أولًا: بيع قوة العمل، والإنتاج من أجل السوق في مجتمعات
العالم القديم
نعني بمجتمعات العالم القديم، ووفقًا للمؤرخ الأوروبي،
المجتمعات التي هيمنت عليها ظاهرة العبودية، وارتكز الإنتاج
فيها على العمل المستعبَد، والممتدة، على أقل تقدير، من الألف
الثانية ق.م. إلى القرن السادس الميلادي. ومن الناحية المكانية
يتحدد حقل البحث بالأجزاء الممتدة من بلاد بابل ومصر شرقًا إلى
أثينا وروما غربًا.
أ
وإذا بدأنا رحلتنا إلى هذا العالم القديم، الذي وكما
ذكرنا تهيمن عليه ظاهرة العبودية كأحد أشكال التنظيم
الاجتماعي، من أرض بابل، ابتداءً من القرن التاسع عشر قبل
الميلاد؛ بقصد إعادة النظر في المركزية الأوروبية التي
سيطرت على الاقتصاد السياسي بوجهٍ خاص؛ كي نعرف مقدار
فاقتنا الفكرية نحن أبناء الأجزاء
المتخلفة من النظام
الرأسمالي العالمي المعاصر، الذين تلقَّفْنا الاقتصاد
السياسي من أوروبا الغربية دون أدنى مراجعة. وما فعلناه مع
الاقتصاد السياسي فعلناه بتفوُّق أيضًا مع ما يسمونه «علم
الاقتصاد!» تلقفناه هو الآخر وانتشينا بتسميم عقول الطلبة
به في المدارس والجامعات في عالمنا العربي، ودونما
خجل!
نقول إذ ما بدأنا
رحلتنا إلى هذا العالم القديم من أرض بابل فسنجد مجموعة من
التشريعات التي نظَّمت بدقةٍ مجموعةً من العقود التي تحكم
جميع العلاقات القانونية والاقتصادية والمالية والشخصية …
إلخ، بين أفراد المجتمع من جهة، وبين أفراد المجتمع
والدولة من جهةٍ أخرى؛ فسنجد تنظيمًا رائعًا لكلٍّ من
البيع، والمقايضة، والكفالة، والقرض، والرهن الحيازي،
والرهن العقاري، والضمان، والشركة، والإجارة، والعارية،
والائتمان، والوكالة العادية، والوكالة بالعمولة، وعقود
العمل، والزواج، والطلاق، والوصية، والميراث … إلخ، وهو ما
يعني أننا أمام مجتمعٍ متطور إلى حدٍّ كبير على المستوى
الاجتماعي والاقتصادي، وتسوده علاقات التبادل، ويتبدى
تطوره بصفةٍ خاصة على صعيد علاقات الرأسمال، تلك العلاقات
التي بلغت حدًّا من التعقيد الذي تطلب التدخل التشريعي
لتنظيم أعمال المصارف، وأسعار الفائدة
٥ وتوزيع الأرباح بين الشركاء في عقود الشركات،
والمضاربات التجارية. وتدل الوثائق التاريخية على أن
المجتمعات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية قد
تجاوزت أيضًا مرحلة المجتمع البدائي واقتصادات المنزل منذ
عهودٍ بعيدة جدًّا، وتطورت من النقود السلعية إلى النقود
المعدنية، يُوجد تبادلٌ نقدي إذن، على الأقل منذ الألف
الأول قبل الميلاد.
٦ فنجد تقنين أشنونا،
٧ في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، يُحدِّد
في المادة الأولى والثانية الأثمان النقدية لمجموعة من
السلع الضرورية التي أُنتجت من أجل السوق مثل السمن والزيت
والصوف والنحاس والملح. وهي بطبيعة الحال لن تُنتج إلا
طبقًا لنفس قانون حركة الرأسمال «ن − «ق ع + و إ» − س − ن
+
Δ ن».
وتُحدِّد المادة الثالثة، والمادة الرابعة، أجرة الأشياء
مثل السفينة وعربات النقل، كما تتضمن تحديد أجرة الملَّاح،
وسائق العربة. وهؤلاء جميعهم يبيعون قوة عملهم.
والمادة الخامسة عشرة تمثل لنا دليلًا حاسمًا على معرفة
المجتمعات في العالم القديم للرأسمال، النقدي والعيني؛ حيث
نصت المادة المذكورة على أنه:
«لا يجوز، للتاجر أو بائعة الخمر، أن يتسلم من عبد أو
أَمةٍ فضة أو حبوبًا أو صوفًا أو زيتًا أو سلعًا أخرى
كرأسمال من أجل التجارة بها.»
وتُكرِّر المادة الواحدة والعشرون استخدام كلمة
الرأسمال؛ فقد نصت على:
«إذا أقرض رجل رأسمالًا من الفضة، فسوف يقبض ماله
وفائدته بنسبة ١ / ٦ شاقل وست حبات للشاقل الواحد من
الفضة.»
وتُعيد المادة ٩٣ ذكر الرأسمال حينما تنص على:
«أما إذا كان التاجر … ولم يحسم من أصل المبلغ الكمية
الكافية من الحبوب التي تسلَّمها ولم يكتب عقدًا جديدًا
بالباقي من المبلغ أو إذا أضاف الفائدة على الرأسمال فعلى
التاجر في هذه الحالة أن يعيد ضعف الكمية التي تسلَّمها من
الحبوب إلى المدين.»
ومن جهةٍ أخرى، يمكننا أن نعرف كيف كان يتم تقسيم العمل،
المأجور، بصفةٍ خاصة في مجال النشاط الزراعي الذي كان
يمارس على نطاقٍ واسع؛ فالمادة السابعة تُحدِّد أجرة
الحاصد، والمادة الثامنة تبين أجرة مَن يَذْرو
الحنطة.
والمادة الحادية عشرة واضحة في تنظيمها لثمن بيع العامل
لقوة عمله، إذ نصت على:
«إن أجر الأجير لمدة شهر مقداره شاقل من الفضة.»
وعلى الرغم من أن المادة الرابعة عشرة لم تصل إلينا
كاملة، للأسف، إلا أننا نستطيع أن نفهم خضوعها لنفس قانون
الحركة «ن − «ق ع + و إ» − س − ن +
Δ ن»؛ لأنها تعالج
أُجرة عن عمل بالإنتاج أو أُجرة على أساس نسبة من الربح
الذي يجلبه العامل إلى رب عمله، فالأجزاء المتبقية من هذه
المادة تنص على:
«أُجرةُ … شاقلٌ واحد من الفضة إذا جلب خمسة شيقلات من
الفضة، وإذا جلب عشرة شيقلات من الفضة فتكون أُجرته
شاقلَين من الفضة.»
واهتم تقنين حمورابي (١٧٩٢–١٧٥٠ق.م.)
٨ بإجارة الخدمة؛ أي بيع قوة العمل في حقل
الخدمات؛ فقد نصت المادة ٢٥٣ على:
«إذا استأجر رجلٌ آخر ليُشرف على حقوله …»
كما كان يمكن استئجار مَن يزرع الأرض بأجرٍ سنوي،
ويُقدِّم المالك أدوات العمل كالماشية، وموادَّ العمل
كالبذور؛ الأمر الذي قد يُمثِّل نموذجًا لبيع القدرة على
العمل الحر، من جهة، والنشاط الزراعي على أساسٍ رأسمالي؛
أي النشاط الخاضع لنفس قانون الحركة «ن − «ق ع + و إ» − س
− ن + Δ ن». من جهةٍ أخرى.
وبوجهٍ عام، يمكننا أن نجد لدى تقنين حمورابي التنظيم
القانوني لثمن بيع القدرة على العمل؛ فقد نصت المادة ٢٧٣
من تقنينه على:
«إذا كان رجل قد استأجر أجيرًا فسوف يعطيه ٦ شي من الفضة
يوميًّا من بداية السنة حتى الشهر الخامس، وأما من الشهر
السادس حتى نهاية العام فسوف يدفع ٥ شي من الفضة
يوميًّا.»
وعددت المادة ٢٧٤ بعض أنواع الصناع المأجورين، وحدَّدت
أجورهم. وعلى الرغم من أن بعض الأجزاء من نسخة التقنين غير
واضحة إلا أن الأجزاء الباقية كافية في استخلاص هيمنة نفس
قانون الحركة «ن − «ق ع + و إ» − س − ن +
Δ ن»:
«إذا أراد رجل أن يستأجر صانعًا فإنه يدفع له يوميًّا
كأجر … من الفضة، وكأجر لصانع الطوب ٥ شي من الفضة، وكأجر
… شي من الفضة للنساج، وكأجر … شي من الفضة لصانع الأختام،
وكأجر … شي من الفضة لصانع الجلود، وكأجر … شي من الفضة
لصانع السلال، وكأجر … شي من الفضة للبنَّاء.»
والمادة ٢٥٧ تعالج، صراحة، استئجار رجل لمزارع للعمل
أجيرًا في حقله. والمادة ٢٥٨ تنظم استئجار رجل لراعي غنم؛
أي شراء لقوة العمل.
وطبقة الصنَّاع، الذين يبيعون قوة عملهم وينتجون من أجل
السوق، وفقًا لنفس قانون الحركة «ن − [ق ع + و إ] − س − ن
+ Δ ن» مذكورة أيضًا؛
فالمادة ١٨٨ تقول:
«إذا أخذ عضو من طبقة الصنَّاع ولدًا متبنًّى وعلَّمه
حرفته …»
ويجب أن نلاحظ أن التقنين يُفرِّق، وبوعي، بين البيع
والشراء والمقايضة، وبين الأملاك الخاصة وممتلكات الدولة،
وبين السلع والأموال «م٤». كما يفرق بين أجرة الطبيب
البشري والطبيب البيطري «م٢١٥–٢٢٥».
بل وكان من تجديدات تقنين حمورابي تحديد أجور الأطباء
ومراعاة الحالة الطبقية والاقتصادية للمرضى؛ فقد حدد أجر
العملية في البدن أو في العين بالنسبة للثري بعشرة شواقل،
وبالنسبة للشخص العادي بخمسة شواقل، وبالنسبة للعبد
بشاقلَين يتحملهما عنه سيده، كما حدد أجر العلاج العادي،
وجبر العظام للطبقات الثلاث بخمسة شواقل وثلاثة شواقل
وشاقلَين على التوالي. كما لم يُغفِل التقنين علاج
الحيوانات وتعويضاتها.
ولم يُغفِل التقنين أحكام إجارة الأشياء وحدَّد أثمان
استئجارها. والمادة ٢٧٢ تعالج استئجار العربة فقط دون
السائق. وتُنظِّم المواد من ٢٦٩ حتى ٢٧١ استئجار أدوات
الإنتاج في الحقل؛ إذ يمكن أن يستأجر الرجل ثورًا أو
حمارًا للدرس والتذرية.
والأهم، أننا صرنا نعرف من تقنين حمورابي أن الأرض كانت
محلًّا للتداول والتصرفات القانونية كالبيع والمقايضة والإجارة.
٩ فالنظام الرأسمالي كما فهمه الاقتصاد السياسي
(أوروبي النشأة) لا يستقل إذن، وفقًا
لماركس/روزا/دوب/هيلبرونر، بتداول الثروة العقارية، كما لا
يستقل ببيع قوة العمل، أو الإنتاج من أجل السوق؛ فلقد جاء
في التقنين:
«إذا ابتاع رجلٌ حديقة أو بيتًا …» (المادة ٣٧).
«إذا بادل رجلٌ حقلًا أو حديقة أو بيتًا …» (المادة
٤١).
«إذا استأجر رجلٌ حقلًا للزراعة …» (المادة ٤٢).
أما المادة ٧٨، فتضع تنظيمًا فنيًّا متقدمًا على الصعيد
التشريعي؛ فقد نصت على:
«إذا سكن مستأجر في بيت رجل وأعطى لصاحب البيت إيجاره
السنوي الكامل ثم أمر صاحب البيت المستأجر أن يذهب قبل
انتهاء المدة المحددة يخسر صاحب البيت الفضة التي أعطاه
إياها المستأجر لأنه أكره المستأجر على مغادرة البيت قبل
انقضاء المدة المحددة.»
وبوجهٍ عام، يمكننا أن نعرف من الوثائق التي حفظت لنا
أعمال البيع والشراء والأجور والقروض في بابل
١٠ كيف ارتفعت أسعار المواد الغذائية التي أُنتجت
من أجل السوق، دون أن تزيد الأجور؛ وبالتالي اضطُر عامة
الناس إلى القروض من المعابد، وغيرها من بيوت المال التي
خضع نشاطها الاقتصادي على هذا النحو لنفس قانون حركة
الرأسمال النقدي/المالي «ن − ن − ن +
Δ ن».
وفي آشور، كان المجتمع مقسمًا إلى خمس طبقات: أولًا:
الأعيان. ثانيًا: رجال الصناعة المنتظمين في نقابات.
ثالثًا: أرباب المهن والحرف، والعمال غير المهرة وهم
الأحرار من صنَّاع المدن وزرَّاع الريف. رابعًا: الأقنان
المرتبطين بأرض المزارع الكبرى. خامسًا: الأرقَّاء أَسْرى
الحروب أو سجناء الديون.
١١ ظاهرتا بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق،
وفق قوانين الحركة، كانتا إذن من الظواهر المعروفة في
آشور.
ب
ونعرف من الكتاب المقدس بعهدَيه القديم والجديد
١٢ أن إبراهيم عليه السلام اشترى مقبرة بأربعمائة
شاقل فضة (تكوين، ٢٤: ١٥). كما نعرف أن إتمام عملية البيع
والشراء بواسطة النقود الموزونة كان سائدًا، على الأقل في
العهد القديم (تكوين، ٣٧: ٢٧). ومن الكتاب المقدس نتعرف
أيضًا إلى الأوزان التي استُخدمت في تحديد أوزان السلع:
الجيرة (خروج، ٣٠: ١٣) والبقع (تكوين، ١٢: ٢٤) والوزنة
(خروج، ٣٨: ٢٥) والمنا (حزقيال، ٤٥: ١٢) وشاقل الملك
(صمويل، ١٤: ٢٦). كذلك نقابل مكاييل الحبوب: الحفنة
(إشعياء، ٤٠: ١٢) واللج (لاويين، ١٤: ١٠) والفورة (حجي، ٢:
١٦) والحومر (لاويين، ١٦: ٢٧) والصاع (ملوك الثاني، ٢٥: ٦)
والهين (خروج، ٤٠: ٢٩). أيضًا نجد قياسات الأطوال مثل:
الإصبع (إرميا، ٥٢: ٢١) والشبر (حزقيال، ١٦: ٢٨) والذراع
(التثنية، ٣: ١١). نجد أيضًا العملات المستخدمة في
التعامُل اليومي. لكننا، وطبقًا للعهد القديم، لم نزل أمام
العملات الموزونة
١٣ مثل شاقل القدس (الملوك الأول، ١٠: ١٧)
والقسيطة (يشوع، ٣: ٢٤)
والمنا (أيوب، ٩: ١٦). وفي فترةٍ متقدمة نسبيًّا سوف يتم
الانتقال إلى النقود المعدودة: الفلس (مرقس، ١٢: ٤٢)
والدينار (متى، ٢٠: ٢) والدرهم (لوقا: ١٥: ٨).
والنصوص تقول إن اليهود في العالم الشرقي القديم كانوا
يمارسون في الهيكل أعمال الصيرفة، ووفقًا لقانون الحركة «ن
− ن − ن + Δ ن»، جاء في
إنجيل مرقس:
«… ولما دخل يسوع الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون
ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة
الحمام. ولم يدع أحدًا يجتاز الهيكل بمتاع. وكان يُعلِّم
قائلًا لهم: أليس مكتوبًا: بيتي بيت صلاة يُدعى لجميع
الأمم. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.»
