الحضارة المنتجة للاقتصاد السياسي
١
-
المسيحية الرومانية، بعبارةٍ أدق: النصرانية بعد رَوْمَنَتها.
-
المجد الروماني، الذي سيرثه المحارب الجرماني.
-
العلم اليوناني، الوريث التاريخي لعلوم الحضارات الشرقية القديمة.
أولًا: المسيحية الرومانية
لقد نشأت النصرانية، نسبة إلى الناصرة بلدة يسوع، في بيئةٍ يهودية وظلت تنمو في سنواتها الأُولى وتنتشر في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، فبلغَت سوريا وآسيا الصغرى وأنطاكية ومصر واليونان حتى قرعَت أبوابَ روما نفسها. وخلال ثلاثة قرون تقريبًا (٥٨–٣١١م)، تعرَّضَتِ الجماعات المسيحية الأُولى للاضطهاد والتنكيل؛ فلقد مثَّل الجانب الثوري في دعوة يسوع ضد القهر الروماني تهديدًا مباشرًا لوحدة إمبراطورية تقوم على التنظيم العسكري الصارم. كما سيُمثِّل الصراع، بعد المسيح، بين الطوائف الرسولية بؤر توتُّر تنذر بحروبٍ أهلية؛ ومن ثَمَّ أخذت روما تنظر إلى الجماعات المسيحية كتياراتٍ سياسية مناوئة أو متمردة يجب قمعها. ظل هذا القمع الرسمي المنظَّم من قِبل الدولة على أشُده حتى صدور مرسوم الإمبراطور جاليريوس (٣١١م) الذي أعلن تسامُح الدولة مع الديانة المسيحية. ومع مرسوم ميلانو (٣١٣م) الذي أصدره الإمبراطور قسطنطين (٢٧٢–٣٣٧م) تم الاعتراف رسميًّا بالمسيحية، كما تقرَّر مبدأ حياد الدولة تجاه العقائد كافة.
خلال تلك الفترة، الممتدة من أوائل القرن الأول حتى منتصف القرن الرابع، تم استكمال البناء الداخلي للتنظيم الكنسي؛ فلقد كُتبت الأناجيل وتشكَّلتِ الطقوس وقُررتِ الصلوات، التي لم يؤدِّها يسوع نفسه، وسُنَّت قوانين الإيمان. كما تبلورت الوظائف الدينية والمراتب الكهنوتية في إطارٍ من الغموض والاحتكار التدريجي للعقيدة والحقيقة من قِبل المؤسسة الكنسية!
على كل حال، حينما استولت جحافل الجرمان على أراضي الإمبراطورية الغربية، سيطر رؤساء القبائل، الملوك الجدد، على الأرض التي صارت بدون حُكمٍ مركزي؛ ومن ثَمَّ أقطعوا قادة جيوشهم المساحات الشاسعة من الأراضي في مقابل الطاعة وحماية عروشهم ومد سلطانهم ونفوذهم إلى مناطقَ أبعد؛ الأمر الذي أدى إلى تكوُّن التنظيم الاجتماعي الإقطاعي. في إطار هذا التنظيم نشأ الصراع المرير، والدَّامي أحيانًا، بين الملوك وكبار المُلَّاك من جهة، وبين الملوك والكنيسة من جهةٍ أخرى. كما شاعت الخرافة وتردَّت الأحوال الاجتماعية لفترةٍ دامت ألف سنة تقريبًا. وتمكَّنَت الكنيسة الرومانية في ظل ذلك من ترسيخ سلطانها ووجودها السياسي والاجتماعي كأخطر مؤسسة في القرون الوسطى؛ فمن خلال تنظيمٍ هَرَمي مُحكَمٍ أخذت الكنيسة في تدعيم نفوذها الديني والدنيوي بوصفها المؤسسة الوحيدة المُعبِّرة عن إرادة السماء! والمصدر الوحيد الذي يُكسِب الملوكَ الشرعية وحُكمَهم القداسة! ويُخلِّص الرعية من الخطايا! كما عَمِلَت دائمًا من أجل الحفاظ على المكاسب الاقتصادية الهائلة التي حقَّقَتْها، بوكالتها عن الرب، كأكبر إقطاعي، وأكبر جابٍ للضرائب، وأكبر قاتل للبشر الذين يرتكبون خطيئة التفكير! ويُلخِّص تولستوي (١٨٢٨–١٩١٠م) الوضع الثقافي آنذاك بقوله:
