١
المحرك المركزي لنشأة العلم هو الكشف عن القانون الموضوعي
الحاكم للظاهرة
١ الاجتماعية بوصفها «شيئًا»
٢ «مهيمنًا» يملك نفوذًا «مستقلًّا» عن أفراد المجتمع.
٣
ولكي ينشأ العلم الاجتماعي، وليس الانشغال الفكري فحسب،
يتعين أن يكون الذهن الجمعي مُهيَّأً للكشف عن القوانين
الحاكمة للظاهرة على الصعيد الاجتماعي. والذهن الجمعي يصبح
مهيَّأً لذلك حينما يُبدِّد ما يحجُب الوعي الناقد ويُحطِّم
الصنمية الفكرية؛ طامحًا إلى أكثر من وجوده بالتعرف إلى معنى
الحياة والهدف منها.
ولم يكن لعلم الاقتصاد السياسي، كعلمٍ اجتماعي، أن يظهر لكي
يفسر الظواهر محل انشغاله إلا بتزامُن هيمنة تلك الظواهر،
وتضافُرها، مع تطلُّع الذهن الجمعي إلى التعرف إلى القوانين
الموضوعية التي تحكمها.
فعَبْر تاريخ البشر برزت خمس
٤ ذهنيات: الذهنية الميثولوجية والذهنية الفلسفية
كذهنياتٍ مهيمنة في العالم القديم. والذهنية الفقهية والذهنية
اللاهوتية كذهنياتٍ مهيمنة في العالم الوسيط. والذهنية العلمية
كذهنيةٍ مهيمنة في العالم الحديث.
٥
ومع الذهنية الأخيرة فقط، تبلور، وفي غرب أوروبا، علم
الاقتصاد السياسي. على الرغم من أن جُل الظواهر التي
استَنهَضَته منذ بضعة قرون فحسب، كانت موجودة منذ آلاف السنين؛
ففي العالمَين القديم والوسيط كان أمام الرأسمالي، والذي يملك
نقودًا يهدف إلى إنمائها، سواء أكان في بابل قبل الميلاد أم في
القدس في القرن الأول أم في روما في القرن الثالث أم في بغداد
في القرن العاشر، ثلاثة اختيارات:
- الاختيار الأول: أن يشتري سلعة بسعرٍ منخفض ويعيد بيعها
بسعرٍ مرتفع ويحصل على الربح الناتج عن الفارق
بين هذَين السعرَين. وقد تتم هذه العملية داخل
البلد الواحد، أو بين بلدَين أو أكثر.
- الاختيار الثاني: أن يُنتج السلعة بدلًا من شرائها مصنَّعة.
وفي سبيل ذلك ربما يأتي الرأسمالي بمواد العمل
إلى الحِرفي، المالك لأدواته، ويحتكر إنتاجه
مقابل أجرٍ مُحدَّد.
- أما الاختيار الثالث: فهو أن يقوم بإقراض نقوده إلى شخصٍ آخر إلى
أجلٍ محدد وحين حلول الأجل يحصل على نقوده
مضافًا إليها فائدة. أو يتاجر بالنقود بيعًا
وشراءً ويقوم بشتَّى أعمال الصرف، رابحًا من
وراء تفاوُت واختلاف أسعار العملات.
ويمكننا أن نرى هذه الاختيارات الثلاثة بوضوح عَبْر تاريخ
النشاط الاقتصادي كخياراتٍ مطروحة أمام الرأسماليين سواء
أكانوا، وكما ذكرنا، في بابل أو القدس أو روما أو بغداد. أو في
أي مكان في العالم القديم أو العالم الوسيط. ومعنى تكرار هذه
الاختيارات، الظواهر، وبانتظام هو أننا أمام «أشياء» تستدعي
التفسير والتحليل وتحديد القوانين الموضوعية التي تَحكُم
أداءها؛ فنحن أمام ظواهر: الربح، والأجر، والفائدة … إلخ.
ولكننا لا نعرف على أي أساسٍ تَحدَّد، آنذاك، ربح الرأسمالي في
أي اختيارٍ من اختياراته الثلاثة، ولا نعرف على أي أساسٍ
تَحدَّدت الأجور، كما لا نعرف كذلك كيف تحدَّد سعر الصرف أو
سعر الفائدة … إلخ. ويجب ألا نتوقع العثور على إجاباتٍ عن
أسئلتنا عن مُحدِّدات الربح أو الأجر … إلخ، لدى مفكري العالم
القديم أو الوسيط؛ وذلك لانتفاء شرط انشغال الذهن الجمعي؛
فالظواهر المراد تفسيرها مهيمنة على الصعيد الاجتماعي، ولكن
الذهن الجمعي ليس لديه الاهتمام للانشغال بها على نحوٍ علمي؛
وذلك لهيمنة ذهنياتٍ أخرى حالت دون الكشف عن القوانين
الموضوعية الحاكمة للظواهر التي فرضَت نفسها آنذاك على الواقع
الاجتماعي.
