقلناه في الصحف المتقدمة.
لقد كان أيسر على العرب وأشبه بما كانوا عليه منذ قليل أنْ ينتهزوا هذه الفرصة النادرة من اختلال الحكومة الرئيسية فتستقل كل ولايةٍ بنفسها، وكل قبيلة برأسها، وتخلص من ولاة السوء، وعمال الفساد، ولكن الوحدة التي صبها الإسلام في قالبها كانت من الاندماج والتماسك بحيث آثرت هذه الولايات والقبائل أن تخاطر بنفسها وأموالها لإصلاح الحكومة المركزية على أن تحدث حدثًا يكون من ورائه تفكك روابطها الاجتماعية، كأنَّها أمةٌ عريقةٌ في الوحدة القومية، أصيلةٌ في النزعة الوطنية.
•••
يقول الدكتور طه حسين: «وعاد العرب إلى شر ممَّا كانوا فيه من التنافس في جميع الأمصار الإسلامية، ويكفي أن أقص عليك ما كان من تنافس الشعراء من الأنصار وغيرهم عند معاوية ويزيد ابنه.»
ونحن نقول: إنَّ عبارة «وعاد العرب إلى شر مما كانوا فيه من التنافس في جميع الأمصار الإسلامية» فيها قسطٌ كبيرٌ من المبالغة الشعرية؛ لأننا نعلم وكل الناس يعلمون أنَّ العرب قبل البَعثة المحمدية كانوا على أشد ما يكونون من التفرق والتفكك: كل بلادهم العامرة الخصبة كانت واقعة تحت النِّير الأجنبي، وكانت قبائلهم في وسط بلادهم على حالةٍ من التناحر لا تُبقي ولا تذر؛ فلا يُعقل أنَّهم يكونون بعد مقتل عثمان قد عادوا إلى مثل هذا أو شر منه. وما حدا بالدكتور طه حسين إلى مثل هذه المبالغة إلا قصر نظره على أخبار الشعراء، واتخاذه ما حدث بين بعضهم والبعض الآخر أساسًا للحكم على هيئةٍ اجتماعية ناشئةٍ في حالة تطور تعمل فيها عوامل من أنواع شتى لاستجاشة ما كَمَن من خصائصها المعنوية والمادية، ولكنَّ أخبار الشعراء وأهل البطالة ممن يستمعون لهم أو يشترون ضمائرهم، ممَّا يحشوه مؤلفو كتب المحاضرات؛ كالأغاني، والعقد الفريد، والبيان والتبيين، وغيرها، ويحيطونه بجوٍّ من التهويل والبهتان؛ لا يصح أن يُعتبر ميزانًا تقدر به الأمور الاجتماعية!
أنا لا أنكر أنَّه كان تنافسٌ بين العناصر المؤلفة للمجموع الإسلامي في ذلك العهد، ولكني أرى أنَّ هذا التنافس في ذلك الجيل من النَّاس كان مظهرًا من مظاهر الحياة والحركة النفسية اللتين لا تتجرد منهما أمةٌ في حالة نمو وتطور. فماذا أنت قائلٌ لو قرأت جرائد الأحزاب المتعارضة لأمة من الأمم المتمدينة المعاصرة لنا، وكل منها ترفع الحزب الذي تنتمي إليه إلى أرفع ممَّا يبلغه التصور، وتحط من قيمة الأحزاب الأخرى حطًّا لا تراعي فيه إلًّا ولا ذمة؛ هل تُسوِّغ لك هذه النظرة السطحية أن تقول: إنَّ هذه الأمم قد مزقتها العصبيات، وفرقتها المنافسات، وإنَّها لا تلبث أن تنحل انحلالًا لا دواء له؟ لا، لأنَّ الوحدة الاجتماعية متى استحكمت تنقلب إلى ما يُشبه الاندماج المادي فلا تتفكك من تلقاء نفسها بأيِّ عامل من العوامل الذاتية، ولا بد لتفكيكها من عوامل خارجية تقهرها على قبول هذه الحالة، ولكنَّها تعود إلى الوحدة متى زال عنها ذلك العامل الخارجي.
