الدِّينُ وانْتِحَالُ الشِّعر١
قال الدكتور طه حسين تحت هذا العنوان ما مُلخصه:
تحدث صاحب الأغاني بإسنادٍ له عن عبد العزيز بن أبي نَهْشَل قال: قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: يا خال، هذه أربعة آلاف درهم وَأَنْشِدْ هذه الأبيات الأربعة وقُلْ سمعت حسانًا ينشدها رسول الله ﷺ، فقلت: أعوذ بالله أن أفتري على رسول الله، ولكن إذا شئت أنْ أقول سمعت عائشة تُنشدها فعلت، فأبى وأبيت. ثم أرسل لي وقال: قل أبياتًا تمدح بها هشامًا وبني أمية واجعلها لأبيك. فقلت [من الهزج]:
إلخ إلخ.
هنا نوعٌ جديدٌ من تأثير الدين في انتحال الشعر، وهو الخصومات بين العلماء في تفسير القرآن؛ ومن هنا كانوا حِراصًا على أن يظهروا دائمًا مظهر المنتصرين في خصوماتهم. وأي شيءٍ يتيح لهم هذا مثل الاستشهاد بما قالته العرب قبل نزول القرآن؟!
رأينا في هذا الكلام
يقول الدكتور طه حسين: «لم تكن العواطف والمنافع الدينية أقلَّ من العواطف السياسية أثرًا في تكلُّف الشعر وانتحاله وإضافته إلى الجاهليين؛ فكان يُقصد به إلى إثبات النُّبُوَّة وصدق النبيِّ، وكان هذا النوع موجَّهًا إلى عامة الناس ومن هذا كلُّ ما يُروى من الشِّعر الجاهليِّ ممهِّدًا لبعثة النبيِّ. وهناك شعرٌ أُضِيف إلى الجاهليين من شعراء الجن.»
على أنَّ طبيعة الدين الإسلامي تأبى هذا الغلو في تعظيم النبي ﷺ؛ لكثرة ما ورد في الكتاب والسنة من النهي عنهما؛ فقد صرح القرآن بأنَّ النبي لا يفترق عن سائر النَّاس إلا بالوحي؛ فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ [الكهف: ١١٠]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم [يوسف: ١٠٩] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان: ٢٠].
فكلُّ ما يروى إذن من الإرهاصات التي سبقت النبوة، ومن الأشعار التي عزيت إلى الجاهليين؛ أكاذيبُ لا يصح الالتفاتُ إليها. ويكفي في إسقاطها أنَّها ركيكة المباني، سقيمة المعاني، ظاهرٌ عليها طابع الوضع، تدل على أنَّ مختلقيها ليسوا من الشعر في شيء، وأنَّها تنافي أصول الإسلام.
ويضاف إلى هذا الباب كلُّ ما ورد على ألسنة القُصَّاص معزوًّا إلى الأحبار والرهبان الذين كانوا يتوقعون بعثة النبي ﷺ؛ فكلُّ ما رُوي عنهم أحاديثُ خرافة تنافي طبيعة الدّين الإسلامي، وتدل بذاتها على أنَّ مختلقيها قصار العقول، ليسوا حتى من المهارة في التلفيق على شيء.
•••
ومن الأدلة المحسوسة على أنَّ النبي لم يَمْتَزْ على سواه من ناحية أهله أمام العدل الإلهي ما تقرر من أنَّ عمَّه أبا طالب مات على غير الإسلام، وأنَّ الله أنزل قرآنًا في ذمِّ عمِّه الآخر أبي لهب فقال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد: ١–٣].
•••
يقول الدكتور طه حسين: «اشتد التنافس بين بني أمية وبني هاشم، واتخذ أولئك وهؤلاء القصص وسيلة من وسائل الجهاد السياسي. فأمَّا في أيام بني أمية فيجتهد القُصَّاص في إثبات ما كان لبني أمية من مجدٍ في الجاهلية، وأما في أيام العباسيين فيجتهد القُصَّاص في إثبات ما كان لبني هاشم من مجد في الجاهلية، وتشتدُّ الخصومة بين قُصَّاص هذين الحزبين السياسيين، وتكثر الروايات والأخبار والأشعار.»
