الرقيق وأثره في الثقافة
قبل أن نتكلم في الرقيق وأثره، يجب أن نبين في كلمة موجزة موقفه القانوني في المملكة الإسلامية، وبعبارة أخرى ما كان يطبق من الأحكام الإسلامية عليه.
وإذا كانت الحروب في صدر الإسلام تكاد تكون دائمة، وكان النصر للمسلمين يكاد يكون متلاحقًا مطردًا، والبلاد المفتوحة والأمم المغلوبة لا تكاد تعد؛ أمكننا أن نتصور كيف كان الرقيق لا يحصى كثرة، وكيف كان مختلفًا متنوعًا تنوع الأمم التي اشتبك معها المسلمون في قتال. وإذا كنا أبنا كيف يوزع الرقيق؛ فهمنا كيف انتشر بين المحاربين، ودخل في بيت كل منهم، وإذا كان الرقيق يعد مالًا، وتجري عليه كل العقود المالية من بيع وشراء وإجارة ورهن؛ أمكننا أن نفهم أنه لم يقتصر على المحاربين، بل كان في متناول أيدي الناس جميعًا، وكان له سوق يشتري منه من شاء، ويستخدمه كما شاء!
•••
هذا من الناحية المالية، وأما علاقة الرجال بالإماء من الناحية الجنسية فنجملها فيما يأتي:
هناك سببان يحلان المرأة للرجل؛ عقد الزواج، ومِلك اليمين؛ فأما عقد الزواج فلا يحل للرجل الحر أن يتزوج أكثر من أربع، أعني أنه لا يحل له أن يكون على ذمته في وقت واحد أكثر من أربع زوجات، ولكن يحل له أن يطلق منهن، ويتزوج غيرهن بعد انقضاء عدتهن، هذا هو قول أكثر الفقهاء، وإن كان لغيرهم أقوال أخرى لا محل لها هنا، وهذا الحكم عام، سواء كانت الزوجات الأربع حرائر أو إماء، وكل الذي ذكره الفقهاء في هذا الموضوع أنه لا يحل أن يعقد الرجل عقد زواج على أمةٍ إذا كان متزوجًا حرة، ولكن العكس يصح، فيجوز له أن يتزوج حرة على أمة، وقد لوحظ في ذلك أن زواج الأمة بعد زواج الحرة امتهان للحرة، وجرح لشرفها وعزتها.
من أجل ذلك كان البيت الإسلامي فيه — غالبًا — زوجة أو زوجات، وكان بجانبهن عدد من الجواري قد تسراهن رب البيت.
وكثيرًا ما كان يقع الخلاف بين الحرائر والجواري السراري، وذلك طبيعي، حتى ذهب بعض اللغوييين إلى أن تسميتهن بالسراري كان سببه الغيرة؛ نقل اللسان عن بعضهم أن السرية الأمة التي يتسراها صاحبها منسوبة على غير قياس إلى السر وهو الإخفاء؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يسرها ويسترها عن حرته، وكثيرًا ما يَنسل الرجل الواحد الحرائر والجواري فيفخر أولاد الحرائر على أولاد الجواري، ويعتزون بأنه لم يجر في عروقهم دم رقيقٍ، كالذي كان بين الأمين والمأمون، فكلاهما ولد الرشيد، ولكن أم الأمين زوجة حرة، وأم المأمون جارية سررية، وقد ضربنا قبلُ أمثالًا من هذا القبيل ببيوت الخلفاء ونسلهم المتنوع، وكانت بيوت غيرهم من الرعية مثل بيوتهم في هذا الباب.
•••
وهذا الرقيق الذي أبنّا من رجال ونساء لا يسَترِد حريته إلا بأن يعتَِقه مالكه. وقد عقد الفقهاء بابًا طويلًا للعتق، أبانوا فيه الألفاظ التي يكون بها العتق، وما يعرض له من أشكال، والذي يهمنا منه الآن: كلمة في «أم الولد»؛ ذلك أن الأمة إذا ولدت من سيدها سميت «أم ولَد»، وقد رفعوها فوق منزلة الجارية التي لم تلد منه، ومنحوها حقوقًا لم تنلها غيرها، أهمها: أنه لا يصح لمالكها (وهو مستولدها) أن يبيعها، ولا أن يهبها. وعلى ذلك جرى جمهور الفقهاء، ولكنها تبقى حِلًّا لمالكها حتى يموت، فإذا مات صارت حرة، تجري عليها كل أحكام الحرائر، أما الأولاد الذين جاءوا منها فأحرار.