نعم قد يحدث أنْ تستقلَّ بعض أجزاء الأمة عن بعضها الآخر بسبب فتنة داخلية، ولكن تلك الأجزاء تميل دائمًا للالتئام، ويظهر ذلك الميل بميل بعضها إلى إدخال البعض الآخر في حظيرته بالقوة، ولا تزال تلك الأجزاء بين جذبٍ ودفع حتى يتم الأمر برجوع وحدتها إليها.
مثال ذلك: الأمة الإسلامية نفسها في أول تكونها؛ فإنَّها بعد أن انصبَّ مجموعها في قالب الوحدة الاجتماعية بتشابك مصالحها المادِّيَّة والمعنوية حدثت فيها أحداثٌ كان يكفي بعضُها لأن يرجعها إلى تفككها الأول! وتلك الأحداث كاستئثار القرشيين بالحكم بعد النبي ﷺ على منافاة الإسلام نفسه لهذا الاستئثار، فلم يسعَ الأنصار إلا تضحية منفعتهم في سبيل الوحدة، فخضعوا لرأي مناظريهم، و[هم] في مستقر عزهم وصولتهم. ثم حدثت فتنة ارتداد القبائل العربية بعد وفاة النبي ﷺ، فدفعت طبيعة الوحدة الاجتماعية الطائفة التي هي نواتها الأصلية إلى إخضاع ما شذَّ عنها بالقوة فتم لها الغَلَبُ.
ولما قُتل عمر وتولَّى الخلافة عثمان وكرهت النَّاس حكومته واضطربت أحوال الأقاليم، كانت هذه الفوضى تكفي لتفكيك عُرَى تلك الوحدة الناشئة إن كانت مصطنعةً، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن، بل حدثت ثورةٌ ردت الأمر إلى نصابه.
ولما انتُخِبَ علي بن أبي طالب للخلافة وخرج عليه معاوية وعائشة وطلحة، والزبير والخوارج، لم يدعهم وشأنهم، بل انتدب لإعادة الوحدة إلى حالتها، فتغلَّب على جميع الخارجين عليه إلا معاوية، ولو عُمِّر قليلًا لتغلَّب عليه أو لخضع له في سبيل الوحدة العامة.
فلما تولى الحسن بن علي كانت الفرصة سانحة لتفكك تلك الوحدة، ولكنها لم تحدث، بل ضحى ذلك الأمير بمصلحته الشخصية، وتنازل عن الملك لمعاوية؛ صيانة لتلك الوحدة.
ولما مات معاوية وتولى الأمر ابنه يزيد، وكان متهتكًا ساقطًا، فشعر المجموع بأنَّ التضحية في الخضوع لهذا الطاغية تفضي إلى أسوأ النتائج، فتفككت الوحدة الاجتماعية، فخرجت المدينة ومكة ومصر والعراق، وتعدَّد الدعاة إلى أنفسهم، ولكنَّ طبيعة الوحدة اضطرت هذا المترَف للعمل على إخضاع الخارجين، فأتم إخضاع المدينة، ومات وهو يَجِدُّ في إخضاع مكة.
ولما خلفه ابنه خالدٌ ومروان بن الحكم لم يتمكَّنا من إرجاع الوحدة إلى ما كانت عليه؛ لتنازل الأول بعد أيام، ولموت الثاني بعد قليل من ولايته. فلمَّا خلفه ابنه عبد الملك سعى لهذا الأمر سعيَه؛ فرجعت الوحدة لتماسكها الأول، واستقرت على تلك الحالة.
هذه طبيعة كل وحدة اجتماعية تقوم على أساسٍ ثابتٍ وإيمانٍ صحيح.
بقيتْ مسألة المنافسات الشِّعرية التي يصادفها القارئ في كتب المحاضرات محاطة بلفائف من التلفيقات والتهويلات، وهي ليست بشيءٍ سوى أغراضٍ ملازمةٍ لكل مجتمع إنساني قريب عهدٍ بالحياة القبيلية.
على أنَّ النظرة السطحية في تلك الحكايات تريك أنَّها ملفقةٌ تلفيقًا خاليًا من كل مهارةٍ وذوق.
