الشُّعُوبِيَّة
النزعة الأولى:
تذهب إلى أن العرب خير الأمم، ولهم في ذلك حجج، نجملها فيما يأتي:- (١)
أنهم عاشوا حياتهم متمتعين باستقلالهم؛ فهم في جاهليتهم جاوروا دولتي الفرس والروم، وكلتاهما دوّخ البلاد وأسس ملكًا عظيمًا، وكلتاهما كان له من الجند والعدد والعدة ما لا يُحصى كثرة، ومع هذا فلم تجرؤ كلتاهما أن تمس استقلال العرب، وأن تطأ ديارهم، تملَّقوهم، واستعانوا باللَّخميين في الحيرة، والغسانيين في الشام، ومنحوهم المال، وقدموا لهم الديار ليحموهم من غارات عرب الجزيرة عليهم؛ فهم كانوا أحوج إلى العرب من حاجة العرب إليهم!
ولم يشأ أصحاب هذه النزعة أن يعتقدوا أن زهد الفرس والروم في أرضهم، وعدم إقدامهم على إخضاعهم منشؤه أن أرض الجزيرة ليس فيها من الخيرات والثروة ما يطمِع، بل اعتقدوا أن انصراف الفرس والروم عنهم إنما كان لشجاعة العرب، وإقدامهم وصبرهم، وأن لهم من أرضهم مَنعة تجعل حربهم حرب عصابات، لا يستطيع الجيش المنظم أن يجاريهم في أشكال حروبهم، ولا أن يقف أمامهم. وأما في إسلامهم؛ فقد حافظوا على استقلالهم، بل أضاعوا استقلال الفرس، وأخضعوهم لحكمهم، وكسروا جيوش الروم، وطردوهم من أملاكهم!
- (٢) أن لهم صفات خُلقية امتازوا بها؛ فهم أكرم الناس لضيف، وأنجدهم لمستصرخ، يعقر أحدهم ناقته التي لا يملك سواها للطارق ينزل به، وهو ممسك بعِنان فرسه؛ كّلما سمع هيعة١ طار إليها! وهم أوفى الأمم؛ يتكلم أحدهم الكلمة فتكون صكًّا، ويلجأ إليه لاجئ فيفي بحق جواره، حتى ليحتكم فيه جارُه حكم الصبي في أهله، وهم على ذلك قادة الأمم في البيان، وحسن التعبير، وهم معدن الشعر، ولهم في حسن البديهة، وقول الأمثال السائرة، وإبداع الكلام ما ليس لغيرهم، وهم أحفظ الناس لأنسابهم فليس أحد منهم إلا يعرف نسبه، ويسمي آباءه، وإذا انتسب أحدهم إلى غير آبائه عرفوا أنه دعِي؛ حفظوا أنسابهم، وبنوا على ذلك أحسابهم!
- (٣)
بينهم نشأ الإسلام، ورسول الله من أنفسهم، وهم الناشرون له بين الأمم، والداعون إليه، والحامون لدعوته، فكل من أسلم من العجم ففي عنقه مِنّة من العرب لا تقدر؛ هم الذين أنقذوه من دينه القديم، وهم الذين أخرجوه من الشرك إلى التوحيد، وهم الذين اصطلوا نار الحروب لهدايته، وهم الذين قتلوا أنفسهم لحياته.
وهذه النزعة كان يمثّلها أشراف العرب وبَدوهم، كما كان يمثلها قوم من العجم أسلموا إسلامًا عميقًا، وأحبوا رسول الله ﷺ من أعماق نفوسهم، وأحبوا العرب؛ لأن النبي منهم، ولأنهم أسلموا على أيديهم.
النزعة الثانية:
وحجة هؤلاء أن في كل أمة الطيب والخبيث، ولكل أمة محاسنها ومساوئها، وخير ميزان توزن به الأعمال الدين أو الخلق. ولسنا نستطيع ذلك في الأمم إنما نستطيعه في الأفراد؛ ففرد خير من فرد بدينه أو بخلقه، ولا شيء غير ذلك، وهذا الصنف من الناس يسمون «أهل التسوية»؛ أي الذين يسوون بين الأمم، ولا يجعلون فضلًا لأمة على أخرى، ويمثلهم أكثر المتدينين والعلماء من العرب والعجم؛ لأن روح الإسلام وقواعده تؤيد هذا المذهب.
