إمبراطوريات الذهب والدم
١
- (١) الوعي بالعدوانية المباشرة للرأسمال الأوروبي الاستعماري (الإسباني والبرتغالي في مرحلةٍ أولى) على مجتمعات الاقتصاد المعاشي (بكل خصوصيته، وحضارته المدهشة: الإنكا، والأزتك) في أمريكا اللاتينية؛ فحينما وصل الغزاة لم يكن السكان الأصليون، ومنذ آلاف السنين، يعرفون الملكية الفردية للأرض ولا ملكية العقارات بوجهٍ عام؛ فلم يكن لديهم سوى الملكية الجماعية للأراضي، وقرارُ الإنتاج يُتخذ بشكل جماعي، وتوزيع المنتَج، حتى ما كان نتيجة القنص والصيد، يتم بشكلٍ جماعي.٣ والنقود والأرباح والرأسمال أشياء هي من قبيل الأمور غير المفهومة لديهم على الإطلاق! فالتبادل، مع ندرته، كان يتم عن طريق المقايضة. والذهب، إله الأوروبي الغربي، لم يكن يُستخدم سوى في بعض أشكال الحُلي وبعض الأدوات والمصنوعات البسيطة. ولم يَرقَ هذا المعدن حتى إلى منزلة وسيط التبادُل لدى المايا أو الإنكا أو الأزتك أو غيرهم في أرجاء أمريكا اللاتينية.٤ أما هؤلاء الغزاة، عَبَدَة الذهب، فهم قادمون من مجتمع التجارة والأرباح والمضاربة والتبادل النقدي المعمَّم٥ ولكنهم، مع الغزو، لم ينقلوا التنظيم الاجتماعي والاقتصادي الآخذ في التشكل في بلادهم الأوروبية إنما نقلوا جميع نُظم الاستغلال الهمجية البالية،٦ فلقد نشأ التنظيم الاجتماعي الإقطاعي بكل قسوة العبودية في المستعمرات، في نفس الوقت الذي تَحلَّل فيه الإقطاع، كتنظيمٍ اجتماعي، في العالم الوسيط، وانزوت فيه العبودية في الأعمال المنزلية في بعض الأجزاء اليسيرة المتفرقة من العالم المعاصر!ومن المؤكد تاريخيًّا أن أوروبا، في عام ١٥٠٠م، لم تكن أكثر تطورًا أو تقدمًا من الحضارات الأخرى بل كانت أوروبا الأشد تخلفًا والأكثر بلادة! إن الغزو النهبوي هو القادر على تفسير نهضة أوروبا؛ فبفضل الموقع الجغرافي الذي احتلته القارة الأوروبية تمكنت سفن الغزاة عَبَدَة الذهب من بلوغ العالم الجديد، ولكن، كي تفرغ شحنات البارود في قلوب السكان الآمنين وتملأ بدلًا منها الذهب.٧وفي المستعمرة، فبحدوث الصراع الجدلي بين رغبة الغزاة المحمومة في الأرض الشاسعة، والذهب بطبيعة الحال، وبين مجابهة السكان الأصليين،٨ الذين كانوا في الأصل مالكين لشروط تجديد إنتاجهم الاجتماعي. تبدأ العملية التاريخية «الدامجة» للأجزاء المستعمرة في الكُل الرأسمالي الناشئ. تزامنت هذه العملية مع ضخ المزيد من قوة العمل «المقتنَصة!» من خلال تجارة سيطر عليها آنذاك التاج الإسباني والتاج البرتغالي، وتبعهما في ذلك فيما بعدُ باقي القوى الاستعمارية الأوروبية بصفةٍ خاصة فرنسا وإنجلترا.