مثال ذلك ما نقله الدكتور طه حسين أنَّ عبد الرحمن بن حسان شبَّب برملة بنت معاوية نكايةً فيه، وتبعًا لذلك نكاية في ابنه يزيد أخيها الذي يقول عنه الدكتور طه حسين: إنَّه كجده أبي سفيان في أنَّه كان مطبوعًا على القوة والجاهلية والفتك. قال الدكتور: «فاصطنع معاوية الحِلْم وقال له: أين أنت من أختها هند؟»
لعمري إنَّه يجب أن يكون لدى القارئ قسطٌ غير قليل من البَلَه ليستطيع أن يصدِّق أنَّ معاوية بن أبي سفيان زعيم قريش وأمير المؤمنين يقابل — شاعرًا فاسقًا ساقط المنزلة ينتهك حرمته بأشنع ما يأنف منه الرجل الساذج بَلْهَ الشريف العظيم — بمثل هذا الدم البارد، ويغريه بالتغزُّل بأختها؛ أي بابنته الثانية! فأين كان يزيد الذي يوصف بالقوة والفتك ليدافع عن كرامة أخته، ويحمي عرضها من لسان رجل لا في العير ولا في النَّفير؟
ولا ننسى هنا أنْ نقول في هذه المناسبة: إنَّ الدكتور يصف يزيد بأنَّه كان صورة لجده أبي سفيان في العصبية والفتك والسخط على الإسلام. ولكن المعروف بالإجماع أنَّ أبا سفيان أسلم وهدم بعض الأصنام وأبلى في المعارك لنصر الإسلام بلاءً حسنًا حتى فقد كلتا عينيه، وأنه وُلِّيَ — لأمانته وصدق عزيمته — على صدقات نجران باليمن فأدَّى كل ما عهد إليه بجِدٍّ وباستقامةٍ حتى توفَّاه الله؛ فمن أين استنتج الدكتور طه حسين أنَّه كان رجُل عصبية وقوة وفتكٍ، وأنَّه كان يكره الإسلام وما سنه للنَّاس من سنن؟! لعمري لو صح أن نفسيته كانت على ما يصفها به الدكتور طه حسين مع سلوكه هذه السيرة حيال النبي ﷺ، وحيال الإسلام، وحيال الوثنية، وحيال أنصار الجاهلية؛ لوجب أن نصم أبا سفيان هذا بأنَّه كان أجبن الجبناء، وأضعف المنافقين، وأخس من مشى على الغبراء!
•••
يقول الدكتور طه حسين: «ولقد يستطيع الكاتب السياسي أن يضع كتابًا ضخمًا في هذه العصبية بين قريش والأنصار وما كان لها من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية، لا نقول في المدينة ومكة ودمشق، بل نقول في مصر وأفريقيا والأندلس. ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سِفرًا مستقلًّا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية، وقد تجاوزت العصبية هؤلاء إلى العرب كافةً، فتعصبت العدنانية على اليمانية، وتعصَّبت مضر على بقية عدنان، وتعصبت ربيعة على مضر، وانقسمت مضر نفسها فكانت فيها العصبية القيسية والتميمية والقرشية، وانقسمت ربيعة فكانت فيها عصبية تغلِب وعصبية بكرٍ، وقُلْ مثل ذلك في اليمن؛ فقد كانت للأزد عصبيتها ولحميرٍ عصبيتها ولقضاعة عصبيتها. وأنت تعلم حق العلم أنَّ هذه العصبيات هي التي أزالت سلطان بني أمية؛ لأنَّهم عدلوا عن سياسة النبي التي تريد محو العصبيات، وأرادوا أن يعتزُّوا بفريق من العرب على فريق. قوَّوا العصبية ثم عجزوا عن ضبطها، فأدالت منهم، بل أدالت من العرب للفرس.»