١٤
ويمكننا، وفقًا لمخطوطات البحر الميت التي تسبق بنحو ألف
عام النسخة المعروفة للعالم من العهد القديم،
١٥ أن نستكمل صورة، ولو تقريبية، لبعض مظاهر
النشاط الاقتصادي في المجتمع وبعض أدواته آنذاك، فنعي أن
المجتمع يعرف ظاهرة الأثمان؛ لمعرفته نفس قوانين حركة
الرأسمال. ونعي كذلك أن الثروة العقارية كانت محلًّا
للتداول، وأن المعاملات كانت تتم بالفضة كوسيط في التبادل.
١٦ وأن المجتمع يعرف البيع والشراء والإنتاج من
أجل السوق، ومبادلة السلع بالذهب.
١٧ ويعرف المجتمع كذلك التجارة والأرباح.
١٨ كما أن ظاهرة الأجر، وبالتالي بيع قوة العمل،
كانت ظاهرةً مألوفة.
١٩ ونعي أيضًا أن الجزاءات المالية كانت تُدفع بالفضة.
٢٠ أما الأموال فهي مكروهة في الشريعة.
٢١ والجرائم المرتبطة بها لها اعتبارٌ خاص.
٢٢
ﺟ
وفي مصر القديمة، نجد الفرعون يتربع بمفرده على قمة
النظام، يليه مباشرة وزيرا الجنوب والشمال. ويأتي بعدهما
باقي موظفي الدولة العليا. يلي هؤلاء في الهرم الوظيفي
رجال الصف الثاني في مؤسسات الدولة المركزية والأقاليم مع
الرؤساء المحليين ومسئولي المعابد الصغرى، حتى نصل إلى
كاهن القرية. وكان بجوار هؤلاء الموظفين الرسميين،
بالإضافة إلى فئة الجنود، مجموعةٌ كبيرة من الحرفيين،
البائعين لقوة عملهم، المتخصصين في مختلف المجالات
كالفنانين والمثالين والصيَّاغ والزجَّاجين وصنَّاع
الأدوات المعدنية والنجَّارين والإسكافية والخزَّافين ممن
تحتاج إليهم ظروف الحياة اليومية، وجميعهم لا يبيعون قوة
عملهم فحسب، إنما كذلك ينتجون من أجل السوق. ونفهم من
ديودور الصقلي (٨٠–٢٩ق.م.) طبيعة التكوين الطبقي للمجتمع،
كما نعلم كيف عَرفَ المجتمع الحِرَف والصناعات المختلفة
وتقسيم العمل الاجتماعي؛ وبالتالي عَرفَ بَيْع قوة العمل،
والإنتاج من أجل السوق:
«وهناك ثلاث طبقاتٍ أخرى في مصر، إضافة إلى طبقة الملك
والكهنة والمحاربين، وهي الرعاة والفلاحون والعمال،
فالفلاحون يؤجرون الأرض الخصبة الخاصة بالملك والكهنة
والمحاربين نظير أجرٍ بسيط. وهم يقضون حياتهم بأكملها في
زراعة الأرض، ويتفوقون بما يملكونه من مهارة على فَلَّاحي
سائر الشعوب لأنهم يتدربون دائمًا على الأعمال الزراعية
منذ صغرهم؛ وبالتالي هم أكثر منهم علمًا بطبيعة الأرض وطرق
الري ومواقيت البَذر والجَني، ونفس الوصف هذا على طبقة
الرعاة، فقد كانوا يخلفون آباءهم في حرفة رعي الماشية كما
لو كان ذلك من الواجب قانونًا، فيقضون حياتهم بأكملها
أيضًا في الرعي وقد أخذوا عن أسلافهم معلوماتٍ وفيرة عن
أحسن طرق الرعي. إن المجتمع في مصر هو الوحيد الذي لا
يُسمَح فيه للصنَّاع بممارسة عمل آخر، أو التدخل في شئون
السياسة، بل يلتزمون ما ورثوا عن آبائهم من حِرف.»
٢٣
إن هذا النظام
الهرمي الراسخ يتعين أن يجدد إنتاجه اللازم لحياته من مأكل
ومشرب وملبس … إلخ. ولمَّا كانت الثروة الاجتماعية لمصر
القديمة تنحصر آنذاك في الأرض الزراعية، فقد كانت طبقة
الفلاحين بنوعَيها، مزارعين ورُعاة، بمثابة القاعدة
العريضة التي تستند إليها هذه الهرمية الاجتماعية في تدبير
حياتها اليومية. ويعني كل ذلك أن الزراعة تمثل النشاط
الاقتصادي السائد، وفي الوقت ذاته يعني أن أعددًا هائلة من
المصريين لا تنتج طعامها بنفسها إنما تعتمد على غيرها من
أفراد المجتمع في ذلك؛ وبالتالي تجد علاقات التبادل السلعي
مساحةً واسعة جدًّا كي تفرض وجودها على الصعيد
الاجتماعي.
وتُوضِّح المراسيم الملكية كيف كانت إجارة قوة العمل؛
فلم يكن كل العمال أرقَّاء؛ إذ لم يكن جميع العمال أو
الفلاحين عبيدًا للدولة أو للفرعون، كما هو شائع، إنما
وُجد أيضًا العمال الأحرار؛ فالعمال الزراعيون الأحرار، في
مقابل الأجر، كانوا يبيعون قوة عملهم لصالح رب العمل سواء
كان الدولة أم أحد الأشخاص العاديين. وتؤكد لنا النقوش أن
الكثير من التماثيل الخاصة بالفرعون أو المعابد كان يُعهد
إلى أحد الفنانين بعملها. وهذا الفنان المكلَّف بإتمام
عملية التمثال لا يعمل بمفرده إنما يجمع في مصنعه عددًا من
ذوي المهن المختلفة (كالنحات، والنجار، والرسام، والنقاش …
إلخ) وجميعهم يعملون لديه بالأُجرة، وينتجون من أجل السوق،
ووفقًا لنفس قانون الحركة.
ولقد كشفت الحفائر التي تمت في محاجر الجبل الأحمر عن
لوحةٍ تذكارية في عهد رمسيس الثاني كُتبَ عليها:
«لقد دفع لكلٍّ منكم أجره كاملًا لمدة شهر.»
٢٤
وتُحدِّثنا بردية
٢٥ مهمة يرجع تاريخها إلى نهاية الدولة القديمة
عن الصور المختلفة للنشاط الاقتصادي؛ إذ نجد الحداد،
والفلاح، والصائغ، والنجار، وقاطع الأحجار، والحلَّاق،
ومقتلع البردي، والفخَّاري، وعامل البناء، والبستاني،
وعامل الحقل الأجير، والنساج، والصياد، والوقاد،
والإسكافي. وهؤلاء عادةً ما يستخدمون أدوات عمل يملكونها،
ولا يمثل المنتوج بالنسبة لهم أي أهمية في الاستعمال؛
لأنهم لا ينتجون سلعهم من أجل الإشباع المباشر، إنما
ينتجونها، ووفقًا لنفس قانون حركة الرأسمال، من أجل السوق؛
من أجل البيع؛ من أجل التبادل. ووجود هؤلاء لا يعني فحسب
أن المجتمع قد تجاوز اقتصاد المنزل، وإنما يثبت وجود العمل
المأجور، وتوافُر السلع التي تُنتج من أجل السوق، كما يثبت
وجود التخصص وتقسيم العمل.
بوجهٍ عام يمكننا أن نشاهد في مصر القديمة حياةً يومية
لا تختلف روحها وهمومها عن حياتنا المعاصرة بالتناغم مع
مشاهدتنا لشتى أنواع الحِرَف والصناعات المتطورة، والمصارف
(بصفةٍ خاصة في عصر البطالمة)
٢٦ والورش الضخمة التي كانت تستخدم العمال
الأجراء. وكما نجد تجار الجملة وتجار التجزئة والصنَّاع
الأحرار نجد كذلك العمال الأُجراء في كل نشاطٍ اقتصادي
مرتبط بالفرعون أو بالمعابد أو حتى بالأشخاص
العاديين.
وبغض النظر عن مشكلات العملة؛ إذ لن تتبلور الوحدة
النقدية إلا خلال النصف الثاني من الألف الأولى ق.م.،
٢٧ فلا شك في أن المجتمع المصري القديم في مرحلةٍ
متطورة عرف ظاهرتَي المبادلة والثمن. كما عرف ظاهرة الأجر
وبالتالي عرف بيع قوة العمل، ومعهما عرف مختلف الظواهر
المرتبطة بالتجارة والصناعة والمضاربة.
وأخذًا في الاعتبار أن قانون بوكخوريس (٧٤٠ق.م.) قرر
إلغاء فوائد الديون وحدَّدها ﺑ ٣٠٪ للنقود، و٣٣٫٥٪
للحاصلات الزراعية، فقد كان الاقتصاد المصري بصفةٍ عامة
يستند إلى وحداتٍ مرجعية لم تكن تستخدم العملة في سداد
الثمن، ولكنها كانت تستخدم فحسب في تحديد قيمة المبادلات
والرسوم والغرامات … إلخ؛ فلقد كانت تلك العملة مجرد
عمليةٍ محاسبية ظلت وحداتها المرجعية سارية لمدةٍ طويلة
جدًّا. وكان يتم التعبير عن هذه الوحدات بواسطة الحبوب
والفضة ثم أُضيف إليها النحاس اعتبارًا من الدولة الحديثة.
وكانت الوحدة المعتمدة على الحَب تُستخدم في حساب المبالغ
المتواضعة، في حين كانت أثقال النحاس والبرونز تناسب
المنتجات العادية، أما أثقال الفضة فكانت تُستخدم في
المنتجات الفاخرة. ومع هذا كانت هذه الوحدات الثلاث قابلة
للتعاوض فيما بينها وفقًا لمعدَّل لم يتغير إلا في حدود
نِسبٍ معقولة. وكانت طرق التعاملات الاقتصادية صغيرة الحجم
معروفة جيدًا للدولة الحديثة، وكانت الأثمان تتفاوت من
مناسبة لأخرى. وفي إحدى المعاملات التقليدية نجد شرطيًّا
يشتري من أحد العمال ثورًا ويدفع له جَرَّة من العسل ثمنها
٣٠ دِبنًا، وثوبَين ثمنهما ١٠ دِبنات، وخردة من النحاس
وتساوي ٥ دِبنات، و١٠ هن من الزيوت النباتية ثمنها ١٠
دِبنات؛ أي إن المجموع ٥٠ دِبنًا. وكان هذا النظام من
القيم يغطي ثمن العمل والمواد الخام … إلخ. وكان شد الحبال
على السرير الخشبي يكلف واحدًا خار من الغلال، بينما كان
صنعه يتكلف حوالي ٥ خار، وكان تجميله يتكلف ١٫٥ خار، وكان
الخشب يتكلف ٣ دِبنات، وحيث إن واحدًا خارًا من الغلال
يساوي واحدًا دِبنًا؛ فإن الإجمالي يكون ١٨ دِبنًا. وكان
شراء السرير الجاهز يكلف ما بين ١٢ و٢٥ دِبنًا، وهو تجسيدٌ
منطقي للعمل مضافًا إليه تكاليف المواد المستعملة في الإنتاج.
٢٨
ولقد حفظ لنا المتحف المصري بالقاهرة نموذجًا خشبيًّا
يعود إلى الدولة الوسطى، لمعمل لصنع الجِعَّة يعمل فيه
سبعة عمال بالأجرة (سجل عام ٣٧٥٦٣). كما حفظ لنا نموذجًا
ثانيًا لورشة نجارة عُثر عليها بمقبرة مكت رع، من كبار
الموظفين في نهاية عصر الأُسرة اﻟ ١١، إذ نجد من العمال،
وإعمالًا لنفس قانون حركة الرأسمال، مَن يشق كتلة من
الخشب، كما نجد آخرين يقومون بصقل الخشب بالقواديم أو
بواسطة قطعة من الحجر الجيري، وينقر أحد النجارين كتلةً
أخرى، في حين يُعيد ثلاثةٌ من العمال شَحذَ الأدوات
المعدنية التي تَلِفَت أَنصالُها (سجلٌّ عامٌّ ٤٦٧٢٢). وفي
أحد المقابر الفرعونية نجد من بين مناظر المقبرة أحد
الأسواق ونرى فيه: صانع الأحذية يعرض على الخبَّاز زوجًا
من الصنادل مقابل الخبز، وزوجة النجَّار وهي تعطي صائد
السمك صندوقًا صغيرًا من الخشب ثمنًا لسمكة، وزوجة
الفخَّاري وهي تعرض إناءَين على العطَّار مقابل إناء داخله
بعض العطور.
٢٩ وفي مقبرة تي، أحد كبار مُوظَّفي الأُسرة
الخامسة، في القرن الرابع والعشرين ق.م.، نجد المقبرة وقد
حفَلَت بالنقوش التي تُوضِّح أعمال النجارة وصُنع المراكب
من قِبل مجموعةٍ من العمال المأجورين.
٣٠
ويتعين أن نذكر،
بشأن قوة العمل، أن الجدل قد ثار حول وقت ظهور نظام الرق
الخاص في مصر؛ أي تملُّك فرد لفرد؛ إذ إننا لم نجد أي
أَثرٍ لذلك. ولم نصادف في عصر الدولة القديمة تصرفًا
واحدًا يتناول أشخاصًا بالبيع أو الشراء.
٣١ وفي تقدير البعض، أن عدم العثور على أي إشارة
في التصرفات القانونية إلى وجود الرقيق لا يُعتبر دليلًا
كافيًا؛ إذ يمكن تصور أن التصرفات ما كانت تذكر سوى الرجال
الأحرار وتتغاضى عن الإشارة إلى الأرقَّاء في حالة بيع
الأراضي مثلًا باعتبارهم مجرد ملحقات، ولا يتمتعون بحقوق
أو أموالٍ خاصة. بيد أنه إذا كان هذا الفرض صحيحًا، فإنه
كان يتعين ذكر هؤلاء الأرقاء باعتبارهم من عناصر الذمة
المالية، وذلك في الوثائق الإحصائية للأموال؛ أي الوثائق
التي تحوي بيانًا لأنواع الأموال التي تُفرض عليها
الضريبة، والتي كان يتعين على الملَّاك تحريرها؛ فهذه
القوائم كانت تتضمن جردًا تفصيليًّا دقيقًا للأراضي،
والديون المختلفة، والمواشي، بل وحتى الدواجن، وكل شوال
غلال قُدم للطحان، وكل رغيف خبز تم استلامه من الخباز. ولو
كان هناك رقيق لشملته هذه البيانات لأنها تحصي جميع
الأموال المملوكة للشخص.
٣٢
د
أما الفينيقيون
٣٣ في القرن السادس قبل الميلاد والذين تميزوا
بالتجارة البحرية
٣٤ على نطاقٍ واسع، وبسطوا سلطانهم على بحار
العالم الشرقي القديم، حتى صار البحر الأبيض المتوسط — من
سواحل لبنان حتى إسبانيا التي استعمروها
٣٥ — بُحيرةً فينيقية؛ فقد كانوا يرتحلون
بتجاراتهم من ميناء إلى آخر مستبدلين بجزءٍ من حمولتهم
منتجات البلد الذي يبيعون فيه، فإذا نزلوا ببلدٍ أبعد
باعوا ما اشتروه، وكانت هذه السفن ترسو عند هذه النقطة أو
تلك من نُقَط الساحل وتبقى بها أيامًا أو شهورًا حتى تتخفف
من حملها. وما كان يزيد الإقبال على سلعهم، التي أنتجوها
من أجل السوق، هو نوع السلع الراقية والثمينة والنادرة
التي كانوا يعرضونها مثل المصنوعات الزجاجية والخشبية،
والحُلي، والأقمشة، وأدوات الترف المختلفة.