- (٢) الوعي بالهمجية والقسوة والبشاعة التي اقترنت بالحقبة الاستعمارية وفجر الرأسمالية المشرق! فعلى سبيل المثال كان عدد سكان المكسيك في عام ١٥١٩م نحو ٢٥ مليون نسمة، انخفض هذا العدد إلى مليون وتسعمائة ألف مع حلول عام ١٥٧٩م! وكي يبلغ ذروة انخفاضه مع عام ١٦٢٩م حين بلغ مجموع سكان المكسيك نحو مليون نسمة! أي إن عملية الإبادة، التي تمَّت في مائة وعشر سنين، قضت على ٢٤ مليون مكسيكيٍّ تقريبًا! وفي منطقة الكاريبي، على سبيل المثال أيضًا، انخفض عدد السكان من ٥٫٨٥٠ ملايين نسمة في عام ١٤٩٢م إلى نحو ١٫٩٦٠ مليون نسمة في عام ١٨٢٥م!٩يتعين إذن البحث في دور الغزو الاستعماري الأوروبي (الإسباني والبرتغالي في مرحلةٍ أولى) في دمج الاقتصادات المستعمَرة ذات الاكتفاء الذاتي؛ أي الإنتاج خارج فكرة التداول النقدي، في اقتصاداتها المستعمِرة كأحد الأجزاء التابعة؛ فلقد ظل الإسبان، عقب استقرارهم في جزر الهند الغربية وسماعهم عن بلاد في الغرب يكثر فيها الذهب والفضة بكميات لا تُحصى، يرسلون البعوث الاستعمارية لاستكشاف شواطئ أمريكا الوسطى؛ فعهدوا إلى حملة صغيرة بقيادة «كورتيز» لغزو هذه البلاد، المكسيك حاليًّا، التي كانت موطن قبائلَ ذات كنوزٍ هائلة وحضارةٍ رائعة وديانات وفنونٍ راقية. إنها حضارة الأزتك، التي أُبيدت ومُسحت من على خريطة العالم! وحينما سمع الإسبان عن بيرو، وهي موطن قبائلَ أخرى ذات كنوز وحضارة لا تقل في روعتها عن الأزتك، إنها حضارة الإنكا، أعدُّوا حملة بقيادة «بيزارو» للاستيلاء عليها، وتحكي لنا المراجع المختلفة في هذا الشأن أن أهل تلك البلاد أهل سلام وسلم وسكينة، يملكون من الذهب ما لم يخطر على بال أوروبيٍّ واحد، حتى إن ملك الإنكا، أتاهوالبا، افتدى نفسه لمَّا أُسر، كما يُروى،١٠ بملء الحجرة التي كان فيها ذهبًا، ولكنه لم يُدَع كي يمضي في سلام، إنما تمَّ تقديمه إلى المحاكمة بتهمة عبادة الأوثان وارتكاب الزنا! وأُعدم في ١٥٣٣م.
- (٣) الوعي بالكيفية التي تم من خلالها فرض الزراعة الأحادية على أغنى أراضي قارة أمريكا اللاتينية وأخصبها وأوفرها إنتاجًا: البرازيل، وباربادوس، وجزر سوتابنتو، وترينداد وتوباجو، وكوبا، وبورتوريكو، والدومينيكان، وهاييتي؛ الأمر الذي كوَّن، تاريخيًّا، بلدانًا كالإكوادور على سبيل المثال، يتوقف مصير سكانها على تقلُّبات الأسعار العالمية للبن أو الكاكاو، أو الموز! هنا يجب الوعي أيضًا بالكيفية التي تمت من خلالها عملية تعميق هذا الشكل من الزراعة من خلال هيكلة اقتصادات بلدان القارة على نحوٍ يخدم، بإخلاص، اقتصادات الأجزاء الاستعمارية؛ بجعل بلدان القارة موردًا دائمًا للمواد الأولية. الحال الذي أفضى، بعد استنزاف التربة، إلى استيراد المواد الغذائية؛ فالأرض آلت ألَّا تُنتج سوى المحصول الواحد. المحصول الاستعماري: سُكر، كاكاو، مطَّاط، بُن، قطن؛١١ وهو الأمر الذي تزامن مع نشوء المزرعة الاستعمارية (اللاتيفونديات) وتبلوُر الطبقات الاجتماعية المكونة تاريخيًّا في ركاب الرأسمال الأجنبي (الإسباني والبرتغالي والإنجليزي والفرنسي والهولندي، ثم الأمريكي كامتداد للهيمنة الاستعمارية الأوروبية)؛ ومن هنا نشأت أرستقراطية السكر، وأوليجارشية الكاكاو، كما ظهر أثرياء الغابة (المطاط) وأباطرة البن … إلخ. ولسوف تنهض هذه الطبقات، فيما بعدُ، بتأدية دور البطولة المطلقة، من خلال الأرباح التي تجنيها بفعل القانون الموضوعي للقيمة، في تدعيم بنية الخضوع والهيمنة وتكريس عوامل التخلف التاريخي لدول القارة؛ فتلك الطبقات التي تربَّت في كنف المستعمر وتلقَّت تعليمًا استعماريًّا راقيًا لا تُوجِّه (ولا يمكن، على هذا النحو، أن تُوجِّه) هذه الأرباح إلى الحقول الاستثمارية الوطنية، بل يُعاد ضخها في نفس العروق إلى الخارج!
