في القيمة
١
وحينما تثبت الخصيصة المجرَّدة من الناحية الكيفية (الوزن، والطول، والحجم، والارتفاع، والقيمة … إلخ)، فلا يبقى أمامنا سوى التعرُّف إلى هذه الخصيصة من الناحية الكمية الملموسة باستعمال المقياس ووحدة القياس الملائمين لطبيعة الشيء المراد قياسه.
والمقياس هو الأداة أو الآلة التي بها تُقاس الخصيصة المطلوب معرفتها كميًّا؛ فمقياس الطول هو الشريط المقسَّم إلى سنتيمترات أو المسطرة، وليس البُعد بين طرفَي هذا الشيء، أما وحدة القياس فهي السنتيمتر؛ ومِن ثَمَّ حينما نقول إن طول قطعة النسيج ١٢ مترًا، فهذا يعني أننا استعملنا الشريط المقسَّم إلى سنتيمترات أو المسطرة، كمقياس للطول، واستخدمنا السنتيمتر كوحدة قياس.
بيد أن الأمور على ما يبدو لا تسير بشأن مقياس ووحدة قياس القيمة على هذا النحو من الوضوح؛ فالاقتصاد السياسي يعي أن القيمة هي مجهودٌ إنساني متجسد في المنتوج. ولكنه حينما يقيس هذا المجهود فإنما يقيس الوقت الذي يُبذل (خلاله) المجهود دون أن يقيس المجهود نفسه؛ أي دون أن يقيس القيمة التي يريد بالأساس قياسها! فضلًا عن الخلط بين المقياس ووحدة القياس؛ فقد رأى آدم سميث (١٧٢٣–١٧٩٠م):
«أن ما يُنتَج عادة في يومَي عمل أو ساعتَين من العمل يستحق ضعف ما ينتج عادة في يوم عمل أو ساعة عمل» («ثروة الأمم»، الكتاب الأول، الفصل السادس).
ويسير دافيد ريكاردو (١٧٧٢–١٨٢٣م) في نفس طريق سميث، ولكنه يصل إلى مقياسٍ مختلف نوعًا ما، وهو الكمية الوسطية للعمل المبذول في إنتاج الذهب:
«حيث يمكن للذهب أن يُعتبر سلعةً تُنتج بأجزاء من الرأسمال، الأقرب للكمية الوسطى الموظَّفة في إنتاج جُل السلع فيمكن أن تكون هذه الأجزاء بعيدة بنفس المسافة من الحد الأقصى للرأسمال؛ بحيث تُشكِّل معدلًا وسطيًّا» («المبادئ»، الفصل الأول، القسم السادس).
«… كيف سنقيس مقدار القيمة؟ إن ذلك سيكون بكميةِ ما تتضمنه من العمل. أما كمية العمل فتُقاس بطول العمل، بوقت العمل، ووقت العمل يجد معاييره في أجزاءَ محددة من الزمن كالساعة واليوم» («رأس المال»، الكتاب الأول، الفصل الأول).
ولأن الاقتصاد السياسي يمضي مجافيًا العلم حينما يؤكد، كمسلَّمة، عَبْر مئتَي عامًا أن قيمة السلعة تُقاس بالوقت المنفَق في سبيل إنتاجها، فإنه بتلك المثابة يضعنا في أزمةٍ معرفية؛ إذ يتعين الاختيار بين أمرَين: إما الإقرار، علميًّا، بأننا نستخدم مقياسًا خاطئًا للقيمة؛ لأننا نقيس الجهد الإنساني المتجسد في المنتوج باستعمال وحدة قياس الوقت! كأننا نحاول قياس الطول بالريختر، أو قياس الارتفاع بالجالون الإنجليزي! وإمَّا الاعتراف صراحة بأن فهم الاقتصاد السياسي للقيمة هو الخطأ ويحتاج إلى مراجعة؛ لأنه يقول إن القيمة «جهدٌ إنساني» متجسد، ثم يتعامل معها «كزمنٍ» منفَق!
وعليه، فإذا كان فهم الاقتصاد السياسي للقيمة صحيحًا، فيجب تصحيح المقياس. أما إذا كان المقياس صحيحًا، ومِن ثَمَّ وحدة القياس أيضًا صحيحة، فيجب أن يُعاد النظر في مفهوم القيمة نفسه.
حسنًا، فلنَدعْ جانبًا، مؤقتًا، ما ذكرناه أعلاه، ولنفترض، مؤقتًا أيضًا، أننا على خطأ، ولنعتبر بالتالي أن الاقتصاد السياسي مُحقٌّ في استخدام كمية العمل لقياس القيمة! ولنساير الآن مؤسسي العلم في مقياسهم! وسنلاحظ أن الآباء المؤسسين لعلم الاقتصاد السياسي متفقون على أن القيمة تُقاس بكمية العمل وكمية العمل تُقاس، كما ذكرنا، بالوقت الذي يُبذل (خلاله) العمل، ولكنهم مختلفون في ماهية هذا العمل.
فلقد رأى سميث، الذي كان يخلط بين القيمة والقيمة التبادلية كما سنرى في حينه، أن قيمة السلعة تتحدد بكمية العمل المبذول في سبيل إنتاج السلعة الأخرى المتبادَل بها؛ أي إنه يقيِّم السلعة «م» بكمية العمل المنفَق في سبيل إنتاج السلعة «ك» التي تُبادل بها، وليس بكمية العمل المنفق في سبيل إنتاج السلعة «م» نفسها:
«إن تقدير قيمة السلعة التبادلية بكمية من سلعةٍ أخرى يُعد أمرًا طبيعيًّا» («ثروة الأمم»، الفصل الخامس).
أما دافيد ريكاردو الذي حاول، وربما ادَّعى، تصحيح سميث، فلقد ذهب إلى أن القيمة تتحدد بكمية العمل النسبي المنفَق في إنتاج السلعة. أما المقياس فهو، وكما ذكرنا، كمية العمل الوسطي المبذول في سبيل إنتاج الذهب الذي يُعد بدوره سلعة بإمكانها أن تقوم بدور القيمة التبادلية للسلع المختلفة.