٣٦
لقد عرف الفينيقيون كيف يطورون السلع المعدَّة للتصدير
كالزجاج والنسيج، كما عملوا على تطوير صناعة المعادن
المختلفة المصنَّعة من موادَّ خام مستوردة رخيصة الثمن،
وفهموا كذلك كيف يُكيِّفون أنفسهم وببراعة مع متطلبات
السوق فلم يتخصصوا في إنتاج سلعٍ مرتفعة الثمن فقط، بل
قدَّموا كذلك عرضًا سلعيًّا متنوعًا يُغطي حاجات عموم
الناس، وأنتجوا سلعًا منخفضة الثمن يُرجَّح أنها قامت على
المحاكاة والتقليد (مثلما تفعل دولة الصين الآن) بِيعت إلى
جانب أقمشة الأرجوان النفيسة. كما عرفوا كيف يُصرِّفون
منتجاتهم بالبحث المستمر عن الأسواق الدولية الجديدة. وفي
الوقت نفسه استخدموا، وعلى نطاقٍ واسع، الخبراء الذين
يمثلونهم في الأسواق الدولية لضمان الإدارة الجيدة
لعلاقاتهم التجارية في الأسواق الجديدة على الصعيد العالمي.
٣٧
لا شك إذن أننا أمام عدة ظواهر يجب أن تسترعي انتباه
الباحثين في تاريخ النشاط الاقتصادي؛ فنحن أمام حركة
تصديرٍ واستيراد، وتجارة هدفها الربح وليس تبادُل سِلَعٍ
بسلعٍ بغرض الإشباع المباشر على الأقل من جانب الفينيقيين.
كذلك نحن أمام عملاتٍ مسكوكة من الذهب أو من الفضة، وسلعٍ
مصنَّعة وعلى درجةٍ عالية من الجودة والدقة. كذا نحن أمام
سوق ومنتجين وبائعين ومشترين ووسطاء في التداول، والأثمان
الإلزامية سائدة، كما الأثمان الرضائية، بين جميع
المشاركين في النشاط الاقتصادي الذي يتم بأكمله وفقًا لنفس
قوانين حركة الرأسمال:
«كان الرأسماليون وأصحاب السفن الكبار قد أتقنوا دون شك
كل فنون التجارة الدولية الكبيرة؛ حيث كانت أعمالهم تشتمل
على كل ما هو معروف في عصرنا هذا من تأميناتٍ ساحلية
واعتماداتٍ مصرفية وقروضٍ من كل الأنواع وتمويل بالمساهمة
أو بالحساب وكل أشكال الحسومات والإجراءات التجارية. وفي
قرطاجة ظهر أول قَرضٍ له صفةٌ دولية. ولم يُفسحِ
الفينيقيون مجالًا لتقدُّم الإغريق عليهم في سَكِّ العملة،
فقاموا في ورشاتهم بسَكِّ عملتهم من الفضة والذهب. إن
البورصة التي كانت تُحدِّد الأسعار العالمية للمواد
الأولية التي صارت تُموِّل العمليات الحربية كان لها الدور
المهم في سقوط قرطاجة.»
٣٨
ويمدنا سفر حزقيال
٣٩ بمادة، ولو أوَّلية، إنما ثرية، تمكَّنا من
التعرف إلى حركة التجارة، وأنواع السلع، والأسواق في «صور»
التي كانت أهم المدن الفينيقية على ساحل البحر الأبيض
المتوسط آنذاك، فنعرف، من سفر حزقيال، أن مدينة صور كانت
من أعظم مدن العالم القديم على الإطلاق، وأن التجارة
العالمية، التي اتخذت من مدينة صور مركزًا لها، كانت
تجارةً عالمية بالمعنى الدقيق للكلمة؛ فثمة تجارةٌ واسعة
(تستخدم العمل المأجور) في أفخر أنواع المنسوجات،
والمصنوعات على اختلاف أنواعها من حُلي وأوانٍ وعطور وحبوب
وتوابل وسجاجيد وأخشاب وبخور ومعادن وأحجار كريمة وأدوية …
إلخ. وهي جميعها لم تُنتَج إلا من أجل السوق. والسوق
الدولية بوجهٍ خاص، ووفقًا لنفس قانون الحركة «ن − [ق ع +
و إ] − س − ن +
Δ
ن».
ﻫ
وفي بلاد اليونان، في القرن السادس والخامس ق.م.، تبلورت
عملية سك النقود المعدنية بشكلٍ مبهر. لقد كادت أثينا أن
تحتكر النقد الدولي المتداول في العالم القديم، بعد أن
صارت أكبر مَصدرٍ للمسكوكات الفضية آنذاك.
٤٠
لقد كان الإغريق بحارة
٤١ وتجارًا مهرة، وهم أول مَن ابتدع نظام قرض
المخاطرة الجسيمة، ومؤداه أن رأسماليًّا يقرض مالك السفينة
ما يحتاج إليه من نقود لتجهيز السفينة وشراء البضائع، فإذا
وصلت السفينة إلى بر الأمان استَوفَى المُقْرِض مبلغ القرض
وفائدةً مرتفعة قد تصل إلى ٢٠٪، أما إذا غرقت السفينة فلم
يكن للمُقرِض أن يُطالب مالك السفينة بشيء ويُعفَى الأخير
من ردِّ ما اقترضه.
٤٢
وكانت الإسكندرية في العصر البطلمي تنتج للعالم الفخار،
والعطور، والورق، وكذلك أفخر أشكال المنسوجات، وأجود صنوف
السلع الزجاجية، إضافةً إلى الأنواع المختلفة من الحُلي
والأواني الفضية التي عمَّ استعمالها في العالم القديم؛ أي
إن الإنتاج، ووَفقًا لنفس قانون حركة الرأسمال الصناعي،
كان من أجل التصدير، من أجل السوق الدولية؛ ومن ثَم كان
خاضعًا لسيطرة الأثمان الدولية. يفترض كل ذلك وجود منتجين،
وغزارة في الإنتاج، كما يفترض التخصص والتقسيم الدقيق
للعمل، ويوجب من بابِ أولى التنظيم الصارم لعملية الإنتاج
والضبط المحكم للنشاط الاقتصادي. ولعله من المؤكد
تاريخيًّا أن ازدهار النشاط الصناعي في المدن، وهو الذي
خضع لنفس قانون الحركة، قد أدى إلى هجرة الكثيرين إليها من الريف.
٤٣ أن الأمر نفسه سوف يتكرر، وبدقة، بعد عشرات
القرون مع الثورة الصناعية في أوروبا!
وكانت الإسكندرية، أيضًا، في مقدمة المدن التي اجتذبت
إليها الآلاف من العمال والصنَّاع المأجورين. وكانت
التشريعات تُقرِّر لعمال استخراج الزيت مكافأةً تشجيعية،
تُضاف إلى الأجور التي يحصلون عليها، وإذا امتنع الموظف
المختص عن إعطاء العمال أجورهم ومكافأتهم؛ فإنه يُعاقَب
بأن يدفع للخزانة العامة ٣٠٠٠ دراخمة، كما يدفع للعمال
أجورهم وجميع مستحقاتهم.
ونَشُكُّ كثيرًا في كَوْن المنتجين لهذه الروائع الفنية
التي تجلَّت في المنتجات الإغريقية كالأواني والأقمشة
والحُلي وأعمال الزجاج والرخام والمعادن، كانوا من العبيد!
بل نفترض أن نفس قانون الحركة قد نَشِط في الكثير جدًّا من
الأحوال داخل المجتمع المنتج لمثل هذه الروائع العظيمة
والفنون الأسطورية؛ فلقد وُجدت الورش والمصانع والمعامل
على اختلاف أعمالها وتكوينها وأشكالها، والتي لم تستعمل
العبيد فحسبُ بل والأُجراء الأحرار أيضًا، بالأخص في
الصناعات التي كانت تحتاج إلى الدقة وتستلزم درجةً عالية
من الحِرْفية والفنية. ولا سيما وأن العمال في أثينا لم
يكونوا جميعًا من العبيد، كما هو شائع، بل وحتى العبيد،
كما سنرى، كان يُسمح لهم ببيع قوة عملهم مقابل الأجر لكي
يشتروا حريتهم من أسيادهم بالمال الذي كسبوه. ظاهرة بيع
قوة العمل إذن كانت معروفة، ولا تنفرد بها أوروبا الحديثة.
حتى إن السمة التي يعتبرونها مهمة في المجتمع الرأسمالي
المعاصر، وهي المتعلقة بانفصال الريف عن المدينة، ويكتبون
الرسائل الجامعية، الهزلية أحيانًا، في دور الرأسمالية في
هذا الفصل، نجدها بارزةً بوضوحٍ شديد في أثينا ومعبرة
تعبيرًا دقيقًا عن الطبقية كنظامٍ اجتماعي راسخ؛ ومن ثَم
نجد أنفسنا، في القرن الثالث ق.م.، أمام نفس المشكلة
الفكرية التي سوف يتعرض لها ريكاردو بالتحليل في مطلع
القرن التاسع عشر، كفكرةٍ مركزية في بنائه النظري، وهي
الصراع بين رجال الصناعة، الذين يريدون خفض أثمان المنتجات
الزراعية، وكبار ملَّاك الأراضي، الذين يرغبون في رفع
أثمان هذه المنتجات:
«كانت نار الحرب القديمة العهد بين الريف والمدينة بين
الذين يريدون أثمانًا عالية للغلات الزراعية وأثمانًا
منخفضة للسلع المصنوعة، وبين الذين يطلبون أثمانًا منخفضة
للسلع المصنوعة وأجورًا عالية أو أرباحًا كبيرة في مجال
الصناعة، وبينما كانت الصناعة والتجارة تُعدَّان من أعمال
العامة التي تُزري بصاحبها في نظر المواطن الأثيني، كانت
الأعمال الزراعية في اعتقاده مُشرِّفةً للمشتغل بها لأنها
أساسُ الاقتصاد القومي، وكان أهل الريف ينزعون إلى احتقار
سكان المدن ويرون أنهم إما طفيليون مستضعفون أو عبيدٌ أدنياء.»
٤٤
وعلى الرغم من ارتكاز المجتمع الأثيني على العمل
العبودي، كظاهرة سادت المجتمع آنذاك، فقد كان العبيد
الأرقَّاء وإلى حدٍّ ما في بعض الفترات التاريخية أسعد
حالًا؛ إذ كما كان للرجل الأثيني الحر أن يملك عشرات العبيد،
٤٥ الذين يعملون في منزله أو حقله أو حانوته، كان
للعبد، وكما ذكرنا، أن يبيع قوة عمله في وقت فراغه من عمل
سيده ليكسب من المال ما يمكنه من شراء حريته من
سيده:
«ولدينا نَقشٌ كتابيٌّ عن تشييد هيكل أركتيوم وفيه وصفٌ
جليٌّ واضح يبين لنا وجه المقابلة، من حيث المراتب
الاجتماعية بين مختلف الطبقات؛ ذلك أننا نجد ذكرًا
لعشرين مواطنًا وخمسة وثلاثين عبدًا معتقًا وستة عشر
عبدًا، وكلٌّ منهم، ويدخل في ذلك المهندس المعماري نفسه،
يتقاضى أجرًا يوميًّا قدره درهمٌ واحد، والدرهم نسبة إلى
قوته الشرائية آنذاك، يمثل ضعفَي نفقات المعيشة لرجلٍ عازب.»
٤٦
وعلى الرغم من انتشار العبودية، كظاهرة، على الصعيد
الاجتماعي، فيمكننا أن نجد الأطباء والمثَّالين والمعلمين
يتلقون الأجور
٤٧ مثل البناءين والنجارين والنحاسين والخزافين
والنقاشين والنحاتين والخراطين وغيرهم من الحرفيين
والصنَّاع الأُجراء، فكما كانت الأجور تُدفع لمن ينتجون
السلع كانت أيضًا تُدفع لمن يقومون بالخدمات. عرف المجتمع
الأثيني إذن إجارة الخدمة؛ أي إن مقولة ماركس وإنجلز: «لقد
جعلَت البرجوازية الطبيب ورجل القانون والكاهن والشاعر …
في عِداد الشغيلة الأُجراء.» تحتاج إلى مراجعةٍ
ناقدة!
وتُوجد بردية تعود إلى القرن السادس، محفوظة بمتحف مكتبة
الإسكندرية، تحت رقم ٥٧٢، عبارة عن: «عقد تدريب على حرفة
وعلى الأجر النقدي.» ظاهرة بيع قوة العمل إذن معروفة
بوضوح. ويصبح من المؤكد، في ضوء الآثار الوفيرة والوثائق
العديدة، أن الجزء الأكبر من الإنتاج لم يكن من أجل
الإشباع المباشر، إنما كان يتم من أجل السوق، بل ومن أجل
السوق الدولية. وطالما كنا في السوق، فيتعين أن نشاهد
منظومة الظواهر المرتبطة بالأسواق، مثل: الأثمان والنقود
والمبادلة وتجار التجزئة، وبالطبع الرأسمال، والرأسمالي
الذي يستثمر أمواله. وفي المقام الأول نجد جميع تلك
الظواهر خاضعة لنفس قوانين الحركة.
و
وحينما ننتقل إلى الإمبراطورية الرومانية في القرنَين
الأول والثاني الميلاديَّين، فسنجد النساجين الأحرار
والأرقَّاء، وقد جُمعوا في مصانع لا تُنتج للأسواق المحلية
وحدها، بل تُنتج بقصد التصدير إلى الأجزاء المختلفة من
العالم القديم شرقًا وغربًا.
٤٨
وكانت معظم الصناعات في أيدي صنَّاعٍ أحرار مستقلين يعمل
كلٌّ منهم، وطبقًا لنفس قانون الحركة «ن − [ق ع + و إ] − س
− ن + Δ ن»، في حانوته
الخاص، ولكن كان إلى جانبهم، بحكم التكوين الاجتماعي، عدد
من المحرَّرين والأرقَّاء. وكان التنافس شديدًا بين
الصنَّاع الأحرار والصنَّاع الأرقَّاء، وهو الأمر الذي
أدَّى في بعض الأحيان إلى خفض أجور الصناع الأحرار، ومن
ثَم انخفاض مستوى معيشتهم؛ وبالتبع تدني جودة المنتوج
النهائي نفسه؛ أي إن هذه المنافسة لم تأتِ بنتائجَ جيدة،
لأنها:
«أضرَّت بالعمال الأحرار الذين يُؤجرون سواعدهم.»
٤٩
ويمكننا أن نرى منافسة المؤسسات الصناعية الكبرى، التي
نشأت ونمت في بعض الضياع الزراعية الكبيرة، لحوانيت المدن
ومصانعها؛ فبعض هذه الملكيات التي يستحوذ عليها الأغنياء،
٥٠ أخذت في القرن الثاني في إنشاء المصانع
وتنظيمها لإنتاج السلع لا بقصد استهلاكها محليًّا، بل من
أجل بيعها؛ أي إن الإنتاج، ووفقًا لنفس قانون الحركة، كان
من أجل السوق، وليس بقصد الإشباع المباشر:
«وكانت الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الصناع مختلفة كل
الاختلاف، وكان أكثر ما يُنتجون للسوق، وكان للأحرار من
العمال اتحادات أو جماعاتٌ طائفية.»
٥١
ولدينا خطابٌ مُهِمٌّ يُوضِّح كيف كان العمال يبيعون قوة
عملهم. يرجع هذا الخطاب إلى القرن الثالث، وفيه يطلب
المرسِل من أخيه إرسال أجور العمال:
«أرسلت إليك أيضًا … لكي ترسل إلينا مبلغ … لأجل الأعمال
كي نستطيع إعطاء أجور العمال في القرية لأنني منزعج منهم
جدًّا وأيضًا لكي أقوم بدفع الأجور الشهرية لجميع عمالنا
وكذلك عمال الطوب اللبن.»
