المركزية الأوروبية عند ماركس
١
يتخذ ماركس من أوروبا بوجهٍ عام، ومن إنجلترا بوجهٍ خاص، حقلًا للتحليل. وينطلق في أبحاثه من مبدأ تقسيم تاريخ العالم (وهو تقسيم يعتمد على نظرية في نمط الإنتاج) إلى أربع مراحل: المشاعية البدائية، ثم العبودية اليونانية والرومانية، ثم الإقطاعية الجرمانية، ثم الرأسمالية الإنجليزية. قد نجد لديه بعض الإشارات المتفرقة إلى مصر القديمة أو الهند أو الصين، ولكن دون أن يتخلى عن المركزية الأوروبية التي ترى تاريخ العالم ابتداءً من تاريخ أوروبا!
٢
- (١)
العوائد المضمونة التي كانت تُوفِّرها الإيجارات في الفترات التي لم يكن الإنتاج الزراعي فيها مستقرًّا؛ فبعد أن تعوَّد كبار مُلَّاك الأراضي على مستوى معيشةٍ أعلى نتيجة للدخول المنتظمة، أخذ الإيجار النقدي في الترسُّخ حتى صار القاعدة العامة.
- (٢) أن مستوطني الأراضي البور، والتي استُصلح الكثير منها في القرن الثالث عشر، كانوا دائمًا يدفعون إيجارات مقابل هذه الأراضي. نظامُ الإيجار كان إذن مألوفًا تاريخيًّا. وكان الأثر العام لكل ذلك هو انهيار ما تبقَّى من الرابطة المحلية القوية التي كانت تربط بين السيد والقِن٢ لاستغلال الأرض.٣ ومع نمو العمالة المأجورة، ظَهرَت أُولى بوادر التقسيم الطبقي، عندما نَظَّم العمال الحِرْفيون أنفسهم في اتحادات. أما البدايات المبكرة لتنظيمات العمال، في العصور الوسطى، فقد بدأَت قبل ذلك؛ إذ أُسست جمعيات العمالة المؤقتة بشكلٍ قوي في إنجلترا في القرن السادس عشر، ويمكن تتبع جذورها إذا رجعنا بالتاريخ إلى القرن الرابع عشر؛ فقد كانت العمالة المؤقتة تضم عمال المياومة، ويُؤجَّرون من قِبل صاحب أي عمل لفترةٍ محددة من الأيام، ومع اختلاف درجات مهاراتهم، فإنهم كانوا حرفيين بوجهٍ عام. وبالرغم من أولية تلك التنظيمات التي اتسمت ببدائية ممارسات القرون الوسطى، فإنهم استخدموا وسائل تُعد متقدمةً جدًّا آنذاك؛ ففي كوفنتري عام ١٤٢٤م أضرب عمال اليومية وهم يرتدون ملابس العمل مطالبين برفع أجورهم، وتدخلت السلطة المحلية للتوصل إلى تسوية ملائمة.٤
٣
- الركيزة الأولى: هي: «علاقات الإنتاج»؛ أي الروابط الحقوقية التي تنشأ بين المنتجين المباشرين (سواء أكانوا عبيدًا أم أقنانًا أم عمالًا مأجورين يبيعون قوة عملهم) وملَّاك وسائل الإنتاج، وذلك بسبب عملية الإنتاج الاجتماعي أو بمناسبتها. وهي على هذا النحو قد تكون، وفقًا لماركس، قائمة على استعباد شخص لشخصٍ آخر (كما في المجتمعات العبودية)، أو تسخيره (كما في المجتمعات الإقطاعية)، أو مستندة إلى التعاقد الرضائي الحر (كما في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة).
- أما الركيزة الثانية: فهي: «قوى الإنتاج»؛ أي وسائل الإنتاج وقوة
العمل، ومدى تطورهم، بصفةٍ خاصة مدى التطور
الذي يحولهم من مجرد وسائل إنتاج إلى رأسمال؛
إذ ذهب ماركس إلى أن مواد العمل وأدوات العمل
لم تكن أكثر من مجرد وسائل إنتاج في المجتمعات
السابقة على نمط الإنتاج الرأسمالي؛ أي مع
العبودية والإقطاع. ولن تتحول من مجرد وسائل
إنتاج إلى رأسمال إلا مع نمط الإنتاج
الرأسمالي! أما قوة العمل، فلم تكن، أيضًا
وفقًا لماركس، محلًّا للبيع والشراء قبل نمط
الإنتاج الرأسمالي حيث كان المرء يعيش على
نتاج عمله، أما مع نمط الإنتاج الرأسمالي فهو
يعيش ببيعه لقوة عمله. والتطور يحدث، في رأي
ماركس، حينما تشرع قوى الإنتاج في تجاوز
علاقات الإنتاج؛ بحيث تقف الأخيرة عاجزة عن
استيعاب التثوير المستمر في الأولى:
«لم تعُد علاقات الملكية الإقطاعية تتلاءم مع القوى المنتجة في تمام نموها؛ فكانت تعيق الإنتاج بدلًا من دفعه نحو التقدم؛ ولذلك تحولت إلى قيود كان لا بد من تحطيمها، وقد حُطمت، وحلت محلها المزاحمة الحرة، مع إعادة هيكلة المجتمع ومؤسساته السياسية» (البيان الشيوعي).
