المقدمة
(١) تزاوج الحضارات، وسائل هذا التزاوج وخاصة الترجمة
الاتصال والتزاوج أساس التطور والرقي، أمثلة، طرائق التطعيم والتلقيح بين الحضارات بعضها والبعض الآخر، الترجمة: عند العرب في العصر العباسي، في أوروبا في العصور الوسطى وعصر النهضة.
***
يقول علماء النبات: إن النبات إذا طُعِّمَ ولُقِّحَ بنبات غيره أنتج ثمرًا أحلى من النباتَيْن: فالتفاح إذا طُعِّمَ بالكمثرى جاء فاكهة جديدة أحلى مذاقًا، وأعطر شذًى، وكان بالتالي في السوق أكثر طلبًا وأعلى ثمنًا، ففيه طعم الفاكهتَيْن ورائحتهما.
ويقول علماء التاريخ والاجتماع والحضارة: إن الشعب أو المجتمع أو الدولة أو الحضارة التي تعيش وحدها وتنطوي على نفسها، ولا يصيبها تطعيم أو تلقيح من حضارة غيرها، يكون مصيرها الضعف والانحلال، ولا نقول الزوال، فإنها تبقى موسومة في سجل التاريخ بأنها حضارة ضعيفة. وهكذا نجد أن الحضارات القديمة كانت دائمًا على اتصال، فإذا ضعفت الحضارة القديمة قامت الحضارة اللاحقة لها وفيها جماع ما في سابقتها من خير تتخذه كأساس لتبني فوقه أبحاثًا وكشوفًا وعلومًا وآدابًا وفنونًا جديدةً؛ هي كلها ثمرات لمجهود بشري جديد.
ولهذا لا نجد الحضارة — من قديم — وقفًا على شعب واحد دون غيره، بل هي كالوديعة يتناولها أبدًا الشعب القوي فيزيد فيها وينميها، حتى إذا انتابته عوامل الضعف والكلال أسلمها أمانةً — أيضًا — إلى الشعب الذي وُلِدَ جديدًا وفيه عناصر القوة الجديدة، وهكذا دواليك. فلا عجب إذن أن يجد طالب الفلسفة الحديثة — مثلًا — نفسه في حاجة لأن يدرس تاريخ الفلسفة والفلاسفة عند أمم الشرق القديم، ثم عند اليونانيين، ثم عند المسيحيين والمسلمين في العصور الوسطى، إلى أن يصل إلى العصر الحديث؛ لأنه يجد للفلسفة قصة طويلة واحدة لا يمكن أن يقرأ فصلها الأخير ويفهمه، إلا إذا بدأ بالفصل الأول فاستوعبه، ثم أتبعه الفصول الأخرى فتفهمها، وهذا مثل بسيط ينطبق على كل علم أو فن أو أدب، بل وعلى كل فرع من علم أو فن أو أدب.
وطرائق التطعيم والتلقيح بين الحضارات بعضها والبعض الآخر كثيرة ومختلفة، تختلف باختلاف العصور، فقد كان الاتصال والتأثير عن طريق الحروب أحيانًا، وعن طريق الهجرة والرحلة أحيانًا أخرى، وقد كانت وساطته التجارة آنًا، والسفارة آنًا أخرى، والزواج آنًا ثالثًا … إلخ، غير أن نقل العلوم من حضارة إلى حضارة، وترجمتها من لغة إلى لغة كانت هي الوسيلة المشتركة دائمًا، والناجحة أبدًا.
- (أ)
اتصال الأوروبيين بالمسلمين في الأندلس ومملكة الصقليتين.
- (ب)
التجارة.
- (جـ)
الحروب الصليبية.
وانقلب الأوروبيون — بعد أن مُنوا بالفشل في الحروب الصليبية — إلى عقر دارهم، وقد بهرتهم أنوار الحضارة الإسلامية، ومعهم مفاتيح تلك الحضارة، فتفرغوا لها يقتبسون معالمها، وينقلون آثارها، ويدرسون تواليفها، وساعدتهم عوامل جغرافية وتاريخية أخرى على أن يسيروا بالحضارة في دورها الجديد على طريقة جديدة تعتمد أكثر ما تعتمد على التفكير الحر أولًا، وعلى الملاحظة والتجربة ثانيًا، وقد مهد لهم هذا كله السبيل إلى كشوف علمية جديدة كانت هي الطلائع الممهدة لظهور حضارة القرنَيْن التاسع عشر والعشرين.