هذا هو الوضع القانوني لمسألة الرقيق، والنظام الذي كان يسود في عصرنا الذي نؤرخه، وهو قدر لا بد منه لفهم النتائج الأدبية والعلمية والاجتماعية.
وقد كانت المملكة البيزنطية تحرم على من ليس نصرانيًّا أن يتملك رقيقًا نصرانيًّا، ولكن المسلمين أباحوا لليهود والنصارى أن يتملكوا الأرقاء، ولو كانوا مسلمين.
وقد سمي تاجر الرقيق «نَخَّاسًا»، وكان في الأصل يطلق على بائع الدواب، واشتهر في ذلك العصر كثير من النخاسين في بغداد، وسبب شهرتهم ما لهم من جوارٍ حسان يأوي إليهن الشعراء والأدباء، منهم بالكرخ نخاس يكنى «أبا عميرٍ»، كان له جوارٍ قيان لهن ظَرف، وكان من جواريه جارية تسمى «عبادة»، هواها عبد الله بن محمد البواب فيقول:
ومر «أبو دلامة» بنخَّاس يبيع الرقيق، فرأى عنده منهن من كل شيء حسن، فانصرف مهمومًا، فدخل إلى المهدي، فأنشده قصيدة يفضل فيها النخاسة على الشعر مطلعها:
وكان على تجار الرقيق عامل من عمال الحكومة يشرف على أعمالهم، ويراقب تجارتهم يسمى «قيم الرقيق».
وقد كان لكل نوع من أنواع الرقيق ميزات خاصة يعرف بها؛ «فالهنديات عرفن بالوداعة، ولين الجانب، والهدوء، وحسن رعاية الطفل، ولكن سرعان ما يعرض لهن الذبول. وامتاز الرقيق من رجال الهنود بتدبير المنزل، والمهارة في الصناعات اليدوية، ولكنه عرضة للموت الفجائي في ريعان شبابه، وأغلب ما يجلب الرقيق الهندي من «قندهار»، واشتهرت السنديات بالخصر النحيل، والشعر الطويل. واشتهرت مولدات المدينة (يعني الإماء اللاتي نشأن بالمدينة وربين فيها) بالدلال، والميل إلى السرور والفكَاهة والمجون، وبحسن الاستعداد للنبوغ في الغناء. وعرفت مولدات مكة بدقة المعصم والمفصل، والعيون الناعسة، والأمة البربرية (المغربية) لا تبارى في حسن الإنتاج، وهي لدماثة خلقها ولين عريكتها صالحة لأن تعود نفسها القيام بأي نوع من العمل، والمثل الأعلى للجارية كما قال أبو عثمان الدلال: أن تكون من أصل بربري، فارقت بلادها، وهي في التاسعة من عمرها، ومكثت ثلاث سنين في المدينة، ومثلها في مكة، ثم رحلت إلى العراق في السادسة عشرة من عمرها لتتثقف بثقافته، فإذا بيعت في الخامسة والعشرين كانت قد جمعت بين جودة الأصل، ودلالِ المدنيات، ورقة المكيات، وثقافة العراقيات.»
«والسودانيون كانوا يغمرون الأسواق، وقد عرفوا بقلة الثبات والإهمال، كما عرفوا بالميل إلى الضرب على الدف والرقص، وهم أحسن خلق الله بياض أسنان لكثرة لعابهم، ويعابون عادة بنَتن الإبط، وخشونة الملمس.»
«والحبشيات عُرفن بالضعف والترهل، والاستعداد لأمراض الصدر، وهن على العكس من السودانيات لا يحسن الغناء ولا الرقص، ولكنهن قويات الخلق، موضع للثقة، أهل للاعتماد عليهن.»
«والتركية بيضاء البشرة، على حظ عظيم من جمال وحياة، ولها عينان صغيرتان جذابتان، وهي في الغالب بدينة أميل إلى القصر، ولود، كريمة نظيفة تجيد الطهي، ولكن لا يوثق بها ولا يعتمد عليها.»
«والأمة الرومية بيضاء البشرة في حمرة، ناعمة الشعر زرقاء العينين، طيعة مستعدة للتشكيل بما يحيط بها من ظروف، مخلصة ثقة. والعبد الرومي يجيد تدبير المنزل، ويحب النظام، ويميل إلى القصد في الإنفاق، ويجيد الفنون الجميلة.»