٤
- الظاهرة «الأولى»: وتتبدى في إطار «علاقات الإنتاج»، وهي
«ظاهرة بيع قوة العمل»؛ حيث كان العبد بأكمله
في المجتمع العبودي ملكًا لسيده بما يحتوي
عليه من قوة عمل. والرأسمالية فقط، وفقًا
لماركس، هي التي تعرف ظاهرة بيع قوة
العمل:
«ما يميز العصر الرأسمالي هو أن قوة العمل تتخذ بالنسبة للعامل نفسه شكل السلعة الخاصة به؛ ولذلك يتخذ عمله شكل العمل المأجور» («رأس المال»، الكتاب الأول، الفصل الرابع).
- أما الظاهرة «الثانية»: وتتبدى في إطار «قوى الإنتاج»، فهي «الإنتاج
من أجل السوق»: فلقد رأى ماركس أن القاعدة في
المجتمع الإقطاعي الذي نشأ على أنقاض المجتمع
العبودي هي أن إنتاج الفلاحين يُعد إنتاجًا ﻟ
«منتجات» وليس ﻟ «سلع»؛ لأن المنتوج كي يكون
سلعة لا بد وأن يكون مُعدًّا للتبادل؛ للبيع
من خلال السوق. وهو ما ينفيه ماركس بصدد
المجتمعات الإقطاعية في أوروبا الغربية؛
فوسائل الإنتاج لم تكتسب بعدُ صفة الرأسمال،
والمنتجات لم تكن تُنتَج من أجل السوق، من أجل
التبادل. إنما كان الإنتاج من أجل الإشباع
المباشر؛ فجزء من المحصول الذي كان ينتجه
الفلاح الأوروبي في القرون الوسطى كان يدَّخر
جزءًا منه لإعادة الإنتاج، والجزء الآخر يذهب
إلى السيد الإقطاعي على شكل الخراج، وإلى
القساوسة على شكل العشور، ولكن، ووفقًا لإضافة
إنجلز إلى الطبعة الرابعة ﻟ «رأس
المال»:
«لا القمح المقدم على شكل الخراج ولا القمح المقدَّم على شكل العشور، صارا سلعة لمجرد أنهما أُنتجا من أجل إعطائهما لأشخاص آخرين؛ فلا يكفي، كي يُعتبر المُنتَج سلعة، أن يتم إنتاجه من أجل الآخرين فحسب، إنما يجب أن يُسلَّم عن طريق التبادل إلى شخصٍ آخر» («رأس المال»، الكتاب الأول، الفصل الأول).٨
-
فمن جهة أولى: ستصبح قوة العمل سلعة تُباع وتُشترى:
«من لحظة بيع قوة العمل يكتسب الشكل السلعي لمنتجات العمل طابعًا عامًّا» («رأس المال»، المصدر نفسه).
-
ومن جهةٍ ثانية: سوف تمسي كل المنتجات سلعًا؛ إذ ستصبح القاعدة هي إنتاج السلع بالسلع من أجل السوق بقصد الربح.
ووفقًا للتصور العام لماركس في «رأس المال» تُعد ظاهرة بيع قوة العمل، وظاهرة الإنتاج من أجل السوق، من قبيل الظواهر غير المسبوقة تاريخيًّا، ونمط الإنتاج الرأسمالي، الذي نشأ في غرب أوروبا، بمفرده هو الذي شهدَ مولد هاتَين الظاهرتَين!
٥
E. Lipson, “Economic History of England” (London: Adam & Charles Black 1945). Thomas Munck, “Seventeenth Century Europe: State, Conflict and The Social order in Europe 1598–1700” (London: Macmillan, 1990). John Merriman, “A History of Modern Europe from the Renaissance to present” (New York: W. W. Norton and Company, 1996). Norman Davies, “Europe: A History” (Oxford: Oxford University press, 1996). “Chronology of European History 15000 B.c to 1997, Volume 1:15000 B.c–1763”, Edited by John Powell (London: Fitzroy Dearborn publisher, 1998. Dorothy George, “London Life in the XVIIIth Century” (London: Kegan Paull, 1925). J. Beckett, “The Aristocracy in England 1660–1914” (Cambridge: Basil Blackwell, 1989). N. J. G. Pounds, “An Economic History of Medieval Europe” (London: Longman, 1994). R. Gerberding and J. H. Moran Cruz, “Medieval Worlds” (New York: Houghton Mifflin Company, 2004).
Lipson, “Economic History”, op, cit.pp. 220–24. Beckett, The Aristocracy, op, cit. p. 429.