النزعة الثالثة:
- (١)
أن العرب ليس لها أي ميزة، على حين أن كل أمة لها ميزة تفخر بها؛ فالرومان تفتخر بعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، وعظيم مدنيتها. والهند تفخر بحكمتها وطبها، وكثرة عددها وأنهارها وثمارها. والصين ُتزهى بصناعاتها، وفنونها الجميلة، وما إلى ذلك. ولا نجد العرب تمتاز بشيء يضارع ما ذكرنا؛ جدب في أرض، وبداوة في عيش، كانوا في جاهليتهم يقتلون أولادهم من الفقر، ولا يستقر لهم حال من الغزو والسلب، ويفعلون المكرمة الصغيرة كإطعام جائع، وإغاثة ملهوف فيملئون الدنيا بها شعرًا ونثرًا، ويتيهون بذلك فخرًا.
- (٢)
قالوا: بم يكون الفخر؟ أبالملك؟ فأين ملك العرب من ملك الفراعنة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة؟! أو من سليمان الذي أوتي من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده؟! أو من ملك الإسكندر، وقد بلغ مطْلِع الشمس ومغربها! أم بالنبوة؟ فجميع الأنبياء من غير العرب ما خلا أربعة؛ هودًا وصالحًا وإسماعيل ومحمدًا. أم بالصناعة والعلم؟ فالعرب أضعف الأمم في ذلك شأنًا، وأعقمهم يدًا، وأجدبهم عقلًا. أم بالشعر؟ فلم ينفرد العرب به، فلليونان شعر موزون مقفى، وللرومان شعر كذلك. أم الخطب والبيان؟ فللفرس واليونان والرومان خطب محبرة، وبيان ساحر، فما الذي يفخرون به بعد ذلك؟ يفخرون بالكرم والوفاء؟ وقولهم في ذلك أطول وأعرض من فعلهم، ويفتخرون بالأنساب وقد كانوا في جاهليتهم لا يتقيدون بنوع الزواج المعروف في الإسلام، بل كان من أنواع زواجهم شيوع المرأة بين عدة رجال، وكانوا في حروبهم يسبي بعضهم نساء بعض، ويستمتع بها من غير زواج، فكيف يدري أحدهم أباه!
- (٣)
وإن فخرتم بالإسلام، فليس الإسلام دين العرب وحدهم، بل هو دين الناس. والإسلام نفسه حارب نزعتكم، فهدم العصبية الجاهلية، وجعل مقياس الشرف التقوى، فالدين بيننا وبينكم، والدنيا نحن نحظى بها وأعرف بمزاياها، وأكثر تفننًا في شئونها.
ويمثل هذا الصنف — ممن يحقرون العرب، ويضعون من شأنهم ويسودون كل أمة عليهم — من ظلوا على دينهم القديم، أو أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، أوغلبت عليهم النزعة الوطنية، فكرهوا من العرب أنهم أزالوا ملكهم، وأضاعوا استقلالهم.
هذه هي النزعات الثلاث التي كانت في ذلك العصر، وعلى هذا النحو كانوا يتجادلون. وقد أُطلق على أصحاب النزعتين الأخيرتين اسم «الشعوبية»، وكان أحق الناس بهذا الاسم الطائفة الثانية؛ لأنهم يقولون «بالشعوب»، أي يقولون بأنه لا فرق بين الشعوب من عرب وغيرهم في الشرف والخسة، فكان أمامهم أن يتسموا باسم مشتق من «المساواة»، أو باسم مأخوذ من الشعوب، يدل على أن الشعوب سواء، فاختاروا الثاني وسُمُّوا «الشعوبية». ولذلك يقول في العقد الفريد: «الشعوبية وهم أهل التسوية» ويقول في الصحاح: «الشعوبية فرقة لا تفضل العرب على العجم.» ولكن لا نلبث أن نراهم أطلقوا هذا الاسم على الصنف الثالث أيضا؛ فلو قرأنا ما كتب الجاحظ، وصاحب العقد وغيرهما، وجدنا أنهم انساقوا في تسمية المعادين للعرب «بالشعوبية». والظاهر أن تسميتهم بهذا الاسم تأخرت عن تسمية أهل التسوية به، كما تأخرت الفرقة الثالثة عن الفرقة الثانية تاريخيًّا، فطبيعي — وقد كان العرب متغلبين في العصر الأموي، وكانت النزعة الأولى على أشدها وقوتها وسلطانها — أن يبدأ الموالي فيقولون بالمساواة فقط، وكل أمنيتهم أن يظفروا بذلك، حتى إذا اشتد الجدل، وأحس الموالي بقوتهم وسلطانهم أيام الرشيد والمأمون؛ ظهرت النزعة الثالثة تضع من شأن العرب، وترفع من غيرهم؛ فانسحب اسم «الشعوبية» عليهم، وصار يطلق على أصحاب النزعتين معًا، بل حتى صار أكثر ما يطلق على الصنف الثالث، قال في اللسان: «والشعوبي هو الذي يصغر شأن العرب، ولا يرى لهم فضلًا على غيرهم.»