ويمكننا أيضًا تلخيص الحالة الاجتماعية للمنتجين المباشرين آنذاك من خلال كتابات المعاصرين الذين بيَّنوا سوء الأحوال التي كان عليها هؤلاء المسحوقون:
ثانيًا: المجد الروماني
ابتداءً من القرن الثاني عشر قبل الميلاد تدفَّق الرومان من شرق أوروبا إلى شبه الجزيرة الإيطالية مؤسسين روما القديمة عاصمة لهم. وافتتانًا بالحضارة اليونانية نظَّم الرومان دولتهم، وأبدعوا في علوم القانون، وأخذوا في التوسع العسكري حتى تمكنت جيوش روما من فرض هيمنتها على كامل الأراضي الإيطالية، ثم انطلقت لإحكام السيطرة على ممالك العالم القديم؛ فمن الجزر البريطانية وسواحل المحيط الأطلسي غربًا إلى بلادِ ما بين النهرَين وبحر قزوين شرقًا، ومن وسط أوروبا وجبال الألب شمالًا إلى الصحراء الكبرى والبحر الأحمر جنوبًا، نشأتِ الإمبراطورية الرومانية كدولةٍ توسعية ذات طابعٍ استعماري. وحينما سقطت روما في منتصف القرن الخامس الميلادي، وورث الملوك الجرمان النظام الإمبراطوري، نشأت دول غرب أوروبا بخاصة إسبانيا والبرتغال وفرنسا وإنجلترا وهولندا كممالكَ توسُّعية حاملة شعلة المجد الروماني، وسيصبح العالم بأسره حقلًا لعملياتها الاستعمارية. ولم يكن من الممكن أيديولوجيًّا اعتبار العالم مسرحًا لتمدُّد حدود هذه الدول الاستعمارية إلا ابتداءً من أيديولوجيةٍ استعمارية/استبعادية أساسها اعتبار كلِّ ما هو غير أوروبي، تمامًا كما كانت روما تنظر إلى غيرها، خارج الحضارة الإنسانية وفي انتظار أوروبا من أجل «إعماره» وجعله متحضرًا مثل أوروبا! فكما نظرت روما إلى الجرمان كبرابرة، نظر الجرمان، بعد رومنتهم، وأحفادهم من بعدهم، إلى غيرهم نفس النظرة المتعالية؛ فقبائل أمريكا الجنوبية وثنية يجب هدايتها أو إحراقها والاستيلاء على كنوزها، والأفارقة عبيدٌ أدنياء، والعرب أجْلَاف بالسليقة. والمسلمون هَمج رعاع، والحضارة، بجميع مفرداتها وظواهرها الاجتماعية، لم تبدأ إلا من أوروبا!
وهكذا فَرضَت أوروبا، بواسطة مُحاربيها، هيمنتها الثقافية والحضارية ابتداءً من تصورٍ أحادي للعالم، ونظرةٍ شوفينية للتاريخ الإنساني، وانطلاقًا من رؤيةٍ استبعادية لكلِّ ما هو غير أوروبي من تاريخ الحضارة الإنسانية!
ثالثًا: العلم اليوناني
٢
-
علمًا تجريديًّا، يعتمد على تصنيف الظواهر، محل انشغاله، مع العلو بها عن كلِّ ما هو غير مؤثر في الظاهرة محل البحث؛ فهو يستبعد الثانوي، ويجمع المتشابه، ويستخلص المشترك، ويستنتج الأصول الواحدة، دون انشغال بالتفاصيل التي تعوق الفهم الناقد للظاهرة الاجتماعية موضوع بحثه.
-
دارسًا للظاهرة الاجتماعية محل انشغاله بمعزل عن الدين الذي أمسى مرفوضًا وجوده الاجتماعي، ليس ابتداءً من تفنيدٍ علمي للدين الوضعي المسيحي،٢٦ وهو ما كان يمكن أن يؤدي إلى نفس النتيجة، إنما رفضًا للمسيحية نفسها ابتداءً من إدانة تسلُّط رجال الدين، وكلاء الرب، وتحررًا من قهر الكنيسة التي احتكرت الحقيقة الاجتماعية، واسترقَّت أرواح الملايين من البشر طيلة ألف سنة.