(٢) عرض عام لحالة مصر والشرق الأدنى قُبيل الحملة الفرنسية
مصر تدفع عن الشرق خطر التتار، تأخر الحالة العلمية في مصر، ناحية واحدة اهتم بها المصريون في تلك العصور وهي التأريخ لأنفسهم ولمصر، جهود التأليف الموسوعي في القرن التاسع الهجري (١٥م)، الركود والخمود في العصر العثماني، أسباب هذا الركود كما صوَّرها الأستاذ شفيق غربال بك، وصف الرحالة الفرنسيين لحالة مصر العلمية في القرن ١٨، وصف الجبرتي لها، انقطاع الصلات بين مصر والغرب، الدول الأوروبية تبدأ التفكير في غزو الشرق وخاصةً مصر.
***
كان الأوروبيون يفعلون هذا بينما كان الشرق قد اتخذ لنفسه، أو اتخذ له القدر أسلوبًا آخر من الحياة يختلف كل الاختلاف عن هذا الأسلوب الذي اصطنعته أوروبا لنفسها أو اصطنعه القدر لها.
تلاشت هذه الموجات الصليبية والتترية بعد أن بذلت مصر وبذل سلاطينها الجهد كل الجهد، والمال كل المال، في القضاء على هذَيْن الخطرَيْن؛ لهذا لا نعجب إذا لاحظنا — بالمقارنة — أن عصر المماليك الثاني — وخاصةً في أواخره — يقل قوةً وجاهًا عن عصر المماليك الأول.
ولا عجب أيضًا أن نجد الحركة العلمية في مصر تخمد وتضعف في هذه القرون، فلم يظهر فيها مفكرون جدد، ولا مدارس تفكيرية جديدة، وانتهت العناية بالعلوم في الأزهر والمساجد والمدارس التي ينشئها سلاطين المماليك إلى دراسات دينية أو لغوية أو تاريخية، وانتهى جهد العلماء في مصر إلى نظم قصيدة لمدح سلطان إذا انتصر، أو تأريخ حياته إذا مات، أو شرح، أو تفسير، أو تهميش، أو تعليق، أو اختصار لأمهات الكتب القديمة في الفقه والحديث وغيرهما من العلوم الدينية واللغوية.
غير أن هناك شيئًا واحدًا لم ينسه المصريون عصرًا من العصور، ذلك هو شعورهم بأنفسهم وببلادهم مصر، ذلك الشعور كان له أثره الخطير في تاريخ مصر العلمي، فقد دفع المصريين دائمًا إلى تأريخ أنفسهم، وملوكهم، وقضاتهم، وعلمائهم، ومدنهم، ومعابدهم، ونيلهم، وأعيادهم … إلخ … إلخ، وكانت لنا من هذا الجهد المتصل سلسلة كتب الخطط وما يكملها من كتب التاريخ، تبدأ بكتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم، وتنتهي بالخطط التوفيقية لعلي مبارك، وتقويم النيل لأمين سامي، وتاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي.
ولم يكد القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) يوشك على الانتهاء حتى كان الإعياء قد أخذ من مصر كل مأخذ؛ ولهذا نراها لا تستطيع أن تقف طويلًا أمام قوى العثمانيين المتفوقة، وينتهي بها الأمر إلى الخضوع والاستقرار حينًا.
- (أ)
أن تقوى هي وتُضْعِف القوتَيْن الأخريَيْن.
- (ب)
وأن تبتز من الشعب ما تستطيع ابتزازه من مالٍ لتغنى.
وأما الشعب، وأما البلد، وأما نواحي الإصلاح للرقي بالشعب وبالبلد، فقد أُهملت جميعًا، حتى سطر التاريخ لهذا العهد صفحة سوداء، وغدت مصر تُوصف — في هذا العهد العثماني — بالضعف في كل شيء: بالضعف في النواحي الحربية والاقتصادية، وبالضعف في النواحي الصحية والعلمية، وخيم على البلاد نوع من الخمود والركود ظل ثلاثة قرون.
