أوهام العقل
لم يَرَ أحدٌ أسبابَ أخطاءِ الإنسان أكثر من بيكون.
يتضمن «الأورجانون الجديد» جانبين أو قسمين: قسمًا سلبيًّا يتناول مواطن الخطأ والزلل في ذهن الإنسان حتى يبذل وسعه لتجنبها، وقسمًا إيجابيًّا يتناول قواعد التجريب ويستغرق الكتاب الثاني بِرُمَّته، وإذا كان الجانب الإيجابي من فلسفة بيكون قد تَكَشَّف قصوره وتجاوزه الزمن، فإن الجانب الإيجابي يظل حيًّا راهنًا يُلقي أضواءً كاشفةً على أخطاء رئيسة تحدق بالعقل البشري في كل زمن، ولا يزال البشر يقعون فيها إلى يومنا هذا، الأمر الذي يجعل الكتاب الأوَّل من «الأورجانون الجديد» كتابًا خالدًا لا يَنفَد عطاؤه على مَرِّ العصور.
(١) أوهام القبيلة
نحن لا نرى الواقعَ كما هو وإنما نراه كما نحن.
هذا العالمُ كما ندركه هو صورتُنا الرمزية عن العالَم الموضوعي المستقل عَنَّا.
تتعلَّق أوهام القبيلة (أوهام الجنس أو النوع) بالطبيعة البشرية بما هي كذلك، وتشمل البشر جميعًا:
-
فنحن جميعًا ميَّالون إلى أن نحتكم إلى حواسنا وأن نجعلها مقياسًا للأشياء، وهذا ميلٌ خاطئ لأن الحواس شيءٌ منسوب إلى الإنسان وليس إلى العالم، نحن لا نرى الأشياءَ كما هي عليه، وإن الذهن البشري أشبه بمرآة غير مصقولة تضفي طبائعها الخاصة على الأشياء فتشوهها وتفسدها. يقول بيكون في الشذرة ٢: ٤٠: «الغلط الكبير للحواس هو أنها ترسم خطوط الطبيعة بالإطار المرجعي للإنسان لا الإطار المرجعي للطبيعة.» كما أن الحواس البشرية قاصرة عن إدراك كل شيء في الطبيعة، إن العين البشرية لا تلتقط كل ضروب الأشعة والموجات، والأذن البشرية لا تلتقط من الترددات الكائنة في الطبيعة إلا قسطًا يسيرًا جِدًّا، وقُل الشيءَ نفسه في بقية الحواس، من هنا يأتي أكبر عائق للفهْم البشري؛ فالأشياء التي تمس الحواس تكون لها الأرجحية على الأشياء التي لا تمسها مباشرةً مهما عَلا شأنُها، هذا ما يجعل التأمُّل يتوقَّف في عامة الأحوال حيثما يتوقف الحِس.
-
ونحن ميَّالون إلى أن نرى في العالَم نظامًا واطِّرادًا أكثر مما نجده فيه.
-
ونحن نُؤخَذ بالشواهد الإيجابية لأي رأي أو اعتقاد، ونغض الطرفَ عن الشواهد السلبية حتى إن كانت أكثر عددًا وثقلًا!٤ ويبدو أن الدماغ البشري — بحكم تكوينه — يجد صعوبةً في «معالجة» الإشارات السلبية أكثر مما يجدها في معالجة الإشارات الإيجابية، يُسَمَّى هذا الخطأ المعرفي — بالمصطلح الحديث — «انحياز التأييد» confirmation bias؛ أي البحث عن التأييد دون التفنيد، ويذهب البعض إلى أن هذا الانحياز هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية «المُخلِّدة لذاتها» و«المُحقِّقة لذاتها».٥
-
ونحن نُؤخَذ بشواهد لافتة قليلة، ونظن أن كل شيء آخَر يسير على غِرارِها ويجري مجراها، نحن متسرعون في التعميم، نستبِق الطبيعة، ولا نَجِدُّ في البحث عن أمثلة سالبة مُفَنَّدة تختبر فروضَنا اختبارَ النار.
-
ونحن لا نفهم الأمور فهْمًا بريئًا أبدًا؛ ذلك أن فهْمنا مُشرَبٌ دائمًا بإرادتنا وعواطفنا وأمانينا، نحن نُصَدِّق ما نُفَضِّله، ونرى ما يَطيبُ لنا أن نراه، ونرفض كل ما هو غير تقليدي خوفًا من رأي العامة.