٥٢
كما نجد في بردية، تعود إلى القرن الثالث الميلادي،
مجموعةً من الحسابات عن الإصلاحات التي تم إجراؤها في بعض
المعابد آنذاك. ونعرف منها مقدار الأجور لبعض المهن: فأجرة
عامل البناء بلغت ٦ دراخمات، وأجرة قاطع الأحجار ١٠
دراخمات تقريبًا، أما أجرة المبيضين فكانت ١٦ دراخمة.
٥٣
وعلى الصعيد النقدي، فقد كان الحفاظ على قوة العملة ذات
القيمة المنضبطة من أهم شواغل روما، التي ستُمسي أهم مركزٍ
مالي آنذاك، حينما تصبح عملة روما سيدة العملات على الصعيد
العالمي؛ حتى صارت الوسيط الرسمي للتبادل في قلب
آسيا.
أما النظام المالي والضريبي فقد كان محكمًا بفضل التجارب
والخبرات المتراكمة من العصر الهلينستي؛ فكانت الضرائب
تُجبى عن الأرض الواقعة في نطاق المدينة، وعن العقار
المقام فيها، ثم عن الوارد والصادر، ثم نظير احتراف
التجارة وإبرام العقود والمعاملات التجارية والانتفاع
بالأسواق، كما كانت تُجبى في صورة أجرة للحوانيت التي
تملكها المدينة، وعن مختلف الأملاك الثابتة التابعة
للبلدية، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع إيرادات المدن
وبصفةٍ خاصة المدن الكبرى. بيد أن جانبًا كبيرًا من هذه
الإيرادات كان يذهب كأجور ومرتبات للعمال والموظفين. وكان
من الشائع قيام كبار الرأسماليين بتحمل النصيب الكبير من
النفقات العامة للمدينة. وما يمكن التأكيد عليه تاريخيًّا
هو أن القرن الثاني قد شهد ظهور الأغنياء الذين انتشروا في
أرجاء الإمبراطورية الرومانية ولم يكونوا ملَّاكًا
للأراضي، بل كانوا من أصحاب رءوس الأموال، والاستثمارات،
على نطاقٍ واسع.
وكان الإقراض من أقدم الأعمال في روما، وكان أدنى سعر
للفائدة لا يقل عن ١٢٪ (معنى ذلك أن معدَّل الربح على
الصعيد الاجتماعي كان محددًا بهذه اﻟ ١٢ بالمائة) ومع
الوقت أصبح أحد الشوارع المجاورة للسوق العامة حَيَّ رجال
المصارف، وازدَحمَت فيه حوانيت المضاربين والمقرضين والصيارفة؛
٥٤ فلقد ظهر احتراف أعمال المصارف وإقراض الأفراد
العاديين الأموال. وكان الائتمان، وما يتعلق به من عملياتٍ
مصرفية ومالية، قد اكتمل تطوره في مدن الإمبراطورية. تساوق
كل ذلك مع تحول الاقتصاد إلى اقتصاد المبادلة النقدية
المعمَّمة. فقد تطلب نمو التجارة والصناعة، وتزايُدُ عدد
كبار ملاك الأراضي الذين يقطنون المدن، مقاديرَ هائلةً من
وحدات النقود التي يتم استخدامها في إنشاء الاستثمارات
المختلفة وتنميتها، وفي إدخال وسائل التحسين اللازمة
للقائم منها. ومن ناحيةٍ أخرى، تكدست في أيدي كثيرين من
رجال المال مقاديرُ كبيرةٌ من وحدات النقود؛ ومن ثم أصبح
إقراض المال حرفة يزاولها الأغنياء ورجال المصارف؛
وبالتالي، انتشرت المصارف وبرزت أعمالها المتطورة للغاية
في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية.
٥٥
ولأن الأرض كانت محلًّا للتصرفات القانونية كافة، من بيع
وشراء ورهن … إلخ؛ فقد كان في وُسع المواطنين أن يقترضوا
بضمانها لتمويل المشروعات التجارية المختلفة وبصفةٍ خاصة
لتمويل رحلات التجارة البحرية. كما كان أيضًا في وسعهم
الاقتراض بضمان المحاصيل الزراعية والأوراق المالية
والعقود الحكومية.
وكانت هناك «شركات مساهمة» أهم ما كانت تقوم به من
الأعمال هو تنفيذ العقود الحكومية التي يبرمها الحاكم بعد
أن تُقدَّم إليه العطاءات. وكان أصحاب هذه العطاءات يحصلون
على المال اللازم لقيامهم بهذه الأعمال ببيع ما لديهم من
أوراق حكومية وسندات للجمهور في صورة أجزاءٍ صغيرة؛ أي
أَسهُم، كما هي معروفة الآن. وكان الغالب أن يُعهد إلى
كبار الرأسماليين بتنفيذ أعمال الإنشاءات الحكومية، وهو ما
يتم وفقًا لنفس قانون الحركة «ن − «ق ع + و إ» − س − ن +
Δ ن»؛ لأن قوة العمل
لم تكن دائمًا في هذه المرحلة مستعبَدة بل كان منها
المأجور في أحيانٍ كثيرة جدًّا.
لقد حلَّ نظام الإقراض التعاوني محل التأمين السائد
الآن. ويعتمد هذا النظام على اشتراك عدد من المصارف، في
تقديم الأموال لمشروعٍ تجاريٍّ ما بدلًا من انفراد مصرفٍ
واحد بتمويله. لقد قامت هذه المصارف بدورٍ خطير في تموين
الجيش. وكان رجال المال والأعمال هم الذين يُديرون هذه
المشروعات الكبرى، والتي خضعت لقانون الحركة «ن − ن − ن +
Δ ن».
ولم تكن التجارة فحسبُ أو المضاربات المالية فقط، مصدر
الثروات التي ظهرت في هذه المرحلة التاريخية، إنما كان
للصناعة، في بلاد الغال بالأخص، الدور المهم في تكوين هذه
الثروات؛ فلقد أظهرت بلاد الغال مقدرةً منقطعة النظير على
التوسع في الصناعة، فلما أصبحت تحت الحكم الروماني تابعت
المسير، وسرعان ما بدأت، بوصفها منافسةً جديدة لروما، في
إنتاج السلع التي كانت من احتكار الأخيرة. وعندئذٍ بدأت
المنتجات الإيطالية تتوارى من الأسواق الجرمانية؛ بسبب
هيمنة سلع بلاد الغال، المنتَجة وفقًا لنفس قانون الحركة
«ن − [ق ع + و إ] − س − ن +
Δ ن».
إن «نقوش ليون» لتدل بجلاء على ما كان لهذه المدينة من
أهميةٍ بالغة في الحياة الاقتصادية في حياة الإمبراطورية
الرومانية. ولم تكن ليون تلك مركزًا عظيمًا للتوزيع
والمقاصة الدولية في تجارة القمح والنبيذ والأخشاب والزيت
… إلخ فحسبُ، بل كانت كذلك أحد أهم المراكز الصناعية في
الإمبراطورية لصناعة أكثر السلع التي كانت تستهلكها
أوروبا. إنها الصناعة التي استلزمت التوسع في استخدام
العمل المأجور، البائع لقوة عمله، والذي ينتج، وفقًا لنفس
قانون الحركة، من أجل السوق.
ويمكننا القول بأن نقابات العمال المأجورين، في روما،
مرت تاريخيًّا بمرحلتَين: المرحلة الأُولى هي التي شهدت
إنشاء الملوك والأباطرة أنفسهم للنقابات؛ كي تكون بمثابة
الأداة المسيطرة على العمال. أما المرحلة الثانية فهي التي
قام العمال أنفسهم بتأسيسها في مواجهة السلطة السياسية
الحاكمة أو في مواجهة مَن يَرَونَ أنهم يُهدِّدون مصالحهم
بوجهٍ عام.
ولأن روما كانت تضُم، إلى جوار العبيد عمالًا أحرارًا؛
فقد وُجدَت نقابات العمال منذ العهد الملكي.
٥٦ ونعرف من المصادر والوثائق التاريخية أن نوما
بومبيليوس (٧١٥–٦٧٣ق.م.) ملك روما الثاني قام بتأسيس مجامع
الصنَّاع.
وكانت هذه النقابات ذات مصالحَ متبادلة.
٥٧ ومن أقدم هذه النقابات، نقابات: صانعي الذهب،
والحدَّادين، والصباغين، والدباغين، والخزافين،
والزمَّارين، والحذَّائين. وقد خُصِّص للنقابة بيتٌ مشترك
كمقرٍّ للاجتماعات ولإقامة طقوس النقابة. وفي عهد
الإمبراطور تراجان، الذي حكم من ٩٨ إلى ١١٧م، تم تأسيس
نقابة الخبازين التي صارت بعد ذلك من أكثر النقابات أهمية.
كما أن الإمبراطور سيفير، والذي حكم من ٢٠٨ حتى ٢٣٥م، أنشأ
نقابة بائعي الخمور.
ولعل الملاحَظ بالنسبة للنقابات الحرفية الرومانية هو أن
هذه النقابات لم تقم بوضع أي تنظيم للعمل. والتنظيم الوحيد
الذي نقابله حينذاك هو الذي كان يهدف إلى تحديد الأجور
لبعض أنواع العمل. ولم يكتمل تنظيم الأجور إلا في فترة حكم
الإمبراطور ديوقليسيان من ٢٤٥ إلى ٣١٣م.
ولقد شهدت بلاد الغال ظهور نقاباتٍ حرفية وعمالية على
طراز النقابات التي انتشرت في روما. وكانت كل نقابة تضم
العمال الأحرار الذين يزاولون مهنةً واحدة في بلدٍ واحد أو
حتى في حيٍّ واحد. كما كانت بعض الحِرَف تندمج أحيانًا في
نقابةٍ واحدة. وعلى هذا النحو كان للحدَّادين والنجَّارين
والحطَّابين وعمال البناء … إلخ، الذين يبيعون قوة عملهم
وينتجون السلع من أجل السوق، نقابةٌ تجمعهم وتُعبِّر عن
مصالحهم.
أخضعت الدولة نقابات بائعي الحبوب والخبازين والملاحين
واللحامين وبعض فئاتٍ أخرى لتنظيمٍ شديد الصرامة. ونظرًا
لأهمية تلك المهن، كان التوقف عن العمل فيها مجرَّمًا. وقد
انتشرت هذه النقابات وتطورت تطورًا ملحوظًا إلى أن جاءت
غزوات القبائل الجرمانية، فاختفت مؤقتًا فكرة النقابة في
الفترة من القرن الرابع حتى أواخر القرن التاسع، كي تعاود
الظهور مرةً أخرى مع القرن العاشر في إنجلترا وألمانيا،
منها ما كان على أساس ديني، ومنها ما كان للصناع والباعة …
إلخ. وكانت الظاهرة المميزة لهذه الهيئات تتجسد في التحالف
الوثيق بين العمال المأجورين.
ز
وفي الشرق البيزنطي في القرن السادس، وهو القرن الذي كان
من أعظم عهود التجارة عَبْر البحر المتوسط، كانت
الإمبراطورية الشرقية على عهد الإمبراطور إنسطانيوس الذي
حكم في الفترة (٤٩٢–٥١٨م)، والسنوات الأولى من حكم بيت
يوستينوس الذي حكم في الفترة (٥١٨–٥٢٧م)، في حالة من
الرخاء والانتعاش الاقتصادي؛ إذ تدفقَت السلع من كل مكان
إلى أسواق القسطنطينية؛
٥٨ فقد جاء الحرير والنسيج والأواني البورسلان من
الصين، وجاءت الجواهر والتوابل من الهند، والسجاد من بلاد
الفرس، واللآلئ من الخليج العربي، والعاج والأبنوس من
أفريقيا، والنسيج والحبوب من مصر، والزجاج والحديد من
سوريا، والفراء والعنبر من روسيا، والمصنوعات الجلدية من
مراكش، وكذلك الأرقَّاء من كل لون وشكل من كل بقعة من بقاع
العالم؛ كل ذلك تدفَّق إلى المدينة العظيمة سلعًا للبيع
والتجارة. وإلى جانب ذلك تطورت صناعاتٌ متعددة، حتى إن
الفنانين والمتميزين من أصحاب الحِرَف في البلاد المجاورة
وجدوا لهم مكانًا ومكانة في العاصمة الراقية. وكان
المَهَرة من الصناع المأجورين يقومون بصناعة العطور
والملابس المزركشة والمذهبة من البروكار خاصة ملابس
الكهنة، كما كانوا ينحتون الرخام ويَحْفِرون على العاج،
ويقومون بأعمال الموزايكو، والأعمال الفنية التي تتطلب
درجةً عالية من المهارة والإتقان. وكان يُهرَع أثرياء
العالم القديم إلى القسطنطينية من أجل التسوُّق، كما يفعل
الأغنياء الآن حينما يسافرون إلى باريس من أجل شراء أحدث
وأفخم ماركات الملابس والعطور!
ومن جهةٍ أخرى، انشغل الأباطرة الأوائل، بصفةٍ خاصة
الإمبراطور دقلديانوس (٢٤٤–٣١١م) والإمبراطور قسطنطين
الأول (٢٧٧–٣٣٧م)، بمشكلات تثبيت العملة؛ فبعد حدوث
التضخُّم المالي وارتفاع الأسعار في نهاية القرن الثالث
الميلادي، وضع الإمبراطوران نظامًا ماليًّا صارمًا، وقام
قسطنطين باعتبار «الصلدي» الذهبي معيارًا للعملة، وهي
عُملةٌ من الذهب الخالص تزن أربعة جرامات وثلاثة وأربعين
جزءًا من الجرام تقريبًا، وقد ظل هذا النظام قائمًا حتى
منتصف القرن الرابع عشر.
ويمكننا تقسيم نظام العملة في الإمبراطورية إلى أربعِ
مراحل، تبدأ من عهد الإمبراطور أناستاس وتنتهي مع سقوط
الإمبراطورية في عام ١٤٥٣م؛ الأمر الذي يعني هيمنة
المبادلة النقدية على الصعيد الاجتماعي بحالٍ أو بآخر.
تبدأ المرحلة الأُولى منذ عام ٤٩١م حتى منتصف القرن
الحاديَ عشر الميلادي، واعتمدَت هذه المرحلة على معادن
الذهب (النوميسا) والفضة (المليارسون) والنحاس (الفولس)
بنسبٍ ثابتة في كل عملة؛ مما جعلها ذات قيمةٍ واضحة
وثابتة. أما المرحلة الثانية التي بدأت بعملية إصلاح
العملة التي بدأها الإمبراطور ألكسيس كومنين (١٠٨١–١١١٨م)
فقد استمرت حتى نهاية القرن الثالث عشر. وخلال الفترة
الثالثة، التي استمرت من عام ١٣٠٠م حتى عام ١٣٥٠م، بدأ
التعامل بعُملةٍ فضية عُرفت باسم البازيلكون، وكانت تزن
حوالي جرامَين، وإلى جانبها عملة نحاسية صغيرة عُرفت باسم
أساريون، وكانت تزن جرامَين إلى ثلاثة جرامات. أما المرحلة
الرابعة، والتي استمرت حتى سقوط الإمبراطورية، فقد اختفت
تمامًا العملة الذهبية، وتم التعامل بالعملة الفضية التي
سُميت استفروس، وكانت تزن حوالي ثمانية جرامات ونصف جرام،
وهي كبيرة الحجم وثقيلة الوزن عما سبقها من عملاتٍ
فضية.