ثم وضع الأستاذ بعد ذلك إصبعه على موطن الداء، وسبب هذا الركود، فقال: «قد يرجع الركود إلى أن القوة العثمانية حالت بلا شك دون اتصال أمم الدولة بالحضارات الأجنبية عمومًا، وبالحضارة الأوروبية خصوصًا.»
- (١)
ولكن الباحث المنصف لا يستطيع أن يسلم بأن الأوروبيين في القرن السادس عشر وما تلاه من الأزمنة كانوا على استعداد لأن يقدموا للشرقيين المسيحيين والمسلمين من رعايا السلطان ثمرات نهوضهم العلمي هدية خاصة. كما أن الباحث لا يستطيع أن يجهل أن تقدم الحضارة الأوروبية كان في أغلب الأحايين اسمًا مرادفًا لما كانت تقوم به الأسرات المالكة في أوروبا من الحروب في سبيل المجد، ويَشُدُّ أَزْرَ الملوك — ولكن في سبيل المجد الأعلى — رجالُ الدين، وفي سبيل الاستقلال رجالُ المال. أما والأمر كذلك، فلا سبيل إلى القول بأن الشرق العثماني كان يستطيع الإفادة من النهضة الأوروبية دون أن ينزل عن رجولته وحريته …
- (٢) والصحيح في مسألة الركود هو أن الدولة العثمانية تولت أمر أمم كانت على نوع من الإعياء، لم يكن الحكم العثماني قادرًا على أن يزيله عنها: فالعثمانيون كانوا قومًا يأخذون ولا يعطون، تشهد بذلك خططهم وفنهم وآدابهم، فلم يكن منهم إلا أن نظموا ما وقع تحت سلطانهم في ملك عريض وعملوا على ألا يتطرق إليه تغيير أو تعديل، شأنهم في هذا شأن الدول الكبرى المتعددة الأجناس والأديان تتهددها دول أخرى معادية.٧
ومهما تكن الأسباب، فإنا لا نستطيع أن ننسى أن هذا الركود الطويل دفع مصر وسكانها إلى الانكماش داخل بلادهم كما تنكمش القوقعة داخل صدفتها، وطال انكماش مصر وسكانها فأُصيبت وأُصيبوا بالضعف، شأن المريض يطول به الرقاد وتطول به الوحدة؛ ولهذا لا نعجب إذا قرأنا وصف الرحالة الأوروبيين الذين وفدوا على مصر والشام وسائر بلدان الدولة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر، أمثال سافاري وفولني وغيرهما. قال فولني يصف الحالة الصناعية والعلمية في مصر وقتذاك: «الجهل عام في هذه البلاد مثل سائر تركيا، وهو يتناول كل الطبقات، ويتجلى في كل العوامل الأدبية والطبيعية، وفي الفنون الجميلة، حتى الصناعات اليدوية، فإنها في أبسط أحوالها، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة، وإذا وُجد فهو إفرنجي، أما الصياغة فأصحابها فيها أكثر مما في أزمير وحلب، لكنهم جهلاء، وإنما يتقنون المنسوجات الحريرية، وإن كانت أقل إتقانًا وأغلى ثمنًا من صنع أوروبا، أما العلم فوجود الأزهر فيها جعلها مرجع الطلاب في الشرق الإسلامي.»
وحتى هذا العلم، وحتى هذا الأزهر، لم يكونا في القرن الثاني عشر الهجري (القرن الثامن عشر الميلادي) في حالة طيبة مبشرة، بل شملتهما موجة من الركود والجمود. وقد وصف مؤرخ مصري معاصر هو الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، مدى ما وصلت إليه الحالة العلمية في مصر من تأخر وجمود في ذلك القرن، فذكر أن أحمد باشا الوالي التركي على مصر (١١٦٢-١١٦٣ﻫ / ١٧٤٩ -١٧٥٠م) كان: «من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، ولما وصل إلى مصر، واستقر بالقلعة، وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت، وهم: الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الجامع الأزهر، والشيخ سالم النفراوي، والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم، وناقشهم، وباحثهم، ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا، وقالوا: «لا نعرف هذه العلوم.» فتعجب وسكت.»