ونحن نقول: إنَّ مؤدى هذا الكلام أنَّ العصبية الجاهلية التي أماتها الإسلام عادت ففشت في العرب بين قبائلهم الكبرى، وطَمَّت حتى فرقت بين بطون وأفخاذ تلك القبائل، فأصبح الكافةُ على شرٍّ ممَّا كانوا عليه من الانقسام والتدابر. ولكن الكاتب السياسي الذي يذكره الدكتور طه حسين لا يستطيع أن يقيم لهذا الكلام وزنًا: لأنَّه يرى النتائج المحسوسة لا تتفق وهذه المقدمات المفروضة، وهو ليس لديه من ميزانٍ لتقدير قيمة العوامل الاجتماعية التي عملت في أمة من الأمم السابقة، ولا من مَحَكٍّ لتمييز صالحها من فاسدها غير ثمرات الجهود التي بذلتها تلك الأمة؛ فهي الشاهد الذي لا يكذب المؤرِّخَ المحقِّقَ، وهي الواقع الذي لا معدلَ عنه إلى غيره في الحكم على جيل من الناس تختلف الأقوال في أمره.
فماذا يرى السياسي من الأمور الواقعية في عهد الدولة الأموية منذ استقام الأمر لعبد الملك بن مروان إلى انقضاء دولة بني أمية سنة (١٣٢ﻫ)؟
يرى أمرين لا سبيل إلى إنكارهما؛ أولهما: استمرار الوحدة الاجتماعية في الأمة العربية، وثانيهما: اتساع المملكة الإسلامية في عهدها إلى حَدٍّ لم تدركه دولةٌ قبلها.
ولكن كتب المحاضرات — كالأغاني، والعقد الفريد، والبيان والتبيين، وغيرها — تذكر لنا حكاياتٍ عن الشعراء والأدباء قد اختلق أكثرها المختلقون، وموَّه ما صح منها المموِّهون، فيقرؤها القارئ اليوم، فيخيَّل إليه أنَّ العصبية الجاهلية واختلاف الأهواء القبيلية كانت قد بلغت من الأمة الإسلامية في العصر الأموي إلى حد ليس بعده غايةٌ، ثم يُلقي بنظره على التاريخ فيجد أنَّ الأمة الإسلامية في ذلك العهد نفسه قد بلغت من المُلك إلى مدًى لم تستطع الدول التي جاءت بعدها أن تزيد عليه شبرًا واحدًا. فإذا كانت العصبيات قد وصلت إلى الحد الذي تخيِّله لنا حكايات الشعراء في العصر الأموي، فكيف تبقى معها وحدةٌ اجتماعيةٌ؟! وإذا كانت الوحدة الاجتماعية قد تفكَّكت عراها باشتداد تلك العصبيات؛ فكيف نمت قوى الأمة وفاضت حتى امتدت إلى خارج بلادها وبسطت سلطانها على أمم قوية لم تحمل نِيرَ أمَّة قبلها قَطُّ؟!
هنا يجب علينا أن ننبِّه الذين يقرءون الكتب الأدبية المؤلَّفة في العهد العباسي — وهو ما بين القرن الثاني إلى السابع الهجري — إلى أمرٍ جديرٍ بالنظر، وهو أنَّ العباسيين كانوا يكرهون الأمويين ويحقدون عليهم إلى حد أنَّهم نبشوا قبور خلفائهم، وأخرجوا هياكلها العظمية، وصلبوها على قارعات الطرق، ثم أحرقوها وذَرُّوها في الهواء. وكان الذي يذكر للأمويين حسنة يُتَّهَمُ بأنَّه مشايعٌ لهم فيذيقونه ألوان العذاب. وكثيرًا ما كان مؤلفو المحاضرات يختلقون الأكاذيب على الأمويين ليتقربوا بها إلى أصحاب الدولة في العهد العباسي؛ فكل ما يُرى من المذامِّ في الدولة الأموية في كتب المحاضرات يجب أن يؤخذ بتحفُّظٍ. وإذا كان هذا فيما يتصل بأخبار الخلفاء والوزراء وأمور الدولة التي يمكن الاستدلال على حقيقتها من التاريخ، فما ظنُّك بما لا شاهد عليه من التاريخ كأخبار الشعراء، ونوادر الأدباء، وحوادث القبائل البعيدة عن كُتَّاب تلك المحاضرات؟! أفلا يحسن بنا أن نطبِّق أسلوب ديكارت على هذه الأقاصيص فلا نغلو في اعتبارها مصادر جديرة بالثقة المطلقة في حين أنَّ الواقع يكذبها وحوادث التاريخ تشهد ببطلانها؟!