يستنتج مما ذكرنا أن لفظ الشعوبية مأخوذ من الشعوب جمع شعب، وهو جيل الناس، وهو أوسع من القبيلة، وأشمل، قال الزبير بن بكَّار: «الشّعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة.» وعلى هذا فالعرب شعب، والفرس شعب، والروم شعب، وهكذا. وقد ذهب قوم إلى أنها مأخوذة من الشعوب في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتعَارَفُوا. وقالوا: إن المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل قبائل العرب، وهو تفسير في نظرنا غير صحيح، وأوضح دليل على ذلك أن العرب لم تكن تفهمه حين نزول الآية، فقد نقل إلينا الطبري آراء كثير من الصحابة والتابعين في تفسير الآية، وكلها تدور حول أن المراد بالشعوب النسب البعيد، أو البطون والقبائل دون ذلك. والذي يظهر أن تفسير الشعوب بالعجم، والقبائل بالعرب تفسير شعوبي وضعه أعجمي، واستطرد منه إلى القول بأن العجم أفضل من العرب؛ لأن الله قدمهم في الذكر. قال ابن قتيبة: «وبلغني أن رجلًا من العجم احتج بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ.. الآية. وقال: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والمُقدَّم أفضل من المؤخَّر. وقد كنت أرى أهل التسوية يحتجون بهذه الآية، وقد غلطوا من وجهين؛ أحدهما: أن تقديم الذكر لا يوجب تقديم الفضل. قال الله عز وجل: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فقدم الجن على الإنس، والإنس أفضل منها. والوجه الآخر: أن العجم ليست بالشعب أولى من العرب، وكل قوم كثروا وانشعبوا فقد صاروا شعوبا».
من الجائز أن يكون اسم الشعوبية أُخذ من الشعوب بعد أن فُسِّرت الآية بهذا التفسير، ولكنه يكون مرتكزًا على أساس خطأ. وأرجح أن اسم الشعوبية لم يستعمل إلا في العصر العباسي الأول، بدليلين ظنيين؛ الأول: ما أسلفنا، وهو أن هذه النزعة التي تحاول مساواة العرب أو تحقيرهم لم تتخذ شكلًا قويًّا واضحًا يصح أن يطلق على معتنقيه اسم إلا في هذا العصر، أما قبل ذلك فقد كانت نزعة خفية لا تستطيع الظهور، وإذا ظهرت أُخمدت، والحاجة إلى الاسم إنما تكون بعد أن يتخذ المبدأ شكل عقيدة عامة أو حزب. الثاني: أننا لم نر من أطلق هذا الاسم على هذه النزعة في العصر الأموي، نعم إن الأصفهاني في الأغاني قال: إن إسماعيل بن يسار كان شعوبيًّا، ولكن من الواضح أن الأصفهاني (وهو عباسي) سمى إسماعيل بالاسم الذي يستحقه لما رفَع شأن العجم، وتغنَّى في ذلك بشعره أمام هشام بن عبد الملك، وليس المعنى أن إسماعيل بن يسار عُرف بذلك الاسم في عصره، وذلك كما عدوا سَلمان الفارسي متصوفًا، مع أن قائلًا لم يقل بأن اسم الصوفية عُرف في عهد سلمان. كذلك روي عن مسروق «أن رجلًا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية، فأمر عمر ألا تؤخذ منه.» ومسروق تابعي كان في العصر الأموي، وقد فسر ابن الأثير الشعوب في هذا القول بالعجم، قال في اللسان: «ويجوز أن يكون جمع الشعوبي، وهو الذي يصغر شأن العرب، كقولهم اليهود والمجوس في جمع اليهودي والمجوسي.» ونحن نستبعد التفسير الثاني؛ لأنه صادر من متأخرين، وقد فسروه بما عرفوه بعد عصر مسروق، والذي نراه: أن مسروقًا أراد أن رجلًا من الشعوب الأخرى غير العرب أسلم، وإذن لا يكون فيه دليل.