ويعود ماركس، في نهاية المطاف، إلى آدم سميث إنما دون أن يقيس قيمة السلعة بكمية العمل المنفَق في سبيل إنتاج السلعة الأخرى المتبادَل بها، بل يقيسها:
«بكميةِ ما تتضمَّنه السلعة من العمل» («رأس المال»، المصدر نفسه).
والآن، فلنأخذ في اعتبارنا اتفاق الآباء المؤسسين واختلافهم على نحو ما بيَّنا أعلاه، ولنطرح السؤال المهم الآتي: ما هي أهم خصائص المقياس؟ والإجابة المباشرة والواضحة هي: الثبات؛ أي إن المقياس، ومن ثم وحدة القياس، يجب أن يكونا ثابتَين حتى يمكنهما القيام بوظيفتهما؛ إذ لا يمكن قياس القيمة بمقياسٍ هو نفسه متغير. وكمية العمل في الحقيقة تُعد نموذجًا واضحًا لهذا المقياس المتغير الذي لا يمكن الاحتكام إليه لقياس القيمة؛ وذلك لأن الأعمال تختلف بعضها عن بعض من جهتَي المشقة والبراعة: فطبيعة عمل حارس العقار تختلف عن طبيعة عمل البنَّاء من ناحية المشقة؛ ومن ثَمَّ تختلف ساعة عمل حارس العقار عن ساعة عمل البنَّاء. كما أن طبيعة عمل الحلَّاق تختلف عن طبيعة عمل الجرَّاح من جهة البراعة؛ ومن ثَمَّ تختلف ساعة عمل الحلَّاق عن ساعة عمل الجرَّاح. والواقع أن هذه المشكلة واجهت فعلًا الاقتصاد السياسي، وبعد أن اعترف بأن:
«إيجاد أي مقياسٍ دقيق للمشقة أو للبراعة ليس بالأمر الهين.» («ثروة الأمم»، الكتاب الأول، الفصل الخامس).
يُضطر إلى التسليم بأن:
«التبادُل لا يتوازن نتيجة أي مقياسٍ دقيق، بل بالمساومة والتوافق في السوق» («ثروة الأمم»، المصدر نفسه).
وريكاردو يسير كالعادة في طريق سميث، ويوافق على مبدأ قدرة السوق على التسوية بين الأعمال المختلفة:
«إن تقدير نوع العمل يتم في السوق بناءً على الدقة، ومهارات العاملين وكثافة الجهد المبذول» («المبادئ»، الفصل الأول).
أما ماركس الذي تجاهل وجود أزمةٍ حقيقية نتيجة اختلاف الأعمال من جهة الشدة والبراعة، وبدلًا من أن يعيد النظر في مقياس القيمة ووحدة قياسها، فلقد أكد هو أيضًا على:
والواقع أن السوق لن يُسوِّي الأمر كما ظن مؤسسو علمنا، بل إنه لن يبعدنا فحسب عن أصول العلم وهدف الكشف عن القانون الموضوعي الحاكم للظاهرة محل البحث، بل ولسوف يزداد الأمر تعقيدًا؛ فالسوق نفسه قد يجعل ساعة عملِ حدَّاد (الضرورية اجتماعيًّا) تساوي ساعة عملِ نجَّار (الضرورية اجتماعيًّا) في مكان، وهو نفسه الذي يجعل ساعة عمل الحداد تلك تساوي عشرة أضعاف ساعة عمل النجار في مكانٍ آخر. وفي الحالتَين لم يخبرنا السوق ولا علم الاقتصاد السياسي عن سبب ذلك؛ أي لم يخبرنا أحدهما أو كلاهما عن سبب التساوي بين الساعتَين، ولا عن سبب الاختلاف بينهما. إن كلَّ ما بإمكانهما فعله هو الإشارة إلى الوضع الراهن؛ التقلبات الَّلحظية؛ ما هو آني، دون بلوغ القانون الموضوعي الذي يحكم نِسَب التبادُل الطبيعية بين الأعمال المختلفة.
وبناءً عليه، يمكن القول بأن علم الاقتصاد السياسي، وعَبْر قرنَين من الزمان، يستخدم مقياسًا غير ثابت لقياس القيمة. وحينما يدرك الاقتصاد السياسي أن كمية العمل ليس بإمكانها القيام بوظيفتها كمقياس للقيمة؛ لأن الأعمال تختلف عن بعضها من جهتَي الشدة والبراعة؛ نراه يُحيلنا إلى السوق، وهو ما يعنى هجر العلم توقفًا عند ما هو مُعطًى. إنما يعني الكف عن البحث عن القانون الموضوعي الحاكم للظاهرة محل البحث؛ الأمر الذي يوجب علينا تصحيح مقياس القيمة ووحدة قياسها ابتداءً من الفهم الصحيح للقيمة، وبالتالي إعادة فهم أساسيات علم الاقتصاد السياسي، العلم المنشغل بظواهر نمط الإنتاج الرأسمالي المتمفصلة حول قانون القيمة.
٢
طبيعة الحركة | نشيط، مثل: أعمال مكتبية، محامٍ، طبيب، محاسب، معلم، مهندس معماري، عامل في متجر | متوسط النشاط، مثل: عمال البناء، باستثناء الأعمال الشاقة، معظم عمال الصناعة الخفيفة، صيادو الأسماك | نشيط جدًا، مثل: بعض الأعمال الزراعية، النجار، الأعمال غير الماهرة، عمال الحديد، عمال المناجم، الرياضيين | نشيط بصورة غير عادية، مثل: الحطاب، الحداد، جر العربات |
---|---|---|---|---|
في الفراش (٨ ساعات) | ٥٠٠ | ٥٠٠ | ٥٠٠ | ٥٠٠ |
في العمل (٨ ساعات) | ١١٠٠ | ١٤٠٠ | ١٩٠٠ | ٢٤٠٠ |
خارج ساعات العمل (٨ ساعات) | ٧٠٠–١٥٠٠ | ٧٠٠–١٥٠٠ | ٧٠٠–١٥٠٠ | ٧٠٠–١٥٠٠ |
مجموع الطاقة المبذولة (٢٤ ساعة) | ٢٣٠٠–٣١٠٠ | ٢٦٠٠–٣٤٠٠ | ٣١٠٠–٣٩٠٠ | ٣٦٠٠–٤٤٠٠ |
متوسط كمية الطاقة المبذولة | ٢٧٠٠ | ٣٠٠٠ | ٣٥٠٠ | ٤٠٠٠ |
Bennion, “Introductory”, op, cit. p. 123, Camron, “The Science”, op, cit. pp. 6543–7654.