فالقوانين البابلية، مثلًا، والتي نظَّمَت بدقة مظاهر النشاط
الاقتصادي وعالجَت العديد من مفرداته؛ فتحدثَت عن الرأسمال،
والعمال، والأجور، والأرباح … إلخ، اتخذَت جميعها من
الميثولوجية إطارًا لا تتخطاه؛ فجميع القوانين البابلية
تقريبًا هي قوانينُ مملاةٌ من الآلهة على الملِك من أجل تنظيم
المجتمع وفقًا لمشيئة الآلهة، لا البشر. والنصوص نفسها لا تخلو
من ذكر الآلهة الذين يتحكمون في الصواعق والأمطار والرياح، أو
الذين يتم الاعتراف أمامهم بالجرائم … إلخ.
وفي أثينا، تحدَّث أرسطو عن التبادُل والنقود والقيمة
والفائدة … إلخ، في سياق الفلسفة.
٦ وكانت جميع الظواهر على الصعيد الاجتماعي تُدرس
ابتداءً من هذه الذهنية الفلسفية.
وفي غرب أوروبا في التاريخ الوسيط، وعلى الرغم من انتشار
الحِرف والتجارة العالمية على سواحل البحر الأبيض المتوسط، فإن
أهم ما سيصل إلينا من إنتاجٍ فكري وتحليلاتٍ نظرية بشأن النشاط
الاقتصادي سيكون في إطار التصورات اللاهوتية، وهو ما تمثل في
كتابات ألبرتو ماجنوس (١٢٠٠–١٢٨٠م) وتوماس الأكويني
(١٢٢٥–١٢٧٤م) وأوريزم (١٣٢٠–١٣٨٢م) كمحاولات، مجرد محاولات،
أوَّلية للانشغال الفكري، وفي إطار التعاليم الكنسية، بتحليل
التجارة والإنتاج الحِرفي وما يتعلق بهما من ظواهر كالأثمان،
والفائدة، والأرباح … إلخ.
٧
وفي دمشق أو بغداد أو قرطبة أو القيروان، على أقل تقدير في
الفترة من القرن السابع حتى القرن الثاني عشر، جاء الانشغال
بمظاهر النشاط الاقتصادي في إطار الفقه؛ فلقد عالج الفقهاء
مسائل الأرباح، والمضاربة، والأجور، والصرف، والشركات،
والإيجار، والبيع، والعارية، والرهن، والتأمين، والكفالة …
إلخ؛ ومن ثَمَّ حال الاهتمام بعلوم الشريعة (المتضمنة أوجه
النشاط الاقتصادي) دون تكوُّن الانشغال بالكشف عن القوانين
الموضوعية الحاكمة لهيكل وأداء النشاط الاقتصادي. ومن هنا
يمكننا استنتاج السبب، ربما الوحيد، الذي منع نشأة «علمٍ»
اقتصادي في القرن العاشر، في بغداد أو قرطبة، على الرغم من
توافُر جُل الظواهر التي أنضجت العلم الاقتصادي؛ هذا السبب هو
هيمنة الفقيه، والذي كان آنذاك لديه الإجابة، الشرعية، عن كلِّ
ما هو اجتماعي! ولذا، حينما ظهر أصحاب العقول العلمية الجبارة
كابن حيان (٧٢٢–٨٠٤م) والخوارزمي (٧٨٠–٨٥٠م)
والكندي (٨٠٥–٨٧٣م) والرهاوي (٨٥٤–٩٣١م) والفارابي (٨٧٤–٩٥٠م)
والحسن بن الهيثم (٩٦٥–١٠٤٠م) والبيروني (٩٧٣–١٠٤٨م) وابن سينا
(٩٨٠–١٠٣٧م) وابن باجة (١٠٩٥–١١٣٨م) والإدريسي (١٠٩٩–١١٦٠م)
وابن رشد (١١٢٦–١١٩٨م) والجزري (١١٣٦–١٢٠٦م)
٨ لم تكن لتشغلهم مسائل النشاط الاقتصادي التي
عالجتها مصنفات الفقهاء (وهي المصنفات التي تتلمذ بالفعل عليها
أكثرهم)؛ فقد كانت تلك المسائل محسومة فقهيًّا آنذاك؛ حيث كان
المهم هو معرفة الأحكام الشرعية للمعاملات،
٩ لا القوانين الموضوعية للظواهر.
