وهؤلاء الموالي قد أنطقوا العرب بكثير من النثر والشعر اللذين فيهما مدحٌ للفرس
وتقرُّب منهم. وزعموا أنَّ الأعشى
٨ زار كسرى ومدحه وأخذ من جوائزه، وأضافوا إلى عدي بن زيد
٩ ولقيط بن يعمر
١٠ وغيرهما من إياد والعباد
١١ كثيرًا من الشعر فيه الإشادة بملوك الفرس وسلطانهم وجيوشهم، وأنطقوا شاعرًا
من شعراء الطائف بأبيات وهي تضاف لأبي الصلت بن ربيعة يمدح فيها الفرس.
١٢ على هذا النحو انتحل الموالي الشعر والأخبار وأضافوها للعرب؛ ذكرًا لمآثر
الفرس وما كان لهم من مجدٍ وسلطان في الجاهلية، فكان العرب مضطرِّين إلى أن يجيبوا بلون
من الانتحال يشبه هذا اللون، فيه تغليبٌ للعرب على الفرس.
١٣
فالشعوبية في مظهرها السياسي الأول قد حملت الفرس على انتحال الأشعار والأخبار وأكرهت
العرب على أن يلقوا هذا الانتحال بمثله.
رأينا في هذا الكلام
يُستخلص ممَّا كتبه الدكتور طه حسين في الشعوبية أنَّ الفُرس والعرب كانوا من
التحاقُد والتضاغُن، حتى بعد أن جمع بينهم الإسلام، بحيث بات كل فريق منهم يتربص
بالفريق الآخر الدوائرَ، وأنَّ هذه الخصومة أحدثت آثارًا بعيدة المدى في حياة
المسلمين السياسية والأدبية فكان شعراؤهم يتعصَّبُون للأحزاب السياسية لا عن إخلاصٍ
وحسن نيةٍ، بل لجرِّ المغانم، وكسب الدراهم. وقد تذرَّعوا بذلك إلى ثلب أشراب قريش
وقرابة النبي ﷺ.
وقد قوَّلوا العرب الجاهليين ما لم يقولوه من الشعر في مدحهم والإشادة بذكرهم،
واضطروا العرب لأن يَنْحُوا نحوهم في وضع الشعر المناقض لمزاعمهم، واختلق العرب من
جَرَّاء ذلك حكايات الوفود التي قيل إنَّها أُوفِدت إلى كسرى تذكر محامد العرب
ومناقبهم، ووقائع لم تحدث زعموا أنَّهم انتصروا فيها على العجم، وشفوا صدورهم من الإثخان
٢٣ فيهم.
ثم استحالت
٢٤ الخصومةُ بين الأمتين — بعد سقوط الدولة الأموية — إلى خلافٍ علمي حمل
الفريقين على الإغراق في انتحال الشعر والأخبار الكاذبة. وبما أنَّ أكثر العلماء
الإسلاميين كانوا من الفرس، ووزراء الدولة من الفرس، فقد أخذوا يقيمون الأدلة على
أنَّ الأمر قد عاد إلى أهله، وأنَّ العرب لا يستحقون تلك السيادة التي كانوا
حصَّلوها ثم زالت منهم. وكان هؤلاء العلماء يمضون في ازدراء العرب إلى غير حدٍّ حتى
في دينهم؛ فإنَّ الزندقة وتفضيل المجوسية على الإسلام كانت إذ ذاك أثرًا من
آثارهم.