طبيعة الحركة | نشيطة، مثل: الأعمال المكتبية، معلمة، ربات المنزل، معظم المهن الأخرى | متوسطة النشاط، مثل: عاملات في الصناعات الخفيفة، عاملة المخازن أو المتجر | نشيطة جدًا، مثل: بعض أعمال الحقل وبصفة خاصة أعمال الفلاحة | نشيطة بصورة غير عادية، مثل: أعمال الإنشاءات، رياضيات |
---|---|---|---|---|
في الفراش (٨ ساعات) | ٤٢٠ | ٤٢٠ | ٤٢٠ | ٤٢٠ |
في العمل (٨ ساعات) | ٨٠٠ | ١١٠٠ | ١٤٠٠ | ١٨٠٠ |
خارج ساعات العمل (٨ ساعات) | ٥٨٠–٩٨٠ | ٥٨٠–٩٨٠ | ٥٨٠–٩٨٠ | ٥٨٠–٩٨٠ |
مجموع الطاقة المبذولة (٢٤ ساعة) | ١٨٠٠–٢٢٠٠ | ٢٠٠٠–٢٤٠٠ | ٢٤٠٠–٢٧٠٠ | ٢٨٠٠–٣٢٠٠ |
متوسط كمية الطاقة المبذولة | ٢٠٠٠ | ٢٢٠٠ | ٢٦٠٠ | ٣٠٠٠ |
Bennion, “Introductory”, op, cit. p. 123, Camron, “The Science”, op, cit. pp. 6543–7654.
وعليه، يكون من المفهوم لِمَ يفوقَ أجر المهندس المعماري أجر الحداد؛ على الرغم من أن الحداد يستهلك ٢٤٠٠ «س. ح. ض» في حين أن المهندس المعماري يستهلك فقط ١١٠٠ «س. ح. ض»؛ فالأجر لا يتضمن فحسب كمية السعرات الحرارية الضرورية اجتماعيًّا كي يعمل العامل، ويعيش كعامل، إنما يتضمن أيضًا كمية السعرات الحرارية الضرورية التي يتم إنفاقها كي يصبح المهندس مهندسًا والحدَّاد حدَّادًا يمكن الدفع بهما إلى سوق العمل. أي إن الطبقة الرأسمالية تضمن بالأجر، الذي تدفعه، أن يخلق العامل مثله، وبالتالي تضمن تجديد وجودها الاجتماعي بضمان وجود الطبقة العاملة.
والاعتداد بالطاقة الضرورية إنما يتم على أساس كمية الطاقة الضرورية اجتماعيًّا وفقًا للفن الإنتاجي السائد، فلو افترضنا أن إنتاج الكمية «ص» من النسيج يتطلب ٢٠٠ «س. ح. ض» ثم ظهرت آلةٌ جديدة أو تقنيةٌ حديثة تتيح إنتاج نفس الكمية ﺑ ٥٠ «س. ح. ض» فقط، فسوف يتم، في نهاية المطاف، الاعتداد بالقيمة الاجتماعية الجديدة التي تحددت طبقًا للفن الإنتاجي الجديد. سيتم الاعتداد ﺑ ٥٠ «س. ح. ض» لكل «ص» من النسيج، وسيكون على مَن ظلَّ ينتج النسيج بنفس التقنية القديمة والتي تتطلب إنفاق ٢٠٠ «س. ح. ض»، سيكون عليه وحده مغبة تقصيره بعدم استخدامه الفن الإنتاجي الذي أصبح سائدًا اجتماعيًّا. وهو بالتالي حينما يذهب بنسيجه إلى السوق لمبادلته لن يبادله بمنتجٍ أُنفق في إنتاجه ٢٠٠ «س. ح. ض» إنما سيبادله بمنتجٍ أُنفق في سبيل إنتاجه ٥٠ «س. ح. ض» فقط.
٣
وابتداءً من كون القيمة خصيصة تثبت للشيء بمجرد أنه نتيجة العمل الإنساني يصبح القلم قيمة متجسدة، سواء أكان نافعًا أم غير نافع، استعمله صانعه أم لم يستعمله، بادله أم لم يبادله، تطابَق ثمنه، أو قيمته التبادُلية، مع قيمته الاجتماعية أم لم يتطابق؛ ولذلك يتعين أن يكون لدينا الوعي بخمسة أمور:
الفرق بين القيمة والقيمة التبادلية
والمثير للانتباه حقًّا، أن علم الاقتصاد السياسي الذي يُمفصِل حول القيمة ظواهرَ نمطِ الإنتاج الرأسمالي، لا ينشغل بتحديد مفهوم القيمة ذاتها، وفي أفضل الأحوال يخلط بينها وبين القيمة التبادلية؛ فقد رأى سميث:
«أن قيمة أي سلعة، تساوي كمية العمل؛ فالعمل إذن هو مقياس القيمة التبادلية الحقيقي لجميع السلع» («ثروة الأمم»، الكتاب الأول، الفصل الخامس).
ولا يخالف ريكاردو مذهب سميث، بل يرى أن:
«القيمة التبادُلية للسلع تتناسب طرديًّا مع كمية العمل الداخل في إنتاجها» («المبادئ»، الفصل الأول).
أما ماركس، فقد كان، نسبيًّا، أكثر عمقًا من أسلافه، حينما رأى أن القيمة تُعبِّر عن نفسها في صورة القيمة التبادُلية:
«السلع هي قيمةٌ استعمالية، وقيمة. وهي تكشف عن طبيعتها المزدوجة، حينما تحصل قيمتها على شكلٍ خاص، يختلف عن الشكل الطبيعي للسلعة؛ أي بالتحديد شكل القيمة التبادلية» («رأس المال»، الفصل الأول).