ونحن نقول: أمَّا اشتدادُ التنافس بين أسرتين إحداهما تَوَدُّ الاستمرار في المُلك والأخرى تعمل على إسقاطها لتحل محلها فأمرٌ طبيعيٌّ حدث في كلِّ أمةُ مُنِيَتْ بأسرتين متناظرتين على الزعامة العامة. وإغراؤهما الوضَّاعِين والمختلقين على الإشادة بذكرهما، والتنويه بفضلهما، أمرٌ طبيعيٌ أيضًا. ولكن كُلَّ هذا لم يخفَ على الأئمة الناقدين في العصور الأولى، وقد نبَّهوا إليه في مؤلفاتهم؛ فكلام الدكتور طه حسين موافقٌ في هذه الناحية لرأي الأقدمينَ، ولكنَّه استشهد أولًا على تنافُس بطون قريش في حمل النَّاس على اختلاق الشِّعر على الجاهليين بقصة نقلها عن الأغاني بإسنادٍ له عن عبد العزيز بن أبي نهشل الذي ادَّعى أنَّ أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قد أغراه أن يمدح جَدَّه هشامًا وبني أمية وأن يعزو ذلك لأبيه، ثم حمله على أن يعزوه لابن الزِّبَعْرَى شاعر قريش ففعل.
- أولها: جواز أن تكون القصةُ كلها مختلقة، وهو لم يُظهر الشك فيها.
- ثانيها: اعتماده على إسناد صاحب الأغاني، وللثقة بالأسانيد طرقٌ لا بد من تحرِّيها. وقد كذب الرواة على النبي ﷺ فكيف لا يكذبون على الأدباء والزعماء؟! لا سيما وأبو الفرج الأصبهانيُّ مؤلف الأغاني كان شيعيًّا يلذُّه النَّيْل من كرامة بني أمية، والحط من قدرهم.
- ثالثها: ثقته بما رواه عبد العزيز بن أبي نهشل عن نفسه مع أنَّه اعترف بأنَّه اقترح أن يكذب على عائشة وعلى أبيه بأربعة آلاف درهم، ثم أَقَرَّ بأنَّه كذب متعمدًا على ابن الزِّبَعْرَى شاعر قريش. ورجُلٌ هذه حاله من الإفك والبهتان، والتهتُّك في الاختلاق، لا يصح أن يُؤخَذ بقوله للاستشهاد به في كتاب أدبي يؤلَّف لأبناء القرن العشرين، ويُنهج فيه منهج ديكارت.
فكان الأولى بالدكتور طه حسين أن يستشهد بحادثة محقَّقة ليسوِّغ له أن يصدر حكمًا في باب من أبواب الاختلاق القديم.
•••
وقال الدكتور طه حسين: «ونحوٌ آخر من تأثير الدِّين في انتحال الشعر؛ وهو هذا الذي يلجأ إليه القُصَّاص لتفسير ما ورد في القرآن من أخبار الأمم البائدة؛ فالرُّوَاة يضيفون إليهم شيئًا كثيرًا، وقد كفانا ابن سلام نقدَه وتحليله حين جَدَّ في طبقات الشعراء في إثبات أنَّ هذا الشعرَ وما يُشبهه مما يُضاف إلى تُبَّع وحمير موضوعٌ منتحلٌ وضعه ابن إسحاق ومن إليه من أصحاب القصص.»
ونحن نقول: إنَّ هذا مصداقٌ لما قلناه من أنَّ جميع الأشعار والأخبار التي رويت عن الجاهليين من الشعراء والأحبار في تعظيم شأن النبي ﷺ قد نبَّه النَّقَدَة من العلماء على أنَّها مختلقةٌ قد حُمِلَتْ على أصحابها زورًا وبهتانًا، وابن إسحاق هذا من أقدم كُتَّابِ السيرة النبوية. وهنا لا نتمالك أنفسنا من الإعجاب بالنَّقَدَة القدماء من المسلمين؛ فإنَّهم لم يُعفُوا من نقدهم حتَّى الأشعار والأخبار المثبِتة للدِّين؛ لأنَّهم يرون أنَّ هذه التلفيقات أَضَرُّ على الدين من الطعن فيه، وأنَّ الرجل محاسَبٌ على كل شيء ومسئولٌ عن دليله فيه.