وقد يُستأنس — على ما نقول — بأن أكثر أسماء المذاهب التي وضعت في صدر الدولة الأموية لم تكن فيها ياء بالنسبة؛ كالخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة، ولم تؤلف هذه النسبة إلا في آخر العهد الأموي، أو صدر العصر العباسي؛ كالجهمية، والقدرية، ثم الراوندية، والخرمية، والشعوبية، وأقدم ما وصل إلينا من الكتب التي استعملت لفظ الشعوبية كتاب البيان والتبيين للجاحظ.
- (١)
أن دعاة الشعوبية بدءوا دعوتهم مستندين على تعاليم الإسلام نفسه؛ فهو لا يفضل شعبًا على شعب، والعقوبة أو المثوبة عنده إنما وضعت على الأعمال لا على الأجناس، وقد يكون العبد الرقيق والنبطي الذليل عند الله في أعلى عِلِّيين، وسيده المكاثر بأهله وولده وماله أسفلَ سافلين، ثم تدرجوا من ذلك إلى تحقير العرب وشئونهم، وبيان ميزة الأمم الأخرى عليهم، وساعدهم على ذلك ما كان للفرس من نفوذ ظاهر في الدولة العباسية.
- (٢)
أن الشعوبية لم تكن عقيدة محدودة التعاليم، لها شعائر ظاهرة معينة كما نقول في المذاهب الدينية، فإنا نستطيع أن نقول: إن هذا شافعي، وهذا حنفي، فيمكننا أن نحدد وجوه الخلاف، ونبين الفروق في الشعائر، كما نستطيع أن نقول إن هذا من أهل السنة والجماعة، وهذا معتزلي؛ فندرك ذلك، ولكنا لا نستطيع أن نفعل ذلك في الشعوبية؛ لأنها نزعة أكثر منها عقيدة، فهي أشبه بالأرستقراطية، والديمقراطية، بل هي في الحقيقة نوع من الديمقراطية يحارب أرستقراطية العرب؛ لذلك لا نستطيع أن نحصر معتنقيها؛ فهم في كل بلد، وفي كل قطر، ومن كل جنس، كما لا نستطيع اليوم أن نحصي من ينزعون إلى الديموقراطية، أو الاشتراكية.
- (٣)
مما ساعد على هذه النزعة الشعوبية أنها تساند النزعة الوطنية، والعصبية الدينية؛ فالعرب أزالوا استقلال فارس، وحكموا مصر والشام والمغرب وأهلها ليسوا عربًا، فاستتبع ذلك أن كثيرًا من الفرس كانوا يحِنُّون إلى ملكهم واستقلالهم، وكثير من نصارى الشام ومصر كانوا يكرهون العرب المسلمين الذين أجلوا الروم النصارى عن بلادهم، ويتمنون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وإن كان لا بد أن يحكموا فمن أهل دينهم.
نعم، إن من دخل في الإسلام من الفرس وأهل مصر والشام والأندلس كانوا أقل حدة في هذه النزعة الوطنية، ولكن لم يكن كلهم قد دخل الإسلام إلى أعماق نفوسهم، وتملك مشاعرهم إلى حد أن تغلِب النزعة الدينية النزعة الوطنية.
- (٤) يمكن أن نستنتج مما تقدم: أن الشعوبيين كانوا أصنافًا مختلفة؛ منهم فرس، ومنهم نبط، ومنهم قبط، ومنهم أندلسيون. وقد صبغت شعوبية كل صنف من هؤلاء صبغة خاصة؛ فالفرس صُبغت صبغة وطنية تدعو إلى الاستقلال، واتخذت في بعض الأحيان شكل زندقة وإلحاد، والنبط ظهرت في شكل عصبية للأرض وزراعتها، وتفضيل معيشة الحرث والزرع على الصحراء ومعيشتها، والقبط ثاروا ثورات مختلفة على العرب، وأرادوا طردهم من بلادهم، وكانت آخر ثورة كبيرة في عهد المأمون، فلما هزموا لجئوا إلى الكيد «بأعمال الحيلة، واستعمال المكر، وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج.»٩ وفي الأندلس ظهر ابن غرسية، ووضع رسالته في الشعوبية، ورد عليه كثير من العلماء.