وكان لبشار جارية سوداء يقول فيها:
وكان لأبي الشيص الشاعر جارية سوداء، وكان يتعشقها، وفيها يقول:
•••
دعاهم الشغف بالغناء إلى تعليمه الجواري للتمتع بغنائهن ومنظرهن معًا، وتعلُّم الغناء استتبع تعلم الأدب؛ لأن الناس في ذلك العصر كانوا يتغنون بالشعر العربي الفصيح، مثل شعرِ عمر بن أبي ربيعة، وبشار، ومسلم بن الوليد، وأبي العتاهية، والمغنية لا تحسن أن تغني هذه الأشعار إلا إذا حفظت كثيرًا من الشعر، وأجادت مخارج الحروف، واطلعت على كثير من الأدب.
بل رأينا أحاديث كثيرة عن مغنيات كن يغنين بما يخترعن من شعر وصوت، يقول أبو دلامة من شعر له:
ويقول المسعودي: «لما أفضت الخلافة إلى المتوكل أهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائة وصيف ووصيفة، وفي الهدية جارية يقال لها «محبوبة»، كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها، وعلّمها من صنوف العلم، وكانت تحسن كل ما يحسنه علماء الناس، فحسن موقعها من المتوكل.»
وقد كان إبراهيم الموصلي مغني الرشيد على ما يظهر، من أكثر الناس نشاطًا في تعليم الجواري وتثقيفهن، ومن أسبقهم في التوجيه إلى ذلك، يحدث ابنه فيقول: «لم يكن الناس يعلّمون الجارية الحسناء الغناء، وإنما كانوا يعلمونه الصفر والسود، وأول من علم الجواري المَثمنات أبي، فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ، ورفع من أقدارهن.» وفي ذلك يقول أبو عيينة الشاعر، وكان يهوى جارية يقال لها «أمان»، طلب مولاها فيها ثمنًا كبيرًا:
•••
نشر هؤلاء الجواري نوعًا من الثقافة كان لا بد منه في مثل مدنية العباسيين، وهو لا بد منه في كل مدنية، وأعني بذلك الفنون الجميلة، وما يتبعها من رقي في الذوق الفني؛ فقد كان بجانب الحركة العلمية في ذلك العصر حركة أخرى لا تقل عنها شأنًا، وهي الحركة الفنية من غناء وتصوير ورقص، والحق أن الناس شعروا إذ ذاك شعورًا قويًّا بالجمال، وتفنّن شعرائهم (وخاصة مسلم بن الوليد، وأبا نواس) في وصف الجمال والولوع به، وقراءته من غير ملل، كما قال أبو نواس:
وشعروا بجمال المعنى، كما شعروا بجمال الصورة؛ فأكثروا من القول في جمال الروح وجمال الحديث. فيقول بشار:
ويقول:
والحق إن الجواري كن أكبر عامل في نشر الشعور بالجمال، وما يتبعه من فنون جميلة، وأن الناس في العصر الذي نؤرخه لم يكتفوا بالجواري من ناحية جمالهن الخِْلقي، بل شغفوا بهن من ناحية الجمال الفني أيضًا، ليجمعوا بين الجمالين. كانوا يميلون إلى الغناء وإلى الرقص، وإلى التفنن في الملبس، وإلى غير ذلك من ضروب الفن، فأخذوا يعلّمون الجواري هذه الفنون، وسرعان ما تحول النبوغ فيها من الرجال إلى الجواري، وأخذ نوابغ المغنيين يلقِّنون جواريهم ألحانهم وأصواتَهم وطريقة غنائهم؛ فإبراهيم الموصلي يعلِّم جواريه فنه حتى يُحْسِنّه، وعبد الله بن طاهر كان يعلم الغناء علمًا تامًّا؛ فيصنع الأصوات يلقنها لجواريه، والمغنون ينقسمون إلى حزبين: حزب القديم، وحزب الجديد، فينقسم الجواري إلى قسمين تبعًا لمن أخذن الفن عنهم، وامتلأ كتاب الأغاني بتراجم الجواري المغنيات؛ أمثال عُريب ومتيم وبذل وذات الخال وفريدة وأمثالهن، وعقد الفصول الطوال في نوادرهن، وميزة كل منهن، ونوع تفوقهن.
والآن نذكر طرفًا من أنواع الفنون التي نشرنها:
فأول ذلك الغناء، وقد غمرن العراق بالغناء الجيد، وما يتبعه من لهو ومجون، وقد كان هؤلاء الجواري في هذا على نوعين؛ جوارٍ مغنيات للخاصة، فالخليفة له جوارٍ يغنينه، والأمراء والأغنياء كذلك، ثم هم يتهادون هذه الجواري حبًّا في التجدد، وفرارًا من الاقتصار على صوت واحد.