•••
وأمَّا ما قاله الدكتور طه حسين عن وضع الوضَّاعين للأشعار ونسبتها للجاهليين لإثبات عربية ألفاظ القرآن، وللانتصار على الخصوم في فهم معاني القرآن؛ فهذا كلُّه صحيحٌ، ولكنه لم يجرؤ عليه إلا أهل البُهتان من المشتغلين بالقرآن، وعلماء السوء الذين يَوَدُّون الظهور على خصومهم بأيِّ سلاح كان. وقد عرف ذلك النَّقَدَة الأقدمون ونبهوا إليه، ولم يُغفِل هذه الملاحظة الأستاذ مصطفى صادق أفندي الرافعي في كتابه آداب العرب.
•••
وقال الدكتور طه حسين: «أعظمُ هذه الفنون من الانتحال خطرًا وأبعدها أثرًا هو هذا النوع الذي ظهر عندما استؤنف الجدال في الدِّين بين المسلمين وأصحاب الملل الأخرى. وقد ذَهَبَ المُجادلون في هذا النوع من الخصومة مذاهب لا تخلو من غرابة؛ إذ أراد المسلمون أنْ يُثبِتوا أنَّ للإسلام أوليةً في بلاد العرب كانت قبل أن يُبعث النبيُّ، وأن خلاصة الدِّين الإسلاميِّ هي خلاصةُ الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبلُ، فالقرآن يحدِّثنا عن التوراة والإنجيل، ويذكر معهما شيئًا آخر هو صحف إبراهيم، ويذكر غير دين اليهود والنصارى دينًا آخر هو مِلَّة إبراهيم، هو هذه الحنيفية التي لم نستطع للآن أن نتبين معناها الصحيح. وقد أخذ المسلمون يرُدُّون الدين في خلاصته إلى دين إبراهيم الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى.»
«وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أنَّ الإسلام يجدد دين إبراهيم؛ ومن هنا أخذوا يعتقدون أنَّ دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه وانصرفت إلى الأوثان، ولم يحتفظ بدين إبراهيم إلا أفرادٌ قليلون كانوا يتحدثون به قبل الإسلام. فأحاديث هؤلاء النَّاس قد وُضِعَتْ لهم وحُمِلَتْ عليهم حملًا بعد الإسلام لتثبت أنَّ للإسلام في بلاد العرب قُدْمَةً وسابقة.»
ونحن نقول: إنَّ الأمر الذي يستغربه الدكتور طه حسين — وهو أنَّ للإسلام أولية كانت قبل أن يبعث النبيُّ، وأنَّه خلاصةُ الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبلُ؛ هذا الأمر قد قرره القرآن نفسه، وجَدَّ في بثه في العقول، ونشره في الشرق والغرب، لا المجادلون من المسلمين الذين كانوا يجادلون أصحاب الملل الأخرى.
وهذا الأمر نفسه الذي يستغربه الدكتور طه حسين هو المبرِّر الوحيد لأن يتقدم الإسلام إلى الأمم، وهي تموج في خضمٍّ زاخر من الديانات، بعنوان أنَّه دينٌ عامٌّ لجميع العالمين، وأنَّ الآتي به هو خاتم النبيين.