ذكر الدكتور طه حسين كل هذا ولم يستثنِ طائفةً ولا جيلًا، فلا يتمالك القارئ نفسه
من الازدراء بالفريقين: بالفرس لخبثهم وخيانتهم وإلحادهم، وبالعرب لجبنهم وغباوتهم
واستخذائهم. فإنْ سأل سائلٌ كيف يُعقل أنَّ أمة وصل الدَّخيلُ من جُثمانها إلى
النُّخاع تستطيع أن تُؤسِّس في عهد الدولة الأموية لنفسها ملكًا لم ينبغِ لأُمَّةٍ
من الأمم قبلها، ثم تُوجِدَ لنفسها في عصر العباسيين الذي تلاه مدنيةً لم تُشرق
الشمس على أكمل منها إلى عهدها، تنتهي إليها فيها الخلافة العلميةُ والعمليةُ
والفنيةُ في الأرض؟
لو سأل سائلٌ عن هذا لم يجِد أحدٌ جوابًا شافيًا ولو كان أعدى أعداء الإسلام،
اللهم إلا ساقطًا من القول، وآفِنًا من الرأي، وهراء من المزاعم، ومتى أغنى مثل هذا
في طمس الواقع المحسوس؟!
إنَّ الدكتور طه حسين — في بحثه عن مصادر الشعر المختلق المنسوب للجاهليين، وفي
تحرِّيه عن علل هذا الاختلاق — اضطر أن يعوِّل على كتب المحاضرات؛ كالأغاني، والعقد
الفريد، والبيان والتبيين، وغيرها. ولا ندري كيف فاته أنَّ هذه الكتب أدبيةٌ فكاهية
قاصرةٌ على البحث في أطوار فنٍّ واحد يكثر فيه الخلط والخبط، وكان يغلب على أهله —
وهم أدباء العصور الخالية — المجانة والإباحة والجري وراء الخيال، وتصيُّد الرزق
بالمدح والهجاء، والتقرب إلى الرؤساء بكل وسيلة من الجد والهزل؛ حتى كان منهم من
هجا أمه وأباه وامرأته وهجا نفسه أيضًا.
٢٥ فلا مذهب ديكارت، ولا أي أسلوب فلسفي في الأرض، يسمح لواحد من شيعته في
القرن العشرين أن يصدر على أمة كان لها أكبر الآثار في العالم مثل هذه الأحكام
المنافية لطبيعة الأشياء؛ اعتمادًا على مثل هذه المصادر التي لو سُلِّطَ عليها نقدٌ
جِدِّيٌّ لنفى تسعة أعشار ما فيها لعدم موافقته للمألوف، وشطرًا من العشر الباقي
لنقص سنده التاريخي!
نحن لا ننكر أنَّ نفرًا من الشعراء الذين أصولُهم فارسيةٌ، ونفرًا آخرين من أبناء
جِلدتهم الذين لم يتأدبوا بأدب الإسلام في مسألة الجنسية، قد لعبت بعقولهم الميول
الوراثية، فلجئوا إلى إحياء العصبية في دائرتهم المحلية. كما لا ننكر أنَّ رجالًا
من العرب الذين لا حَظَّ لهم من الإسلام إلا الالتحاق بأهله، لم يقفوا مع نصِّ
الدِّين في إماتة الفوارق الاجتماعية؛ قام الفريقان بإحياء سُنِّةِ الجاهلية، من
التفاخر بالآباء، والتنابز بالألقاب والأسماء، وارتكبوا في تسكُّعِهم
٢٦ في هذا السبيل جريمة الاختلاق على الأقدمين. ولكنَّا نرى أنَّ هذا من
الأمور الطبيعية حتى في الأمة الواحدة التي يجري في عروقها دمٌ واحدٌ، وتعيش كلها
في بيئة واحدة، وفي القرن العشرين نفسه؛ فهل يجهل أحدٌ ما أوجده العُرف من الفوارق
بين الأغنياء والفقراء، وبين ذوي البيوت والصعاليك، وبين البيض والسود؟ ثم أليس
كتابُ الدكتور طه حسين مشحونًا بأخبار عصبية القبائل العربية ذات القرابة القريبة،
وما ابتنى على تلك العصبية قبل الإسلام من حروبٍ ساحقةٍ، وحزازاتٍ ماحقةٍ، فهل
يستغرب بعد ذلك أن يقوم بين زعانف من أمَّتَيْنِ مختلفتين، ما قام مثله ويقوم إلى
اليوم بين أبناء الأمة الواحدة؟!