ثم ذكر مؤرخنا أن الشيخ الشبراوي طلع على عادته إلى القلعة في يوم جمعة، «واستأذن، ودخل عند الباشا يحادثه، فقال له الباشا: «المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه».» فقال له الشيخ: «هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف.» فقال: «وأين هي، وأنتم أعظم علمائها وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئًا، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، ونبذتم المقاصد؟» فقال له: «نحن لسنا أعظم علمائها، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث، كعلم الحساب والغبار (؟).» فقال له: «وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية، بل هو من شروط صحة العبادة، كالعلم بدخول الوقت، واستقبال القبلة، وأوقات الصوم والأهلة، وغير ذلك.» فقال: «نعم، معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات، وأمور ذوقية كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل، والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق، فيندر فيهم القابلية لذلك.» فقال: «وأين البعض؟» فقال: «موجودون في بيوتهم يُسعى إليهم.» ثم أخبره عن الشيخ الوالد (يقصد والده الشيخ حسن الجبرتي العالم الرياضي الفلكي الكبير في ذلك الحين)، وعرَّفه عنه، وأطنب في ذكره …»
ثم ذكر الجبرتي بعد ذلك أن الباشا أرسل إلى الشيخ حسن الجبرتي فاستدعاه لمقابلته، وأنه «سُرَّ برؤياه واغتبط به كثيرًا، وكان يتردد إليه يومَيْن في الجمعة … وأدرك منه مأموله … ولازم المطالعة عليه مدة ولايته، وكان يقول: «لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني».»
لم تنقطع الصلات بين الشرق والغرب — حربًا وسلمًا — منذ ظهر الإسلام. وكانت الحروب الصليبية أبرز صور هذه الصلات، ولكن معاركها الحربية انتهت بإخراج صليبي أوروبا من بلدان الشرق الإسلامي، فعادوا إلى قارتهم وهم يشيدون بشجاعة الشرق وقوته، ثم شُغِلَت أوروبا منذ ذلك الحين بنهضتها وحروبها القومية قرونًا، وشُغِلَ الشرق بالمغول حينًا وبنفسه حينًا آخر، كل ذلك والصلة تضعف شيئًا فشيئًا، ولكنها لم تنقطع؛ فقد ظلت السفن تنقل التجارة بين الشرق والغرب طول عصر المماليك، فكانت تجلب معها إلى موانئ مصر والشام التجار الغربيين، وكانت تقيم منهم جاليات في هذه الموانئ، وكان يقيم مع هذه الجاليات قناصل يرعون مصالح دولهم التجارية، وكانت تُعقد المعاهدات والاتفاقات التجارية بين حكام مصر والشام من المماليك، وبين ملوك ودوقات هذه الدول الأوروبية، وكانت مصر أخيرًا حريصة الحرص كله — طول عهد المماليك — على أن تبقي على هذه العلاقة قوية وثيقة، فهي المنبع الذي يدر عليها المال الوفير، ولكننا لا نستطيع أن نؤكد أن الصلة العلمية بين مصر والغرب في ذلك العهد كانت مبتوتة مقطوعة، إذ لم يكن لدى مصر وقتذاك علم جديد تقدمه وتزجيه، ولم يكن الوافدون عليها من تجار أوروبا ممن يُعنون بنقل العلوم، ولم تكن أوروبا قد خطت بعد — حتى الفتح العثماني لمصر سنة ١٥١٧ — في سبيل نهضتها الجديدة الخطوات المثمرة.
وهكذا تم لمصر — وهي زعيمة الشرق — كل عوامل الضعف، فقد ضعفت حربيًّا بتملك العثمانيين لها، وضعفت اقتصاديًّا بتحول التجارة عنها، وضعفت علميًّا وروحيًّا بسيطرة أفكار التصوف والدروشة على عقول أهليها.
وفيما نقلناه عن «فولني» تصديق لهذا القول؛ ولهذا بدأت بعض دول أوروبا — وخاصةً فرنسا — تفكر تفكيرًا جديًّا في غزو هذا الشرق الضعيف. وكانت نتيجة هذا التفكير الحملة الفرنسية على مصر سنة ١٧٩٨ يقودها القائد الشاب المغامر «نابليون بونابرت».