وهذا الأمر الذي يستغربه الدكتور طه حسين هو مصدر القوة الخارقة للعادة التي أوجد بها الإسلام لنفسه مكانًا بين الأديان، وسوَّغت له أن يصف نفسه بأنَّه دين آخر الزمان. وإليك البيان:
جاء الإسلام والعالم غاصٌّ بالأديان، حافلٌ بالملل، قد توزعت أمَمَه الكبرى أديانٌ رسخت أصولها، وشمخت صروحها، وعزَّت قاداتها، وتنوعت وجهاتها وغاياتها، حتى لم يبق بينها متنفَّس لدين جديد، ولا مُتَبَوَّأٌ لرأي طريف؛ فقد كانت البرهمية والبوذية في الهند، والبوذية والكونفسيوسية في الصين، واليهودية مبعثرة في الأقطار، والمسيحية في أوروبا، والوثنية في أفريقيا وهنا وهناك، ولكلٍّ منها دولةٌ وصولةٌ، ومذاهب وتقاليدُ، وبجانبها أديانٌ أخرى صغيرةٌ لا تدخل تحت حصر، وقد تنوعت في جميعها المذاهبُ، وتعددت الفرق بحيث لم يبقَ شيءٌ يمكن خُطُوره على البال عن الأمور الدينية والرُّوحية لم يخُضْ فيه قاده هذه الأديان، فهل كان موجِبٌ لحدوث دين جديد؟ وهل يُصادف هذا الدِّين لو ظهر مكانًا من العقول؟ وهل يجد مذهبًا في الأمور العلوية لم يأتِ به ما سبقه من المِلَل؟ وهل يمكن أن يتَّخذ غرضًا لم يخطُر على بال كل هؤلاء القادة من المتكلمين والكُهَّان؟
كانت الأديان قبل الإسلام محتكَرة في أيدي طوائف ممتازة من الشعوب نحلوا أشخاصهم حقَّ الوساطة بين الله وخلقه، ونصبوا أنفسهم قُوَّامًا عليهم في شئونهم الجسدية والرُّوحية معًا، وحصروا في جماعتهم حَقَّ تقرير العقائد، وفرض التقاليد والإيعاز إلى النَّاس بما يجب أن يعملوه، وما يجب أن يجتنبوه، مستسلمين لإرادتهم استسلام الطفل لمربيه، لا حق لهم في إجالة نظر، أو تعقُّل أثر، أو تفهُّم خبر، مسوقين إلى حيث يعلمون ولا يعلمون، مؤاخَذِين بما يفهمون وما لا يفهمون.
فلمَّا استحكمت حلقات هذا القهر، واستعدَّت النفوس للخلاص من هذا الأسر، وسُمِحَ للنفوس الرازحة تحت نِير العبودية، أن تتمتع بحُريتها الفطرية، وللمواهب الراسفة في أصفاد الجبرية، أن تتمتع بحقوقها الطبيعية، جاء الإسلام فأعلن للنَّاس كافة أن أصل الأديان كلِّها واحدٌ، وإنَّما اختلفت في أمورها التشريعية، تبعًا لحالة الجماعات من الناحية الاجتماعية، وأنَّ هذا الأصل هو أن يقوم الإنسان على الفطرة التي فطر الله النَّاس عليها؛ أي على الحالة الطبيعية التي يتأدى الإنسان إليها بما رُكِّب فيه من ميولٍ طبيعية، وخصائص جِبِلِّيَّة، ومواهب عقلية، فلا يحتاج في تديُّنه لتلقين ملقِّنٍ، ولا تعليم معلِّمٍ، وأن كل ما يضاف إلى هذه الحالة الفطرية — من التفصيلات عن ذات الله، وعن الكون والكائنات، والعوالم العُلوية والسفلية، مما افترق النَّاس فيه شيعًا، وتحزبوا له أحزابًا، وتنازعوا من أجله؛ فسفكوا دماءهم، وأخربوا بلادهم — فإنَّما هو من وضع الزعماء والسادة الذين خوَّلوا أنفسهم حق الوصاية على الأمم، واستغلوا جهلها إلى ما لا حدَّ له لمصلحة شهواتهم.
وإليك مرامي الآيات التي وردت في القرآن في هذا الباب: قرر القرآن بأنَّ أصل الأديان الإسلامُ أي الاستسلام بمعنى الانقياد وهو يعني به الحالة التي يكون عليها الإنسانُ حين يعجزُ عن تصوير الله بصورة أو تحديده بحدٍّ، أو تخيُّل أنه شيءٌ من الأشياء المرئية أو المتوهمة. ويظهر هذا التحديدُ لمعنى الإسلام مما أورده في قصة إبراهيم، وهو: وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ٧٥–٧٩].
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة: ١٢٧–١٣٢].
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: ٦٤].
فالإسلام بهذا المعنى هو أصل كل الأديان، وقد صرَّح القرآن بهذا في غير آية فقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: ١٩].