- (٤) الوعي بدور متطلبات عملية دمج الأجزاء المستعمَرة في الاقتصادات المستعمِرة، كأحد الأجزاء التابعة، في قلب الميزان الديموجرافي في معظم بلدان القارة١٢ وهو الأمر الذي يتعين معه الوعي بطبيعة التنظيم الاجتماعي/السياسي الذي استخدمته الاقتصادات المستعمِرة في سبيل إنهاك الاقتصادات المستعمَرة وتصفيتها ماديًّا، وسلبها لشروط تجديد إنتاجها الاجتماعي. والتنظيم الاجتماعي الذي استخدمته القوى الاستعمارية إنما يحتاج (لارتكازه على السخرة والعبودية) إلى قوة عمل وفيرة، ربما أكثر من وسائل الإنتاج (مواد العمل وأدوات العمل)؛ ولذلك سيكون من الضروري أن تقوم قوى الاستعمار الأوروبي بِضَخِّ نحو ٨ ملايين عبدٍ (إنسان!) أفريقيٍّ١٣ إلى مناطق البرازيل وغرب الإنديز وجيانا في الفترة من ١٥٥٠–١٨٥٠م بعد أن قضى الاستعمار على السكان الأصليين! ولقد تركَّز ضخ العبيد في معظم جزر الكاريبي ومناطق زراعة القصب ومناجم الذهب ومزارع البن. الأمر الذي أفضى إلى تكوُّن طبقة «الكريوليس» التي ستنهض بدورٍ مهم في سبيل ترسيخ الهيمنة الاستعمارية؛ فلقد كرس الاستقلال في بداية القرن التاسع عشر تحويل السلطة إلى أيدي الملاك العقاريين والبورجوازية الكمبرادورية. عقب ذلك استمر التحويل وتدعيمه على امتداد القرن إزاء تكثيف التبادلات مع المتروبول الجديد، بريطانيا العظمى.
- (٥) الوعي بالكيفية التاريخية التي بمقتضاها أمست القارة اللاتينية للأوروبيين عالمًا جديدًا بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى؛ إذ تُبيِّن سجلَّات الأشخاص المرخَّص لهم بالذهاب إلى الهند الغربية أسماء كثيرٍ من أصحاب الحِرَف والصنَّاع المهرة. ونستطيع أن نستخلص من تحليل هذه السجلات، وما تضمنته من حرف ومهن، الأحوال الاجتماعية المعقدة التي كانت تتزايد في المجتمعات المدنية الآخذة في التطور، ليس في الأجزاء المستعمِرة فحسب، إنما في الأجزاء المستعمَرة كذلك؛ فمن الذين رُخِّص لهم بعبور الأطلنطي في الفترة من ١٥٠٩م حتى ١٥١٧م: مزارع، وبغَّال، وتاجر، وصيدلي، وصنَّاع أحذية، وصانع آلاتٍ قاطعة، ومتخصص في أعمال السباكة، وفاحص معادن، ونجَّار، وحلَّاق، وحفَّار، وحائك ملابس، ونقَّاش، وحدَّاد، وصانع جوارب، وصانع عربات، وصانع فضيات، وصيرفي، وصانع شموع، وصانع معادن، وجرَّاح خلع أسنان، وراعي غنم، وزارع فاكهة، وثمانية بنائين، وخرَّاطون، وخزَّافون، وصنَّاع صهاريج، ومُطرِّزون، وحدَّادو أقفال، وخبَّازون.١٤
- (٦)
من المهم أن نعلم أن الغزاة، عَبَدَة الذهب، قد نهبوا، من بوليفيا وبيرو والمكسيك والهند الغربية والبرازيل وتشيلي، في الفترة الممتدة من ١٥٤٥م حتى ١٨٠٠م نحو ١٥١٧٣٫١ مليار مارك من الفضة، ونحو ٤٥٧٢ مليار مارك من الذهب؛ وبالتالي تدفَّقَت إلى أوروبا ثروات، هي بالأساس أدواتُ دفع، غير مسبوقة تاريخيًّا؛ الأمر الذي انعكس على الوظائف التي تؤديها النقود في الحياة اليومية داخل الأجزاء المستعمرة؛ فلقد زادت كمية النقود في نفس الوقت الذي نشطت فيه التجارة عَبْر بحار ومحيطات العالم الحديث، وتمكَّنَت أوروبا من الوصول إلى مراكز التجارة البعيدة شرقًا وغربًا.
