مُكوِّنات المركزية الأوروبية، ودورها في تشكيل الاقتصاد السياسي
١
- (١)
رؤية أحادية تؤرخ لتطور العالم ابتداءً من تاريخ تطور أوروبا. بما يتضمن ذلك من اتخاذ أوروبا الغربية، تاريخًا وواقعًا، حقلًا للتحليل.
- (٢) إعادة تصدير هذا التأريخ وذاك التحليل إلى العالم بأسره.١ بحيث لا تصبح أوروبا مقياس التطور نفسه فحسب، بل تمسي كذلك مقياس التقدم والتحضر!
- (٣)
إهدار، بل نفي، كل المساهمات التي قدمتها الحضارات الأخرى للتراث المشترك للإنسانية، والتي سطت عليها أوروبا فعلًا ونسبتها إلى نفسها. وفي أفضل الأحوال يتم التعامل معها كماضٍ بائد لم يدرك الحضارة التي جاء بها الرجل الأوروبي!
- (٤) اعتناق الأجزاء المغلوبة (المستعمَرة/التابعة/المتخلفة) لتصور الأوروبي المنتصر (المستعمِر/المتبوع/المتقدم) للعالم وللتاريخ، وهذا هو البعد النفسي في المركزية الأوروبية.٢
المشكلة أن الأجزاء (المستعمَرة/التابعة/المتخلفة)، من العالم المعاصر صدَّقَت المركزية الأوروبية واتبعَت خطاها فأضاعت خصوصيتها الاجتماعية وأَهدرَت الفرص المدهشة لاستلهام الحياة من تاريخها الضائع. والأخطر أنها ساهمَت بفاعلية، مع غرب أوروبا، في تشويه العلم الاجتماعي وتصفيته من محتواه الحضاري، فلم يَعُد العلم الاجتماعي تراكُمًا حضاريًّا؛ لم يَعُد بناءً ساهمَت في تشييده الإنسانية عَبْر حركة التاريخ الملحمية العظيمة، بل عُدَّ نتاجًا أوروبيًّا خالصًا وصار لها ملكًا كاملًا! ولم يَدَّخر المفكر الأوروبي وسعًا في سبيل تأكيد وترسيخ ذلك. كما لم نَدَّخر نحن، كأجزاءٍ متخلفة، وسعًا في سبيل تأكيدِ ما أراد المفكر الأوروبي تأكيده!
إن أزمة الذهن العربي لا تكمن في تبعيته لأفكار ونظريات الذهن الغربي فحسب، بل وكذلك في تبعيته للطريقة التي ينتج بمقتضاها الذهن الغربي أفكاره ونظرياته؛ فالذهن العربي، بعد أن كفَّ عن الخلق، حينما ينتقد المركزية الأوروبية، يتبع نفس منهج الذهن الغربي الذي يهدف إلى اكتشافٍ «أوروبي»، للأجزاء الأخرى من العالم المعاصر؛ بقصد إعادة تكوين الوعي «الأوروبي»، بهذا العالم الذي صار ضروريًّا إعادة اكتشافه بعد أن تم نهبه!
٢
- (١)
«الاتخاذ من أوروبا مقياسًا لمراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي»: فلقد مرت أوروبا، وفقًا لتقسيمٍ شائع كما سنرى، بثلاث مراحلَ تاريخية تميزت الأُولى بهيمنة العبودية، والثانية بسيادة الإقطاع، والثالثة بانطلاق الرأسمالية؛ وبالتالي اتُّخِذَ من هذه المرحلية التاريخية مقياسٌ لمراحل تاريخ باقي الأجزاء المكونة للعالم؛ إذ يجب أن تمر، بحال أو بآخر، كل الأجزاء بنفس المراحل التي مرت بها أوروبا! وهو ما اقتضى تصدير هذه المرحلية، كمرحليةٍ مقدسة، واستلزم الأمر بالتبع إعادة كتابة التاريخ، أو تحريفه ومسخه وتزويره، كي يتوافق، وبالقوة المسلحة، مع اختيار حركة التاريخ لبلدان أوروبا كي تصير مقياسًا حضاريًّا للتطور دون غيرها من بلدان الكوكب! الخطير في الأمر أن أبناء الأجزاء المتخلفة صاروا، وبإيمانٍ أعمى، يتخذون من هذه المرحلية مقياسًا لتطور بلدانهم الاقتصادي والاجتماعي! ويعرفون تاريخ أوروبا من هذه الزاوية معرفةً يقينية؛ لأنها، كما تم تلقينهم، التاريخ الحقيقي للعلم الاقتصادي، والحاضر الحقيقي للرأسمالية كما دُونت في كراسات التعميم!