فإذا كان أساس الدِّين الاعتراف بالعجز عن تحديد الله بحدٍّ، أو تعيينه بصورة؛ فمن أين يأتي التفرُّقُ في الدين، والاختلاف في أصوله؟ ولذلك قال لرسوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: ١٥٩].
وإذا كان الدِّين هو هذا فهو أسهل ما يكون كلفة على النَّفس؛ فما على الإنسان إلا أن يعترفَ بالعجز عن تحديد الخالق ثم يأخذ في التقرُّب إليه بالصالحات وكفى؛ قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء: ١٢٥].
ثم قرر القرآن بأنَّ الله شرَع هذا الدِّين لجميع الأمم؛ فالإسلام ليس بجديد حتى يُتَرَدَّدَ في قبوله، بل هو الأصل الأقدم الذي أمرت بالأخذ به الأمم كافَّة فانحرفوا عنه بغيًا بينهم؛ قال تعالي: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: ١٣–١٥].
وإذا كان الأمر كذلك، فيجب على الإنسان أن يؤمن بجميع الأنبياء وما جاءوا به، لا يفرق بين رسول ورسولٍ؛ لأنَّهم جميعًا جاءوا بأصل واحد ودعَوْا إلى دين عام. وقد أمر الله الآخذين بالإسلام أن يقولوا: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: ١٣٦–١٣٨].
فالإسلام — والحالة كما ترى — كما صرح بوحدة النوع البشري ودعا الأمم كافة لمحق ما بينها من الفوارق الاجتماعية، كذلك دعاها إلى الأخذ بدينها العام الذي ينحصر في كلمتين: الإسلام لله، والعمل الصالح؛ قال تعالى: وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ١١١، ١١٢].
نقول بعد هذا البيان: أيُّ غرابة يراها الدكتور طه حسين في هذا الموضوع وهو أجملُ ما حمله دينٌ من الأديان إلى العالم، بل أجمل ما حمله دينٌ من الأديان من شُبَه الملحدين المعاصرين؟! ألم يقولوا: إذا كان الله واحدًا، والإنسان هو الإنسان في كلِّ زمانٍ، فَلِمَ تَخَالفت الأديان، وتباينت تعاليمها في كل مكان؟ ولو اطَّلَعوا لوجدوا أنَّ الإسلام قد حل هذه الشبهة حلًّا ليس وراءه مذهبٌ لمشتبهٍ، بل الإسلام نفسه هو الحل العملي لهذه الشبهة.
أما استغراب الدكتور طه حسين مِنْ زَعْمِ مَنْ زَعَمَ أنَّ لهذا الدين سابقة وقُدْمَة في بلاد العرب، فلا حق له فيه؛ لأنَّ التَّوراة نصت على أنَّ إبراهيم زار البلاد العربية ووافقهم العربُ على هذا، وقالوا: إنَّه بنى فيها بيتًا للعبادة سمَّوْه الكعبة، وقد عالجنا هذه المسألة فيما مرَّ من الفصول، فرأينا أنَّه وإن لم يثبت ذلك على الأسلوب التاريخي الذي يتطلب الآثار المحسوسة، إلا أنَّه كذلك لا يوجد في التاريخ ما ينفيه، وقُلنا: إنَّ المرجِّحات كلها متظاهرةٌ على زيارته لبلاد العرب. فهل من غرابة بعد هذا أن يأخذ بدينه رجالٌ من العرب الذين اتصلوا به في ذلك العهد؟ وهل كان دين إبراهيم فوق متناوَل العقول حتى يستغرب أن يأخذ به رجالٌ من مخالطيه لهم قلوبٌ يفقهون بها، ولهم آذانٌ يسمعون بها، ولهم ذوقٌ يفرِّقون به بين الخبيث والطيب؟ وهل كان دين إبراهيم إلا التوحيد الذي دلّت الآثار على أنَّه وُجِدَ من أقدم العهود في مصر والهند والصين وسواها وأخذ به رجالٌ في تلك الأزمان البعيدة؟ فأيُّ غرابة في أن توجد منه آثارٌ في بلاد العرب بَقِيَتْ من عهد إبراهيم، ولكنَّ الوثنية تغلبت عليه كما هو شأنها في جميع البلدان؟!