- (٥) هذه الشعوبية كانت درجات مختلفة تبتدئ معتدلة هادئة، وتنتهي متطرفة عنيفة، فنرى قومًا معتدلين مالوا إلى تسوية العرب بغيرهم كما رأيت، وآخرين حقروا من شأنهم، وسلبوهم كل مزية، كما نرى قومًا فرقوا بين العرب والإسلام، فهاجموا العرب من حيث هم أمة، ولم يعرضوا للإسلام بمكروه، بل صرحوا بأن الإسلام دين الناس جميعًا لا العرب وحدهم، وكثير ممن حكينا قولهم في ذم العرب كانوا من هذا الصنف، بل يصح لنا أن نعد ابن خلدون شعوبيًّا بهذا المعنى؛ فقد حكينا ملخص رأيه في العرب في الجزء الأول من «فجر الإسلام»،١٠ وهو رأي في أشد العنف والقسوة على العرب وخصائصهم، قلّ أن نرى شعوبيًّا متطرفًا وصل إلى ما وصل إليه في صراحته وشدته، ولكنه في رأينا كان مسلمًا حقًّا حر التفكير في حدود الدين، على حين أنا نرى قومًا آخرين لم يفرقوا بين العرب والإسلام، وأدتهم كراهيتهم للعرب إلى كراهيتهم لكل ما جاء عنهم، ومن ذلك الدين، وقد حكى الجاحظ عن قوم من هؤلاء، فقال: «وربما كانت العداوة من جهة العصبية؛ فإن عامة من ارتاب بالإسلام إنما جاءه ذلك من الشعوبية، فإذا أبغض شيئًا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام؛ إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السلف.»١١ وقد دعت هذه النزعة قومًا إلى أن يتبرموا من الشعوبية؛ إذ هي باب الإلحاد.
- (٦) نلحظ شيئًا من الوفاق بين بعض تعاليم الخوارج والشيعة والمعتزلة؛ فالخوارج كما علمت يرون أن الخليفة لا يشترط فيه أن يكون قرشيًّا، بل ولا عربيًّا، والذي أرى أن هذه النزعة منهم لا يقصد منها تحقير العرب، وإعلاء شأن غيرهم، وكيف يكون ذلك وأكثر الخوارج كانوا عربًا خلصًا، وهذا الرأي صدر عنهم حين الخلاف بين علي ومعاوية، والشعوبية لم تتكون بعد؛ فالظاهر أن رأيهم هذا صدر عن اجتهاد بحت، دعا إليه محض الرغبة في إصلاح أمور المسلمين. وأما المعتزلة فنرى المسعودي يقول: «وقد زعم جماعة من المتكلمين منهم ضِرار بن عمرو، وثُمَامة بن أشرس، وعمرو بن عثمان الجاحظ أن النبط خير من العرب.» وهؤلاء الثلاثة من رءوس المعتزلة. وأرى أن رأي المسعودي (وتبعه في ذلك «جولدزيهر»١٢) خطأ، ويظهر لي أن خطأهما جاء: من أن ضرارًا وأصحابه ذهبوا إلى أبعد ما ذهب إليه الخوارج، فلم يقتصروا على أن يقولوا: إن الخلافة لا يلزم أن تكون في قريش ولا في العرب، بل قالوا: إن غير العربي ولو نبطيًّا أولى من القرشي؛ لأنه يسهل خلعه إذا جار وظلم. ودليلنا على ذلك ما جاء في شرح النووي على مسلم: «ولا اعتداد بسخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من الهوان خلعه إن عرض منه أمر.»١٣ وقد فهم الفاهمون من هذا أن ضرارًا وصحبه يفضلون النبطي على العربي، وهو فهم غير صحيح بل هو العكس، يرمي في وضوح إلى القول بأن العربي أشرف، وأن من المصلحة أن نولي غير المعتز بعصبيته ليسهل خلعه، وذكر النبطي على أنه مثل في الخسة! والجاحظ — بوجه خاص — من الصعب عده شعوبيًّا؛ فقد انبرى في كتابه «البيان والتبيين» للرد على مطاعن الشعوبية، وسفّه رأيهم، بما يدل على إخلاص فيما يقول، نعم إنه ألف رسالة في فضل الموالي، وعد مناقبهم، ولكنه ذكر ذلك على لسانهم، وقد صرح بأنه ألف هذه الرسالة أيام المعتصم جالب الأتراك، وذكر أنه إنما أّلفها لا ليفضل بها بعض الجنود على بعض: «وقد كانت جند الخلافة إذ ذاك على خمسة أقسام؛ خراساني، وتركي، ومولى، وعربي، وبنوي.»