وهناك نوع آخر، وهو قيان عامة، وأكثر ما يكون أن نخاسًا يملكهن، فيعرضهن للغناء في محال يأوي إليها الفتيان لسماعهن، والإنفاق عليهن، ومن نماذج ذلك ما حكاه لنا صاحب الأغاني عن ابن رامِين؛ فقد كان له منزل بالكوفة، وله جوارٍ مغنيات أشهرهن اسمها «سلامة الزرقاء»، وكان أجلَّ مقين بالكوفة، يجتمع في بيته الفتيان للسماع والشراب، ويقولون فيه وفي قيناته الشعر. وممن كان يختلف إليه روح بن حاتم المهلبي، ومحمد بن الأشعث، ومعن بن زائدة، وابن المقفع، وأمثالهم يسمعون وينفقون عن سعة، وينشدون أشعار الغزل. ولما خرج ابن رامين حاجًّا بجواريه بكى الشعراء لخروجه، ووصفوا لوعتهم من فرقة مجلسه، كما وصفوا كثرة الناس الذين كانوا يغشون بيته؛ من ذلك قول أحدهم:
ويقول آخر:
ونوع آخر ظريف انتشر بينهم، وهو كتابة الأشعار الرقيقة والجمل الظريفة تطريزا على الأقمصة والأردية والأكمام ونحوها. قال الماوردي: رأيت جارية ونحن عند محمد بن عمرو بن مسعدة عليها قميص مكتوب في وشاحه:
وعلى طراز الرداء:
وقال: ورأيت جارية لبعض الهاشميين، يقال لها عريب، عليها قميص موشح بالذهب، مكتوب في وشاحه:
ونجح هؤلاء الجواري في إشْعارِ الناس بالظُّرف، والتزام حدوده، حتى أصبح للظرفاء عرف خاص في الزي والنظر، والطعام والشراب، وما إلى ذلك. وحتى أخذ «الوشَّاء» هذا العرف، ودونه قانونًا للظرفاء في كتابه «الموشى».
ولسنا نرجع الفضل في ذلك كله للجواري؛ فإن لمواليهم أيضًا أثرًا لا ينكر، فإبراهيم الموصلي وأمثاله من المغنين هم الذين علموا الجواري غناءهم، ولقنوهن أصواتهم، والطبقة الراقية هي التي أوحت إلى الجواري ضروب الظرافة، ولكن مما لا شك فيه أنه قد كان للجواري الفضل في نشر هذه الفنون الجميلة بين طبقات الشعب المختلفة؛ لأنهم كانوا أكثر ولوعًا بهن، وأشد تقليدًا لهن، وأميل للتخلق بما يستحسن.
وكان للجواري فضل آخر، وهو أنهن من أمم مختلفة كما رأيت؛ فهنديات، وتركيات، وروميات، وغير ذلك، وقد كان كل صنف يجلَب وقد تكونت عاداته أو كادت؛ فالروميات تحملن عادات قومهن في الغناء وضروب الظرافة، وهكذا بقية الأمم، ثم أتين المملكة الإسلامية فنشرن عاداتهن، ووقعت أبصارهن على عادات غيرهن، فخضع ذلك كله لقانون الانتخاب. ومن أجل ذلك كان الغناء غناء منتخبًا، وهذا ما يفسر النزاع الشديد الذي حكاه الأغاني من طائفة تتعصب للقديم، وأخرى تتعصب للجديد، وما الجديد إلا ما أدخل عليه من نغمات فارسية ورومية، وكذلك سائر الفنون.
وفن آخر كان للجواري أثر كبير فيه، كأثرهن في سائر الفنون الجميلة، ذلك هو «الأدب». ونرى أن للمرأة في كل أمة وفي كل عصر فضلًا على الأدب من ناحيتين؛ الأولى: ما تثيره في نفوس الرجال من عاطفة قوية تجيش في صدورهم، فتخرج على ألسنتهم شعرًا رقيقًا وأدبًا ممتعًا، والثانية: مشاركة المرأة الرجلَ في إخراج القِطع الفنية والأدبية في المواضيع التي تمس شعورهن، وهن عليها أقدر!