-
منطلقًا من غرب أوروبا لشرح وتفسير الظواهر التي برزت في غرب أوروبا ابتداءً من القرن السابع عشر تقريبًا؛ وبالتالي، متخذًا من غرب أوروبا حقلًا للتحليل على الصعيدَين التاريخي والواقعي معًا، مستبعدًا دراسة تاريخ الظاهرة وواقعها في الأجزاء الأخرى من العالم استبعاده لوجود أي حضارةٍ غير حضارة أوروبا؛ ومن ثَمَّ اعتبر جميع الظواهر محل دراسته من قبيل الظواهر غير المسبوقة تاريخيًّا، وأنها بالتالي ظواهر لم تنشأ إلا في أوروبا ثم انتقلَت من أوروبا إلى العالم بأَسره. وفي مقدمة هذه الظواهر في حقل النشاط الاقتصادي، كما سنرى تفصيلًا، بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق.
على هذا النحو نكون قد تعرفنا إلى مُكوِّنات الحضارة التي أنتجت علم الاقتصاد السياسي وشكَّلته كعلمٍ اجتماعي، ويتعين التعرف الآن إلى الشروط الموضوعية لنشأة العلم الاجتماعي نفسه؛ تمهيدًا لتكوين الوعي بموضوع علم الاقتصاد السياسي.
وقارب: «نشاهد بعض حيواناتٍ متوحشة منتشرة بالريف، سوداء، مغبرة، قد لفحتها الشمس، ملحقة بالأرض التي تنبش فيها بعناد لا يُغلب تلوح وكأنها تنطق بلغةٍ مفصَّلة، وحينما تقف على أقدامها تظهر لها وجوهٌ إنسانية. الواقع أنهم أناس يأوون بالليل إلى جحورهم حيث يتغذون بالخبز الأسود، بالماء وبالجذور. إنهم يَكْفون الناس الأحرار مشقة البَذْر والحَرْث للمعيشة، وبذلك يستحقون ألا يُحرموا من الحَب الذي بذروه.» مذكور في: بول هازار، «أزمة الضمير الأوروبي ١٦٨٠–١٧١٥م»، ترجمة جودت عثمان ومحمد المستكاوي، مقدمة طه حسين (القاهرة: دار الشروق، ١٩٩٥م)، ص٢٣٦، هامش. ناهيك عن المحارق! ففي الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر تم حرق نحو ٩٠ ألف شخص تقريبًا، بتهمة ممارسة السحر منهم حوالي ٣٥ ألف شخص في ألمانيا وحدها، الأغلبية نساء.
Gaston Dodu, “Histoire des institutions monarchiques dans le royaume Latin de Jérusalem 1099–1291” (Thèse présentée à la faculté des lettres de Paris) Paris, Librairie Hachette et Cie. http://clc-library-org-docs.angelfire.com/institutions.html.
وانظر كذلك المراجع المذكورة في [الباب الثالث: النقد الخارجي – الفصل الرابع: بيع قوة العمل، والإنتاج من أجل السوق في مجتمعاتِ ما قبل الرأسمالية الأوروبية المعاصرة – هامش رقم ٩٠].
وعكس ذلك، انظر المؤلَّف الأصيل لجورج سارتون، «تاريخ العلم»، بصفةٍ خاصة الفصل الرابع؛ حيث حلل، بدقة وموضوعية، مصادر العلم اليوناني المُستقَى من حضارات الشرق القديم. انظر: جورج سارتون، «تاريخ العلم: العلم القديم في العصر الذهبي لليونان»، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١٠م)، ويصل كتاب «التراث المسروق» لجورج جيمس إلى أبعدِ مدًى حينما يسعى للبرهنة بموضوعيةٍ على الأصول المصرية القديمة للفلسفة اليونانية. انظر: جورج جيمس، «التراث المسروق: الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة»، ترجمة شوقي جلال (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ١٩٩٦م)، وكذلك كتاب مارتن برنال، «أثينا السوداء»؛ إذ يقوم برنال، في نفس طريق جورج جيمس، بإعادة التأريخ للفلسفة اليونانية من خلال البحث عن منابعها في مصر والحضارات الشرقية القديمة. انظر: مارتن برنال، «أثينا السوداء: الجذور الأفروآسيوية للحضارات الكلاسيكية»، ترجمة لطفي عبد الوهاب يحيى وآخرين (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٢م).
بصفة خاصة: Part II: The False or The Eological essence of Religion.
https://libcom.org/files/The%20Essence%20of%20Christianity.pdf.