ولقد انشَغلَت الإدارة في بيزنطة بمشكلة خروج الذهب من
الإمبراطورية في المدفوعات الدولية، فاتخذت عدة إجراءاتٍ
حاسمة لمنع هذا الخروج، وفي مقدمتها إصدار القوانين؛ فقد
نص تقنين الإمبراطور جستنيان على منع خروج الذهب في
المعاملات الدولية بصفةٍ خاصة بمناسبة التعامل التجاري مع
البرابرة! ونجد نفس المنع في المجموعة القانونية
٥٩ التي أصدرها الإمبراطور ليو السادس
(٨٨٦–٩١٢م). إلا أننا نلمس في الواقع خَرْقًا دائمًا لهذا
المنع في فتراتٍ كثيرة من قِبل الإدارة الحكومية
نفسها.
وكان الحرير لا يزال يسير برًّا، بصفةٍ أساسية خلال
فارس، إلى محطَّتَي المكوس عند نصيبين ودارا، ثم يُنقل
ليُصنَّع، ووفقًا لنفس قانون حركة الرأسمال، في مصانع
القسطنطينية، أو في المصانع، القائمة على العمل المأجور،
الموجودة بصور وبيروت.
والثمن — كمصطلح لن تعرفه أوروبا إلا في القرن الثالث
عشر، وهو ما قاد أصحاب المركزية الأوروبية إلى اعتباره
ظاهرة تخص الرأسمالية المعاصرة فحسبُ — نراه معروفًا، حيث
نجد في مقدمة الباب الثالث والعشرين من مدونة
جستنيان:
«يتم البيع بمجرد الاتفاق على الثمن ولو لم يتم نقده ولا
دفع شيء على سبيل العربون؛ إذ العربون ليس سوى دليل على
حصول العقد» (مدونة جستنيان).
٦٠
وفي الفقرة الأُولى:
«يجب أن يكون هناك ثمن، كما يجب أن يكون الثمن محددًا.
ولقد اختلف المتقدمون شديد الاختلاف في اتفاقٍ ذُكر فيه أن
ثمن المبيع يحدده تيتوس، أيتضمن بيعًا تامًّا أم لا؟»
(المدونة).
أما الفقرة الثانية فقد أوجبت أن يكون الثمن نقدًا؛
تمييزًا عن التبادل عن طريق المقايضة؛ إذ نصت المادة
على:
«يجب أن يكون الثمن من النقود المضروبة، ولكن لِمَ لا
يجوز أن يكون ثمن الشيء شيئًا آخر؟ لِمَ لا يجوز أن يكون
عبدًا أو عقارًا أو رداءً ثمنًا للشيء المبيع؟ لقد كانت
هذه المسألة مثار خلاف وجدلٍ عظيم» (المدونة).
وتعالج المادة الرابعة من الباب الرابع والعشرين بيع قوة
العمل؛ إذ نصت على:
«إذا اتفق تيتوس مع أحد الصاغة على أن يأتي الصائغ بذهب
من عنده ويصنع له منه خواتم بوزنٍ مخصوص وشكلٍ معين، وأن
يكون للصائغ في نظير هذا مبلغ عشرة دنانير مثلًا؛ فقد جرى
التساؤل عن هذا الاتفاق أبيعٌ هو أم إجارة؟ وقد ارتأى
كاسيوس أنه يتضمن عقدَين: بيعًا للذهب، وإجارة للعمل»
(المدونة).
لقد كان كل شيء محددًا؛ فلم يكن جائزًا تسليف النقود إلا
بنسبةٍ محددة من الأرباح. وكانت نسبة الأرباح قبل عهد
يوستنيانوس ١٢٪. ولم يكن يوستنيانوس يَسْمح بنسبة اﻟ ١٢٪
إلا على الأموال المُقترَضَة للاستثمار في الأعمال
التجارية والبحرية. ولا يجوز لمقرضي الأموال، أن يقرضوا
بربح يتجاوز ٨٪. أما الأشخاص العاديون فقد سَمَح لهم ﺑ ٦٪.
على حين لم يَسْمح لكبار الأثرياء إلا ﺑ ٤٪ فقط. ولم يكن
من المتصور وجود هذه التحديدات بمعزل عن أرباح تخضع
لقوانين الحركة.
وكانت الرقابة الحكومية التي تمارسها الدولة من خلال
مؤسساتها على الأعمال التجارية والتجار، والصناعة، وأرباب
الحرف، تتم عن طريق نظام للنقابات.
٦١ وكان لكل صناعة نقابتها، ولا يجوز لأي إنسان
أن ينتسب إلى نقابتَين في وقتٍ واحد. وكل نقابة تُعيِّن
رئيسها وفق مشيئة النظام السياسي؛ فعلى خلاف الحال في روما
تم تنظيم النقابات في بيزنطة من خلال سلطات الشرطة في
الدولة وليس بالتلاقي الإرادي بين أعضائها مثلما كان في
الإمبراطورية الغربية. وعلى الرغم من أن إنشاء النقابات
كان من ضمن أغراضه منع الاحتكار، فقد كانت النقابات تمنح
العديد من الاحتكارات في إطار أعمالها! ومع ذلك لم تكن
أبدًا حاكمة لأمرها؛ فلم تكن تستطيع مثلًا أن تقرر عدد
ساعات العمل أو عدد العمال الأُجراء المسموح باستخدامهم من
قبل الصنَّاع المستقلين،
كما لم يكن لديها أي
ماليةٍ خاصة أو أي موظفين رسميين ينتخبون وفقًا لمشيئة
مجموع الأعضاء؛ فقد كانت جميع قواعد تنظيمها، وبالتالي
قواعد تنظيم استخدام قوة العمل، بل وكمية ونوعية مواد
وأدوات العمل، كانت جميعها تُوضع وتُفرض من خارجها؛ أي
تُملى عليها من قِبل النظام السياسي.
ﺣ
ومن المهم، قبل مغادرتنا نهايات العالم القديم، أن نذكر
أن الفقه الإسلامي سوف ينشغل، خلال تكوُّنه التاريخي،
بتعريف إجارة قوة العمل وتحديد أحكامها؛ وذلك ابتداءً من
تبلورها كظاهرةٍ اجتماعية، وإعمالًا للحديث النبوي في
القرن السادس:
«مَن استأجَر أجيرًا فليُسمِّ له أُجرته.»
٦٢
وهو ما استتبع طرح مجموعة من الأسئلة حول ماهية الأُجرة،
وتحديدها، بصفةٍ خاصة في العقود المشاكلة للشركة أو
للجعالة … إلخ، ومعيار التحديد، وحكم تردُّد الأجرة بين
عملَين مختلفَين أو زمنَين مختلفَين بأجرَين مختلفَين …
إلخ.
•••
من غير التاريخي إذن اختزال العالم القديم في ظاهرة
العبودية، وتملُّك المستَغِل لشخص المستَغَل، من أجل
البرهنة على استقلال الرأسمالية ذات المركزية الأوروبية
بظاهرتَي بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق.
ومن غير الصحيح إذن القول بأن ظواهر النشاط الاقتصادي في
عالمنا المعاصر كانت مجهولة بالنسبة للعالم القديم؛ فلقد
عرف هذا العالم، على نحوِ ما ذكرنا، جُل الظواهر التي
يدَّعي أصحاب المركزية الأوروبية بأنها ظهرت فقط مع
الرأسمالية الأوروبية المعاصرة ابتداءً من القرن الخامس
عشر والسادس عشر، وفي مقدمتها بيع قوة العمل، والإنتاج من
أجل السوق.
ومن غير العلمي إذن إنكار النشاط الاقتصادي المتطور
جدًّا الذي ساد الأجزاء المختلفة من العالم القديم وفقًا
لانتقال مراكز الثقل الحضارية آنذاك (بابل، طيبة، قرطاج،
أثينا، روما، القسطنطينية).
ومن غير العلمي أيضًا غض البصر عن إمكانية ازدواج، بل
وتعدُّد، علاقات الإنتاج في المجتمع الواحد، وخضوعها،
أيًّا ما كان مستوى تطور علاقات الإنتاج أو قوى الإنتاج،
لقوانين حركة الرأسمال على صعيد الإنتاج والتوزيع
معًا.
فلنستكمل إذن برهنتنا على عدم تفرُّد الرأسمالية
المعاصرة ذات المركزية الأوروبية وفقًا لمحور
«ماركس/روزا/دوب/هيلبرونر» بالظواهر المدَّعى بأنها طارئة
على المجتمعات المعاصرة. ولننتقل منهجيًّا إلى العالم
الوسيط؛ كي نرى مواضع ظهور قانون حركة الرأسمال الحاكم
لظاهرتَي بيع قوة العمل، والإنتاج من أجل السوق.
ثانيًا: بيع قوة العمل، والإنتاج من أجل السوق في مجتمعات
العالم الوسيط
ونقصد بمجتمعات العالم الوسيط، ووفقًا لتصنيف الأوروبي، تلك
المجتمعات التي تكونَت في رحم العالم القديم، وتميزت بالملكيات
العقارية الكبيرة وسيطرة النشاط الزراعي وما يرتبط به من حِرف
وخدمات وصناعات على مجمل النشاط الاقتصادي للسكان. ويمكننا أن
نُحدِّد العالم الوسيط زمنيًّا بالفترة التاريخية الممتدة من
القرن الخامس حتى القرن السادس عشر الميلاديَّين.
أ
وإذا شرعنا في بدء رحلتنا إلى العالم الوسيط مرورًا
بالدولة الأموية، فيمكننا أن نشاهد كيف تطَوَّرَت في مصر
وبلاد المغرب العربي، تحت الحكم الأموي،
مجموعة من الصناعات
الأساسية، كصناعة الأثاثات، والعطور، والزيوت، والمنسوجات
من الصوف والقطن والحرير والكتان، والصناعات العسكرية،
بصفةٍ خاصة صناعة السفن الحربية في دمياط ورشيد
والإسكندرية وعكا وصيدا وبيروت. وجميع هذه المنتجات — التي
استلزم إنتاجها تقنياتٍ على درجة عالية من الدقة والتطور،
وخبراتٍ إنسانيةً متراكمة عَبْر مئات بل آلاف السنين —
كانت تتم بيد العمال المأجورين من أجل السوق، ووفقًا لنفس
قانون الحركة «ن − «ق ع + و إ» − س − ن +
Δ ن».
ب
وإذا توجهنا إلى
شمال أفريقيا في القرن التاسع، فسوف نجد مجتمعًا متطورًا
يسوده الإنتاج من أجل السوق،
٦٣ وبيع قوة العمل، والتبادل، كما تهيمن فيه
النقود على مجمل النشاط الاقتصادي. سوف نقابل مجتمعًا غادر
منذ أزمانٍ بعيدة جدًّا اقتصادات المنزل، وصار يعتمد،
بشكلٍ أساسي، على الريف في غذائه. كما سنشاهد حركة المواد
الخام والسلع المصنَّعة القادمة من الريف والمناطق
الزراعية للبيع في أسواق المدينة. لقد أصبحت الحوانيت،
٦٤ المنظمة حكوميًّا والخاضعة لرقابة المحتسب، هي
الأماكن الرسمية التي يعرض فيها التاجر بضاعته ومن المحتمل
أن يكون هو الذي صنعها
باستخدام العمل المأجور أو اشتراها ويعيد بيعها في سبيل
استرداد نقوده، بالإضافة إلى ربحٍ محدد. كما نلاحظ حركة
السلع، على اختلاف أشكالها وأنواعها، يصاحبها ظهور العمال
الأُجراء مثل: عمال الطحن والخبازين والخياطين … إلخ.
وهؤلاء قد يعملون بأيديهم كصناعٍ مستقلين أو يستخدمون
عمالًا مأجورين يستعملون أدوات ومواد صاحب الحانوت في سبيل
الإنتاج، ولا يشاركون إياه في الربح، إنما لهم فقط الأجر.
وعمل صاحب العمل بيده مع مستأجريه لا يعطل بحال أو بآخر
أداء نفس قانون الحركة «ن − «ق ع + و إ» − س − ن +
Δ ن» طالما كنا بصدد
قوةِ عملٍ مأجورة من جهة، وأن المنتوج ليس مِلك منتِجه في
النهاية من جهةٍ أخرى؛ فبغض الطرف عن طبيعة العمل المأجور
في ظل نظام الطوائف الحرفية وكونه يتم عادة من أجل التعليم
وإعداد العامل المأجور كي يكون معلمًا أو أستاذًا بعد أن
يتقن الصنعة، فبغض النظر عن ذلك فنحن أمام نفس قانون
الحركة «ن − «ق ع + و إ» − س − ن +
Δ ن» فالتلميذ أو
المتعلم، مستخدمًا لمواد العمل وأدوات العمل، ينتج من أجل
السوق، ويقبض أَجْره من مُعلِّمه لقاء ذلك، ومُعلِّمُه
يبيع منتوجه بقصد الحصول على رأسماله والربح. والشخص الذي
يعمل بيدَيه، ولا يستخدم العمال المأجورين، لا يحصل على
أرباح من عمله فحسبُ، فهو نفسه مصدر القيمة الزائدة، إنما
يتلقى كذلك، من نفسه أيضًا، الأجر.
٦٥ وذلك، بعد حساب ثمن مواد العمل والمستَهلَك من
أدوات العمل. وكل ذلك وفقًا لنفس قانون حركة
الرأسمال.
ﺟ
والآن، فلنتوجه صوب
المشرق الإسلامي في القرن العاشر، العصر الذهبي للحضارة
الإسلامية؛ فبتقدُّم المجتمع وازدهار التجارة نتيجة
لاستقرار الدولة
وقُوَّتها في عصر العباسيين ازدادت أهمية النقود، وارتفعت
مستويات المعيشة، وراج الطلب على شتى أنواع السلع
والخدمات، وتنوعت الصناعات، وكثر الصنَّاع. ويمكن تقسيم
الصنَّاع إلى نوعَين: النوع الأول: الصنَّاع المأجورون،
وهم الذين لا يملكون غير قوة عملهم التي يبيعونها
لمستخدميهم لقاء أجرٍ يومي، وقد يستعملون في عملهم أدواتهم
الخاصة أو بعض المواد الأولية من التي يجهزهم بها صاحب العمل.
٦٦ أما النوع الثاني: فهم الصنَّاع والحرفيون
المستقلون، وهم الذين يمتلكون وسائل الإنتاج ولديهم
الرأسمال اللازم للصناعة. وهؤلاء يصنعون المصنوعات
المختلفة إما حسب الطلب الفردي أو وفقًا لطلب السوق، وهم
على العموم أفضل منزلة من العمال المأجورين الخاضعين
لسيطرة صاحب العمل:
«والشيء المعتاد في الصناعة هو حانوت يديره صانعٌ واحد
أو عائلة أو عدد من الشركاء. وقد يعمل الصانع في بيته، وقد
يعمل بمفرده أو يكون معه عدد من المبتدئين يتدربون عليه
ويساعدونه. وتتوقف سَعة الحانوت من حيث عدد العاملين على
نوع الصناعة وإمكانيات الصانع؛ فبعض المنسوجات مثلًا
والسكر تحتاج صناعتها إلى عدد من المشتغلين. والمألوف بين
الصنَّاع المشاركة لا التشغيل؛ إذ يُفضِّل أي صانع ذلك ولا
يعمل أجيرًا عند صانعٍ آخر. وبينما يشتغل الصناع عادة
لحسابهم ويبيعون إنتاجهم فهناك صنَّاع يشتغلون لحساب الغير
من المستهلكين مقابل أجورٍ يومية أو حسب وحدة الإنتاج. ومن
المهم للصانع أن تكون لديه الأدوات اللازمة والمواد
الأولية، ولكن بعضهم، من الأُجراء خاصة، قد يشتغل بأدوات
ومواد مؤجريهم.»