كان هذا هو الشأن في العصر العباسي، ويظهر لنا أن «الجواري» كن أنشط من «الحرائر» في النوعين معا؛ أعني في ناحية الإنشاء الأدبي، وفي ناحية الإيحاء إلى الشعراء. ويرجع السبب في ذلك إلى النظام الاجتماعي إذ ذاك، فقد كان الناس — كما نقلنا قبل عن الجاحظ — يغارون على الحرائر أكثر مما يغارون على الجواري، ويحجبون الحرة، ويشددون في تحجيبها. وإذا أراد أحد أن يتزوجها بعث «بخاطبة» تنظر إليها، وتصف للرجل محاسنها وعيوبها، أما هو فلا يراها إلا بعد الزواج. ولكن الجارية شأنها غير ذلك؛ فهو لا يُعَيّر بها كما يعير بقريبته الحرة، ثم هي سافرة إلى حد بعيد، بحكم أنها في كل وقت عرضة لأن تباع وتشرى، وهي تقضي للرجل حوائجه، وإذا أراد أحد من عامة الناس أن يستمع لغناء، أو يلهو بالقينات في بيوت المقينين فهن اللائي يغذّين ميله إلى السماع، ورغبته في اللهو، وهن بحكم سفورهن اللائي يقع عليهن نظر الناس. أما الحرائر فلا يقع عليهن إلا نظر أقاربهن؛ لذلك كان طبيعيًّا أن الأدباء والشعراء يغذون أدبهم وشعرهم بالجواري، أكثر مما يغذونه بالحرائر. ومن ناحية أخرى فقد عُني الرجال بتعليم الجواري كما يظهر أكثر من عنايتهم بتعليم الحرائر، ودعاهم إلى ذلك الناحية التجارية؛ فقد رأيت أن عِلم الجارية وأدبها كان يُقَوّم في سوق الرقيق بأكثر ما يُقَوّم بدنها، وأن الجارية إذا قُوِّمت بمائتي دينار جاهلة، قومت بأضعاف ذلك مغنية أو أديبة، والمال في كل عصر هو قِوام الحركات الاجتماعية، أما الحرائر فلم يكن يُعنى بتعليمهن وتربيتهن إلا طبقة قليلة، وهي طبقة الأشراف ومن في حكمهم وقليل ما هم. وسبب آخر: وهو أن الناس كانوا يرون أن الجواري هن ملهى الرجال، فحاول القائمون بأمورهن أن يرقوا هذه الملاهي بكل ما يتطلبه اللاهون، ورأوا أن الجارية إذا كانت مغنية أديبة موسيقية شاعرة كان ذلك أفعل في قلوب الرجال، فلم يألوا جهدًا في تحقيق مطالبهم.
نعم نجد كثيرًا من الحرائر اشتغلن ببعض العلوم، ولكن أكثر ما اشتغلن به كان الباعث عليه دينيًّا ككثير من المحدثات والمتصوفات. ولكن هذا ليس موضوعنا هنا، إنما موضوعنا الاشتغال بالفنون، والجواري من غير شك في هذا الباب كن أكثر وأظهر.
ومن الناحية الأخرى كان الجواري أكثر إيحاء للشعراء بمعاني الشعر للسبب الذي بيّنا، فبشار يعشق جارية يقال لها «فاطمة»، سمعها تغني فهويها، وقال فيها الشعر، كما قال الشعر في جارية له سوداء. وحياة دِعبِل الخزاعي، ومسلم بن الوليد (صريع الغواني) مملوءة بما حدث لهم مع الجواري والشعر فيهن، وأبو نواس كان يهوى جارية اسمها «جنان»؛ وهي جارية لآل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وكانت جميلة أديبة تعرف الأخبار وتروي الأشعار، يقال: إن أبا نواس لم يصدق في حبه امرأة غيرها، وقد أكثر فيها من بدائع شعره، وشغف العباس بن الأحنف بفَوز، وكانت جارية لمحمد بن منصور، فأتى في شعره فيها بالممتع.
هذا قليل من كثير مما ملئت به كتب الأدب من شعر وَقصص، ومما كان بين الفتيان والشعراء والأدباء، وبين الجواري في ذلك العصر.
ولئن اغتبط الأدباء بما أنتجته هذه الحالة الاجتماعية من شعر رقيق، وفن بديع، فإن رجال الدين والخُلق ساءهم ما نتج عن ذلك من لهو خليع، واستهتار شنيع. وأخذ الأولون يحثون الناس على الاستمتاع بهذه الحياة وجني ثمارها، وأخذ الآخرون ينعون على الناس لهوهم وفجورهم، ثم يفرون من هذا كله إلى الزهد في الحياة، والهرب من لذائذها، كما سنعرض ذلك في الفصل التالي.