١٤ وإنما ألفها ليؤلف بين قلوبهم إن كانت مختلفة، وليزِيد في الألفة إن كانت مؤتلفة.١٥ وليحذّر من المنافقين يدسون الدسائس ليوغروا الصدور، ويفرقوا القلوب، ويقول: «إن كان لا يمكن ذكر مناقب الأتراك إلا بذكر مثالب سائر الأجناد؛ فترك ذكر الجميع أصوب، والإضراب عن هذا الكتاب أحزم.»١٦ وعلى الجملة؛ فقد صرح فيه «أنه يرمي إلى تعديد مناقب الترك، من غير أن يتعرض لذم غيرهم.» ولكنه لم يضبط قلمه، فجمح به أحيانًا إلى تفضيل الترك على غيرهم في بعض الأمور، لكن من العسير عد هذا القدر شعوبية.
على أن الجاحظ في نظرنا لم يكن يعبر عن رأيه في مدح الشيء وذمه، بل كان يذم الشيء ويمدحه إجابة لدعوة كبير، أو رغبة في إظهار مقدرته البيانية على تصوير الشيء بصورتين متباينتين، فإن نحن اعتمدنا على القرائن فما في كتاب البيان والتبيين أدلُّ على نفسه، ولذلك نرجح أنه ليس شعوبيًّا.
وأما التشيع فقد كان عُش الشعوبية الذي يأوون إليه، وستارهم الذي يستترون به، وسيأتي طرف من ذلك عند الكلام في الشيعة.
- (٧) يذهب ابن قتيبة إلى أن الذين اعتنقوا الشعوبية هم سفلة الناس وغوغاؤهم فيقول: «ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة، ولا أشد نصبًا للعرب من السفلة، والحشوة، وأوباش النبط، وأبناء أكرةِ القرى. فأما أشارف العجم، وذوو الأخطار منهم، وأهل الديانة، فيعرفون ما لهم وما عليهم، ويرون الشرف نسبًا ثابتًا.» ولكن يظهر أنه اقتصر على من يتظاهر بالشعوبية، وهؤلاء كانوا كما ذكر ابن قتيبة. أما الأشراف فكانت حركتهم سِرية خفية، لا يجرءون أن يظهروا بها لكبر مراكزهم، وخشية من الشك فيهم عند الخلفاء، فهم يؤيدون من وراء حجاب هذه الحركة، فلا يراها ابن قتيبة وأمثاله. وقد ذكر ابن قتيبة أن ممن ذهب مذهب الشعوبية «قومًا تحلوا بحلية الأدب، فجالسوا الأشراف، وقومًا اتسموا بِميسم الكتابة فقربوا من السلطان، فدخلتهم الأنفة لآدابهم، والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم، وخبث عناصرهم، فمنهم من ألحق نفسه بأشراف العجم، واعتزى إلى ملوكهم وأساورتهم، ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه، ونسب واسع لامدافِع عنه، ومنهم من أقام على خساسته ينافح عن لؤمه، ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف، ويظهر بغض العرب بتنقصها، ويستفرغ مجهوده في مشاتمها، وإظهار مثالبها، وتحريف الكلم في مناقبها، وبلسانها نطق، وبهممها أنف، وبآدابها تَسلَّح عليها، فإن هو عرف خيرًا ستره، وإن ظهر حقره، وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها، وإن سمع سوءًا نشره، وإن لم يجده تَخَرّصه!»١٧
فالحق أن الشعوبية لم تكن في السفلة وحدهم، وهؤلاء السفلة لم يكونوا الآخذين بزمامها، وإنما كان معهم كثير من الطبقة المتعلمة الراقية، وإن لم يرق نسبها إلى الملوك والأشراف، وهؤلاء هم الذين كان لهم الأثر الشعوبي في الأدب والعلم — كما سترى — من وراء هؤلاء وهؤلاء طبقة بلغت أعلى المناصب في الدولة، فكانوا يمدونهم سرًّا بجاههم وبمالهم، فقد أّلف عِلان الشعوبي كتابًا في مثالب العرب؛ فأجازه طاهر بن الحسين عليه بثلاثين ألًفا …
وإذ كان هؤلاء العقلاء الماكرون هم رؤساء هذه الدعوة كانت حربهم علمية أدبية دينية أكثر منها ثورات ظاهرة.