في الوقت نفسه، والذي بدأ فيه التراكم الرأسمالي، بدأت الاكتشافات المعرفية والمخترعات العلمية،١٥ وأصبحت النقود تلعب دورًا يتعدى الاكتناز إلى الرأسمال. النقود التي تُستخدَم من أجل الإنتاج. وهو الأمر الذي تطلَّب البحث عن قوى الإنتاج الأخرى؛ فالرأسمال موجود بكثافةٍ عالية، وأدوات العمل يجري اختراع المزيد منها وتطويرها بوتيرةٍ متسارعة. وقوة العمل متوافرة أيضًا والريف يدفع بالآلاف صوب المدن للعمل في المصانع. يتبقى بالتالي مواد العمل أي المواد الخام؛ حينئذٍ تكون المستعمرات هي المورد الأساسي لهذه المواد مثل السكر والمطاط والموز … إلخ. يجب إذن الوعي بطبيعة التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي وحقيقة التكون التاريخي لاقتصاد المبادلة النقدية المعممة في أوروبا في القرن الخامس عشر؛ هذا التكون التاريخي الذي تم من خلال التواطؤ بين الرأسمال التجاري (عقب تبلوره الطبقي) وبين السلطة المُعبِّرة عن فكرة الدولة القومية الساعية إلى تحطيم الاصطفائية التي نهض عليها التنظيم الاجتماعي الإقطاعي الآخذ في التحلل (مع ظاهرة تنقيد/تأجير الأرض) والمتجهة نحو الانسلاخ عن الجسد اللاتيني وذلك حتى أواخر القرن السابع عشر،١٦ ثم توسع الرأسمال الصناعي، حتى أوائل القرن الثامن عشر، الذي تزامن مع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي في طريقه إلى خلق السوق العالمية وتدويل الإنتاج من خلال أنماطٍ مختلفة للتقسيم الدولي للعمل والتغلغل في هياكل المجتمعات المتخلفة مُشكِّلًا بذلك أجزاءً للاقتصاد العالمي بمستوياتٍ مختلفة من التطور. فأضحت أجزاءً متقدمة، وأمست أخرى متخلفة. - (٧) بانتهاء الحرب العالمية الثانية يشرع الاقتصاد الرأسمالي العالمي المعاصر في استكمال تكوُّنه من خلال مؤسسات دولية (صندوق النقد، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة) تعمل على ترسيخ تبعية البلدان المنهوبة للأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي، من خلال:
-
فتح أسواق الأجزاء المتخلفة لتصريف الإنتاج، بل والنقد، الفائض.
-
إغراق الأجزاء المتخلفة في فخ المديونية الدولية، وبالتالي نهب ثروات البلدان الأشد فقرًا سواء عَبْر هذه الديون أو الاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ بالإضافة إلى تصدير التضخم.
-
ومن ثَمَّ: فرض سياسات للتنمية يكون انشغالها الأساسي تعبئة الموارد الوطنية لصالح الدائنين والمستثمرين الأجانب. وحين يتم التركيز، وبشكلٍ هامشي، على التصنيع فإنما يكون ذلك بغرض الإنتاج للتصدير من أجل النقد الأجنبي؛ الذي يُعاد تصديره إلى الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي.
-
توجيه الأجزاء المتخلفة نحو التعديل الجذري لتشريعاتها المعوِّقة لحرية السوق.
-
إعادة هيكلة اقتصادات الأجزاء المتخلفة على نحوٍ خدمي يفقد تلك الأجزاء الشروط الموضوعية لتجديد إنتاجها الاجتماعي؛ فتظل معتمدة على الخارج في إنتاجها؛ فاقدة القدرة على التنمية المستقلة المعتمدة على الذات.
-
- (٨)
الوعي بالكيفية التاريخية التي تبلور من خلالها التاريخ النقدي للهيمنة الأمريكية في القرن التاسع عشر بعد سلسلةٍ متصلة من العلاقات الجدلية بين القوى الأوروبية المتصارعة (هولندا، وإنجلترا، وفرنسا، وروسيا، والنمسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبروسيا، والدولة العثمانية) وانتهاءً بالحرب العالمية الأولى التي خرج منها الاقتصاد الأوروبي حطامًا، بينما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية كأغنى وأقوى دولةٍ رأسمالية في العالم، يزيد مجموع أرصدتها الذهبية عن مجموع الأرصدة الذهبية التي تملكها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وكأن الحرب لم تفعل شيئًا سوى تحريك التراكم؛ أي نقل ثروات أمريكا اللاتينية (وخيرات المستعمرات بوجهٍ عام) من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. هنا ينبغي الوعي بالظرف التاريخي الذي تمكَّن الذهب من خلاله من إرساء منظومة الأثمان المُعبَّر عنها بعملاتٍ وطنية مختلفة نظير سلع تم إنتاجها في أماكنَ متفرقة من العالم وفي ظل ظروفٍ إنتاجية يميزها التغير المستمر.
