الإعدام اليومي للطلبة
١
ولأن انشغالنا الفكري يأتي دائمًا محددًا بالأجزاء المتخلِّفة من النظام الرأسمالي المعاصر، وعالمنا العربي، وكما ذكرنا، يحتل مكانة «متميزة!» داخل هذه الأجزاء، فسوف نستعرض أدناه بعض ما يدرس للضحايا في المدارس والجامعات في عالمنا العربي. ولنَكتَفِ هنا بأبسط الأمور؛ أي ﺑ «تعريف العلم!» الذي يتم تدريسه للضحايا في هذه المؤسسات، فهل يعرف أساتذة الاقتصاد حقًّا ما الذي يُدرِّسونه للطلبة؟
٢
مثلٌ أول: جاء في أحد الكتب المقررة لإعدام الطلاب في مصر:
أولًا، علم الاقتصاد السياسي مصطلحٌ مختلف تمام الاختلاف عن مصطلح الاقتصاد. ثانيًا، الواقع أني لا أدري ما علاقة علم الاقتصاد السياسي كعلمٍ اجتماعي ينشغل بقانون القيمة، بذلك الفن التجريبي المسمَّى بالاقتصاد؟ وما علاقة علم ينشغل بالقيمة كأساس لتجديد الإنتاج الاجتماعي، بفن تسييرٍ همُّه المنفعة؟ وما علاقة علمٍ حقل اهتمامه الإنتاج، بفنِّ تسييرٍ لا شاغل له إلا السوق والتداول؟ وما علاقة علمٍ محور اهتمامه زيادة ثروة الأمم، بالإنتاج، وتحليل توزيع هذا الإنتاج، بفن تسييرٍ يعبد الاستهلاك ويُقدِّس التدمير وسلة المهملات؟ وما علاقة علمٍ اجتماعي، بفن تسييرٍ يُصفِّي العلم من محتواه الاجتماعي؟ وما علاقة علمٍ يُفرِّق، وبوعي، بين قيمة السلعة وثمنها، وبين فن تسييرٍ لا يعي إلا النفعية يخلط، ودون وعي، بين القيمة ومظهرها النقدي؟ وما علاقة علمٍ مجتمعي، بفن تسييرٍ أناني؟ ربما الإجابة عن كل هذه الأسئلة موجودة في عنوان الكتاب نفسه: «أصول الاقتصاد السياسي: مدخل لدراسة أساسيات علم الاقتصاد». (الاقتصاد السياسي/الاقتصاد) إنها التوليفة الخرافية، وبالتالي غير العلمية، التي يتم حشو دماغ الطلاب بها!
مثلٌ ثانٍ، وهو من كتابٍ آخر مقرر أيضًا لإعدام الطلاب في مصر؛ إذ جاء في هذا الكتاب:
الآن عرفنا أن الاقتصاد السياسي أصبح اسمه الجديد الاقتصاد! وهو يستمد وجوده من السياسة الاقتصادية! ولكننا في الحقيقة نعرف أن العبرة في موضوع العلم، أيِّ علم، ليست بما نخلعه نحن عليه، أو بما نريده له؛ إذ العبرة بما صار عليه موضوع العلم نفسه على صعيد الواقع. والواقع التاريخي يقول إن الاقتصاد السياسي هو: علم نمط الإنتاج الرأسمالي المتمفصل حول قانون القيمة، بل هو علم قانون القيمة، وليس العلم المنشغل بالسياسة الاقتصادية (وفقًا لسياسات صندوق النقد!) حقًّا ما ذنب الطلاب الذين يتم إعدامهم فكريًّا كل يوم كي يُقال لهم إن «الاقتصاد» كان قديمًا يُسمَّى الاقتصاد السياسي؟
مثلٌ ثالث، من مصر أيضًا، فبعد أن ذكر المؤلِّف مجموعة من التعريفات التي تنتمي إلى مدارسَ نظرية ومذاهبَ فكريةٍ مختلفة للغاية وربما متنافرة، دونما تفرقةٍ ما بين الاقتصاد السياسي والاقتصاد، كتَبَ للطلاب:
أخيرًا تعلَّم الطلاب أنهم يدرُسون علمًا لا تعريف له! والأهم من ذلك أنهم تعلَّموا الآن أن كل المفكِّرين الذين سعَوا لتعريف هذا العلم الواسع الذي يستعصي على التعريف! إنما كانوا جميعهم ينظرون إلى موضوعٍ واحد! على الرغم من أن منهم مَن نظر إلى الثروة، ومنهم مَن نظر إلى الإنتاج، ومنهم مَن نظر إلى التوزيع، ومنهم مَن نظر إلى التداول. بيد أن هذا العلم العجيب والذي لا يُعرَّف، فهو الأمر الذي لم يكن، ولن يكون سوى في الكتاب الذي بين يدَي طلاب جامعة المنصورة فقط!
مثلٌ خامس من ليبيا؛ فاستكمالًا لأسطورة هذا العلم الذي لا يمكن تعريفه، واستخدام طريقةِ اختر أنت ما يناسبك، فالطلاب في ليبيا يَدْرُسون:
مثلٌ سادس، من سوريا؛ فطلاب كلية الاقتصاد في دمشق، يُلقَّنون أن:
ها نحن وصلنا سالمين إلى علم التاريخ! وصلنا إلى علمِ طُرق الإنتاج عَبْر التاريخ! وصلنا إلى اختزال الاقتصاد السياسي في التاريخ بغرض الانتصار للأيديولوجية! وصلنا إلى كراسات التعميم سوفياتية الصنع! حيث الاقتصاد السياسي علمٌ يدرس علاقات الإنتاج والقوانين الكامنة في أساليب الإنتاج المختلفة التي تعاقبت تاريخيًّا. لقد وصلنا إلى نيكيتين وأبالكين ورفاقهما.
٣
الاقتصاد السياسي حقًّا بريء من كل الكتابات المبتذَلة التي تستخدم اسمه زيفًا وزورًا؛ فالاقتصاد السياسي هو العلم المنشغل بتحليل ظواهر نمط الإنتاج الرأسمالي (بمعنى خضوع ظواهر الإنتاج والتوزيع في المجتمع لقوانين حركة الرأسمال)، الظواهر المتمفصلة حول قانونٍ عامٍّ هو قانون القيمة. ولأن قانون القيمة يزعج النظام السياسي وبرلمانات الذهب والدم، فكان من الضروري العمل، بلا هوادة، من أجل طمسه في المؤسسة التعليمية، ولكن الأمر أجلُّ؛ فلقد توارى علم الاقتصاد السياسي، وهو العلم القادر، دون ادعاء امتلاك الحقيقة، على شرح كيف يعمل النظام الاقتصادي؛ وبالتالي يتيح التعامل معه بذكاء وفعالية؛ ومن هنا يصبح مُلِحًّا بعثُ علم الاقتصاد السياسي من مرقده كي يكون عونًا لكلِّ مَن يحلُم بمشروعٍ حضاري لمستقبلٍ آمن، وسندًا لكل مَن طمَح إلى أكثر من الوجود، فلنطمح إلى أكثر من الوجود على ظهر كوكب ينتحر بعدما قاد المخبولون العُميان، فلنطمح إلى أكثر من الوجود.