الفرق بين شرط القيمة وشرط القدرة على المبادلة
لو قام شخصٌ ما في لوزان ببذل أقصى مجهود وليس الضروري اجتماعيًّا فحسب في سبيل صُنع الفسيخ مثلًا، فلن يكون لمنتوجه فائدةٌ اجتماعيًّا، ومع ذلك سيظل محتفظًا ﺑ «القيمة» كصفةٍ مجردة لاحتوائه على قدر أو آخر من الجهد الإنساني. والمنتوج كي ينتقل من مرحلة «أنه ذو قيمة» فحسبُ إلى مرحلة «كونه ذا قدرة» على التبادُل أو على إشباع حاجةٍ إنسانيةٍ ما، فيُشترط أن يكون نافعًا اجتماعيًّا، فإن لم يكن نافعًا اجتماعيًّا فهو لا يفقد قيمته، إنما فقط يفقد قدرته على التبادُل والإشباع؛ ومن ثَمَّ فلن يكون الفسيخ في لوزان، بلا قيمة، إنما فحسبُ يُمسِي بلا قدرة على مواجهة عالم الأشياء للتبادُل أو للإشباع. شرط القيمة إذن هو العمل. أما شرط تمتُّع الشيء بالقدرة على الإشباع أو التبادل فهو المنفعة الاجتماعية.
على العكس من ذلك يذهب ماركس إلى:
«أن الشيء غير النافع هو شيء بلا قيمة وأن العمل المبذول في إنتاجه غير نافعٍ كذلك» («رأس المال»، الكتاب الأول، الفصل الأول).
الفرق بين القدرة على المبادلة والقيمة التبادلية
وعلى الرغم من وضوح الفارق بين الأمرَين، بل وربما انتفاء العلاقة بينهما، فإن طرح الأمر هنا وتحقيقه لن يفيدنا فحسب في فض الاشتباك بين المصطلحات، إنما سيفيدنا كذلك حينما نذهب لتحليل أفكار آدم سميث، الذي كان السبب الأساسي في خلط الاقتصاد السياسي بأَسره، بين القيمة والقيمة التبادلية من جهة، وبين القيمة التبادلية والقدرة على التبادل من جهةٍ أخرى؛ فقد كتب سميث:
«أن كلمة قيمة تحمل معنيَين مختلفَين؛ فهي تُعبِّر أحيانًا عن منفعة مادةٍ ما، وأحيانًا تُعبِّر عن القوة الشرائية التي يحملها امتلاك هذه المادة، الأولى يمكن تسميتها القيمة الاستعمالية، والثانية القيمة التبادلية» («ثروة الأمم»، الكتاب الأول، الفصل الرابع).
ولكن، قدرة القلم؛ لأنه نافع اجتماعيًّا، على المبادلة بممحاة، ليست الممحاة التي تمثل القيمة التبادُلية للقلم. وقدرة الممحاة؛ لأنها نافعة اجتماعيًّا، على المبادلة بجَوْرب، ليست الجورب الذي هو القيمة التبادُلية للممحاة، وهكذا؛ فالقدرة على المبادلة، وكذا القدرة على الإشباع، وشرطهما المنفعة الاجتماعية، هما مجرد مرحلةٍ يتعين أن يمر بها المنتوج كي يُعبِّر عن نفسه فعليًّا في صورة وحداتٍ من منتوجٍ آخر، هذه الوحدات تمثل قيمته التبادلية.
الفرق بين الثروة والقيمة
أما القيمة فهي، وكما ذكرنا، خصيصة في المنتوج يكتسبها لكونه نتيجة المجهود الإنساني. ومصدرها العمل، وتُقاس بالسُّعر الحراري الضروري.
-
أن يكون الشيء قيمة دون أن يكون ثروة؛ فالخمر، في بلدٍ تُحرِّمها ومن ثم تُهدِرها اجتماعيًّا، لا تُعد ثروة.
-
أن يكون الشيء ثروة دون أن يكون قيمة، كما هِبات الطبيعة، مثل الطاقة الشمسية ومياه البحار والأنهار … إلخ.
-
أن تزيد الثروة وتنخفض القيمة في نفس الوقت؛ فلو افترضنا أن ١٠٠٠ طنٍّ من الحديد تُنتَج ﺑ ٢٠٠٠ (س. ح. ض)، ثم ظهر فنٌّ إنتاجي جديد يتيح إنتاج ضعف كمية الحديد بنفس كمية الطاقة الضرورية اجتماعيًّا، فهذا يعني أن الثروة زادت اجتماعيًّا من ١٠٠٠ طنٍّ إلى ٢٠٠٠ طنٍّ، وفي نفس الوقت انخفضت قيمة طن الحديد من ٢ «س. ح. ض» إلى ١ «س. ح. ض»، وذلك ليس إلا أحد تطبيقات القانون العام للقيمة.
الفرق بين القيمة والثمن
لو افترضنا أن الثمن يُعبَّر عنه بوحدات من الذهب، وأن قيمة الوحدة الواحدة تساوي ٥٠ «س. ح. ض» أي يبذل في سبيل إنتاج الوحدة الواحدة ٥٠ «س. ح. ض» فقد يأتي الثمن مُعبِّرًا على نحوٍ منضبط عن القيمة الاجتماعية للمنتوج، وقد يأتي دون ذلك؛ فالسلعة «أ» التي قيمتها الاجتماعية ٥٠ «س. ح. ض» حينما تُعبِّر عن نفسها في صورة ٥٠ وحدة من الذهب/النقود، فإنها تكون قد عبَّرت، بمظهرٍ نقدي، عن قيمتها الاجتماعية على نحوٍ منضبط؛ هذا الثمن، المنضبط، المُعبِّر بدقة عن القيمة الاجتماعية نُسمِّيه الثمن الاجتماعي. أما إذا عُبِّر عن القيمة الاجتماعية بوحدات من الذهب/النقود أكبر أو أقل من الثمن الاجتماعي فسنكون أمام ثمن السوق.