- (٢)
«اعتبار الرأسمالية نظامًا اقتصاديًّا أوروبيًّا خالصًا»: وهو ما استتبع اعتبار أي ممارسةٍ تاريخية مشابهة سابقة على الرأسمالية الأوروبية مَحضَ ممارسةٍ عشوائية بلا هوية؛ وربما لا وجود لها! ومن ثَم، تم نفي وجود هذا النظام الأوروبي الخالص في أي مجتمعٍ سابق على الرأسمالية التي خرجت، ولأول مرة تاريخيًّا، من قلب أوروبا. وهو ما يعني بالتالي «وجوب!» انتقال هذا النظام، بجميع ظواهره، من قلب غرب أوروبا إلى باقي الأجزاء المكونة للعالم المعاصر، وليس العكس! وبالتالي أصبح محظورًا إعادة فتح الملفات المطوية على افتراضاتٍ تعسفية، بعدما صار باب التفكير ذاته مغلقًا في وجه أي محاولة لمجرد افتراض أن الرأسمالية انتقلت من الشرق إلى الغرب مع انتقال مراكز الثقل الحضاري عَبْر حركة التاريخ البطيئة والعظيمة.
- (٣) «نقد المركزية الأوروبية ابتداءً من منطلقات ومسلمات ومفاهيم المركزية الأوروبية نفسها»: فحينما تبدَّت الصعوبة التاريخية في الاتخاذ من المرحلية التاريخية المقدسة (عبودية/إقطاع/رأسمالية) مقياسًا لتطور باقي الأجزاء المكونة للعالم، ابتداءً من قراءةٍ، أوروبية، عابرة لتاريخ النشاط الاقتصادي في هذه الأجزاء، تم الاتجاه إلى نقد المركزية الأوروبية بما أنتجته من مرحليةٍ مقدسة، وجاء النقد من منظور نفس المركزية الأوروبية؛ فتم إنتاج العديد من النظريات التي لا تقل غرابةً عن اتخاذ أوروبا مقياسًا لتطور العالم! نظرية نمط الإنتاج الآسيوي مثلًا،٣ ترى، ابتداءً من الخلط المزمن بين شكل التنظيم الاجتماعي وقوانين الحركة الحاكمة للإنتاج والتوزيع داخل هذا التنظيم الاجتماعي، أن العالم غير الأوروبي لم يمر بنفس المراحل التاريخية التي مر بها العالم الأوروبي! حسنًا، ثم تنفي عن العالم غير الأوروبي جميع ظواهر النشاط الاقتصادي المتقدم التي عرفها العالم الأوروبي! فالرأسمالية، لدى هؤلاء الذين ينتقدون المركزية الأوروبية، لا يمكن أن تكون غير أوروبية!
ولأننا سوف نقوم في هذا الباب بالمزيد من الشرح لكل موضع من هذه المواضع أثناء مناقشتنا للمركزية الأوروبية التي صاغت الشكل الخارجي للاقتصاد السياسي، فسنعتبر هذه الإشارات، الأولية بطبيعة الحال، نقطة بدء في سبيل التعرف، على نحوٍ ناقد، إلى المركزية الأوروبية لدى ماركس، وما بعد ماركس.