ولكن أين الدكتور طه حسين من هذا المثل الأعلى الذي أوجده الإسلام من إدماج الأمم
بعضها في بعض، وسلَّ ما بينها من السَّخَائم الموروثة منذ أجيالٍ، وتأليفه منها
دولةً قامت لأول مرة في تاريخ البشر على المبادئ لا على الجنسيات؟ إن من شاء أن يرى
المثل المحسوس من هذا الأمر المُدهش، الذي عجز عنه الأوَّلون والآخرون، فلينظر إلى
الأمة الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من حياتها ليرى أنَّ العربي القُحَّ كان
يأخذ لغته وأدبه ودينه وتصوفه وسياسته وعلمه عن ناسٍ لا يسألهم عن أنسابهم
وأجناسهم، ولا يبالي بألوانهم ولا صُوَرهم، حتى اتفق أن كانت جمهرتهم من أجناسٍ
أجنبية، وقد أدى إليهم من الاحترام والتبجيل ما كان يؤدِّيه لبني جَلدته الذين
كانوا في مثل رتبتهم؛ فكانت حالُ هذه الأمة في هذا الأمر من أغرب الأحوال، تدل على
مبلغ ما أفاده الإسلام للأمة العربية، ذات العصبية الحادة، من الأدب الاجتماعي
العالي الذي قصرت عن مثله الفلسفة في كل أدوارها إلى يومنا هذا.
كانت الأمصار والأقطار التي تُعتبر مراكز للعلم والدين — يُشِعَّان منها على ما
حولها من البلدان في عصر بني أمية — مكة والمدينة والبصرة والكوفة واليمن ومصر
والشام والجزيرة وخراسان. فكان في كل عاصمة من هذه العواصم، ومدينة من هذه الأقطار
إمامٌ يقلِّده أهلها في الدين، ويرجعون إليه في الفتوى. أفلا تعجب إن ذكرت لك أنَّ
كلَّ هؤلاء الأئمة الذين أخذ المسلمون عنهم الدينَ والعلم كانوا من الموالي الذين
يقول عنهم الدكتور طه حسين: إنَّهم كانوا يكرهون العرب، ويُضمرون لهم الخصومة، إلا
واحدًا هو إبراهيم النخعي
٢٧ الذي كان إمام أهل الكوفة، فإنَّه كان عربيًّا خالص العروبة. أما من
عداه فكانوا فرسًا أو ديلمًا أو تُركًا أو من أجناسٍ أخرى؛ فقد كان عطاء بن أبي رباح
٢٨ إمامًا في مكة، وطاووسٌ
٢٩ في اليمن، ومكحول
٣٠ في الشام، ويزيد بن أبي حبيب
٣١ في مصر، وميمون
٣٢ في الجزيرة، والضحاك بن مزاحم
٣٣ في خراسان، والحسن البصري
٣٤ في البصرة، وكلهم من الموالي.
ذكر السخاويُّ في شرح ألفية الحديث للعراقي أنَّ هشام بن عبد الملك الخليفة
الأموي قال للزهري: «من يسود أهل مكة؟ قال: عطاء. قال: بِمَ سادهم؟ قال الزهري:
سادهم بالديانة والرواية. قال هشام: نعم؛ من كان ذا ديانة حُقَّتْ الرياسة له. ثم
سأله الخليفة عن اليمن؟ فقال الزهري: إمامها طاووس. وكذلك سأل عن مصر والجزيرة
وخراسان والبصرة والكوفة؟ فأخذ الزهري يعد له أسماء سادات هذه البلاد، وكلما سمَّى
له رجلًا كان هشام يسأله: هل هو عربي أم مولى؟ فكان الزهري يقول: مولى. إلى أن أتى
على ذكر النخعي! فقال: إنَّه عربيٌّ. فقال هشام: الآن فرَّجت عني، واللهِ ليسودن
الموالي العرب ويُخطَب لهم على المنابر.»