٦٧
على كل حال، فالمؤكد
تاريخيًّا أن العباسيين اعتنَوا بتحسين الصناعة؛ حيث شيَّد
الخليفة المعتصم المصانع لصناعة الصابون والعطور، وكانت
بغداد تنتج شتى أنواع الزيوت. كذلك أنشأ العباسيون مصنعًا
للورق في بغداد، وجلبوا له أرباب الحرف والصناع المأجورين
من مصر التي اشتُهرت بهذه الصناعة. وكان ببغداد عددٌ كبير
جدًّا من المصانع، التي تعمل من خلال نفس قانون الحركة،
حتى قِيل بأنه كان بها أربعة آلاف معمل لصنع الزجاج، وبضعة
آلاف معمل لصنع الخزف، وقد عمل بهذه المصانع والمعامل
المئات بل الآلاف من العمال والصنَّاع والموظفين الذين
يتلقون الأجور والرواتب؛ أي يبيعون قوة عملهم في مقابل
وحدات النقود.
كما ازدهرت في بغداد صناعة الأدوات الحديدية والخشبية
المختلفة، مع تطور الصناعات المعدنية والصناعات
الكيميائية. كذلك كانت تصنع السفن، سواء الحربية أو
التجارية. وجميع هذه الصناعات كانت خاضعة لنفس قانون حركة
الرأسمال.
كذلك أقام العباسيون، مثلما فعل الأمويون في دمشق من
قبلُ، المصانع السلطانية أو دور الطرَّاز
٦٨ التي كانت تُنتج ثياب الخليفة والوزراء وكبار
رجال الدولة
٦٩ كما كانت تُنتج للسوق الدولية، ووفقًا لنفس
قانون حركة الرأسمال الصناعي.
هذا، وقد حَكى لنا الطبري (٨٣٩–٩٢٣م) أن الخليفة المنصور
(٧١٤–٧٧٥م) ناقش كبير البنَّائين في حسابات بناء القصر،
وراجعه في الأُجرة التي دُفعت لقاء العمل.
٧٠ كما ذكر صاحب «تاريخ بغداد» أن:
«الأستاذ من الصنَّاع كان يعمل يومه بقيراط إلى خمس حبات،
٧١ والروزجاري
٧٢ يعمل بحبتَين.»
٧٣
ولدينا نصٌّ مهم للفرَّاء (القرن العاشر) يؤكد لنا معرفة
النشاط الاقتصادي للعمل المأجور:
«وإذا تعدَّى مستأجر على أجير في نقصان أجر أو استزاده
عمل …»
٧٤
ولدينا نصٌّ آخر،
أيضًا في غاية الأهمية؛ ورد في كتاب «الخراج وصناعة
الكتابة» لقدامة بن جعفر (القرن العاشر) إذ لا نجد فقط
إشارةً واضحة للعمل المأجور، إنما أيضًا إشارة إلى ما
يُقتطع من الأجور:
«لمَّا أخذ أمر الفرس يضمحل، ودولتهم تضعف، وسلطانهم
يهن، فسدَت نقودهم، فقام الإسلام ونقودُهم من العين
والورق، غير خالصة فما زال الأمر على ذلك إلى أن اتخذ
الحجَّاج دار الضرب، وجمع فيها الطبَّاعين، فكان المال
يُضرب للسلطان مما يجتمع له من التبر، ثم أذن للتجار في أن
تُضرب لهم الأوراق، وأشغل الدار من فضول ما كان يُؤخذ من
الأجور، وختَم على أيدي الصنَّاع والطبَّاعين.»
٧٥
ونعرف من المصادر التاريخية أن الأُجرة اليومية للعامل
المأجور الذي يشتغل في خرط الزجاج تبلغ درهمًا ونصف
الدرهم، وأجرة عامل حانوت نصف درهم، وأجرة عامل الحفر
ثلاثة دراهم، أما أجرة الحدَّاد فكانت خمسة دراهم.
ولسوف نجد لدى ابن الأخوة القرشي (١٢٥٠–١٣٢٩م) ما نفهم
منه أن العمل المأجور قد يكون مأجورًا مياومة، أو، بمفهوم
الموافقة، بالإنتاج أو بالقطعة:
«فقد يوافق أكثر الصناع على أُجرةٍ معلومة كلَّ يومٍ
فيتأخرون عند الغُدُو وينصرفون قبل المساء.»
٧٦
ولدينا كذلك نص
للسرخسي (٨٩٩–١٠٩٦م) لا نفهم منه وجود إجارة قوة العمل
فحسب، إنما نجد فيه معالجةً أعمق لطبيعة الأُجرة
ذاتها:
«وإن استأجر أجيرًا بذهب أو فضة يعمل له في فضةٍ معلومة
يصوغها صياغةً معلومة فهو جائز، وكذلك الحلي والآنية وحلية
السيف والمناطق وغيرها؛ لأنه استأجره لعملٍ معلوم ببدلٍ
معلوم، فلا تُشترط المساواة بين الأُجرة وبين ما يعمل فيه
من الفضة في الوزن؛ لأن ما يشترط له من الأُجرة، بمقابلة
العمل، لا بمقابلة محل العمل.»
٧٧
ومن جهةٍ أخرى، كان الصيارفة والمرابون، والذين يستخدمون
العامل المأجور، العنصر الأهم في المعاملات المالية في
الأسواق؛ فقد تعامل هؤلاء بالنقود ومشتقاتها، كما قاموا
بعمليات الإقراض للتجار وللناس، بل وللحكومة نفسها، على
نطاقٍ واسع. واتخذت المصارف في بداية القرن «٤ﻫ/١٠م»
بيوتًا مالية، تستخدم العامل المأجور، أَوجَدَتها ضرورات
النشاط الاقتصادي المتطور في أسواق المدن من جهة، ولتعامُل
الحكام مع تلك المؤسسات المالية التي التجئوا إليها عند
الحاجة من جهةٍ أخرى. ولقد كان كذلك التجار في الأسواق
المختلفة مُضطَرِّين إلى التعامل مع الصرافين؛ نظرًا إلى
أن الأقاليم الشرقية من الدولة كانت تتعامل بالدراهم، في
حين كانت الأقاليم الغربية تتعامل بالدنانير الذهبية.
٧٨ ولذا، كان ضروريًّا وجود صيارفة لتغيير العملة
التي كانت قيمتها عرضة للصعود والهبوط تبعًا لتقلبات قيمة
المعدن. وعلى هذا النحو يمكن القول بأن حركة الصيرفة
«ن − ن − ن +
Δ ن» بلغت في
أسواق المدن غاية ازدهارها.
د
وفي فارس، في القرن العاشر والحادي عشر، نجد المراكز
الصناعية الكبيرة فنسيج الكتان في كازرون، ومعامل السكر
وصناعة القطن في خوزستان، وفي مرو ونيسابور نسج الحرير،
وفي سابور صناعة العطور. وجميع هذه المراكز
الصناعية كانت تنتج من
أجل السوق، وتستخدم العمال المأجورين. كما وُجدت مصانع
الورق بدمشق وطبرية بفلسطين، وبطرابلس بالشام. وبوجهٍ
عامٍّ كانت المدن الكبرى مراكزَ صناعيةً منتجة لمختلف
أنواع السلع من أجل السوق المحلية، والدولية أيضًا. وكانت
الوحدات الإنتاجية التي يمتلكها صاحب الرأسمال صغيرة إلى
حدٍّ ما، ولكننا نجد أيضًا العمال المأجورين الذين يعملون
في هذه الوحدات الإنتاجية. أما الصناعات على نطاقٍ واسع،
ويعمل بها الآلاف من العمال المأجورين، فهي التي تنتج
للحكام أو للجيش كالترسانات والمشاغل الملكية، ومعامل السكر.
٧٩
ﻫ
ومن المهم، قبل مغادرتنا للشرق الإسلامي في هذه المرحلة
التاريخية، أن نوضح أن الحركات الدينية، المعبرة عن الرفض
الاجتماعي، قد بلغت أَوْجها في القرنَين العاشر والحادي
عشر؛ فقد كان الشعور الديني قويًّا، آنذاك، بين الطبقات
العاملة. وقد تجلى هذا الشعور بظهور سلسلة فرقٍ متزندقة،
كما يُقال، منشقة منذ القرن الثامن وحتى حروب التتار.
واتصفت جميع هذه الفرق تقريبًا بفلسفةٍ اجتماعية ثورية
وبصفةٍ خاصة في القرنَين العاشر والحادي عشر، فقد كانا
مرحلتَي تطورٍ صناعي وتكتلٍ حضري.
فظهور نظامٍ راقٍ للمصارف في بغداد، تُغطِّي فروعها
الإمبراطورية، ساعَدَ على تجهيز الدولة بالنقود، وعلى
اعتبار النقود أساسًا للاقتصاد بأن سادت المبادلة النقدية
المعمَّمة. وقد أثَّر هذا على النمو الصناعي ذاته، فأنتج
تمركُزًا في الرأسمال والعمل، كما ولَّد النمو السريع في
الرأسمال مشاكلَ اجتماعيةً خطيرة، وحركاتٍ اجتماعيةً ثورية
هدَّدَت عرش الخلافة نفسه، وفي مقدمة هذه الحركات كانت
الحركة الإسماعيلية أو القرامطة
٨٠ تبعًا لاسم أهم شُعَبِها وأكثرها أهمية.
ويمكننا أن نلاحظ الاهتمام الشديد الذي أولَته هذه الحركة
لطبقات العمال وأصحاب الحرف؛ فمثلًا خُصص فصلٌ كامل في
«رسائل إخوان الصفا»، للنظر في الحِرَف اليدوية وتبويبها
وتصنيفها.
وأهم ما يمكننا ملاحظته بالنسبة لأصحاب الحِرَف،
والنقابات بوجهٍ عام، هو المكانة المميزة التي كانت لهم
تحت حكم الفاطميين؛ فقد كانت النقابات آنذاك تتمتع برخاءٍ
ملحوظ؛ إذ كانت معترفًا بها من قِبل الدولة، ويبدو أنها
كانت تتمتع بامتيازاتٍ كثيرة، وأنها لعِبَت دورًا مهمًّا
في النشاط التجاري في هذا العصر.
وحينما قضى السلطان صلاح الدين على حُكم الخلفاء
الفاطميين سنة ١١٧١م، وأُعيدت مصر إلى الحكم السُّني،
جَرَّدَت في الحال الطوائف الحرفية من أكثر حقوقها
وامتيازاتها وأَخضعَتْها لرقابةٍ صارمة؛ فصارت النقابات
تحت الحكم السُّني مضطهَدةً وخاضعةً لقيودٍ عديدة ومحرومةً
في الغالب من الحقوق القانونية. ولن يختلف الأمر كثيرًا
تحت حكم المماليك كما سنرى بعد قليل.
ومن هنا يمكننا أن نفهم دور المحتسب كموظفٍ حكومي تتركز
مهمته الأساسية في مراقبة أصحاب الحِرَف والطوائف الحرفية،
وقتل أي محاولة فيها للعمل المستقل وربما الثوري منذ
البداية. وتُمدُّنا كتب الحسبة، التي تم تأليفها لتنبيه
المحتسب بصفته أحد رجال النظام لخطر أهل الصنائع وأحسن
الطرق للسيطرة عليهم، بمادةٍ ثرية نفهم منها عدم ثقة
الدولة في الطوائف بوجهٍ عام.
٨١
و
وإذا توجهنا غربًا صوب قرطبة
٨٢ في القرنَين العاشر والحادي عشر، فلسوف نجد
الأسواق المتطورة والتي تسودها علاقات المبادلة النقدية
المعممة من جهة، والتخصص وتقسيم العمل من جهةٍ ثانية، وبيع
قوة العمل من جهةٍ ثالثة، والإنتاج من أجل السوق من جهةٍ
رابعة؛ فلقد وُجدت الأسواق في أرجاء الأندلس كافة؛ فهناك
أسواق الزياتين، والعطارين، والخبازين، والسماكين،
والشوائين. ونجد على رأس كل مهنة رئيسًا يُسمى في فترة حكم
المرابطين بالرئيس أو المقدم، وفي فترة حكم الموحدين كان
يُسمى بالعريف أو الأمين.
٨٣
كما سنجد أسواقًا كاملة متخصصة في تجهيز وبيع الأطعمة
للعاملين بالأسواق من عمال وحرفيين وتجار، في الوقت نفسه
نجد شتى أنواع الصناعات والحرف؛ وبالتالي نجد مَن يقومون
بها؛ فهناك النجَّارون والنسَّاجون والحدَّادون
والطحَّانون … وغيرهم من أرباب الصناعات والحِرَف الذين
يُنتِجون من أجل السوق؛ من أجل الربح. وهؤلاء كما يعملون
بأيديهم كانوا يستخدمون الأُجراء
٨٤ الذين يدفعون لهم أجورًا نقدية.
٨٥ وكل ذلك يعني، وبوضوح، أننا أمام رأسمالٍ واستثمار
٨٦ وأرباح
٨٧ ومبادلةٍ نقدية
٨٨ وإنتاج، واستهلاك، ودخولٍ مختلفة للطبقات
الاجتماعية، المشاركة وغير المشاركة في عملية تجديد
الإنتاج الاجتماعي.
ويمكننا أن نرصد في أسواق قرطبة العديد والعديد من مظاهر
النشاط الاقتصادي التي نراها في أسواقنا المعاصرة، بل
يمكننا أن نقول، وبكل اطمئنان، إننا أمام اقتصادٍ حُر
بالمعنى الفني الدقيق للمصطلح من ناحية، ورقابةٍ، صارمة أحيانًا
٨٩ من قِبل الدولة، من ناحيةٍ أخرى، وفي جميع
الأحوال خضع الإنتاج والتوزيع في المجتمع لقوانين حركة
الرأسمال.
ز
وتُمدُّنا الوثائق والمصادر الخاصة بالحملات الصليبية
(حملات الفرنجة) على المشرق الإسلامي
٩٠ على الأقل من أواخر القرن الحادي عشر حتى
الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، بمادةٍ خصبة عن التنظيم
الاقتصادي والتكوين الاجتماعي في الإمارات الصليبية في
بلاد الشام (كونتية الرها، وإمارة أنطاكية، ومملكة بيت
المقدس، وإمارة طرابلس)؛ فقد كان للصيارفة وكبار التجار
والحرفيين والصنَّاع والعمال المأجورين الأدوار البارزة في
الحياة الاقتصادية في الأسواق الداخلية والدولية، فاختلاف
مِلل ونِحل المتعاملين في الأسواق بيعًا وشراءً وقرضًا
ورهنًا … إلخ، كما أن تطوُّر التبادل التجاري بين
إمبراطوريات وممالك الشرق والغرب، استصحبا وبدون شك اختلاف
قيم وأوزان ومعادن العملات النقدية المتداولة، وهو ما
استلزم وجود الصيارفة الذين امتد نشاطهم إلى خارج الحدود
المحلية؛ للقيام بمهام المصارف على الصعيد الدولي. ولم
يتوقف عمل التجار عند حدود شراء السلع وبيعها من خلال
التجارة الداخلية والخارجية، بل تعدى الأمر ذلك إلى
المساهمة أحيانًا في رساميل الصناعات المختلفة حيث ازدهرت
صناعة المنسوجات (القطنية والصوفية والحريرية والكتانية،
وكان منها المطرز بخيوط من الذهب والفضة)؛ وبالتالي انتعشت
صناعة الصباغة. وكذلك تقدمت صناعات السكر والصابون والعطور
والمعادن والفخار والورق والرخام والزجاج والخمور … إلخ،
كما نمت صناعة استخراج الزيوت. وجميع السلع التي كانت
تنتجها كل هذه الصناعات، على اختلاف أنواعها، كانت تُنتَج
بواسطة الحرفيين والصنَّاع والعمال المأجورين، ووفقًا لنفس
قانون حركة الرأسمال، من أجل السوق، والسوق الدولية بصفةٍ
خاصة؛ فلقد تعدى النشاط الاقتصادي مرحلة الإشباع المباشر
وتجاوزها إلى اقتصاد المبادلة النقدية المعمَّمة. ولم يكن
التبادُل السلعي على الصعيد الدولي ليستقر آنذاك إلا من
خلال توافُر أنظمةٍ تجارية وقانونية متطورة تنظم انتقال
الأشخاص ورءوس الأموال والسلع من الشرق إلى الغرب والعكس،
وهو ما تحقق من خلال أعرافٍ محلية تم تقنينها، ومعاهداتٍ
إقليمية تم احترامهما دوليًّا، وصار بالإمكان تنظيم النشاط
الاقتصادي على الصعيد الدولي حتى في أوقات الحروب المستعرة
بين الشرق والغرب.