-
وإن بالعقل البشري مَيلًا إلى ممارسة نشاطه دون توقُّف: إنه كالحصان الهائج الذي لا يعرف كيف يقف، ولا يزال يَغُذُّ في السير وإن كان ذلك بغير جدوى؛ ولذا فمن غير المتصوَّر عنده أن يكون هناك حَدٌّ ما للعالَم أو نقطة نهاية؛ إذ يبدو له دائمًا — بما يشبه الضرورة — أن هناك شيئًا ما وراء ذلك الحد أو النهاية، وشأن العقل البشري مع الزمان كشأنه مع المكان، فليس بوسعه أن يتصوَّر كيف تدفَّقت الأبدية نُزُلًا إلى يومنا هذا … وثمة نفس الصعوبة فيما يتعلَّق بقابلية الخطوط للانقسام إلى ما لا نهاية والناجمة من انفلات فكرنا وعجزه عن التوقُّف، ويتجلَّى هذا الانفلات ويزداد إيذاءً في عملية اكتشاف العِلل؛ فرغم أن المبادئ القصوى (الأكثر عمومية) في الطبيعة ينبغي أن تكون وقائع محضة هي كما وُجِدَت عليه ولا يمكن أن تُحال إلى عِلَّة، إلا أن الفهْم البشري — في عجزه عن التوقُّف — ما يزال يتلمَّس شيئًا ما سابقًا في نظام الطبيعة، ثم في غمرة جهاده في المضي إلى ما هو أبعد إذا به يرتد إلى ما هو أقرب! (أقرب مأخذًا)؛ أعني العلل الغائبة التي هي أكثر ارتباطًا بطبيعة الإنسان منها بطبيعة الكون، والتي هي من أكبر مصادر الفساد في الفلسفة.٦ «إن الغائية مصدرها إنساني، نلاحظها في خبراتنا السلوكية، ونرتكب الخطأ حين نسقطها على الطبيعة.»٧ «ولا شك أن تأكيد بيكون لهذا الميل إلى تجاوز الذهن لذاته يُذَكِّر المرءَ بما سيقوله كانت kant — فيما بعدُ — عن ميل الذهن إلى تجاوز حدود التجربة والخوض في مسائل ميتافيزيقية لا ضابط لها، ولا دليل على صحتها أو بطلانها، فعمل بيكون في هذا الصدد هو نوع من نقد العقل؛ أعني نقدًا للعقل العلمي الذي كان سائدًا في عصره.»٨ وفي أواخر الكتاب الثاني (الإيجابي البنائي) من الأورجانون الجديد يقول بيكون: «… ولكن لما كان منطقي يوجِّه ويُرشِد الفهْم، حتى لا يقبض بكلَّابات العقل الصغيرة على تجريداتٍ محضةٍ ويتشبَّث بها، بل يخترق الطبيعة بالفعل ويكتشف خواص الأجسام وقواها وقوانينها المنقوشة في المادة؛ ومِن ثَمَّ فإن هذا العلم لا ينبُع من طبيعة العقل فقط بل من طبيعة الأشياء، فلا عجب أن يمتلئ بإيضاحات وملاحظات مبثوثة في تضاعيفه وتجارب في الطبيعة، كأمثلة على الفن الذي أُعلِّمه.»٩
-
يميل الفهْم البشري بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرًا (ثابتًا) وواقعًا فيما هو عابرٌ ومتغير؛ غير أنه أفضل لنا أن نُشرِّح الطبيعةَ إلى أجزاء من أن نجرِّدها (وهذا ما فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدُّمًا أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة).
(٢) أوهام الكهف
مَنْ رآك مِن حيث هو فإنما رأى نفسَه.
ويبدو واضحًا لزُقاقنا أن الحقيقي والسَّوي أشياءُ مِن صنعهِ هو ذاته، ومن صنْع منازلهِ وأكوامِ قُمامته.
(٣) أوهام السوق
لا مكان للحرية إلا خارج اللغة، غير أن اللغة البشرية — لسوء الحظ — لا خارجَ لها.
كان بيكون إذًا مستبقًا لتيارٍ كاملٍ في الفلسفة: هو التيار التحليلي الذي جعل الفلسفة بِرُمَّتها تحليلًا للغة يكشف غموضها والتباسها، ويضع يده على مكامن الخطأ في استخدامها، ولكن بيكون لا يُغرِق في ذلك (إغراقَ المدرسة التحليلية) بحيث يسوخ في مشكلات لفظية فتفوته المشكلات الحقيقية.