٤
٥
في إطار تكوين الوعي بماهية القيمة ومقياسها ووحدة قياسها، ومُنظِّمها، على نحوِ ما بيَّنا أعلاه، يتعين أن ندرك أن العامل حينما يذهب إلى مصنع الرأسمالي، وطبقًا لعقد العمل المبرم بينه وبين الرأسمالي، لا يقوم ببيع عمله للأخير، إنما يقوم، وفقًا لماركس كما سنبين لاحقًا، ببيع قوة عمله. والفارق بين بيع العمل وبيع قوة العمل هو سبب استمرار الرأسمالية كنظامٍ اجتماعي؛ فالرأسمالي والعامل المأجور طبقًا للعلاقة الحقوقية بينهما يلتزم كلٌّ منهما تجاه الآخر بالتزامٍ محدد، الرأسمالي يلتزم بأن يدفع الأجر للعامل لكي يعمل، ويظل على قيد الحياة، ويجدد إنتاج طبقته. وفي المقابل يُقدِّم هذا العامل معادل أجره، بالإضافة إلى عملٍ زائد دون مقابل. وكأن الرأسمالي يقول للعامل، وإعمالًا لأحكام عقد العمل: «إذا أردت أن تعيش، عليك أن تقدم لي عملًا زائدًا. نعم سأعطيك ما يسدُّ رَمَقك. ولكني لستُ مجبرًا على ذلك إلا إذا قدَّمتَ لي بالمقابل عملًا زائدًا لا أدفع عليه أجرًا، ويكون هذا هو المقابل الذي تؤديه لي نظير أني أجعلك باقيًا على قيد الحياة بما أدفعه لك من هذا الأجر.»
مثالٌ ثانٍ: نحن نعرف أن العامل الذي يعمل في مصنع للصناعات الخفيفة يحتاج إلى ١٤٠٠ «س. ح. ض»؛ فلو افترضنا أن هذا العامل يعمل في يوم عملٍ مؤلَّف من ٨ ساعات في مصنع لإنتاج الحلاوة الطحينية، ويُنتِج ١٤٠٠ قطعة، وزنُ كل قطعةٍ ١٠٠ جرام، تعطي كل واحدةٍ منها ٥٠٠ «س. ح. ض» تقريبًا، فمعنى ذلك أن كل قطعة من هذا المنتَج تحتوي على واحد «س. ح. ض» وحينما يقوم عامل البناء، الذي يحتاج إلى١٤٠٠ «س. ح. ض» بشراء واستهلاك ٣ قطع، فإنه يحصل على ١٥٠٠ «س. ح. ض»، تُمكِّنه من العمل خلال يومٍ مؤلَّفٍ من ٨ ساعات، يُنفِقها أثناء البناء ومن ثَمَّ تتجسَّد في المنتوج. ولكن الرأسمالي لم يدفع للعامل قيمة عمل البنَّاء؛ لم يدفع الرأسمالي اﻟ ١٥٠٠ «س. ح. ض» التي سوف يُنفِقها عامل البناء، بل قام الرأسمالي فحسب بدفع قيمة اﻟ ٣ «س. ح. ض» التي أُنفقَت في سبيل إنتاج المادة الغذائية التي بإمكانها إعطاء البنَّاء اﻟ ١٥٠٠ «س. ح. ض»؛ وعليه، فإن الرأسمالي سيقوم بدفع ٣ «س. ح. ض» ولكنه سيحصل من البنَّاء على ١٥٠٠ «س. ح. ض»، هذا الفارق، وكما ذكرنا، يستأثر به الرأسمالي كقيمةٍ زائدة يقوم بتركيمها لتجديد الإنتاج على نطاقٍ متسع.
ولتقريب الفكرة أكثر بوحدات النقد، التي كانت الورق الملون في مثلنا أعلاه، وبمثالٍ آخرَ بسيطٍ للغاية، وواقعيٍّ جدًّا، فإن عامل المصنع الذي يتناول عدة جرامات من حلاوة الطحين وكِسرةَ خبز لا تتجاوز قيمتهما ٣ جنيهات يمكن أن يعمل لدى الرأسمالي لمدة ٨ ساعات وينتج مئات الأضعاف من القيمة الاجتماعية لحلاوة الطحين وكِسرة الخُبز، والفارق يكون من نصيب الرأسمالي كقيمةٍ زائدة. والعامل عادةً، ولأنه يؤجَّر وفقًا لحد الكفاف، يشتري (أرخص) ما يمكن أن يعطيه (أعلى) درجة من الطاقة التي تُمكِّنه من العمل طوال يوم العمل؛ ولذا، يُعَد كلٌّ من الخبز والفول والبطاطس والباذنجان، وبالتبع الزيوت رخيصة الثمن، من أهم أنواع الغذاء لدى الطبقة العاملة؛ إذ تتميز أثمان هذه السلع بالرخص النسبي، كما أنها تُعطي للعامل، بل ولأسرته، أعلى الدرجات من السُّعرات الحرارية التي تُمكِّنه، وتُمكِّنهم، من البقاء على قيد الحياة من أجل إنتاج قيمةٍ زائدة؛ متجسدة في منتوجٍ زائد، يدفع بها إلى خزائن الرأسمالي الذي بدوره يراكمها من أجل تجديد إنتاجه على نطاقٍ متسع.
فإذا تغلغلنا في عمق عملية الإنتاج الرأسمالي، وقمنا بتحليل علاقاتِ قُوى الإنتاج عند أعلى مستوًى من مستويات التجريد، فسنجد أن السلعة، وفقًا للأمثلة الثلاثة أعلاه، لم تصبح نتيجة العمل الحي (الذي يتمثل في قوة العمل) والعمل المختزن (الذي يتجسد في مواد العمل وأدوات العمل) فحسب، بل صارت نتيجة: العمل الحي الذي يبذله العمال + العمل المختزن في المواد والأدوات بل وفي العمال أنفسهم + العمل الزائد (الذي هو عملٌ حيٌّ غير مدفوع الأجر)؛ وبالتالي تصبح قيمة السلعة، كما يصبح مُنظِّمها ووفقًا لقانون القيمة هو كمية الطاقة الضرورية الكليَّة؛ بمعنى العمل الاجتماعي (الحي والمختزن والزائد)؛ ومن ثَمَّ كلَّما زادت هذه الطاقة الضرورية الكليَّة كلما زادت القيمة، وكلما انخفضت تلك الطاقة كلما انخفضت القيمة.