٩١
ﺣ
ها نحن الآن قد بلغنا أرض مصر، في القرن التاسع
الميلادي؛ ولنبدأ رحلتنا من الدولة الطولونية (٨٦٨–٩٠٥م)؛
فلقد قامت في مصر في عصر الطولونيين مجموعة من الصناعات
المتطورة التي تعتمد على العمل المأجور وتُنتج من أجل
السوق.
وكانت صناعة النسيج آنذاك من أهم الصناعات الكبرى التي
كانت تُنتَج وفقًا لنفس قانون الحركة «ن − [ق ع + و إ] − س
− ن +
Δ ن» من أجل السوق
بواسطة العمل المأجور. نمت هذه الصناعة في تنيس وبهنسا
والأشمونيين ودمياط وأخميم؛ حيث كان ينسج هناك الكتان
والصوف والقطن. أما الأقمشة الحريرية فكانت تُصنع في
الإسكندرية ودبيق.
٩٢ ولقد ذكر ابن عبد ربه في «العقد
الفريد»:
«إن في تنيس، التي كان بها خمسة آلاف مغزل، مصنعًا يعمل
من أجل الخليفة.»
٩٣
وفي القرن الحادي عشر، سوف يُحدِّثنا ابن بسام المحتسب
عن تنيس بما نعرف منه هيمنة نفس قانون الحركة على هذه
الصناعة، وأن استخدام العمل المأجور كان يتم على نطاقٍ
واسع؛ فقد كتب محمد بن بسام:
«وفيها من المناسج التي تُعمل فيها الثياب خمسة آلاف
منسج: عدد عمالها عشرة آلاف نفس.»
٩٤
كما كانت هناك المصانع الحكومية، إلى جوار المصانع
الخاصة، التي أطلق عليها، وكما ذكرنا، دار الطراز وكانت
تقوم بنسج ثياب الأمراء وكبار رجال الدولة. وكان لهذه
المصانع التي كانت تستخدم عددًا كبيرًا من العمالة المأجورة
٩٥ مديرون فنيون يتقاضون مرتباتهم من الدولة.
وكانت هذه المصانع مصدر ثراء للدولة بوجهٍ عام؛ فلم تكن كل
المنتجات التي تُنتَج في مصانع الحكومة، بواسطة العمال
المأجورين، تُوزَّع ككساء للخليفة وأعوانه وكبار رجال
الدولة من ساسة وعمال وفقهاء … إلخ، وإنما كان الجزء
الأكبر من الإنتاج، يُخصَّص للتصدير إلى السوق
الدولية.
ويروي لنا تقي الدين المقريزي (١٣٦٤–١٤٤٢م)، الذي أفاض
في الحديث عن تنيس بالذات، أن دور الطراز كانت تدر على
الدولة الأموال الطائلة بفضل منتجاتها النفيسة؛ فلقد تمكنت
مدن تنيس ودمياط والأشمونيين أن تؤدي من بيوت
مالها لخزينة الدولة في
يومٍ واحد ٢٠٠ ألف دينار، وذلك في عهد الوزير الفاطمي ابن
كلس، وكان المصروف على خيوط الذهب يبلغ عادة ٣١ ألف دينار.
وقد بلغ في عهد الآمر بأحكام الله ٤٣ ألف دينار.
٩٦ والظاهر أن الأمور قد تبدلت بعض الشيء في عهود
سلاطين المماليك؛ إذ نجد ابن خلدون يذكر أن المنسوجات
وثياب الطِّرَاز لم تعُد تُصنَع في المصانع ودور الطراز في
القصر؛ فقد أوقفت الدولة إنتاجها في منشآتها الخاصة،
وأصبحت تطلب حاجتها، التي اقتصرت على الكساوي المنسوجة من
الحرير والذهب الخالص، من بيوت النساج؛ أي إنها صارت تعتمد
على الموردين. في جميع الأحوال نجد عند ابن خلدون وصفًا
نفهم منه أن دار الطِّرَاز كانت مشروعًا رأسماليًّا،
خاضعًا لنفس قانون الحركة، مملوكًا للدولة ويستخدم العمال
الأُجراء الذين يشرف عليهم ويدفع لهم أجورهم أحد رجال
الدولة المقرَّبين من مؤسسة الحكم:
«وكانت الدور المعَدَّة لنسج أثوابهم في قصورهم تُسمَّى
دور الطِّرَاز. وكان القائم على النظر فيها يُسمَّى صاحب
الطِّرَاز ينظر في أمور الصباغ والآلة والحاكة فيها وإجراء
أرزاقهم وتسهيل آلاتهم ومشارفة أعمالهم وكانوا يُقلِّدون
ذلك لخواص دولتهم وثقات مواليهم.»
٩٧
ولدينا نصٌّ مهم لابن المأمون (القرن الحادي عشر) نعرف
منه مقدار أجرة النسَّاج:
«بدلة خاص جليلة مُذْهَبة، ثوبها موشَّح مجاوم مذايل،
عدتها باللفافتَين إحدى عشرة قطعة، السلَفُ عنها مائة وستة
وسبعون دينارًا ونصف، ومن الذهب العالي المغزول ثلاثمائة
وسبعة وخمسون مثقالًا ونصف كل مثقالٍ أُجرة غزله ثُمن دينار.»
٩٨
ولدينا نصٌّ مكتوب على ورق البردي، لا يقل أهمية عن نص
ابن المأمون، يرجع تاريخه إلى القرن التاسع الميلادي، وهو
محفوظ بدار الكتب المصرية (لوحة ١٢)، عبارة عن عقد استخدام
عاملٍ مأجور؛ فالأمر على ما يبدو
كان له أهميةٌ اجتماعية
تستدعي التوثيق. كما تتبدى أهمية النص، من جانبٍ آخر، في
أنه يمثل وثيقةً مهمة نعرف منها قيمة الدينار
آنذاك:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما استأجر سعيد بن عيسى
استأجر هارون بن بقام شهرين كاملين على أن يعمل له عمل
الفول وعلى أن يعطيه في هذين الشهرَين سدس دينار لكل شهر
درهمَين وأول يوم من الشهر أول يوم من كهيك من شهور العجم
من سنة متين وسبعة وعشرين شهد على ذلك أيوب بن موسى وكتب
شهادته ومحمد بن أيوب وكتب بخطه وليد بن مسلم القرشي وكتب
شهادته بخطه.»
٩٩
كما تُوجد لدينا برديةٌ أخرى (لوحة ١٣)، ترجع إلى القرن
العاشر الميلادي تُوضِّح أن الخدمات أيضًا كانت مأجورة
نقدًا؛ إذ نجد بردية تعيين خادم مسجد حددت أجرته السنوية
بثلاثة دنانير ونصف، كما حددت واجباته واختصاصاته بدقة.
١٠٠
ولدينا كذلك برديةٌ ثالثة (لوحة ٢٢)، تعود إلى القرن
العاشر أيضًا، نجدها تذكر أن أحد العمال يتقاضى أجرًا عن
عمله مقداره دينارٌ في الشهر.
١٠١
ونعرف من المقريزي، وهو يروي قصة ضرب الدينار الأحمدية
في عهد الدولة الطولونية، كيف كان العمل مأجورًا؛ إذ كتب
المقريزي في «شذور العقود»:
«ثم أمر لكل رجلٍ كان يعمل بمائتَي دينار منه، وأنفذ بأن
يُوفَّى الصنَّاع أجرهم.»
١٠٢
ومن الصناعات المهمة التي عُرفت في عهد الدولة الطولونية
صناعة الأسلحة. وكانت دار الصناعة، التي كانت بالأساس
تتخصص في صناعة السفن، هي التي تقوم بصناعتها. ووفقًا لنفس
قانون الحركة. كما عرفت مصر عددًا من الصناعات الأخرى مثل
صناعة الصابون والسكر. وكان أكثر الصناع المأجورين من المصريين.
١٠٣
وفي عصر الدولة الفاطمية (٩٥٣–١١٧١م) تم استخدام عدة
تقنياتٍ جديدة في النشاط «الصناعي»، ولم يعُد عمل المصانع
مقصورًا على إمداد الجيش والأسطول بالسلاح والعتاد الحربي
والملابس لطوائف الجند، بل تنوعت المنتجات لسد حاجة
الخلفاء وكبار رجال الدولة. واحتلت صناعة السكر — التي
كانت خاضعة لنفس قانون الحركة «ن − [ق ع + و إ] − س − ن +
Δ ن» — مكانةً متميزة.
١٠٤
ويمكننا، في مصر الفاطمية، أن نرى العمال النساجين «ق ع»
يستخدمون وسائل الإنتاج «و إ» المملوكة للدولة. فرواية
ناصر خسرو (١٠٠٣–١٠٨٨م) حين زار مصر في العصر الفاطمي،
تؤيد انطباق قانون حركة الرأسمال الصناعي؛ فالعمال في
مصانع السلطان (رأسمالية الدولة) كانوا يتلقَّون الأجور
مقابل بيعهم لقوة عملهم. ونفهم من باب أَوْلى أن العمال في
المصانع الأخرى والتي كانت تنتج للعامة أي تنتج من أجل
السوق، كانوا يتلقون الأجور أيضًا أُسْوة بعمال دار
الطِّرَاز السلطانية:
«ويُنسج بتنيس القصب المُلوَّن من عمائم ووقايات وما
يلبس النساء، ولا يُنسج في أي مكان قصبٌ ملون كذلك الذي
يُنسج في تنيس. ويُنسج القصب الأبيض في دمياط، ويُنسج خاصة
في مصانع السلطان ولا يُباع ولا يُعطى لأحد. وفي مدينة
تنيس هذه، ينسجون البوقلمون وهو غير موجود في أي مكانٍ آخر
في العالم، وهو ثوبٌ ذهبي يتلون باختلاف أوقات النهار.
وتُحمل هذه الثياب من تنيس إلى المشرق والمغرب. والقصب
والبوقلمون الذي يُنتج للسلطان يُبذَل فيه ثمنٌ كامل فيعمل
العمال للسلطان برغبة لا كما في البلاد الأخرى حيث يظلم
ديوان السلطان الصنَّاع.»
١٠٥
لقد كانت صناعة النسيج من الصناعات المهمة والتي تابعت
ازدهارها بعد أن تنوعت أصنافها وأشكالها. وكانت القاهرة في
عهد الفاطميين مركزًا مرموقًا لصناعة المنسوجات الحريرية،
ووفقًا لنفس قانون الحركة «ن − [ق ع + و إ] − س − ن +
Δ ن». ومن البلاد التي
اشتُهرت بهذه الصناعة أيضًا الفيوم والأشمونيين
والإسكندرية. وعمل في هذه المصانع المئات بل الآلاف من
العمال المأجورين نقدًا. والواقع أن أجور العمال والصناع
لم تكن واحدة؛ إنما تفاوتت تبعًا لنوع النشاط وأهميته عند
الحكام الفاطميين من جهة، وتبعًا للملكية الخاصة أو
التبعية للدولة من جهةٍ أخرى. ولقد كانت أجور الصناع في
دار الطِّرَاز في مصر أفضلَ بكثيرٍ مما يقبضه العمال في
الدور الأخرى في باقي الولايات.
١٠٦ وهذا ما نفهمه من حكاية ناصر خسرو حينما يذكر
أن المنتوج:
«الذي يُنتَج للسلطان يُبذَل فيه ثمنٌ كامل فيعمل العمال
للسلطان برغبة لا كما في الولايات الأخرى حيث يظلم ديوان
السلطان الصناع» (ناصر خسرو علوي، «سفرنامة»).
وكان لكل طائفةٍ من الصناع وأرباب الحِرَف عريفٌ يتولى أمورهم
١٠٧ ويُشترط فيه أن: يكون على دراية بأمور الصناعة
أو الحرفة التي يشرف عليها، ومشهودًا له بالثقة والأمانة.
وكان العريف، بمثابة عين المحتسب يُطلِعه على أخبار أهل
صنعته، ويدله على مواطن الغش والتدليس التي قد يلجأ إليها
البعض لغش الصنعة أو السلعة، فلما كان المحتسب يفتقد إلى
الدراية بأسرار الحرف المختلفة وتُعوِزه الخبرة بحيل
أربابها في الغش، فقد تعين عليه الاستعانة بفرد من كل حرفة
لمساعدته في القيام بعمله في المراقبة على الأسواق وجودة
المنتجات التي يتم إنتاجها من أجل البيع في هذه الأسواق.
وكان هؤلاء الأفراد الذين يُعيِّنهم المحتسب والذين أُطلق
عليهم العرفاء يمثلون سلطة الدولة تجاه أرباب الحرف؛
فبالإضافة إلى الدور الرقابي للعريف في منع الغش
والتأكد من سلامة
المنتجات وجودتها، كان عليه أن يُلم بأسعار المنتجات
الحرفية، وأن يُلم أيضًا بأحوال أرباب حرفته ويخبر المحتسب
بأحوالهم. ولم يقتصر دور العريف على ذلك، بل مارس كذلك
أحيانًا مهام الفصل في المنازعات التي تنشب بين أرباب
الحرفة والمتعاملين معهم. أضف إلى ذلك أن العُرفاء كانوا
مسئولين أمام الدولة عن تنفيذ أرباب الحِرَف للأوامر
الصادرة إليهم من السلطات بإنجاز عملٍ ما. وكانت الدولة
تستخدم الأُجراء من أرباب الحِرَف من غير موظفيها، وفي هذه
الحالة كان يحصل العامل على أجرٍ مقابل ما أداه من عمل.
وبوجهٍ عام، يمكن القول بأن الأجور في العهد الفاطمي بقيت
ثابتة إلى حدٍّ كبير؛ إذ نجد أن أجر العامل العادي كان من
درهم ونصف إلى ثلاثة دراهم، أما العامل الفني فكان أجره ما
بين أربعة إلى سبعة دراهم.
١٠٨
ولقد أشارت وثائق الجنيزة
١٠٩ بالقاهرة لأجور العمال؛ فهناك وثيقة ترجع إلى
سنة ١٠٤٠م تذكر أن العامل أخذ درهمًا واحدًا في اليوم لقاء
عمله في جلب المياه من أجل أعمال البناء. وفي وثيقةٍ أخرى
ترجع إلى سنة ١٠٩٩م أخذ العامل درهمَين، وفي وثيقةٍ ثالثة،
غير محددة التاريخ، أخذ درهمًا ونصفًا أجرًا لليوم الواحد.
وأحيانًا ما كان العامل يعمل لفترةٍ محددة لدى شخص دون
غيره نظير الأجر؛ ففي وثيقة ترجع إلى سنة ١٠٣٠م يتبين أن
عامل زجاج اتفق معه صاحب العمل على أن يعمل في فرن الصهر
لمدة عام، وألا يعمل عند غيره هذه الفترة على أن يكون أجره
اليومي خمسة دراهم والغذاء بقيمة درهم.
١١٠
ولم تكن الأجور تُعطى للعمال الأجراء فحسب، بل أجرى
الخلفاء الفاطميون رواتبَ شهرية منتظمة لأفراد الجيش
الفاطمي، وهي مبالغُ نقدية تُرتَّب مقاديرها لمستحقيها في
مطلع كل عام، ويُعِدها ديوان الرواتب لتُعرض على الخليفة
للنظر فيها، ليزيد مَن يزيد أو ينقص مَن ينقص
١١١ وهو ما يعكس، من زاويةٍ ما، انتظام الهيكل
الإداري وقوة مؤسسة الحكم في الدولة.