وهذا الحسن البصري الذي يعتبر إمام أئمة هذه الأمة، والمرجع الأعلى للدين والعلم
والفتيا كان فارسيًّا من الموالي. وقد بلغ من الشرف والسؤدد أن شدد النكير على
الحجاج بن يوسف الثقفي وأغلظ له في القول.
وكان رأس التابعين والمقدَّم عليهم سعيد بن جبير وهو أسود اللون، وكان قد ولاه
الحجاج إقامة الصلاة في الكوفة، والكوفة إذ ذاك مُعَشَّشُ العرب، وقبة
الإسلام.
وكان سليمان الأعمش الإمام المشهور عبدًا أعجميًّا، وقد كان من العزة والمنعة
بحيث يزدري بأمر هشام بن عبد الملك، فقد ذكر ابن خَلِّكان في ترجمته
٣٥ أنَّ هذا الخليفة الأموي طلب إليه أن يكتب له مناقب عثمان ومساوئ علي؛
فأخذ كتاب هشام وألقمه عنزًا كانت عنده وقال للرسول: قل لأمير المؤمنين: هذا جواب
كتابك!
وكان أبو حنيفة صاحب المذهب فارسيًّا، وقد لقبه العرب أنفسهم بالإمام الأعظم،
وأخذوا عنه الدِّين غير متحرِّجين، ولا متأثِّمين. وجمهرة العلماء الذين حفظوا
القرآن والأحاديث كانوا من الفرس وغيرهم، وهم البخاريُّ ومسلمٌ صاحبا الصحيحين،
والترمذي والنسائيُّ وابن ماجه والدارقطني والسِّجِسْتاني وغيرهم أصحاب بقية كتب
الستة الصحيحة، لم تَحُلْ جنسيتهم في نظر العرب دون اعتبارهم أئمة علم الحديث،
وحسبانهم كتبَهم المراجعَ الوثيقة له.
وقد كان وهب بن مُنَبِّه
٣٦ من أقدم رواة الحديث وأصحاب التفسير وهو فارسي الأصل، وكان نافعٌ
٣٧ صاحب القراءة المشهورة ديلميًّا.
أما أقدم الفقهاء الذين أخذ عنهم الأئمة مذاهبهم غير من ذكرنا: فالحسن بن أبي
الحسن، ومحمد بن سيرين
٣٨ بالبصرة، ومجاهد،
٣٩ وسليمان بن يسار
٤٠ في مكة، وزيد بن أسلم،
٤١ ومحمد بن المنكدر،
٤٢ ونافع بن أبي نجيح في المدينة، وربيعة الرأي،
٤٣ وابن أبي الزناد
٤٤ في قُباء، وكل هؤلاء كانوا من الموالي.
ولو أردت سرد أسماء علماء الموالي الذين يُعتبرون السلفَ الصالح لهذه الأمة لكتبت
صحفًا كثيرةً، فلأكتفِ بهذا القدر؛ لشهرة هذا الأمر شُهرَةً مستفيضة في جميع مراكز
العالم الإسلامي.
فهؤلاء هم أئمة الدين الإسلامي؛ أخذوه عن أصحاب النبي ﷺ مباشرة ونشروه بين
الناس، فشُحِنَتِ الكتب بآرائهم ومذاهبهم، واحترمها المسلمون من أول عهدهم إلى
اليوم.
فإن كان صحيحًا ما قاله الدكتور طه حسين عن الموالي، وجب أن يكون المسلمون منذ
ألف وثلاثمائة سنة إلى اليوم من الغفلة والغباوة والبلادة في الحضيض الأسفل؛ إذ
أخذوا دِينهم عن قوم من الطراز الذي وصفه الدكتور طه حسين بإضماء الخصومة للمسلمين
الأوَّلين، وبكراهة الإسلام وتفضيل المجوسية عليه … لا يقول بهذا عاقلٌ!