تكوين القيمة، وبالتبع منظمها، لا يتغيران. هما فقط يتطوران من (العمل الحي) إلى (العمل الحي + العمل المختزن) ثم إلى (العمل الحي+ العمل المختزن+ العمل الزائد). ولسوف نرى في الباب الثاني أن تكوين القيمة، ومنظمها بالتالي، سوف يستكملان تطوُّرهما، عندما نُدخِل عنصر الزمن في التحليل.
٦
فلنفترض الآن أن رأسماليًّا جديدًا، خامسًا، دخل السوق ولكن بتقنيةٍ جديدة، ومن ثَمَّ بتوليفةٍ جديدة، ولتكن «٤٥ + ٢٥ + ٣٠»، فحينئذٍ سوف يحصد هذا الرأسمالي نصيبه من كتلة الربح (٣٦٠٠ ÷ ٥) أي ٧٢٠ مليون وحدة، ولكنه سيتفوق على أقرانه؛ لأنه يجني ربحه الوسطي ببذل أقل قيمة، في حين أن المشروعات الأربعة، بالتقنية القديمة والتوليفة القديمة، تجني أرباحها، التي ستنخفض من ٩٠٠ مليون وحدة إلى ٧٢٠ مليون وحدة؛ بفعل إعادة توزيع كتلة الربح الإجمالي على ٥ مشروعات بدلًا من ٤ مشروعات؛ فالمشروع الخامس، المنضم إلى السوق أخيرًا، ينفق ١٠٠ مليون وحدة ويحصل على ٧٢٠ مليون وحدة، وفي نفس الوقت يبيع سلعته وفقًا للقيمة الاجتماعية وهي ٩٧٠ مليون وحدة (التي تتكون من ٢٥٠ مليون وحدة قيمة قوى الإنتاج + ٧٢٠ مليون وحدة نصيب كل مشروع في كتلة الربح) أي إنه يجني ربحًا إضافيًّا (فرقيًّا) قدره ١٥٠ مليون وحدة؛ لأنه ينفق ١٠٠ مليون وحدة فحسب، وليس ٢٥٠ مليون وحدة، ويحصل على ٧٢٠ مليون وحدة. في حين أن كل مشروع من المشروعات الأربعة ينفق ٢٥٠ مليون وحدة، ويحصل على ٧٢٠ مليون وحدة.
هذا الوضع سيظل قائمًا، مؤقتًا، إلى أن تنتقل تدريجيًّا التقنية الجديدة وتوليفتها الجديدة إلى جميع المصانع حتى تتساوى توليفات المشروعات الخمسة وتصبح القيمة الاجتماعية مكونة من التوليفة: ٤٥ «ق ع» + ٢٥ «أ ع» + ٣٠ «م ع» + ٧٢٠ «ق ز» = ٨٢٠ مليون وحدة؛ ومن ثَمَّ تنخفض القيمة الاجتماعية (المتداولة) من ٤٦٠٠ مليون وحدة إلى ٤١٠٠ مليون وحدة فحسب، فلنلاحظ إذن أن ارتفاع الإنتاجية أدى إلى انخفاض القيمة الاجتماعية، مع بقاء جني المزيد من الأرباح الإضافية (كإمكانية) في إطارِ ضخِّ ٤٦٠٠ مليون وحدةٍ نقدية من قِبل السلطات النقدية.
٧
وفي مجرى الحياة اليومية تتخذ هذه السعرات الحرارية مظهرًا ماديًّا يتجسم في وحدات النقود. فالعامل في الواقع لا يقبض من رب العمل ٥ «س. ح. ض»، إذ ما استثنينا نظام الوجبات، إنما يقبض عددًا من الوحدات النقدية التي تُعبِّر كل وحدةٍ منها عن عددٍ محدد من «س. ح. ض». ومَن يحمل هذه الوحدات، ذات القوة الشرائية للسعرات الحرارية، بإمكانه أن يبادلها مباشرة مع بائع المواد الغذائية (الخضروات، والفاكهة، واللحوم … إلخ) والتي تمدُّه بعددٍ معين من «س. ح. ض»، أو مبادلتها مع الطبيب في سبيل الحصول على العلاج، أو مع المعلم في سبيل تعليم أبنائه، أو مع المحامي من أجل الدفاع عنه في دعوى ما؛ إذ لا شك في أن كلًّا من البائع والطبيب والمعلم والمحامي، وغيرهم، جميعهم يحتاجون إلى عددٍ محدد من «س. ح. ض»؛ كي يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة. وهؤلاء أيضًا بدورهم حينما يتلقَّون هذه الوحدات النقدية المعبرة عن عددٍ معين من «س. ح. ض»، يستطيعون أن يحصلوا بواسطتها مباشرة على السُّعرات اللازمة من بائع المواد الغذائية، أو مبادلتها بما يحتاجون إليه هم أيضًا من أشياء أخرى، كالملبس، والمسكن، والعلاج … إلخ؛ من أجل تجديد إنتاج أنفسهم وتجديد إنتاج طبقتهم.
٨
إذا فهمنا الخطوط العريضة للقوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج الرأسمالي، وفهمنا طبيعة العمل المأجور، وطبيعة الأجر نفسه، على نحوِ ما بيَّنا، فيتعين أن نذكر أننا نمُد هذه القوانين الموضوعية لتشمل كل مَن يُنتج قيمةً زائدةً سواءٌ أكان عامل المنجم، أم أستاذ الجامعة.
وعلى الرغم من توافُق ما وصلنا إليه مع ما انتهى إليه علم الاقتصاد السياسي، تحديدًا بشأن العمل الزائد، فإن الاعتداد بالسُّعرات الحرارية كوحدة قياس إنما يفيدنا لا فحسب في المقارنة بين الأعمال المختلفة من ناحية الشدة والبراعة، أو في إيجاد مقياسٍ ثابت، ومن ثَمَّ وحدةِ قياسٍ ثابتة، للقيمة. إنما يفيدنا كذلك في توسيع مفهوم العمل المنتج الذي يقوم بإنتاج القيمة الزائدة؛ فدائمًا ما تقف صعوبة قياس المجهود المتجسد في قطاع الخدمات عقبة كَئودًا أمام الاقتصاد السياسي في سبيل اعتبار العامل في هذا القطاع منتجًا لقيمةٍ زائدة، بل وإخراج العمل في هذا القطاع من دائرة العمل المنتج بالأساس؛ بالاستناد إلى حُجتَين: الحُجة الأولى هي أن هذا العمل لا يُضيف قيمة. أما الحُجة الثانية فهي أن ذلك العمل يفنى في لحظة أدائه.