•••
بلغت هذه الحركة أَوْجَها في القرن الثالث الهجري، وساعد على ذلك الخلفاء العباسيون، تعصبوا للإسلام، ولم يتعصبوا كثيرًا للعربية؛ فحاربوا الزندقة، ولم يحاربوا — في شدة — النزعة العجمية، وذلك طبيعي لأن أكثرهم كما أبنّا مولَّدون. ولقي العرب من العجم عنتًا شديدًا، فالوزراء أكثرهم عجم، والدسائس تدس في القصور لإضعاف شأن العرب، وإذا ثار العرب في جزيرتهم أو في الأطراف نكل بهم قواد العجم وجيوشهم أشد تنكيل، وفي أعماق نفوسهم شعور بأنهم ينتقمون منهم من يوم القادسية، ولم يكن شعور الترك الذين جلبهم المعتصم بأحسن حالًا من شعور الفرس، وكثر الشعر في هذا القرن والذي بعده من الأعاجم الذين تعلموا العربية، يفخرون بنسبهم، ويعتزون بقومهم، فافتتح ذلك بشَّار بن برد كما رأيت، وتبعه دِيك الجِن الشاعر المشهور. قال في الأغاني: «وكان شديد التشبب والعصبية على العرب، يقول: ما للعرب علينا فضل، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم عليه السلام، وأسلمنا كما أسلموا، ومن قتل منهم رجلًا منا قتل به، ولم نجد الله عز وجل فضلهم علينا إذا جمعنا الدين!»
ويقول قائلهم:
وكان «الخريمي» الشاعر المشهور يكثر في شعره من الاعتزاز بالنسب الفارسي والتحقير من شأن العرب؛ فيقول:
ويقول:
ويقول:
ويقول المتوكلي، وكان من ندماء المتوكل:
•••
وقد شعر العرب بخطورة موقفهم، ولكن لم يستطيعوا دفع الشر عنهم، ونجد في كثير من الشعر في ذلك العصر والذي بعده ظلا من الحسرة والألم، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في الفصل السابق، ونرى هذا المعنى واضحًا بعد في شعر المتنبي، فيألم وقد زار شعب بَوَّان بفارس من ضعف اللغة العربية بها فيقول:
ويقول:
ويقول في قصيدة أخرى:
•••
والآن نعرض للأشكال المختلفة التي حارب بها الشعوبية العرب:
فقد عمدوا إلى مزية العرب الظاهرة التي يعتزون بها، وهي البلاغة، وقوة الخطابة، وحضور البديهة، فأخذوا ينتقصونهم في ذلك من نواحٍ مختلفة:
وكتب المثالب هذه — على ما يظهر — عمدت إلى ما صدر عن كل قبيلة من بيت تعير به، أو عمل تؤاخذ عليه، أو جريمة ارتكبها أحد أفرادها فقيدتها وأذاعتها؛ للتشهير بالعرب جميعًا. كما أن كتب مناقب العجم ومفاخرها عمدت إلى ما استُحسن من عادات الفرس، وعظمة ملوكها، ونظام جيوشها، وسياسة ملكها فشادت به. ولم يصلنا شيء من هذه الكتب — على ما أعلم — كما لم يصلنا أي كتاب أُلف في بيان دعوى الشعوبية، وإنما وصل إلينا نتف من أقوالهم وآرائهم، أهمها ما ورد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وما ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه، وما نقله ابن قتيبة في كتابه «العرب».