•••
يقول الدكتور طه حسين: «فأدالت هذه العصبيات من بني أمية، بل أدالت من العرب للفرس.»
يريد الدكتور طه حسين بقوله: «بل أدالت من العرب للفرس» أنَّ الفرس صارت لهم الدولة على العرب بتغلُّب رجالٍ منهم على الخلفاء؛ كبني بُوَيْه الذين تغلبوا على الخلفاء العباسيين، وكغيرهم من الذين توزَّعوا الممالك الإسلامية وحكموها باسم الخلافة ظاهرًا، أما باطنًا فكانوا أصحاب الحَلِّ والعقد في جميع الممالك الإسلامية.
وهذا الكلام خطأٌ من الوجهة الإسلامية الدينية، ومن الوجهة الاجتماعية؛ فأمَّا من الوجهة الإسلامية الدينية فإنَّ الإسلام جاء معلِنًا وحدة النوع البشري كله، فلم يعتَدَّ بالفوارق الجنسية، ولا بالمميِّزات الاجتماعية؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: ١٣]، وقد أعطى النبي ﷺ مثالًا من هذه الوحدة العامة؛ فولَّى المدينة رجالًا ذوي جنسيات مختلفة بين رومية وفارسية وحبشيةٍ كصهيب وسلمان وبلال، وولى على اليمن الهرمزان وهو فارسي الأصل.
والفرس الذين حكموا العرب كانوا مسلمين مثلهم، وقد حذقوا العربية حتى صاروا أعلم بها من أبنائها، وأتقنوا العلوم الدينية حتى صاروا أئمتها وحفظتها.
فالمسلمون في هذا الموطن لا يقولون: إنَّ الفرس حكموا العرب؛ لأنَّه لا جنسية في الإسلام، وإنَّما يقولون: إنَّه قد حكمهم أصلحُهم للحكم، غير ناظرين إلى شيء من الفوارق الوهمية التي أوجدتها العصبيات الجاهلية.
•••
يقول الدكتور طه حسين: «وإذا كان هذا تأثير العصبية في الحياة السياسية فأنت تستطيع أن تتصوَّر هذه القبائل العربية في هذا الجهاد السياسي العنيف تحرص كل واحدة منها على أن يكون قديمُها في الجاهلية خير قديم. وقد ضاع الشعر الجاهلي بموت رواته في الحروب، وهذه القبائل في حاجة إلى الشعر تُقدِّمه وقودًا لهذه العصبية المضطرمة، فاستكثرت من هذا الشعر ونحلته شعراءها القدماء.»
ونحن نقول: إنَّ العصبية لم يكن لها تأثيرٌ في الحياة السياسية لدى العرب الأولين كما أثبتنا ذلك بتوسُّع في كلامنا السابق؛ فكل الذي أمامنا هو أنَّ أحد الولاة — وهو معاوية — خرج على الخليفة القائم بالأمر محفوزًا بمطامع طافت برأسه انتحل لها سببًا مزوَّرًا، فلم يطُل عُمر ذلك الخليفة حتى يُخمِد ثورة معاوية، فاتفق كبار الصحابة على تولية ابنه الخلافة، فرأى هذا أنَّ حقن دماء المسلمين أولى من التمسُّك بحقه في الخلافة؛ فتنازل عنها لخصمه وخصم أبيه، وقبل هذا التنازل جميعُ المسلمين؛ فلو كان للعصبية سلطانٌ فيما نحن بصدده لتجددت العداوة بين معاوية والحسن.