الاقتصاد السياسي إذن كان يؤمن بأن التفرقة بين العمل المنتج والعمل غير المنتج هي تفرقة بين العمل المنتج للثروة المادية والعمل غير المنتج لهذه الثروة المادية؛ ومن ثَمَّ فإن عمل النجار، على سبيل المثال، يُعد عملًا منتجًا، ولكن عمله في سبيل اكتساب مهارات النجارة لا يُعد عملًا منتجًا! وتلك المفارقة جعلت جون ستيوارت مِلْ يعيد النظر في المصطلح، مبرزًا خطأ الاقتصاد السياسي حينما:
•••
ولكي يكتمل تعرفنا إلى المادة الخام لعلمنا، بعد أن تعرَّفْنا إلى القانون العام الذي تتمفصل حوله ظواهر الإنتاج والتوزيع، فيتعين الانتقال منهجيًّا لدراسة قوانين حركة الرأسمال الحاكمة لتجديد الإنتاج الاجتماعي وتوزيعه.
وفي اللغة الأكدية القديمة Pelu وتعني قوي، ثور، دراهم، ثمن، قيمة. وفي اللغة الكنعانية Paal وتعني قوي، سيد، رب، إله. انظر: عامر سليمان، «اللغة الأكدية: البابلية-الآشورية، تاريخها وتدوينها وقواعدها» (بيروت: الدار العربية للموسوعات، ٢٠٠٥م)، ص٣٥٩. ويمكننا أن نلاحظ هنا أمرَين؛ أولهما: أن الكلمة تدل، ضمن ما تدل، على القوة البدنية والمعنوية، والصمود وبذل الجهد في سبيل أمرٍ شريف. ثانيهما: يتم الخلط بين القيمة والثمن، ويتأكد هذا الخلط في اللغات الأوروبية الحديثة؛ إذ تعني Value في الإنجليزية وValeur في الفرنسية: القيمة، الثمن، الثروة، وإن كان المعنى أكثر وضوحًا، في مرحلةٍ متقدمة تاريخيًّا، في قاموس أكسفورد، وتأثرًا بآدم سميث؛ حيث الإشارة إلى عنصرَي المنفعة والمبادلة، وقدرة السلع على شراء بعضها البعض. للمزيد من التفصيل، انظر: Clifton & Laughlin, “Nouveau Dictionnaire” (Paris: Librairie Grainer présures 1904), p. 626. Jean-Paul Colin, “Dictionnaire Des Difficultés du Française” (Paris: Les Usuels du Robert, 1977), p. 775. H. W. Fowler & F. Fowler, “The Concise Oxford Dictionary of current English” (Oxford: Oxford University press, 1939), p. 1361.
أما علماء اللغة العربية وفقهاء الأصول، فالقيمة لديهم: «أن يدفع الرجل إلى الرجل الثوب فيُقوِّمه بثلاثين درهمًا ثم يقول: بعه، فما زاد فهو لك. والقيم، وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء، والقيمة ثمن الشي بالتقويم.» انظر: ابن منظور، «لسان العرب» (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٩٤م)، ج٥، ص٤٠٢، ونقل عنه البستاني، انظر: «فاكهة البستان» (بيروت: المطبعة الأمريكانية، ١٩٣٠م)، ص١٣١٢. ويمكننا ابتداءً من كلام ابن منظور أن نجد اتفاقًا بين القدماء من الفقهاء المسلمين على الخلط بين القيمة والثمن، من ناحية، وبين القيمة ومقياس القيمة من ناحيةٍ أخرى؛ فقد أجمعوا تقريبًا على أن القيمة هي: «ما يُقدَّر به الشيء حسب سعره في السوق.» انظر: «شرح المحلى» (٣: ٢٤٨)؛ «بدائع الصنائع» (٤: ٥١)؛ «فتح القدير» (٧: ٤٣٧)؛ «شرح الزرقاني» (٦: ٢٠٨). وللتهانوي الحنفي (القرن الثامن عشر) في «كشاف اصطلاح الفنون»، تعريف يبدو ظاهريًّا أنه يُفرِّق، بوعي، بين القيمة والثمن، ولكنه في التحليل النهائي يخلط بين عدة مصطلحات؛ فهو يخلط أولًا بين الثمن الاتفاقي والثمن الجاري، ثم يخلط، ثانيًا، بين الثمن الجاري والقيمة؛ فقد كتب في اصطلاح الفنون: «الثمن بفتحتَين، هو ما يلزم بالبيع وإن لم يُقوَّم به؛ فالقيمة ما قُوِّم به مُقوَّم، والثمن قد يكون مساويًا للقيمة، وقد يكون زائدًا منه، وقد يكون ناقصًا عنه. والحاصل أن ما يُقدِّره العاقدان، بكونه عِوضًا للمبيع، في عقد البيع يُسمَّى ثمنًا، وما قدَّره أهل السوق وقرَّروه فيما بينهم، وروَّجوه في معاملاتهم، يُسمَّى قيمة.» انظر: التهانوي الحنفي، «كشاف اصطلاح الفنون»، وضع حواشيه أحمد حسن بسبح (بيروت: دار الكتب العلمية، ١٩٨٨م)، ج١، ص٢٤٠. بيد أننا في مرحلةٍ متقدمة تاريخيًّا نجد تفرقةً لدى ابن عابدين (١٧٨٤–١٨٦٣م)، في «حاشيته» بين القيمة والثمن، وكأن التفرقة بين القيمة ومظهرها النقدي، الذي يُطلق عليه الثمن، صارت ضرورةً تاريخية ملحة؛ فلقد كتب الشاطبي، إنما مع الخلط بين القيمة ومقياسها: «الثمن هو ما تراضى عليه المتعاقدان سواء أزاد على القيمة، أو نقص، وأما القيمة فهي ما قُوِّم به الشيء بمنزلة المعيار من غير زيادة ولا نقصان.» انظر: «رد المحتار على الدر المختار» (٤: ٥١)، وقد أخذ صاحب «مرشد الحيران»، حرفيًّا، بتعريف ابن عابدين في «رد المحتار» في المادة ٣٢٠. انظر: محمد قدري، «مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان» (القاهرة: المطبعة الكبرى