ولم يكن من الممكن للذهب أن يؤدي هذه الوظيفة إلا ابتداءً من تداوله كنقود داخل الاقتصاد الرأسمالي القومي الأكثر تطورًا والذي كان في سبيله للسيطرة على الجزء الأكبر من المعاملات الدولية: الاقتصاد البريطاني. وتُمكِّن قاعدة الذهب الدولية بدورها الرأسمال البريطاني من تأكيد هيمنته داخل الاقتصاد العالمي، وهي هيمنة استمدها من تفوق الإنتاجية النسبية للعمل، عمقًا ومدًى، وبفضل هذه الهيمنة يصبح الجنيه الإسترليني، العملة الوطنية البريطانية، سيد العملات دوليًّا، ويمكن أن يحل محل الذهب لعملات بلدانٍ أخرى تخضع لهيمنة الرأسمال البريطاني.
وهكذا تحل هيمنة رأسمال أحد البلدان على الصعيد الدولي محل سلطة الدولة على الصعيد القومي، وتُمكِّن هذه الهيمنة عملة الرأسمال المهيمن من القيام في المعاملات الدولية بدور النقود الدولية، سواء كانت هذه العملة تستند إلى الذهب أم لا تستند، وإن يكن من الضروري أن تبدأ فترة سيطرتها التاريخية، بحكم تاريخية النقود، بالاستناد إلى الذهب.
•••
ولندرس الآن الظروف التاريخية والموضوعية التي أدَّت، في إطار تطور الرأسمالية المعاصرة، إلى إعلان نهاية علم الاقتصاد السياسي، وظهور ما يُسمى «علم الاقتصاد».
ولقد أصدرت «إيزابيلا» مرسومًا ملكيًّا عام ١٥٠٣م يُلخِّص تاريخ القارة بأَسْرها: «أما وقد بَلغَنا أنه نظرًا للحرية المفرطة التي يتمتع بها الهنود، فهم يتجنَّبون الاختلاط بالإسبان، لدرجة أنهم يأبَون العمل لديهم لقاءَ أجر، ويُفضِّلون أن يهيموا بلا شاغل، وأن المسيحيين يعجزون عن تحويلهم إلى العقيدة الكاثوليكية. إنني آمرك يا أيها الحاكم أن تُجبر الهنود وتُرغمهم على الاختلاط بالمسيحيين، وعلى العمل في بناياتهم، وعلى جمع الذهب والمعادن الأخرى وتعدينها، وفلاحة الأراضي، وإنتاج الغذاء للسكان المسيحيين.» للمزيد من التفصيل، انظر: بول هاريسون، «في قلب العالم الثالث: السقم يلتهم الأرض»، ترجمة إلهام عثمان (نيقوسيا: ميد تو للتنمية، ١٩٩٠م)، ج٢، ص٢٣٩.
وللمزيد من التفصيل عن الأمراض التي نقلها الغزو الاستعماري الأوروبي، انظر: «الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية»، تحرير دافيد أرنولد، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، عالم المعرفة؛ ٢٣٦ (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ١٩٩٨م)؛ فلقد شكل الأوروبيون صلاتٍ وبائيةً جديدة، إما بتوصيل أمراض (كالجدري والحصبة) كانت موجودة في أوروبا منذ زمنٍ طويل، أو بإرساء روابط بين أجزاء من العالم لم يكن يُوجد قبلها إلا صلاتٌ محدودة. وقد ساعدت وسائل التجارة والنقل الأوروبية على نشر الأمراض. لقد تم نقل بعض الأمراض انتقالًا مباشرًا بواسطة الأوروبيين أنفسهم. وكان الزهري يُعرف في هند القرنَين السادس عشر والسابع عشر باسم فرانجي روجا؛ أي المرض الأوروبي.» انظر: دافيد أرنولد، «المرض والطب والإمبراطورية»، في: «الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية»، المصدر نفسه، ص١٧-١٨.
ولقد قُدِّر الذهب المنهوب بنحو ٢٠٠ ألف طنٍّ في الفترة ١٥٢١–١٦٦٠م. انظر: Michel Beaud, “A History of Capitalism 1500–1980”, translated by Tom Dickman and Anny Lefebvre (London: Macmillan press, 1988), p. 19.
وانظر كذلك الإحصاءات — التي توضح مقدار النهب للذهب والفضة — الواردة في: رمزي زكي، «التاريخ النقدي للتخلف: دراسة في أثر نظام النقد الدولي على التكون التاريخي للتخلف بدول العالم الثالث»، عالم المعرفة؛ ١٩١ (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ١٩٨٧م).