وفي عصر الأيوبيين (١١٧٤–١٢٥٢م)، وبشأن الأرض بوجهٍ خاص،
فقد كان الشكل السائد للملكية الإقطاعية
١١٢ يتميز بالملكية الحكومية؛ فالحكومة
لم تقم بدورها كمالكٍ
أعلى للأرض فقط، بل قامت أيضًا بدور المستغِل المباشر
للمنتجين. وكما نفهم من كتابات المقريزي فإن الوسيلة
الأساسية للانتفاع بأرض الدولة هي التأجير مقابل الالتزام، ولكن مع بداية حكم
الأيوبيين تحول إقطاع الالتزام إلى الإقطاع الذي يعني
المِنَح الإقطاعية الحربية.
ويمكن القول بأن النظام الإقطاعي الحربي في مصر في ذلك
العصر شأنه في ذلك شأن دول الشرق في العصور الوسطى؛ كان
يتميز بانعدام الملكية الخاصة للإقطاعي؛ فمن المعروف أن
السلطان الصالح نجم الدين أيوب (١٢٠٥–١٢٤٩م) ألقى في
السجون بكثير من الأُمراء المشتبه في ثقتهم، ثم قام بإعادة
توزيع إقطاعاتهم على المماليك.
١١٣ على الرغم إذن من سيادة الإقطاع، كتنظيمٍ
اجتماعي، إلا أننا نجد جميع مظاهر التداول النقدي والسلعي؛
١١٤ بالتبع لوجود جميع علاقات قانون الحركة،
ابتداءً من وجود الرأسمال وقوى الإنتاج والأرباح، وانتهاءً
ببيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق. لقد تجاوزت الأرض
الدور الذي كانت تؤديه في أوروبا كمظهر للثراء الاجتماعي
والسلطة إلى القيام بدورٍ اقتصادي أكثر إيجابية على صعيد
الحراك والتغيُّر الاجتماعيَّين.
وفي عصر المماليك (١٢٥٠–١٥١٧م) كانت مصر «إقطاعية بمعنى الكلمة»
١١٥ فقد قُسمَت الأراضي إلى أربعة وعشرين قيراطًا،
اختص السلطان منها بأربعة قراريط، واختص الأمراء بعشرة،
والعشرة الباقية كانت نصيب الجند.
١١٦ وكان الإقطاع أمرًا شخصيًّا لا دخل لحقوق
الملكية أو لأحكام الوراثة فيه؛ فالمُقْطَع يحلُّ مَحَل
السلطان في التمتُّع بغلَّات الإقطاع وإيراده دون أن تمتد
هذه الامتيازات إلى ورثَتِه من بعده، فإذا مات المُقْطَع
أو أَخلَّ بشروط الإقطاع، جاز للسلطان أن يستولي على
إقطاعه في الحال.
١١٧
والجدير بالذكر أن الأمراء المماليك، حال حكمهم لمصر في
القرن الرابع عشر،
١١٨ كانوا فاحشي الثراء بالمقارنة مع بقية الشعب؛
ففيما كان العامل أو الموظف الديني الصغير يستطيع أن يجني
درهمَين في اليوم، كان دخل الأمراء يبلغ نصف مليون درهمٍ
أو مليونًا من الدراهم سنويًّا.
١١٩
وكان جنود المماليك
السلطانية شأنهم في ذلك شأن الأمراء الكبار يتسلمون
شهريًّا من الخزانة رواتبَ نقدية ويُعطَون مِنحًا
عينية.
وفي عصر المماليك أيضًا يمكننا أن نرى حياةً اقتصادية
معقدة؛ إذ نجد المضاربات المالية وانفلات الأسعار
والتضخُّم والكساد والركود والفائض، والثراء الفاحش والفقر
الموحش، والتنظيم الدقيق والفوضى العارمة! وإذا ما نظرنا
إلى قوة العمل، فسنجد أن العمال الذين كانت تقع على عاتقهم
مهمة إنجاز الإنشاءات القومية مثل بناء الجسور أو شق
القنوات، لم يكونوا جميعًا يُجمعون قسرًا من القرى
لتسخيرهم في هذه المشروعات ومن ثم يعملون لقاء قوتهم
اليومي، بل إن هذه المشروعات كان يعمل بها أيضًا الكثير من
العمال المأجورين. وربما كان العمال الفنيون أو أصحاب
المهارات مثل البنائين أو النجارين هم الذين يتلقون أجرًا
لقاء عملهم، على حين يُسخَّر الفعَلة في أعمال الحفر وحمل
التراب والردم وغير ذلك من الأعمال البدنية الشاقة.
١٢٠
ويمكن القول بأن مصر لم تعرف أيًّا من النموذجَين
النقابيَّين البيزنطي والغربي، بالمعنى الدقيق لكلمة النقابة
١٢١ إذ إن التجارات والحِرَف في العهد المماليكي
كانت شأنها شأن النقابات البيزنطية خاضعةَ لمراقباتٍ
خارجية صارمة ترمي إلى الاحتفاظ بنشاطات العمال ضمن بعض
الحدود السياسية والاقتصادية والمالية. إلا أن هذا الإشراف
لم يؤدِّ إلى تأسيس النقابات، بصفةٍ خاصة أن نظرة مؤسسة
الحكم، باستثناء وكما
ذكرنا الدولة الفاطمية، إلى العمال والحرفيين كانت
يَكتنِفُها الريب والشك؛ ولذلك فوَّضَت المراقبة على
العمال والحرفيين في المدن الإسلامية للمُحتسِب، الذي
بدوره استعان بالعريف.
قامت معظم الحِرَف والصناعات في حوانيتَ صغيرة. وسكن
كثيرٌ من الحرفيين والصناع بالقيساريات
١٢٢ التي كانت تشكل وحدةً معمارية تشبه السوق،
تحيط بها من الخارج حوانيت، وفي الداخل صحنٌ يصطف على
جوانبه مجموعةٌ أخرى من الحوانيت تعلوها وحداتٌ سكنية
للحرفيين والصنَّاع الذين كانوا يبيعون إنتاجهم الحرفي
بهذه الحوانيت.
١٢٣
ط
والآن، فلنذهب إلى فاس في شمال أفريقيا، في القرن السادس
عشر، ولسوف نترك الحسن الوزَّان، المعروف باسم ليون
الأفريقي (١٤٩٥–١٥٥٠م) يحكي لنا عما رأى في الأسواق هناك.
كتب الوزَّان:
«… نقابات الحرفيين بفاس مفصولٌ بعضها عن بعض، وأشرفها
يُوجد حول الجامع وبالقرب منه. وإلى الغرب من ذلك نحو
ثلاثين دكانًا للكتبيين، وإلى الجنوب بائعو الأحذية الذين
يشغلون قرابة مائة وخمسين دكانًا، يشترون الأحذية والخفاف
بالجملة من الخرازين، ثم يبيعونها بالتقسيط. ولا يَبعُد
عنهم كثيرًا الخَرَّازون الذين يصنعون أحذية الأطفال،
ويبلغ عدد دكاكينهم نحو خمسين دكانًا. وفي شرقي الجامع
مكان باعة أواني النحاس. وأمام الباب الرئيسي للجامع في
الجهة الغربية يُوجد باعة الفواكه الذين يشغلون نحو خمسين
دكانًا، وبعدهم الشمَّاعون، ثم العقَّادون. وبعد ذلك تجد
بائعي الأزهار يبيعون الليمون والحامض أيضًا، ويبلغ عدد
دكاكينهم نحو العشرين. ويأتي بعد بائعي الأزهار بائعو
اللبن، يشترون اللبن من البقَّارين الذين يعلفون الأبقار
لهذه التجارة ويرسلون كل صباح اللبن، فيبيعه اللبَّانون في
دكاكينهم، وما بقي لهم منه في المساء والصباح، اشتراه منهم
تجار ليصنعوا منه الزبد من بعضه، ويتركوا البعض الآخر
يَتحمَّض ليبيعوه للزبائن لبنًا حامضًا ورائبًا. يأتي بعد
اللبَّانين بائعو القطن الذين يبلغ عدد دكاكينهم ثلاثين.
وإلى الشمال منهم بائعو مصنوعات القنب. يأتي بعد ذلك صانعو
النُّطَق الجلدية والخِفَاف والأزمَّة الجلدية المطرَّزة
بالحرير للخيل أيضًا. وتجد بعدهم صانعي المشدَّات الذين
يصنعون أغمدة السيوف والمواسي وأغطية صدور الخيل، فبائعي
الملح والجبص يشترونهما بالجملة ويبيعونهما بالتقسيط، ثم
بائعي الأواني الخزفية ذات الصنعة المتقنة والألوان
الزاهية، ويبلغ عدد دكاكينهم مائة. ثم نصل إلى مجمع
الحمالين، ويبلغ عددهم ثلاثمائة حمال، ولهم أمين أي رئيس،
يختار كل أسبوع من يجب عليهم أن يشتغلوا ويكونوا رهن إشارة
الجمهور طوال الأسبوع. يجمع هؤلاء الرجال ما ربحوه من مال
في صندوق ويُقسم المال بين الذين اشتغلوا عندما ينتهي
الأسبوع. ويشتغل هؤلاء وهم لابسون ثيابًا قصيرة ذات لونٍ
واحد، ويلبسون خارج أوقات عملهم ما يشاءون. ولبائعي
الفطائر في دكاكينهم عدة آلات وغلمان؛ لأنهم يصنعونها
بعنايةٍ فائقة، ويبيعون منها يوميًّا كميةً كبيرة. ويُباع
كذلك في السوق اللحم والسمك المقليَّان. ويأتي بعد ذلك
باعة الزيت والسمن المالح والعسل والجبن الطري والزيتون
والليمون، ودكاكينهم مليئة بأواني الخزف المايورقي، تفوق
قيمتُها قيمةَ ما تحويه من بضاعة. وتُباع جرار الزبد
والعسل بالمزاد، والدلالون حمَّالون مختصون يكيلون الزيت
عندما يُباع بالجملة. وتَسَع هذه الجرار مائة وخمسين
رطلًا، والخزَّافون ملزمون بصنعها في حجم هذه السعة
تمامًا، فيشتريها منهم رعاة المدينة ويملئونها ثم يبيعونها
من جديد. وعلى مسافةٍ قريبة يُوجد الجزارون في نحو أربعين
دكانًا مرتفعة على شكل دكاكين الحرف الأخرى، يفصلون اللحم
ويزنونه في الموازين. ولا تُذبح البهائم في دكاكين
الجزارين، بل في مجزرة بجوار النهر حيث تُسلخ وتُحمل إلى
الدكاكين بواسطة حمالين تابعين للمجزرة. ولكن قبل أن تُحمل
الذبائح لا بد من عرضها على المحتسب الذي يأمر بفحصها
ويُسلِّم بطاقة مكتوبًا عليها السعر الذي يجب أن يُباع به
اللحم. ويُلْزَم الجزَّار أن يلصق هذه البطاقة على اللحم
بحيث يتمكن الجميع من رؤيتها وقراءتها. ونجد بعد
الجزَّارين سوق الأقمشة الغليظة البلدية محتويًا على نحو
مائة دكان. وإذا أتى أحدهم بقطعة قماش ليبيعها، فعليه أن
يُسلِّمها لدلَّال يضعها على كتفه ويذهب من دكان إلى آخر
مناديًا على الثمن، وعدد هؤلاء الدلالين ستون، ويُحقِّق
هؤلاء أرباحًا طيبة. ويأتي بعد ذلك صقَّالو الأسلحة من
سيوف وخناجر ورماح، ويقوم بعضهم بصقلها وبيعها، ثم
الصيادون يصطادون السمك. ويُوجد بعيدًا من هناك بائعو
الصابون السائل. ولا يُصنع هذا الصابون في المدينة، بل في
الجبال المجاورة. وعلى مسافةٍ أبعدَ نجد باعة الدقيق، ثم
جماعة بذور الحبوب والخضر. وبعدهم باعة التبن، ثم سوق خيط
الكتان، فإذا سِرتَ من سوق الدخان على خطٍّ مستقيم وَجَدتَ
صانعي الدلاء الجلدية التي تُستعمل في المنازل التي بها
آبار، ويَشْغلون نحو أربعة عشر دكانًا، ثم صانعي الظروف
التي يُخزن فيها الدقيق والقمح ولهم نحو ثلاثين دكانًا، ثم
الإسكافيين وبعض الخرَّازين الذين يصنعون نعالًا خشنة
للفلاحين وعامة الشعب، ويَشْغلون نحو مائة وخمسين دكانًا.
وبعدهم صنَّاع التروس، ثم الذين يغسلون الثياب، وهم من
فقراء القوم، لهم معاملُ ثُبِّتَت فيها أوانٍ كالأحواض في الكِبَر.»
١٢٤
ويمكننا أن نستخلص من حَكْي الوزَّان: أننا أمام مجتمعٍ
تجاوَزَ منذ عهودٍ بعيدة جدًّا اقتصاد المنزل، وأصبح
الإنتاج، كقاعدةٍ عامة، من أجل السوق وليس من أجل الإشباع
المباشر. كما أن الرأسمال يؤدي الدور الحاسم في تبادُل
السلع في السوق.
ومن المهم أن نستخلص كذلك عدم انفراد عالمنا الرأسمالي
المعاصر بالتخصَّص وتقسيم العمل، أو ببيع قوة العمل،
١٢٥ إنما نفس الظواهر نجدها بوضوح في
السوق الفاسي. كما نعرف
أيضًا أن الدولة مارست رقابة الجودة وبسطت سلطانها على
الأسواق وأحكمت رقابتها على الأسعار الجارية للسلع وحالت
دون انفلاتها من جهة، ومنعت الاحتكار من جهةٍ أخرى.
•••
في التاريخ الوسيط إذن، كما في التاريخ القديم، ووفقًا
لتقسيم الأوروبي نفسه، عرف العالم بيع قوة العمل، والإنتاج
من أجل السوق، وتداوُل الثروة العقارية. كما عرف التبادُل
النقدي المعمَّم. وكانت عمليات الإنتاج والتوزيع تتم فيه
من خلال قوانين حركة الرأسمال. ولم يكن، وفقًا لمحور
ماركس/روزا/دوب/هيلبرونر، مجرد مجموعة مدن أو قرى أو ضياع
أو إقطاعاتٍ مكتفية ذاتيًّا تجهل النقود والإنتاج والتبادل
والتوزيع … إلخ، ويحكمها سيدٌ قاسٍ غارق في الملذات جُل
همه امتلاء مخازنه بالحنطة والنبيذ! قد يتغير الشكل، شكل
الآلة، شكل السلعة، شكل العامل، شكل السوق، شكل قوى
الإنتاج ومستوى تطوُّرها، شكل التنظيم الاجتماعي أو النظام
السياسي … إلخ، ولكن قوانين الحركة الحاكمة تظل
واحدة.
إن التفرقة الواعية بين شكل التنظيم الاجتماعي وقوانين
الحركة الحاكمة لظواهر الإنتاج والتوزيع داخل هذا التنظيم،
ابتداءً من الوعي، الناقد، بالتكوُّن التاريخي لظواهر
النشاط الاقتصادي وتطوُّرها على الصعيد الاجتماعي، إنما
تزودنا بأداةٍ فكرية حاسمة في سبيل نقد نظرية نمط الإنتاج
ذات المركزية الأوروبية، فلننتقل إذن، في ضوء ما تَكَوَّن
لدينا من وعيٍ بشأن الظواهر التي تم الادعاء بأوروبيتها،
إلى الفصل الخامس من أجل نقد النظرية التي أرَّخَت لتاريخ
النشاط الاقتصادي في العالم ابتداءً من تاريخ
أوروبا.