والظاهر أن أكبر سبب في ضياع هذه الكتب أن المسلمين عدوا هذه النزعة الشعوبية نزعة ضد الإسلام، فتحرجوا من نقل الكتب المؤلفة فيها، وتقربوا إلى الله بإعدامها، وبرِئ المخلصون من الميل إليها، كما فعل الزمخشري في أول كتابه المَفصل؛ فقد حمد الله «إذ جبله على الغضب للعرب، والعصبية لهم، وبرأه من الانضواء إلى لفيف الشعوبية».
والحكاية كلها على ما يظهر من وضع الشعوبية، أو من وضع الهيثم بن عدي نفسه، يرمي واضعها إلى ذكر مثالب القبائل العربية.
والنوع الثاني: نسبة الشيء إلى غير قائله، وهو طريق سلكوه لإفساد الأدب العربي، وإضاعة معالمه؛ حتى لا يكون للعرب أدب موثوق به، وتلك أكبر بغية لهم، ومن الأمثلة على ذلك: أن يقول أبو عبيدة البيتين الآتيين:
ومما نأسف له أن الشعوبية أزهرت في عصر تدوين العلوم، وكلُّ حركة علمية كانت بعد إنما أُسست على ما دُوّن في هذا العصر العباسي الشعوبي، ولم يكن لنا علم مدون قبل ذلك، وهذا يجعل استكشاف الآثار الشعوبية صعبًا غامضًا، فلو كان لدينا تاريخ مدون في العصر الأموي لفهمنا كيف تلاعب به الشعوبيون في العصر العباسي، ولو كان لدينا تاريخ للفرس موثوق به دون أثناء حكم الفرس؛ لأدركنا في وضوح كيف جمّله الشعوبيون. ولو كان العرب في العصر الإسلامي الأول وضعوا كتبًا في الأنساب ومناقبها ومثالبها ووصلت إلينا لعرفنا ما اختلقه الشعوبيون عليهم لإفساد أنسابهم، والحط من شأنهم، وهكذا في كل العلوم. ولكن قدر أن يقترن تدوين العلم بسطوة الشعوبية، فكان ذلك من سوء حظ العلم، ولذلك أجهد العلماء أنفسهم في تَعرف أسرار الشعوبية، وخفاياها وآثارها في العلم، وما يزال المدى أمامهم فسيحًا، والبحث في مهده.
ومع هذا فقد كان للشعوبية جانب حسن؛ فقد أتت الشعوبية وكل شيء للعرب يمجد، من نسب عربي، ولغة عربية، ورأيٍ عربي، وعاداتٍ عربية، فأخذ الشعوبيون يعرِضون هذا للنقد والتحليل؛ عرضوا أنساب العرب للنَّقد، كالذي فعل أبو عبيدة مع غلوه، فكان يرد على قوم ينتسبون للعرب، َفيبين أن النسبة كاذبة مختلقة، وفي كتاب الأغاني عن أبي عبيدة من هذا الشيء الكثير، وعرضوا اللغة العربية للنقد؛ فسيبويه في كتابه النحو يخَطِّئ العرب في بعض أقوالهم، ويدعي العرب أن البلاغة ليست إلا فيهم، فيرد الشعوبية بأن هناك أممًا أخرى لها بلاغة ولها خطب، ولها حكم لا تقل عما للعرب، وينبهون على أن عادات العرب ليست المثل الأعلى للعادات؛ ففيها الحقير المرذول، والجيد المحمود، كل هذا النقد وأمثاله استتبع نتيجة جيدة من بعض الوجوه، وهي: عرض ما للأمم الأخرى من كل ذلك لتكون المقارنة أتم، فتُعرض الكلمات الفارسية بجانب الكلمات العربية، والحكم الأجنبية والبلاغة الأجنبية بجانب البلاغة والحكم العربية، والنظام الفارسي والأدب الأجنبي بجانب النظام والأدب العربيين، ونحو ذلك، وهذا من غير شك مفيد للعلم والعقل.
نعم، لو وقفت الشعوبية عند هذا الحد فلم يتهجوا على العرب بقلب محاسنهم مساوئ، والتشهير بهم بالحق حينًا، وبالباطل أحيانًا، ولم يحاولوا إفساد الدين بالزندقة، وإفساد العلم بالأكاذيب، ولو وقفوا عند ذلك لأحسنوا، ولكنهم أفرطوا فخسروا كثيرًا وكرِهوا ومُقِتوا كثيرًا.