فلما تولَّى يزيد بن معاوية لم يُطِقِ العالم الإسلامي أن يحمل نير هذا الطاغية لفسقه وفجوره، وكان الحسن قد مات، فخرج عليه الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، لا لأنَّه من بني أمية، ولكن لعدم صلاحيته للخلافة. فلما مات يزيد خلفه ابنه خالدٌ ثم قريبه مروان بن الحكم، فلم يطُل عهدهما، ولما تولى عبد الملك بن مروان تمكن بواسطة قائده الحجاج بن يوسف الثقفي — ولم يكن من بني أمية — من إخضاع المنشقِّين، واستقام له الأمر وورثه أبناؤه وأبناء أبنائه؛ فاتسعت مملكة المسلمين في عهدهم حتى صارت أكبر من مملكة الإسكندر المقدوني، فأي تأثير للعصبية الموبِقة في هذه الحياة السياسية المركزة؟!
فإن كانت القبائل في ذلك الوقت تنتحل الشعر فلم يَكُ ذلك لأسباب سياسية ولكن لأسباب أخرى معقولة، وهي الإشادة بذكر آبائها لإثبات أصالتها في العلم والأدب وعراقتها في الفضيلة والحسب. وهذه العوامل تكفي لتعليل كل الأكاذيب والتلفيقات التي عثر عليها الدكتور طه حسين وغيره في كتب المحاضرات. أما تطرُّف شعراء بعضها لذِكر مثالب بعضها الآخر، فله سببٌ ليس منه العصبية ولا السياسة في شيء؛ وهو أنَّ الذي اجترأ على ذلك هم الشعراء، والشعراء في الأجيال السالفة كانوا من طائفة المتسوِّلين، حتى إنَّ أشراف القبائل كانوا يأنَفُون من قول الشعر؛ ترفُّعًا من أن ينسبوا لتلك الفئة التي كانت تُعتبر ساقطة في نظرهم؛ فقد رُوي أنَّ حُجْرًا أبا امرئ القيس أَنِفَ أن يقول ابنُه الشعر واستتابه مِرَارًا، فلما أعياه أمره أمر بقتله، فرحمه الموكَّل به وأطلقه. يجوز أن تكون حكاية امرئ القيس هذه ملفَّقةً، ولكن الثابت المقرر أنَّ أشراف النَّاس كانوا يأنفون من قول الشعر، وقد عده الصدر الأول مزريا بأهل العلم؛ فقال الإمام الشافعي [من الوافر]:
ومثل هذه الطائفة التي كانت تتخذ الشِّعر وسيلة للارتزاق لم يكن لها حريجةٌ من دينٍ ولا من عقل ولا من أخلاقٍ، فكانت ترمي القول جزافًا وتسرف فيه إسرافًا؛ حتى إنَّ عمر بن عبد العزيز لمَّا ولي الخلافة في آخر القرن الأول قصده الشعراء بمدائحهم، فحجبهم عنه، فلما ألحَّ عليه ابن أرطاة في إدخالهم أنشد لكل منهم بيتين أو ثلاثة فيها ما يؤخذ على قائله، وأقسم أن لا يدخل عليه، حتى انتهى إلى جرير، فأنشد له قوله [من الكامل]:
ثم قال: لا بأس بهذا، فليدخل.
إن شئت أن أعطيك مثالًا محسوسًا من ذلك فانظر إلى أشعار جرير والفرزدق والأخطل وهم يتهاجَوْن، تجد أنَّ كلَّ واحدٍ منهم قد سب قبيلة خصمه، وألصق بها أشد ما يتصوره العقلُ من المخازي، ولم يكن ذلك لسبب سياسيٍّ؛ فكذلك فعلت طبقات الشعراء الذين تقدموهم، وطبقات الشعراء الذين خلفوهم.
وهذا لا يمنع أنَّ بعض الرؤساء يكون قد أوعز إلى شاعر بهجاء قبيلة، حمله على ذلك حِقدُه على سيدها، أو غرضٌ آخر في نفسه، ولكن هذا كان لا يُغيِّر رأي النَّاس في تلك القبيلة ولا يطمس معالم مجدها.
وقد سجل القرآن على شعراء ذلك الجيل حُكمًا لم تقم لهم بعده قائمةٌ، وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: ١٣].