الأميرية، ١٨٩١م)، ص٥١. ونلاحظ أن العقل العربي، وفي لحظاتٍ استثنائية، خلال هذا التاريخ من الخلط، لن يتمكن من تحليل ظاهرة القيمة إلا حينما يتحرر، وكما ذكرنا، من سلطة الذهن الفقهي؛ فلدى ابن خلدون: «لا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب أو متمول؛ لأنه إن كان عملًا بنفسه مثل الصنائع فظاهر وإن كان من مقتنى الحيوان والنبات والمعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع، فإن كثُرت الأعمال كثُرت قيمها.» ثم يرى أن الأشياء تُنتَج ابتداءً من احتياج الناس إليها أي إنه يعتد بحال أو بآخر بالمنفعة كشرط للقيمة: «أن الصنائع إنما تستجد إذا احتيج إليها وكثر طلبها.» ويكاد يصل إلى ضفافِ ما سوف يُصطلح على تسميته فيما بعدُ «القيمة الزائدة»، حينما ذهب إلى أن: «صاحب الجاه مخدوم بالأعمال؛ فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته، فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه وجميع معاشاته؛ أن تُبذل فيه الأعواض من العمل، يستعمل فيها الناس من غير عوض، فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه.» للمزيد من التفصيل، انظر: ابن خلدون، «المقدمة»، الفصل الخامس. وعند المقريزي: «أن النقود التي تكون أثمانًا للمبيعات وقيمًا للأعمال.» انظر: المقريزي، «شذور العقود في ذكر النقود»، تحقيق محمد عبد الستار (القاهرة: مطبعة الأمانة، ١٩٩٠م)، ص١٥٧. ولدى ابن الأزرق (١٤٢٧–١٤٩١م): «أن الله تعالى خلق حجرَي الذهب والفضة من المعدنيات قيمة جميع المتمولات.» انظر: ابن الأزرق، «بدائع السلك في طبائع الملك»، تحقيق علي سامي النشار (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر، ٢٠٠٨م)، ج٢، ص٧١٧. وعلى مذهب ابن خلدون يرى ابن الأزرق أيضًا: «أن الكسب هو قيمة الأعمال الإنسانية، أما بالصانع فظاهر، وأما ما ينضم لبعضها كالخشب مع النجارة والغزل مع الحياكة، فالعمل فيه أكثر فقيمته أزيد، وأما بغيرها، فلا بد في قيمته من قيمة العمل الذي به حصوله. نعم، ربما يخفَى ملاحظته، كما في أسعار الأقوات في الأقطار التي لا خطر لعلاج الفلح فيها، لخفة مئونته، فلا يشعر بها إلا القليل من أهل الفلح.» انظر: ابن الأزرق، «بدائع السلك» (٢: ٧١٧).
جون نيكرسون، ولويس رونسيفالي، «أسس علم التغذية»، ط٢، ترجمة واصل محمد أبو العلا، وصبحي سالم بسيوني، مراجعة سعد الدين محمد مليحي (القاهرة: الدار العربية للنشر والتوزيع، ١٩٩٠م)، ص٢١٣–٢٤٣؛ إيزيس نوار، «الغذاء والتغذية»، ط٢ (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، ٢٠٠٤م)، ص٢٨٥–٣١٧؛ ﻫ. لامب، «غذاؤك المثالي في نظر طبيب»، ط٨، ترجمة شاكر خليل نصار (بيروت: دار الشرق الأوسط، د.ت)، ص٢٨–٣٨. وانظر كذلك العمل الموسوعي، والذي لم تزل أبحاثه تحتفظ بقيمتها العلمية الرائدة على الرغم من تاريخها المبكر: “Temperature: Its Measurement and Control in Science and Industry”, Papers presented at Symposium held in New York City, November, 1939, under the auspices Of the American Institute of Physics (New York: Reinhold Publishing Corporation, 1941), Chapter 6, Temperature and its Regulation in Man. pp. 525–75.
ومعنى ذلك: أولًا: أن طبقة العمال تجدد إنتاج نفسها بنفسها من خلال أحد أجزاء أجرها؛ وهي، على هذا النحو، تحقق بنفسها شرط بقاء واستمرار الطبقة الرأسمالية؛ فوجود طبقة العمال هو الذي يضمن بقاء واستمرار طبقة مالكي وسائل الإنتاج. على الرغم إذن من التناقُض بين العامل المأجور والرأسمال، فإن الأول يقوم بنفسه بتجديد إنتاج نفسه في سبيل بقاء واستمرار الثاني! ثانيًا: أن كل جيل من طبقة العمال، بالمفهوم العام للعامل، يُولد مدينًا للطبقة الرأسمالية؛ فقد تكفلت الأخيرة بالإنفاق على الأُولى، عَبْر الأجر المدفوع إلى الجيل القديم من الطبقة، حتى تم اكتمال الجيل الجديد وصار بالإمكان الدفع به إلى سوق العمل محلًّا للجيل القديم من طبقته؛ فالرأسمالية حينما تعطي للطبقة الحالية أجرها، تتخذ من العمل المختزن بداخلها محددًا لنفقة إنتاج بديلها الذي سوف يحل محلها في إنتاج القيمة الزائدة؛ وبالتالي تجد الرأسمالية من مصلحتها الإبقاء على الطبقة التي تستمد من بقائها وجودها الاجتماعي كطبقةٍ مسيطرة، بضمان تجديدها المستمر لنفسها بأحد أجزاء الأجر الذي تقوم بدفعه لها.
وقارن تطرُّف باستيا: Frédéric Bastiat, “Economic Harmonies” (NY: Irvington-on-Hudson, Foundation for Economic Education, Inc. 1996).Ch, 5. On Value.