ومن جانبٍ آخر؛ ولأن خراج الأراضي كان من الظواهر المهيمنة،
فقد أُلِّفت كُتب الخَراج كمؤلَّفات وُضعَت بالأساس من أجل
إرشاد الحاكم إلى أصولِ ماليةِ دولة الخلافة، وتنظيم مواردها
ونفقاتها، بصفةٍ خاصة بعدما ثارت التساؤلات حول الحكم الشرعي
للأراضي المفتوحة وغلَّاتها ومصارفها … إلخ. والذي تولَّى وضع
هذه المؤلفات هم الفقهاء
١٠ لا علماء الطب أو الرياضيات؛ فكل ما هو اجتماعي،
وكما ذكرنا، كان خاضعًا لأحكام الفقه بوصفه التعبير عن الشريعة
التي تُسيطر على حياة الشخص في الدنيا والآخرة؛ دون إمكانية
للفصل بين ما هو مدني وبين ما هو ديني؛ ولذا لم يكن أمام
العقول العلمية آنذاك، بل وبعض العقول الفقهية الناقدة
كالمعتزلة، وفي مقدمتهم الجاحظ (٧٧٥–٨٦٨م) والمأمون (٧٨٦–٨٣٣م)
والقاضي عبد الجبار (٩٣٥–١٠٢٤م) والزمخشري (١٠٧٠–١١٤٣م)، وهي
العقول التي ورثت حضاريًّا علوم الشرق القديم وفلسفة اليونان،
سوى الاتجاه في أحد الاتجاهَين: إما إعادة النظر في أساس الفقه
نفسه بإعادة النظر في أصول الشريعة ذاتها. وإما البحث عن
القوانين الحاكمة للظواهر الطبيعية تحركًا في المساحة التي لم
يتمكن الفقه من إحكام سيطرته عليها، إلا في عصور الانحطاط
وهيمنة الغيبيات. في الحالتَين لم يكن هناك أدنى انشغال بالكشف
عن القوانين الموضوعية الحاكمة للنشاط الاقتصادي على الصعيد
الاجتماعي؛ وذلك، لاستئثار الفقيه، على أرض الواقع، بدورٍ حاسم
في منع تكوُّن المفكر الاجتماعي الباحث، على نحوٍ ناقد، في
القوانين الموضوعية للظواهر الاجتماعية، والسياسية بالتالي،
وهو المنع الذي استتبع بدوره الحيلولة دون النفاذ إلى تلك
المناطق النظرية التي اعتبرها الفقيه واقعة في إطار نفوذه المعرفي!
١١
وحينما يتكون الذهن العلمي الناقد لكل ما هو قائم في أوروبا
في القرنَين السابع عشر والثامن عشر، بعدما ثار الضمير الجمعي
على طغيان الملكية الإقطاعية، ونهض وعي الجماهير ضد دوجما
السلطة الكنسية، وانطلق العقل الناقد باحثًا عن القوانين
الموضوعية الحاكمة للظواهر الطبيعية والاجتماعية بعيدًا عن كل
ما هو ميثولوجي أو لاهوتي، وأخذ الذهن الفلسفي نفسه في التطور
مراجعًا مُسلَّمات طاليس وبارمنيدس وأفلاطون وأرسطو … إلخ،
نقول مع تكوُّن الذهن العلمي على هذا النحو، سوف تُدرس جميع
الظواهر على الصعيد الاجتماعي بذهنية هدفها المركزي التعرف إلى
القوانين الموضوعية الحاكمة لها بعيدًا عن تصورات القدماء التي
رفضها العقل الناقد؛ ومن ثَمَّ أصبح ظهور الاقتصاد السياسي،
كعلمٍ اجتماعي، أمرًا محتملًا، بل ولازمًا، كي يُفسِّر ظواهر
النشاط الاقتصادي الطارئة على المجتمع الأوروبي؛ فعندما
تفجَّرَت الثورة الصناعية في أوروبا الغربية وتَبلورَت معها
العشرات من الظواهر الجديدة.
١٢ ومع تهيُّؤ الذهن الجمعي للكشف عن القوانين
الموضوعية التي تحكم أداء هذه الظواهر، بعد التحرر من الوصاية
الفكرية التي ضُربَت على القارة طيلة قرون من الظلام، ظهر علم
الاقتصاد السياسي، كعلمٍ اجتماعي، هدفه البحث عن القوانين
الموضوعية التي تحكم تلك الظواهر وما تثيره من إشكالياتٍ معقدة
بشأن الإنتاج والتوزيع، واحتلت ظاهرة الأثمان مكانًا مهمًّا في
حقل التحليل الفكري؛ فجميع قرارات الإنتاج، وجميع تناقُضات
التوزيع، إنما تهيمن عليها، بحال أو آخر، ظاهرة الأثمان. ولكن،
الأثمان هي المظهر النقدي للقيمة.
١٣ وبالتالي أصبحَت القيمة، كظاهرةٍ مهيمنة تخضع
لقانونٍ موضوعي، هي نقطة انطلاق الآباء المؤسسين للاقتصاد
السياسي في دراستهم لقوانين الإنتاج والتوزيع. وهو ما يُوجِب
علينا الانتقال خطوةً فكرية من أجل التعرُّف إلى موضوع علم
الاقتصاد السياسي الذي اتخذ من القيمة محلًّا لانشغاله.