وقد عرف عرب الجاهلية قبل القرآن خفة وزن الشعراء، وأنَّهم ممن لا يصح التعويل على أقوالهم، ولا الثقة بآرائهم؛ فقالوا فيما قالوه من المذَامِّ التي وجهوها للنبي ﷺ كما حكى عنهم القرآن: إنَّه شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: ٣٠]؛ أي قالوا إنَّ محمدًا شاعرٌ لا يصح الركون إلى أقواله؛ لأنَّها خيالاتٌ كخيالات الشعراء، فلنصبر عليه غير حافين به حتى يموت فنرتاح منه. وقالوا عن القرآن: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ [الأنبياء: ٥] أي قالوا إنَّ ما أتى به محمدٌ أوهامٌ كالأحلام، بل إنَّه افترى هذه الأقوال من عنده، بل هو شاعرٌ يقول ما ليس بحق؛ فلا يصح أن يُؤبه لقوله.
هذا كان مقام الشعر والشعراء في الجاهلية والإسلام، فهل نأتي نحن في القرن العشرين فنجعل الشعر دليلًا على أمورٍ جسامٍ، وانقلاباتٍ عظامٍ، بينما لم يكن له أدنى تأثير خارجَ دائرة الخيال؟!
ولما أنشده الشاعر قوله [من الطويل]:
استحسنه جدًّا وقال له: لا فَضَّ الله فاك. وَحَثَّ عمرُ بن الخطاب الآباء — وهو من أورع الناس — على أن يرووا أولادهم الشعر لتعذُب ألسنتهم وتتلطف طباعهم.
وقد أنشأ كثيرٌ من عُبَّاد المسلمين وزهادهم ومتصوِّفتهم قصائد ضافية الذيول، وجُمِعت لكثير منهم دواوين.
•••
ثم نهضت الأسرة العباسية لإسقاط الأسرة الأموية، وأنجحت في ذلك بعد حربٍ ضروسٍ، فلم نَرَ ولم يَرَ أحدٌ في ذلك أمرًا مخالفًا لسُنَنِ البشر؛ فهو عامٌّ في جميع الأمم، ولم يعزه أحدٌ في تلك الأمم لتفاقم أمر العصبية، ولا جعلوه سببًا للتلفيقات الشعرية؛ ذلك لأنَّ منطقة تأثير الشِّعر محدودةٌ، ولأهله دائرة اختصاصٍ معروفةٌ، وللعوامل التي تبعثهم للمدح والذم مصدرٌ لا يخفى على أحدٍ؛ ولذلك لا يعبأ العلم بهم ولا بأقوالهم إلا بقدرٍ لا يتعداه. خذ مثلًا لذلك: لقد مدح أبو الطيب المتنبي كافورًا الإخشيدي بقصائد هي عيون شعره، لم يقل مثلها شاعرٌ لملكٍ، ثم ذمَّه ذمًا جرَّده فيه من كل فضيلةٍ إنسانية، فهل أثَّر ذلك في مقام كافورٍ وحط من قيمته، وهل عوَّل علم التاريخ عليه [أي: على هذا الشعر] في استنتاج حكم من الأحكام؟!
فَقِسْ على هذا جميع الشعر المختلق وغير المختلق؛ فهو لا يدل على شيء غير ما يعرف عن أخلاق أهله في ذلك العهد. فمن الخطأ البيِّن أن يخوض الدكتور طه حسين هذا الخوض في تكوين الأمة الإسلامية الأولى، ويجوس خلال أدوارها وحوادثها هذا الجوس المجهد ليثبت أمرًا قليل القيمة، قاله قبله أهل القرن الأول والثاني، وهو أنَّ الشعر الجاهلي مختلقٌ منحولٌ، وأنَّه قد حمل على شعراء لم يقولوه. هذه ثمرةٌ تافهةٌ لمجهودٍ هائلٍ أوجَب على الدكتور طه حسين أن يصدر أحكامًا لا تتفق والحوادث، ولا تلتئم وعلم التاريخ، مع أنَّ هذا الاختلاق كله يمكن تعليله بحب الرواة للإغراب وللاستكثار من الرواية!